مجلة حكمة
ميشال أونفري ليس نيتشه

حوار مع ميشال أونفري: ليس نيتشه هو من تعتقدون

أجرى الحوارفرانز أوليفييه غيسبيرت
ترجمةالحسن علاج

يكتب بوضوح بسرعة البرق . يوجد في رصيده ما يزيد عن مائة كتاب وآلاف الكتب تقبع في رأسه . هذا هو ميشال أونفري Michel Onfray) ( ، هرقل الفلسفة ، ابن لمزارع وأم منظفة بيوت من النورماندي . 

كما كان يحلو لفلوبير القول ، مرحليّ ، ضخم هو عمله حيث تفرض نفسها ، من بين أشياء أخرى ، الأجزاء الاثنا عشر لتاريخ الفلسفة المضاد  (1) ، رباعيته كوسموس ، انحطاط ، حكمة بمعية الكتاب المذهل أنيما Anima) ( ، الذي يحمل عنوانا فرعيا : ” حياة وموت الروح من مغارات لاسكو إلى ما بعد النزعة الإنسانية ” (2)

أنا مُعجب إذن فأنا موجود : لطالما أنا في حاجة إلى الحب قدر حاجتي إلى التنفس . إنها طريقتي في الحياة . الإعجاب كالحب : إنه يتعزز ، كما يلذ لسبينوزا قول ذلك . مع مرور الزمن ، شرعت في الإعجاب بشخصيات كثيرة تصغرني سنا . أطباء ، باحثون ، صناع تقليديون ، منتجو طماطم ، لكن أيضا أعجبت بمؤلفين يوجدون في مجال تخصصي أكثر موهبة مني : ياسمينا ريزا (Yasmina Reza) أو الفيلسوف ميشال أونفري . 

تعرفت إلى ميشال أونفري ابتداء من نهاية القرن الأخير ، لكني لم ألتقه ، في واقع الحال ، إلا منذ حوالي خمسة عشر عاما ، بعد رؤيته مرارا وتكرارا في بيته ، ببلدية أرجونتان Argentan) ( على نهر اللورن L’Orne) ( ، وببلدية شامبوا Chambois) ( ، وهي قرية طفولته ، حيث يوجد بها منزل في ملكيته . وهناك ، وأنا أتابع واحدا من دروسه لاحقا بالجامعة الشعبية بكون Caen) ( ، فقد فهمت من يكون هو : ليس مجرد متبحر في العلم ، وإنما هو إنسان أيضا ، حقيقي ، حيث المصداقية تقود الخطى . شخص رائع ، كما يُقال . ومجمل القول أنه غالبا ما كنا نختلف . بخصوص السياسة ، الاقتصاد ، الليبرالية ، أوروبا أو الإيمان على سبيل المثال . على أنه لابد من الاعتراف كوني كنت دائما تحت تأثيره ، مثل أبنائي أو ربائبي ، عندما يتحدث عن النورماندي ، عالم الأحياء أو الفلسفة ، عاملا على بعث الروح في ديوجينوس ، أبيقور و ، بشكل خاص ، نيتشه العظيم حيث اقتنعت ، إنه يعرفه جيدا ، حتى في خلواته ، أنه كان في السابق ، في ماض بعيد إلى حد ما ، واحدا من بين أصدقائه الأقربين . 

المجلة : مما لاشك فيه أن كتاب أنيما هو كتاب حياتكم ، يمكن اعتباره كتابا نيتشويا . لقد قمتم بتقويض التماثيل والأفكار الجاهزة …

ميشال أونفري : لقد أدركت في واقع الأمر ، أني كنت أمتلك جانبا محطما للأوثان ، بعد أن قمت بتهشيم بعضها ، لكن لم يكن ذلك بشكل مقصود وواضح ، عند انطلاق تكسير الأواني الفخارية للفلسفة . جاء كتابي الأول تحت عنوان  ” أحشاء الفلاسفة ” ـ وهو عنوان من اختيار الناشر ، أما عنواني فهو ” ديوجينوس آكل لحم البشر ” ـ ، فقد كان بكل جلاء تمرينا نيتشويا . لقد كُتب تحت تأثير مقدمة كتاب العلم المرح ، وفيه يقول نيتشه بامتلاك المرء فلسفته الشخصية ، فغالبا ما تعتبر الفلسفة اعترافا سيرذاتيا لمؤلفها ، وأن كل فكر يتشكل مع عجز مؤلفه ، خيباته ومعاناته . 

    كنت أبلغ من العمر 28 سنة ، وكنت قد أصبت على التو بنوبة قلبية ، جعلتني أفقد على إثرها ، عشرة كيلو غرامات ، من وزني في شهر واحد ؛ زارتني في غرفتي اختصاصية أغذية ، كي تقدم لي دروسا في الطبخ ، كي أنقلها إلى ” زوجتي ” ( رفيقتي لا تطبخ ، أنا من كان يطبخ بصفة دائمة ) ، ثم إن هذا المرض الوهمي Diafoirus) ( وعدني بطعام كئيب من أجل ما تبقى من حياتي ، لو كنت أرغب في البقاء على قيد الحياة ! عندما قالت لي أن الزبدة ممنوعة وأنه ينبغي عليّ قضاء ما تبقى لي من عمري ، بتناول المارغرين ، أصبت بسورة غضب ، وأخبرتني أن الأمر يتعلق ب” نفس الشيء ” ، أجبتها أنه في هذه الحالة ، بما أنه ليس ثمة فرق ، سوف أستمر في تناول الزبدة ! انصرفت متذمرة ثم اختفت . إن فكرة كتاب بطن الفلاسفة انبثقت لدي ، هناك ، من خلال ارتباط بين نيتشه ، وأخصائية تغذية ، بالمركز الاستشفائي الجامعي لمدينة كون . 

    لقد كان الكتاب بمثابة رد من راع إلى راعية . فبمعية هذا العنوان الجديد وطبيعة صامتة على الغلاف ، ثمة أكثر من سؤال للاحتفاء بالنتشوية ، والإلحاد ، والمادية والحسوية sensualisme) ( والمُتعية hédonisme) ( في الفلسفة . لقد تحول العمل إلى كتاب شاطئ ، حيث يتم نسيان أنه في عام 1989 قام بتدنيس الفلسفة ، بهدف إخراجها من الغامض ، المُمل ، والكئيب ، الذي يتم وصله عادة بالنوع الذي كان مهيمنا في تلك الحقبة . لا يُلاحظ المرء لا دعابة ولا موعظة … 

    ثمة ، فيما بعد، مناسبات أخرى لدغدغة الأصنام : اليهودية ، المسيحية ، والإسلام في كتاب نفي اللاهوت ، فرويد في كتاب أفول صنم ، وهيمنة الفلسفة الغربية في الأجزاء الاثني عشر لتاريخ مضاد للفلسفة ، وعلم التربية مع كراس مضاد للفلسفة ، من دون الأخذ بعين الاعتبار الكراسات المضادة ، والتواريخ المضادة التي ظهرت بالمكتبة منذ ذلك الحين … 

المجلة : ما نوع العلاقة التي تقيمونها مع نيتشه ؟ ألا يعتبر صديقا يرافقكم في كل مكان ، والذي يتلصص عليكم وأنتم تكتبون ؟  

ميشال أونفري : لقد ذهبت مرارا وتكرارا إلى سلس ماريا ، في أونغادينا العليا ، حيث كان يقضي الصيف ، وحيث أتاه إلهام بالعود الأبدي . ولازلت أحتفظ بحجرة من تلك الحقبة ، في محفظة عتيقة ، كنت قد حملتها من أحد الأزقة التي كان يتمشى فيها ، على حافة الفراغ ، أشبه بأعمى .  وأثناء تلك الزيارة الأولى ، قمت باقتناء  صورة له ، بيعت في متحف المنزل ، الذي خُصص له . قمت بوضع إطار لها منذ عودتي إلى أرجونتان : لم تغادر صورته الشخصية مكتبي . وفي هذه الساعة ، فهو هنا ، ورائي ، مثل عبقري وصيّ . وهو ، علاوة على ذلك ، نابغة وصيّ ، كمثل شخص يكتب بأن معلما جيدا هو من يعلمنا أن نتخلص منه ! 

    وقال أيضا ، أنه لاقتفاء أثره ، ينبغي على المرء أن يقتفي أثره الخاص . الإنسان الذي أكد في هكذا تكلم زرادشت أنه ينبغي ” على المرء أن يبتكر الحرية ” ـ إنه البرنامج الوجودي طيلة حياة بكاملها ، وهو برنامجي أيضا  ـ  ليس معلما متسلطا ، إنه نموذج كما هو الشأن في الفلسفة القديمة برمتها ، حيث لم يكن التفلسف يكمن في الإطناب ، أو الثرثرة ، أو كتابة كتب فلسفة ، بل أن يعيش المرء حياة فلسفية ،أن يعيش حياة ملائمة ، متوافقة مع ذاته عينها. أشاد نيتشه بفضيلة قلّما يتم الحديث عنها ، لدينا معرفة ضئيلة بها ، أو تكاد تكون منعدمة ، علاوة على ذلك صعوبة الاسم ، الذي هو الاستقامة ، ألا وهو : المصداقية المُرتابة . الاجتهاد في عيش حياة نزيهة ، ذلك ما أحتفظ به لنفسي منه . 

المجلة : هل تفكرون في نيتشه أثناء تواجدكم في بيئة طبيعية ، في بلدتكم شامبوا ، وأنتم تنظرون إلى شفرة العشب التي تستمع إلى نزوعها الخلاق وهو يطلب منها أن تنمو بهدف البحث عن الشمس ؟  

    ميشال أونفري : لا أفكر فيه على وجه التحديد ، على أنني لن أنظر إلى طبيعة شامبوا بشكل مماثل ، ما لم أقم بقراءته ! لقد عشت طفولة في الطبيعة ، على إيقاع الطبيعة ، مع الدروس التي يهبها النهر ، الذي يعبر القرية ، المغسل ، الفصول وتكرارها ، الأعمال في الحقول مع والدي . إن تعرّف الحقول ، كنت على وشك القول ، كتابيا ، هو تجربة وجودية أساسية ، من أجل صناعة فيلسوف ما ! يعتبر الربيع لحظة صاخبة ، خلابة ، مذهلة وغامضة . 

   يوجد في السنة ثمة لحظة حيث ـ عندما أغادر مكتبي كي أجدني في الهواء الطلق ، ثمة نسمة هواء تعلمني أن ما يصنع الربيع هو هنا : نوع من إرادة القوة الخالصة ، التي تصنع لنفسها نسيجا ومتعة للهواء ، متعة في الهواء . إنها قوة النور أيضا ، وربما ضغط للهواء ، شيء ما يدرك بقايا الحيوان بداخلي ، والذي يخبرني بأن فصل الحياة يعقب فصل سبات الطبيعة . يرتفع النسغ ، سوف يهب براعم ، ثم أوراقا ، وثمارا ، إلخ . والحيوانات التي خضعت لبيات شتوي ، سوف تخرج من مخابئها ، سوف تتوهج زقزقة العصافير مثل أول صباح من صباحات العالم ، ويبدو أن كل شيء في اهتزاز الآن ، ومن البديهي ، مثلي ، أنا الذي خُلقت من ذات النسيج من كل هذا ، أعني إرادة القوة ، أعرف أيضا تلك المُتعية البدائية ، الأولية ، الوثنية . 

المجلة : أي نوع من الرجال كان نيتشه ؟ هل تلاحظون أنه ثمة سمات مشتركة بينكم وبينه ؟ تحبون مثله الشجار الفلسفي …   

    ميشال أونفري : ثمة مجلد قديم ، يعتبر بالنسبة لي أهم من سير نيتشه الشخصية ، من ستيفان زويغ (Stefan Zweig) إلى كورت بول جونز (Curt – Paul Janz) مرورا بدانيال هاليفي (Daniel halévy) ، إنه كتاب نيتشه أمام معاصريه (1959) ، فهو يقدم نيتشه بوصفه شخصية دمثة ، رقيقة ، خدومة ، حساسة ، متأنقة ، مع أناقة أخلاقية بعدم إزعاج الغير بأوجاعه ، معاناته ، أحزانه وآلامه . 

    تبعث قراءة مراسلاته على القلق كونه كان يعاني كثيرا ! إنه مِرْجَفة زلازل لكل ما يحدث : إن الاستماع لموسيقى بحي من أحياء البندقية ، عندما يكون في بيت صديقه بيتر غاست Peter gast) ( ، يجعله يهجع إلى النوم مدة ثلاثة أيام ، متسببا له في آلام الشقيقة المرعبة ، استياء يجعله يتقيأ ، ثم الدخول في أوجاع مجهولة ، قد يظل حبيسا في الظلام طيلة جزء من الأسبوع ، بينما ينخره داء الزهري ، إلى حد كبير يوما بعد يوم . إنه دائما يوجد بين محطتين ، يبحث عن الرطوبة الجيدة ، الشمس الساطعة ، الضوء الجيد . يتوق لزيارة كورسيكا ، اليابان ، لا يشعر أبدا بالطمأنينة في مكان تواجده … فقد يحدث له أن يهبط إلى محطة في الصباح ، ثم يستقل القطار في نهاية اليوم ، لأن المكان لايلائمه ذهنيا ، نفسانيا ولا فيزيولوجيا . 

    إلا أن نيتشه يوجد بتمامه وكماله في هذه القصة : ففي مقهى تورينو ، حيث سوف يقرأ يوميا جريدة المناظرات (Journal des débats) ، ثمة جرو يحمل ساقه بالمدخل وهو ينزف . جثى نيتشه أرضا ثم أخرج منديلا مضمدا جرحه . وبعد ذلك بوقت قصير ، ذات الجرو ، يركض نحوه ، وهو ينبح ، حاملا في شدقه المنديل ، الذي تم غسله ولفه من طرف صاحب الحيوان . إنه نفس الإنسان الذي كتب صفحات مرعبة ضد الشفقة ، فضيلة الضعفاء … وإلى امرأة أخرى سألته عن مهنته ، أثناء تناول وجبة إفطار ، في نُزل سلس ماريا ، فقد أجابها بأنه يكتب ، لكنه التمس منها بعدم الذهاب لرؤية شيء ، قائلا بأنها سوف تصاب بالذعر بواسطة أحاديثه . ففي جبال أونغادينا Engadine) ( حيث كان يسير بدون توقف ، اعتاد أن يبلل منديلا في القرية من أجل تنظيف أنف طفل مريض ، كان يصادفه في ضيعة المراعي الجبلية . إن هذا الإنسان الذي أشعل فتيل النار في العالم ، يعتبر إنسانا دمثا … 

    علاوة على ذلك ، فهو يحب الحقيقة أكثر من حبه للشجار . فلو جاز لي أن أقارن ، بما أنكم طلبتم مني ذلك ، فإني أفكر بطريقة مماثلة : فإذا كان ثمن الحقيقة هو التحطيم ، فليكن التحطيم ! إلا أن هذا ليس حبا في الشجار الذي يعتبر جزءا من الأضرار الجانبية ! 

المجلة : لم تكونوا في حالة سلم مع الكنيسة أبدا . ونيتشه أيضا … 

ميشال أونفري : فقد اقترح في كتاب نقيض المسيح ، تدمير الفاتيكان واستعمال أنقاضه لتربية الثعابين . فهو لم يكن يخلو من التعاطف تُجاه المسيح ، لكنه لا يحب القديس بولس الذي ـ فقد كان يهوديا مضطهِدا للمسيحيين الأوائل ـ تحول هو نفسه إلى مسيحي ، بعد اهتدائه على طريق دمشق . فعندما ينتقد اليهود ، فغالبا ما يكون بولس هو المستهدف ـ بولس الذي يكره الرغبات ، الأهواء ، النزوات ، الأجساد ، النساء ، الجنسانية ، اللذة ـ ، وليس اليهود الذين كان يصادفهم في أزقة روكين Rocken) ( ، وهي المدينة التي ولد بها ! 

    خلافا لذلك ، فهو يعتبر أن هؤلاء اليهود موهوبون للغاية ، والذي ينبغي عليهم أن يقيموا قرانا مختلطا مع الألمان ! لقد قام نيتشه بالتمييز جيدا بين مسيحية يسوع ومسيحية بولس ، بأكثر من وجهة نظر واحدة ، في تناقض مع التعليم الغاليلي ، عبر مثاله الزهدي وحماسته في الاهتداء بالسيف ! لقد اعتبر نيتشه أنه لم يوجد سوى مسيحي واحد وقد مات على خشبة الصليب . 

المجلة : أعلن نيتشه عن موت الله والإنسان على أن الأمر كان يتعلق  ، كما كتبتم في كتاب أنيما بإله وإنسان محددين ، خاصين بنا ، إله وإنسان حضارتنا اليهودية المسيحية … 

ميشال أونفري : لابد ، بادئ ذي بدء ،  من توضيح الأمور أن هذا الإعلان وُجد في السابق لدى هيغل عام 1802 في كتاب إيمان ومعرفة . الصيغة الصحيحة هي كالتالي : ” الإله نفسه قد مات . ” وقد قام باستعادة هذه الفكرة في دروسه بمدينة يينا Iéna) (سنة 1805 ـ 1806 . وبالنسبة إليه ، فإن موت المسيح ، هو أيضا ، في نفس الوقت ، موت الله الذي يدخل في منطق التجسيد . يسوغ موت الله ولادة الروح المطلق في كتاب فينومينولوجيا الروح كما جاء ذلك في الأوديسة . 

   لقد أدرج نيتشه إعلانه ، ضمن وجهة نظر ما بعد هيغلية ، لكنها أيضا وجهة نظر هيغلية مضادة . ذلك لأن موت الله لم يقترن لديه ، باعتبارات حول الروح المطلق ، بل حول ظهور إرادة القوة ، التي أخذت مكانة الله ، المكانة برمتها ـ التي لن تترك له ، على الأقل ، أي مكانة أخرى ، مثل مكانة أن تصير إرادة قوة ، من أجل الاستمرار في الحياة . على أن نيتشه يعتبر أن ” إرادة القوة ” كافية ، وأننا لسنا في حاجة إلى إلباسها لبوسا إلهيا ، وأن نضفي عليها صفة الألوهية . لاوجود عنده لأي تغير سبينوزي لنوع (Deus sive natura) ـ الله والطبيعة . 

   وبالنسبة لموت الإنسان ، فقد تم الإعلان عنه في كتاب هكذا تكلم زرادشت : أي إنسان مات ولماذا ؟ إنه إنسان اليهودية المسيحية ، بمعنى الإنسان الثنائي مع جسد خطّاء ، وروح لامادية ، خالدة ، منذورة لحياة بعد الموت الجهنمي أو الفردوسي ، حسب استحقاقاتها المكتسبة ، أو لا ، في الحياة الدنيا . وهو ، إضافة إلى ذلك ، إنسان المثال الزهدي ، الذي لُقِّن قيم مذهب القديس بولس ، الذي يعتبر بغضا للذات ولرغبتها الجنسية ، حياتها ، جنسانيتها ، كراهية النساء والجسد . إن “الإنسان الأخير ” ، الذي يفترض من بعده موت الإنسان ، يحيا حياة عدمية . 

   هذا هو الإنسان الذي أعلن عنه نيتشه ، والذي سيترك مكانه للإنسان الأعلى الذي ، يعود بصورة أبدية ، بنفس الشكل ، في عدد لانهائي من المرات ، بعد أن يكون قد عاد سابقا ، بصورة أبدية ، في عدد لامحدود من المرات ، بنفس الصيغ ؛ وهو يعرف أيضا أنه ينبغي محبة هذه الحقيقة الأنطولوجية للعود الأبدي ، إنه معنى الحب القدري ( أحِبّ مصيرك ) ، لأنه الطريقة الوحيدة ل” ابتكارالحرية ” في حين أننا لا نتوفر على إرادة حرة ؛ والذي يعرف ، في آخر المطاف ، أن القبول بالعود الأبدي يخلق المرح . يتعلق موت الإنسان بنهاية العدمي الراكس ، وهو يجعل في نفس الوقت ولادة الإنسان الأعلى الفعال ممكنة . 

المجلة : بما أنكم تعتبرون في الوقت الراهن واحدا من أفضل مفكرينا أو مدرسينا ، هل بإمكانكم أن توجزوا لنا فكر نيتشه في بضعة جمل للمبتدئين مثلي .    

ميشال أونفري : يتحدث نيتشه ، في بداية كتابه زرادشت ، عن تحولات ثلاثة : ينبغي على المرء أن يكون جملا ، لحمل أثقال الماضي ، ثم أسدا ، من أجل التخلص من هذا الماضي ، بهدف التحول إلى طفل بمعنى بلوغ ” براءة الصيرورة ” ، التي تسمح بابتكار فلسفة جديدة . إن هذه الجدلية في مراحل ثلاث ، بمعنى جدلية هيغلية لاتزال ، ولو أنها ما بعد هيغلية ، هي جدلية نيتشه ذاته، التي تمنح بطريقة مُشفَّرة ، كما هو في غالب الأحيان ، مفاتيح عمله برمته . 

    ويعتبر زمن الجمل لديه ، هو زمن قارئ شوبنهاور ، حيث يضع كتاب العالم كإرادة وتمثل ، رهن إشارته وجهات نظر فلسفية جديدة : حيوية أحادية ، هي حيوية الإرادة ، wille) ( ، التي تجعل الثنائية القديمة اليهودية المسيحية متجاوزة ، والتي تقدم تفسيرا لحيوية لما يوجد ، هذه الإرادة الشهيرة ، التي هي ليست إرادة علماءالنفس ، قوة الاختيار ، الإرادة ، بل قوة تجعل من كينونة الكائن ممكنة ؛ فلسفة تراجيدية يتقاسم السأم والمعاناة ، بمقتضاها ، حياة كل إنسان ، لكنها تؤكد في نفس الوقت التأمل الجمالي بشكل عام ، والموسيقي بشكل خاص ، تسمح بتأمل حتمية السلبية . وهو أيضا الزمن الفاغناري حيث التقى الكاتب المسرحي ، ويعتبر أنه بإمكانه العمل معه كي يجعل من الأوبرا ، مناسبة لإضفاء الجمالية على السياسة ،انطلاقا من الأساطير ، كما فعل الإغريق مع مسرحهم . إنه زمن ولادة التراجيديا

    يعتبر زمن الأسد زمنا أبيقوريا . لقد واصل الصداقة المحطمة مع المؤلف الموسيقي الألماني ، الذي لم يجعل من مدينة بايرويت مختبرا ، لبناء سياسة انطلاقا من الموسيقى الألمانية ، التي تخصص لتعزيز دينامية أوربية، بل مكانا مكرسا لشخصه ، مع الطبقة الأكثر ثراء ، والتي مولت مشروعه . إنه زمن كتاب المعرفة المرحة ، الصداقة الأبيقورية ، متأثرا بالفكر الفرنسي ، فولتير والأخلاقيين الفرنسيين . زمن تم اقتسامه مع لو سالومي وبول ري Paul Rée) ( الحريص على تشييد طائفة فلسفية ملموسة سوف تثبت فشلها . 

   يعتبر زمن الطفل هو زمن الفلسفة النيتشوية الحقة : إنه زمن إرادة القوة ، العود الأبدي ، الإنسان الأعلى ، محبة القدر كإيثيقا إنسان جديد ، وقد تخلص من الجِمال والأسود ! إنه بالتأكيد زمن كتاب هكذا تكلم زرادشت ، قصيدة عظيمة ومذهلة ، يقدمه مثل ” إنجيل خامس ” . 

المجلة : لقد قمتم بالكثير لصالح نيتشه ، مذكرين بانتظام بأن أخته اختلقت الأراجيف إرضاء للسلطات العليا للحزب النازي ، الذي انضوت تحت لوائه . لم تعثروا في كتبه على أي من آثار النزعة المعادية للسامية أبدا … 

ميشال أونفري : حتى أنني وجدت آثارا مناصرة لليهود ! لقد تم خلط ، والبعض يخلطون دائما ، النزعة النظرية المعادية لليهود لنيتشه ، ومعاداة السامية ، التي هي الكراهية العميقة لليهود ، على هذا الأساس . في أغلب الأحيان ، عندما كان نيتشه يتكلم عن اليهودية ، فإنه كان يتحدث عن اليهودية المسيحية ، بمعنى فكر شاول Saul) ( ، اليهودي المتحول ، الذي أصبح يحمل اسم القديس بولس ، مؤلف الرسائل Epitres) ( كما هو معروف . فهو لم يكن يرغب في أن تجعل هذه اليهودية الناس  متخاصمين مع العالم ، عاملة على الإعلاء من شأن المثال الزهدي ، ومعترضة على حياة مرحة ، مبتكرة عالما ماورائيا منفِّرا ، ممجدة لقيم العدمية مثل الشفقة ، محبة القريب ، الصفح عن الإساءة ، محاكاة آلام المسيح ، الانفعال الألمي doloriste) ( . 

    ومع ذلك ، فلطالما أبان في حياته عن تأييد حقيقي لليهود : فقد تخلى عن ناشره الأول ، الذي قام بنشر نصوص معادية للسامية لفاغنر ؛ فقد كتب أنه ينبغي ” إعدام المعادين للسامية ” ؛ عاملا على تعظيم العبقرية اليهودية والألمانية في آن واحد ، إلى درجة معتبرا أنه ينبغي الاشتغال على تنوع العرقين ، عبارتا العصر ! ؛ كان يكره صهره ، برنار فورستر Bernard Forster) ( ، زوج أخته، معاد حقيقي للسامية ، ابتكر مستوطنة آرية بالبراغواي قبل أن ينتحر هناك ! 

    وبالفعل فإن أخته المعادية للسامية ، سيئة السمعة ، هي التي قامت ، بعد جنون وموت شقيقها ، بتشويه نصوصه ، عاملة على نسخ رسائله مع تنقيحها ، مهذبة عمله ، من أجل التلاعب بالالتباس بين النزعة المناهضة لليهود ، ومعاداة السامية قبل أن تبالغ في التزلف إلى موسليني ، فهتلر ، كي تقنعهما بأن أخيها ، كان سيدعم الفاشية والاشتراكية الوطنية ! دعونا نوضح ، بالمناسبة ، أن هتلر كان يكره نيتشه ، معتبرا إياه شاعرا حماسيا ،  مقرا بتفضيله لشوبنهاور وفيخته ـ وهما يعتبران بكل صراحة معاديين للسامية ! 

المجلة : لكنه كان معاديا جدا للمسيحية وقد كان هذا يؤسف أمه … 

ميشال أونفري : معاد للمسيحية ، هذا صحيح . ذلك دأبه . ابن وحفيد قس لوثري ، وهو نفسه كان مهيأ ، من قبل أمه ، لنفس المهنة ، طالب بعلم اللاهوت منذ سنة ، لما كان في العشرين من عمره ، كان يؤمن لمدة زمنية معينة . وكتابات الشباب شاهدة على ذلك . يُجهل تماما متى فقد إيمانه . بإمكان المرء تصور أنه كان مؤمنا بالله لما انخرط في كلية اللاهوت ، وذلك هو الحد الأدنى المطلوب ، ويُحتمل فقدانه للإيمان هذه السنة بالذات ، لكونه سيتوجه في السنة الموالية ، نحو الفيلولوجيا ، دون أن يمر بمرحلة الفلسفة . لم يحك عن تجربة فقدان الإيمان في أي مكان . من المعروف أنه كان يرغب في أن يكون مؤلفا موسيقيا ، وأن أمه هي من أجبرته على متابعة دراساته ، كي يصبح قسا ، موضحة له أنه يستطيع ممارسة الموسيقى ويرأس حفلا مقدسا بمعبد ما . لم تفهم أن ابنها كان يصبو إلى أن يصبح مؤلفا موسيقيا مثل ليزت Liszt) ( وابراهمس Brahms) ( وفاغنر ، معاصريه ، وليس العزف على الأرغن بين وظيفتين …

المجلة : ” بدون لذة ، قال نيتشه ، تنعدم الحياة ، إن صراعا من أجل اللذة هو صراع من أجل الحياة ” لماذا كان رسول مذهب المتعة ، تبعا لتعبيركم ، غاية في التعاسة ؟ 

ميشال أونفري : ربما لأنه كان يصبو إلى ما لم يكن يملكه ، أو لم يكن موجودا البتة ! لقد أكد في مقدمة كتاب المعرفة المرحة ، لقد قلت ذلك سابقا ، أننا نتفلسف بمعية الأشياء التي نفتقدها ! لقد قضى نيتشه حياته تحت وطأة المعاناة ، تعتبر حياته ، لو جاز لي قول ذلك ، درب صليب حقيقيا . لقد عانى ، فعلا ، عددا لا يصدق من الأمراض ، التي يحتمل جدا أنها نجمت عن عدوى داء الزهري ، بشكل مبكر ، أثناء المرحلة الثانوية ، داخل مبغى . سوف يتطور هذا المرض وصولا إلى مرض عصبي ، مصيبا النخاع الشوكي ، المرحلة الثالثة من المرض ، قبل أن يُفضي إلى جنون يستمر عشرات السنين . مراسلاته تبرز مرضه باستمرار : أمراض الشقيقة التي تدوم أياما عديدة ، هربس herpès) ( تناسلي جسيم ، التهابات خطيرة تصيب العينين ، إلخ . من ثم فقد كان يتناول الأدوية التي لاينبغي عليها أن تساعد على تشويه الأمور . وبالفعل فقد كان يعالج مرضه الجنسي بالزئبق . كذلك فقد كان يتناول مستحضرات سامة . مضيفين إلى ذلك مجالا نفسيا طفليا وراشدا تراجيديا : موت الأب بعد معضلة من طبيعة دماغية ، وموت أخ عندما رآه في المنام ، قبل يوم من خروج والده المتوفى من قبره ، ساعيا وراءه ، من أجل اصطحابه معه إلى العدم ، وسيط تربوي مكون من نساء ، وضمنهن أخت حقودة . 

    يتفلسف نيتشه بغية الشفاء من كل هذا . فكره وجودي ، فلسفته خاصة ، فلسفة زمن الطفل ، أقيمت من أجل العثور على طمأنينة الكائن في الفرح ، الذي لا ينفصل عن نظرية بسيطة : أحبّ ما لا تستطيع فعل أي شيء حُياله ، [نظرية] محبة القدر الشهيرة ، التي هي محبة المرء لقدره . 

    تبتكر هذه النظرية النزر القليل ، فهي تعيد تشكيل وصياغة تقنيات وجودية للحكمة القديمة : إن نظرية العود الأبدي تعتبر شائعة ، لدى معظم المفكرين الإغريق ، نظرية القبول بما لا يمكن أن يكون متبوعا بالفرح ، هي نظرية رواقية وأبيقورية . إن الفلسفة كفن للعيش ، العيش الكريم ، إذن مثل تقنية مُتعية، أنتم على حق باستعمال العبارة ، إنها ثابتة من ثوابت الحكم العتيقة . 

    يتفلسف نيتشه كي يتعايش مع معاناته : إن كونه تعيسا ، هو ما يجعله يرغب في أن يكون مُتعيا وحيويا ! سوف يبطل الجنون جزءا من معاناته ، التي تبدو في بداءة الأمر ، معاناة نفسية : لن تشير أمه وأخته اللتان تعتنيان بصحته، إلى أنه كان يعاني من أمراض محددة ، قرابة السنوات العشر ،التي قضاها خائر القوى . إن الجنون الذي اعتُبر ذروة مرضه ، بدا أنه ألغى كل الأمراض الأخرى . 

المجلة : في الجزء السابع من كتابكم تاريخ مضاد للفلسفة ، يعتبر الجزء الذي كُرّس لنيتشه غنائيا مفعما بالتعاطف . هل لا يزال فلاسفة آخرون في مجمعكم أو أنه قام باغتيالهم ؟ 

ميشال أونفري : بدون شك ثمة بقية منهم ! سيكون من التعصب والمجازفة أن يصبح الإنسان ذو كتاب واحد أو فيلسوف   واحد !  إن كتابا واحدا يفضي إلى الرغبة في التخلص من الكتب الأخرى . ففي مجمعي يوجد ديموقريطس ، أبيقور ، لوكريتيوس ، مونتاني ، إتيان دو لابويسيه (Etienne de La Boétie) ، جان مسلييه  Jean Meslier) ( ، فولتير ، برودون Proudhon) ( ، كامو … وإذا لم يقل شيئا بخصوص لابويسيه ، مسليه ، برودون وطبعا ، ألبير كامو ، فقد اعتبر أن المؤلفين الذين أخوض الحديث بخصوصهم ، كانوا مهمين للغاية . ثمة ما يربو عن ثلاثين ألف كتاب في مكتبتي بمدينة كون ، ويحتل نيتشه ستة أمتار من الرفوف ، والبقية لا تعود له بطبيعة الحال ! 

    يتضمن عملي التاريخ المضاد للفلسفة اثني عشر جزءا ، إنه مليء بالفلاسفة ، الذين قمت بالثناء عليهم ،يفوق عددهم الثلاثين فيلسوفا : أبديريون abdéritains) ( ، ذريون ، عرفانيون إباحيون ، وإخوة وأخوات العقل الحر ، مسيحيون مُتعيون من عصر النهضة ، زنادقة متبحرون في العلم ، غلاة الأنوار ، ملحدون ، اشتراكيون ، محللون نفسانيون ليسوا فرويديين ، إنسانيون مناوئون للبنيوية ، أخلاقيون يهود . كل هؤلاء يرافقونني أيضا ! 

المجلة : ” لو أنت شئت معرفة من هو الفيلسوف الجيد ، كتب نيتشه ، قم بدمجهم كلهم معا . الجيد هو من يضحك . ” إذا كانت السخرية والاستهزاء قوتين أساسيتين ، فلأنه ، قبل كل شيء ، يعتبر محطما للأيقونات ، أليس كذلك ؟ أم أن الضحك لم يكن ،  بالدرجة الأولى ، فلسفيا ، مثلما قال سقراط ؟ 

ميشال أونفري : ثمة فكرة مألوفة لفن التصوير ، تعارض ديموقريطس ، الذي يضحك على هراقليطس الذي يبكي . الأول ، فيلسوف مادي ، يختزل كل شيء في رقصة للذرات ، هو متيقن أنه من العبث ، أن يستاء المرء ، من التقدم البئيس للعالم ، وأنه ، تبعا للتعبير المكرس ، يستحسن الضحك على ذلك ! الثاني ، مفكر الزمن الذي يمر ،الحركة ، النهر الذي ، واحسرتاه ، لا نسبح فيه مرتين أبدا ، يبكي ، لكون أن الخلود لن يكون من نصيبه ، بل التبدد ! 

فلو قمنا بتاريخ للفلسفة مشكل تماما من الفلاسفة الضاحكين ، سوف يكون بحوزتنا مجموعة رائعة ، ستقود من ديموقريطس إلى كليمون روسيه Clément Rosset) ( ، وهو نيتشوي عظيم في القرن العشرين ، مرورا بطبيعة الحال بسقراط ، ديوجين ، مونتاني ،فولتير ، ديدرو ، لاميتري (La Mettrie)  ، ونيتشه ! وأضيف إليهم رابليه ، حيث عملت الفلسفة على ازدراء الفكر لأسباب واهية . وفي المقابل ، فإن أفلاطون ، القديس أوغسطين ، روسو ، هيغل ، سارتر ، فرويد لا يضحكون ، ثم إن ما فعله فكرهم في التاريخ ، أو التأثيرات التي أحدثها فكرهم في التاريخ ، لم تكن مرحة ، إذا جاز لي استعمال هذا التلطيف ! 

    لم يكن برغسون فكها أيضا ، وهو يحلل الضحك ، ولا فرويد في كتابه النكتة وعلاقاتها باللاوعي ، إلا أن كليمون روسيه ، فقد كان كذلك عاملا على إنعاش الضحك ، بشكل ملموس ، في جميع كتبه وبخاصة ، تحت اسم مستعار لروجيه كريمان (Roger Crémant) ، في كتاب الصباحات البنيوية ، مسرحية هزلية ساخرة ضد الموضة البنيوية لحي سان جيرمان دي بري . 

    وبالفعل ، فإن الضحك هو إيقاف سخرية العالم ، وإيقاف أولئك الذين يجسدونه . كذلك فإن الابتسامة ، التي يتم الحديث عنها ، أقل بكثير ، إلا أنه يتبين أنها أكثر فعالية . إنها تمتلك ، بالفعل ، القوة على الضحك من دون وقاحته ، نجاعته ، من دون الجرح الذي يلحقه بها . 

المجلة : قلتم أنه حتى هكذا تكلم زرادشت يعتبر كتابَ دُعابة . ألم يكن نيتشه جادا أبدا ؟ 

ميشال أونفري : طبعا ، بصفة دائمة ، بما في ذلك الضحك …يعتبر زرادشت كتاب الفيلسوف الأكثر تعقيدا ، وهو يبدو ، لسوء الحظ ، من خلال شكله الشعري ، أسهل على الفهم ، الشيء الذي يترتب عليه سوء الفهم . لقد قرأت نيتشه ، مرة واحدة ، وليس بكامله ، بشكل غير منتظم ، وقرأته مرة ثانية ، كاملا ، وفق تسلسل زمني ، من أجل أطروحتي ، ومرة ثالثة ، أيضا كاملا ، وفق تسلسل زمني ، من أجل دروسي بالجامعة الشعبية بمدينة كون . 

    بمقتضى الأزمنة النيتشوية الثلاثة ، الجمل ، الأسد ، الطفل ، لكن أيضا ، في إطار سياق سيرته ، التي يتم تجاهلها في أغلب الأحيان ، فإن الطريقة الفضلى للتصرف ، تكمن في قراءة كل شيء ، طبقا لتسلسل زمني ، مراسلات وسير حياة مضمنة في النهاية. فبعد القيام بهذا العمل الجبار يتم الشروع في إعادة تنظيم ، ما يبدو للوهلة الأولى فوضى ، يتم الاعتقاد فيها بفحص التناقضات . ليس ثمة تناقضات لدى الفيلسوف ، إلا بالنسبة لأولئك الذين اكتفوا بقراءة ثلاثة من كتبه …

   إن هكذا تكلم زرادشت هو كتاب تركيب تتسرب إليه السيرة الشخصية بطريقة مشفرة . لقد تم تأليف العمل مثل معارضة للأناجيل ، الشيء الذي يفترض وجود طبقة هزلية ، ساخرة ، مضحكة . ثمة مثال على تداخل حياة نيتشه بنص القصيدة . فقد كتب في وقت من الأوقات : ” لا تذهب إلى المرأة إلا والسوط معك . ” اعتراف بكراهية النساء ، متحيز جنسانيا ومتعصب لهيمنة الذكور phallocrate) ( ، يقول القارئ المعاصر المخمور . ومما لاشك فيه ، أن هذه الجملة تحيل أيضا ، على صورة تظهر الفيلسوف وبول ري ،  مربوطين إلى عربة حيث تحمل لوسالومي سوطا ، توجد في نهايته أزهار الليلك ، دلالة على الحب الوليد . في تلك الفترة ، اعتبر كل من نيتشه وري عشيقين للو سالومي في السر . ويطمح الفيلسوف بالنسبة للثلاثة ، إلى مشروع حياة مشاعية ، متواضعة ، مع بستان خضروات ، يسمح بحياة فيها اكتفاء ذاتي ، في مزرعة . طلب نيتشه من ري ، الذي يعتبر هو أيضا ، عشيقا لسالومي ، بأن يصرح لها عن حب نيتشه نيابة عنه! إلا أنها لا ترغب لا في هذا ولا في ذاك . 

    ذات يوم ، كان نيتشه ولو سالومي على متن قارب صغير في وسط البحيرة ، وبقي ري على شاطئ البحيرة . قال نيتشه أنه كان ثمة قبلة ، بينما تقوم لو سالومي بتكذيب ذلك . استياء . يكتب نيتشه أشياء رهيبة ، محقرة ، ضد هذا وذاك . عن السوط الذي يتم العثور عليه أيضا في القصيدة ، وكذلك في صورة ، لابد من وضع ذلك في سياقه الخاص . الشيء الذي لا لا يحول دون البعد الكاره للنساء ، بطبيعة الحال … وهكذا يكون بالإمكان مضاعفة الأمثلة : قصيدة جزيرة الموتى وقصيدة جزيرة سان ميشال بالبندقية ، ” بنات الصحراء ” هن البغايا اللواتي يدين لهن بإصابته بمرض الزهري في عز شبابه بمبغى بلايبزيغ ، إلخ .     

    علاوة على ذلك ، الأسلوب الغنائي والشعري ، الذي يحاكي أسلوب الأناجيل ، محاكاة ساخرة ، أو النصوص الدينية ، يزخر بالتكرارات ، أيضا ” هكذا تكلم زرادشت ” ذائع الصيت ، والذي يكاد يقدم خلاصة لكل فصل . ومن البديهي أن ، ثمة معارضة أيضا : هي معارضة الأفكار المهيمنة لأوبرا فاغنر . ومثل ذلك مع السجوع الموسيقية في النص الألماني للقصيدة التي يستهدفها المؤلف هي الأخرى . 

  إن تلك القصيدة العظيمة ، هي في واقع الأمر ،  فرضيتي ، أوبرا بدون موسيقى تصدر عن عودة المكبوت لديه : لطالما رغب في أن يكون مؤلفا موسيقيا ، إلا أن أمه منعته من ذلك ، فقد سخر كل من براهمس وفاغنر من الأعمال التي عرضها عليهما ، نفس الشيء مع هانز فون بولوف (Hans von Bulow) ، الذي ابتكر أعمال مؤلف الرباعية Tétralogie) ( والذي كان ، فضلا عن ذلك ، الزوج الأول للفتاة ليست Liszt) ( ، كوزيما Cosima) ( ، التي سيرتبط بها فاغنر ، والتي كان نيتشه يكن لها حبا سريا . يعتبر زرادشت أوبرا ، حيث يُقرأ النص بصوت عال ، بالكاد يمكنه تأليف نمط غنائي Sprechgesang) ( قبل الأوان ! 

    معارضة الأناجيل ، معارضة النزعة الفاغنارية ، معارضة سيرية ، لو شاء المرء قول ذلك ، إن النص مشفر بطريقة رهيبة . لابد من أن نضيف إلى هذا الترميز ، اختيار شكل شعري يفسح المجال لعبقرية القارئ ، حيث الحصافة تصنع النص . قبل مارسيل دوشامب  (Marcel Duchamp) ، فإن قانون الرائي هنا ، هو من يبتكر اللوحة …إن معناها ليس واضحا بشكل مباشر . وحينما نكتب مثل شاعر رمزي وليس مثل فيلسوف ألماني ، فإنه ثمة خطر كبير في سوء الفهم التأويلي . 

المجلة : هل كان يضحك من الإنسان الأعلى أيضا ؟ 

ميشال أونفري : لايضحك نيتشه عما يؤمن به ! إنها ،   علاوة على ذلك ، ميزة المفكرين الضاحكين والمؤمنين . وهو أيضا منطقتهم العمياء ! لأن ديموقريطس يضحك على هيراقليطس ، وليس على نفسه ، ديوجين يضحك على أفلاطون ، وليس على نفسه ، يضحك نيتشه على الأفلاطونية ، المسيحية ، على المثالية الألمانية ، النزعة الفاغنارية ، من دون أن يضحك على نفسه … يشكل الإنسان الأعلى ،العود الأبدي ومحبة القدر أركان صرحه الفلسفي ، ثم إن الضحك على هذا ، سوف يؤدي إلى انهيار قلعته المفاهيمية ! ما لا يمكن تصوره ، ما لا يمكن تصديقه …

    يقوم الضحك بالتدنيس وليس بمستطاع المرء مطالبة من يضحك بألا يدّخر مقدسه ، الذي سيكف عن أن يكون كذلك . لا يتم التقيد بما نضحك عليه ، على الأقل زمن الضحك . ولكن فحتى زمن إيقاف اعتقاده يعتبر زمنا مرفوضا من لدن المؤمن . 

   إن الضحك موجه ضد الغير خاصة ، فهو يفترض في المراحل الأولى ، جرعة من القسوة تجاهه : باطاي ، فوكو ، روسيه ، كبارالضاحكين في القرن العشرين ، لم يتم بتاتا ضبطهم متلبسين بالضحك على أنفسهم ! علاوة على ذلك ، فقد كان كل من باطاي وفوكو شخصيتين مثيرتين للاشمئزاز ، على خلاف كليمون روسيه ، حيث يساعده الكحول ( والبيانو …) على تحمل معاناته الوجودية . 

    يفترض الضحك على الذات أن يصبح المنشار الموسيقي السارتري ، منشارا موسيقيا لليسار ، ” التفكير ضد الذات عينها ” ، يمكن تصوره .لا وجود لأحد غير قادر على التفكير ضد نفسه ، أكثر من أولئك الذين يحثون على التفكير ضد أنفسهم ! إن اليسار بأتمه لا يمارس النقد الذاتي إلا مع مسدس على الصدغ ، مباشرة قبيل الرصاصة التي خصصها لهم أصدقاؤهم القدامى … هل سبق لكم أن لاحظتم أن سارتر يفكر ضد نفسه مرة واحدة ؟ فما قام به هو التفكير من أجل ذاته فقط ، كبورجوازي صغير للمفهوم ، عاملا على تبني كل الأخطاء الأيديولوجية لعصره . 

المجلة : كيف جئتم إلى نيتشه ؟ هل تتذكرون أول لقاء لكم به ؟ أين كان ؟ كم كان عمركم آنذاك ؟ 

ميشال أونفري : كنت أبلغ من العمر 14 ـ 15 سنة ، وكان ذلك في سوق بأرجونتان ، وهي المدينة التي كنت بها طالبا داخليا بالثانوية . ثمة بائعة كتب مُستعملة ، بأثمنة منخفضة لكتب الجيب . كنت أقرأ بنهم وفوضى : الشعر ، الروايات ، السوسيولوجيا ،الفلسفة والتحليل النفسي . في شيء من الفوضى ؛ إلى حد ما على طريقة عصامي رواية الغثيان : لا أحد يوجهني ، لا أحد يقودني في تلك القراءات ، لا أحد يجعلني أربح الوقت ، بتقديمه النصح لي ، بدلا من هذا الشيء أو ذاك … اكتشفت السوريالية ، بودلير ، الوجودية ، سارتر وبوفوار ، عمل فرويد ، الفوضوية مع كتاب ما هي الملكية ؟ لبرودون ، والماركسية مع كتاب بيان الحزب الشيوعي . من ثم نيتشه مع كتاب هكذا تكلم زرادشت  ضمن سلسلة كتاب الجيب . 

   لابد من القول بأن نيتشه ، ماركس وفرويد ، الفلاسفة الثلاثة ، الذين يطلق عليهم فلاسفة الشك ، وعندما يكون المرء في تلك السن ، والماضي الذي كان ماضيّ ، إنها شمس مشرقة على وجوده : إن حياة عامل الفلاحة لوالدي وأمي التي كانت تعمل كمنظفة  ، الفقر ـ وليس البؤس ـ في البيت ، كل هذا يتصادى مع تحليل صراع الطبقات ، صناعة الفُرص ، التي هي اختلاس قوة العمل لدى العامل ، لدى ماركس وبرودون . غادرت بين العاشرة والرابعة عشرة ، في فترة السنوات الأربع ، ميتم رهبان ساليزيين Salésiens) ( كان البعض منهم متحرشين بالأطفال ، منذ ذلك الحين فصاعدا ، شرعت مسيحية نيتشه المضادة في التحدث إلي ّ. أيضا إنجازات فرويد ، في كتابه ثلاثة مباحث في النظرية الجنسية ، تخص في المقام الأول المراهق الذي كُنته . 

  في الرابعة عشرة ،أحببت نيتشه لأسباب واهية جلية : معاداته للمسيحية ، لكن أيضا مديحه للقسوة ، انتقاده للشفقة ، إشادته بالأقوياء ، احتقاره للعبيد ، ازدراؤه للخدم ،  كراهيته للمرأة ، ” إرادته للقوة ” ، ” إنسانه الأعلى ” الذائع الصيت ، عديدة هي القراءات التي قمت بها أرضا ! لقد كانت قراءة من نوع رخيص ؛ لنفترض ، ربما ، أني كنت معذورا ، كوني كنت أبلغ من العمر الخامسة عشرة تقريبا ، وأن المراهقة ، وفترة جسم في حالة انصهار ، قلب محتدم ، وروح غاضبة ، تعثر هنا على غذائها اليومي ! لقد شكل ذلك بالنسبة لي فوضويا أدبيا … وهذا بالطبع ليس صحيحا . 

    إنها ال” اجترارات ” كي نستعمل عبارة أو فكرة يفضلها نيتشه ، والتي سمحت لي ، مع مرور الزمن ، بالخروج من هذه القراءة البدائية . إن هذا العمل هو كحول قوي : تناوله بجرعات قوية صبيانية لهو شيء سامّ . 

المجلة : ما هو كتاب نيتشه المفضل لديكم ؟ والذي ينبغي عبره ولوج عمله؟  

ميشال أونفري : أعتقد أن القارئ فهم أن الأمر يتعلق بكتاب هكذا تكلم زرادشت ، إلا أنه ذلك الكتاب الذي ينبغي عبره الختم ، حينما يكون المرء قد قرأ كل كتبه ! إنه كتاب المعرفة المرحة ، وذلك من خلال  مقدمته الرائعة ، وعلاوة على ذلك ، فإنه يقوم بتركيز كل ما قام به نيتشه : خفة ، عمق ، أسلوب ، أناقة ، حيوية ، صفاء ، جذرية …


 

1 ـ ميشال أونفري ، تاريخ مضاد للفلسفة ، 12 جزءا ، غراسيه ، 2006 ـ 2020.

2 ـ ميشال أونفري ، موسوعة مختصرة للعالم  ، جزء 1 ، كوسموس ، نحو حكمة بدون أخلاق ، جزء 2 ، انحطاط . حياة وموت اليهودية المسيحية ، جزء 3 ، حكمة . معرفة كيفية العيش عند سفح بركان ، جزء 4 ، أنيما Anima ) ( . حياة وموت الروح من لاسكو إلى ما بعد الإنسانية ، ألبان ميشال ، 2015 ، 2017 ، 2019 و2023 . 

مصدر النص : المجلة الشهرية الفرنسية Revue Des Deux Mondes)  ( ، ماي ـ يونيو 2023