مجلة حكمة
مستقبل الحرب

مستقبل الحرب

الكاتبأونابيلي ميندوكا كاي هيرفي
ترجمةياسين إدوحموش

تخيل رجل أعمال سويسري في إيطاليا بالقرب من مدينة سولفرينو؛ ربما سافر إليها من أجل حضور اجتماع مهم من شأنه أن يزيد ثروته. للأسف، تنشب معركة ضخمة بين معسكرين اثنين أثناء وجوده هناك. تتردد أصوات الأعيرة النارية في كل مكان، ويصرخ الجنود ويبكون؛ تُسفك الدماء وتُقطع رؤوس الجنود وأيديهم وأقدامهم عند انفجار كل قذيفة. في المساء، يسقط أكثر من 30.000 جريح وقتيل في الميدان، بعضهم يبكي والبعض الآخر ميت وبلا حياة. شهد هنري دونان هذا المشهد الوحشي مساء يوم 24 من يونيو 1859 في سولفرينو أثناء حــــرب الاستقلال الإيطالية. اندلعت الحرب بين معسكر خصمين هما من جهة، الإمبراطورية النمساوية، ومن جهة أخرى، التحالف الفرنسي الإيطالي. لقد كان هذا الصراع الذي جمع العديد من الجهات الفاعلة في الدولة بطبيعته وحشيًا وعنيفًا وغير إنساني، مما دفع هنري دونان إلى اتخاذ إجراءات لصالح الجرحى بغض النظر عن معسكرهم. لاحقًا، ستؤدي خطوات دونان لولادة الصليب الأحمر الدولي، واتفاقيات جنيف، وقانون النزاعات المسلحة. تمثل سولفرينو الحرب كما نعرفها، أي اشتباك عسكري دموي بين جيوش دولتين أو عدة دول، وهذا النوع من الحرب له قواعد يجب على جميع المتحاربين احترامها؛ وإلا فإنهم يرتكبون جرائم حرب.

يصور الوصف أعلاه الحروب بأمانة كما نتخيلها: دول ضد دول، وجيوش ضد جيوش، وقوتان معاديتان لبعضهما. هذا المفهوم للحرب هو من مخلفات حرب الثلاثين عامًا واستمر لما يقرب من أربعة قرون. لكن التاريخ ليس ثابتًا ويتطور. وكذلك الحال مع طابع الحرب، على الرغم من أن طبيعتها تظل ثابتة. هذا يعني أن الحروب المستقبلية من المحتمل أن تكون مختلفة عن تراث ويستفاليا.

وبالتالي، فإن هذا يثير الأسئلة التالية: هل ستكون الحروب المستقبلية مختلفة عما عرفته البشرية في القرون الثلاثة الماضية؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف؟ من سيكون الفاعل في الصراعات القادمة؟ وفي أي ساحة وسياق ستدور هذه الاشتباكات؟ كيف ستشكل هذه الصراعات العلاقات الدولية؟ نجادل هنا بأن الحروب التقليدية لن تظل متربعة على عرش عالم الخلافات، بل ستظهر أنواع جديدة من الحروب، بما في ذلك جهات فاعلة جديدة، أو تتنافس مع الحروب التقليدية.

حروب ما بعد ويستفاليان التقليدية: الحروب في المعرفة الشائعة

ما هي الحــــرب؟ “الحرب هي سياسة، والحرب نفسها هي عمل سياسي.” بالنسبة إلى كلاوزفيتز، فإنها مجرد استمرار لممارسة السياسة بوسائل أخرى،  ويصفها صن تزو بأنها فن ذو أهمية حيوية للدولة. يشترك التعريفان الأولان في كلمة السياسة، ويفضل الثاني بدلاً من ذلك كلمة الدولة. مصطلح السياسات والسياسة في التعريف أعلاه هو إحدى الطرق التي تعبر بها الدول عن نفسها. لذلك، يمكن للمرء أن يستنتج مما سبق أن الحرب هي فعل يمكّن الدول من حل النزاعات، ويصفها ماو بأنها سياسة مع إراقة دماء. وخلاصة كل هذا أن الحرب كما نعرفها من الأفلام وكتب التاريخ المعاصرة هي طريقة سياسية وحشية وعنيفة تعمل الدول من خلالها على حل المشاكل. غير أن هذا التعريف يشير بشكل أساسي إلى النزاعات التقليدية، وغالبًا ما ترتبط بالدول وتقف في طليعة الاشتباكات العسكرية لأكثر من ثلاثة قرون.

في الحقيقة يرتبط تاريخ الحروب التقليدية بتاريخ الدول، وهي نتيجة مباشرة لاتفاق ويستفاليا عام 1648. لقد أنشأت معاهدة ويستفاليا نظامًا عالميًا جديدًا تعتبر فيه الدول الحكام الوحيدين. وإذا كانت أوروبا في العصور الوسطى مكانًا غير آمن قبل حروب الثلاثين عامًا (حيث كان بإمكان أي شخص لديه المال تكوين جيش وشن الحروب)، فإن عالم ما بعد ويستفاليا سوف يرسي حقبة جديدة مع ديكتاتورية الدول، فمعها جاءت كلمات مثل السيادة؛ ذلك “النظام المتمركز حول الدولة” هو الذي لا يزال العالم يعيش فيه اليوم. يمنح هذا النظام العديد من الامتيازات للدول ذات السيادة، من بينها احتكار العنف المشروع أو القوة. ومن الأمثلة على مخلفات النظام الويستفالي أن الدول فقط هي التي يمكنها إعلان الحروب على بعضها البعض. على سبيل المثال، في دستور الولايات المتحدة، يعود هذا الامتياز إلى الكونجرس الذي يمكنه إعلان الحرب. باختصار، وضع سلام ويستفاليا أسس الحرب التقليدية؛ حرب بين دولتين أو عدة دول (ممالك في نهاية المطاف) تقاتل من خلال جيوشها بأنواع محددة من المعدات والقواعد.

بعد اتفاقية السلام ، أكد منظرو الحرب على أن الحرب التقليدية هي طريقة القتال الوحيدة. خاض نابليون كل حروبه وفقًا لهذا النموذج، وهو النموذج الذي شرحه كلاوزفيتز وجوميني في كتبهما. وإذا ألقينا نظرة على التاريخ الحديث للصراعات، فكل الحروب التي نعرفها تقريبًا كانت تقليدية، والحربان العالميتان مثال نموذجي على ذلك.

علاوة على ذلك، فإن ما يتم تدريسه في الأكاديميات العسكرية وكليات الأركان والحرب هو كيفية القتال والفوز في حرب تقليدية. يعيش العالم اليوم تراث ويستفاليا، وحتى الثقافة هي سفيرة الحروب التقليدية. وفقًا لقاعدة بيانات أفلام الإنترنت، فإن 8 من أفلام الحرب العشرة الأولى تتعلق بالحرب التقليدية. نحن أيضا ورثة الحرب التقليدية. 

إن الحرب التي نعرفها وندرسها ونقرأها ونستعد لخوضها هي حرب تقليدية، غير أنه حان الوقت لمفكري الحرب والاستراتيجيين لتوسيع آفاقهم والتفكير بطريقة أخرى، فمن المحتمل أن تندلع العديد من الحروب التقليدية الأخرى، لكن المنافسة قوية، وستظهر أشكال أخرى من الصراعات وتتحدى التقليدية. مستقبل الحرب لا يخص الحروب التقليدية فقط، وعالم ما بعد ويستفاليا قد نشأ.

ساحة العلاقات الدولية في حقبة  ما بعد ويستفاليا: أرض خصبة لنوع جديد من الحروب

في السابع والعشرين من شهر فبراير عام 2014، كان الجو باردًا وشتويا في شبه جزيرة أوروبية، وبدا كل شيء طبيعيا حتى تغير ذلك. وصل غرباء مجهولون في وحدات عسكرية منظمة تنظيماً جيداً، وكان عددها يفوق بسهولة عدد القوة التقليدية المسؤولة عن الأمن ما أجبرها على الانسحاب. بعد يوم واحد، استولت القوة المجهولة على المطار الرئيسي في شبه الجزيرة ورفعت علمًا أجنبيًا فوق قبة البرلمان. عند استجواب الجنود الذين نجوا من هذا الهجوم حول هوية الغزاة، أجابوا بأنهم لا يعرفون، إذ لم يكونوا يرتدون شارات أو زيا موحدا محددا، كما كان من الصعب معرفة البلد الذي ينتمون إليه. يبدو هذا السيناريو مستوحا من فيلم خيالي، لكنه حدث في العالم الحقيقي. في عام 2014 ، غزا “Little Green Men” شبه جزيرة القرم، واستولوا على مطار سمفروبل، ورفعوا العلم الروسي فوق البرلمان الإقليمي. عندما سُئل بوتين عما إذا كان هؤلاء الرجال المجهولون من الروس، أجاب بالنفي. ماذا يمكن أن يفعل المجتمع الدولي انتقاما؟ لا شيء.

لقد تغير المشهد في عالم ما بعد ويستفاليا، والنظام العالمي الجديد معقد ويصعب فهمه ومراقبته والتحكم فيه. وكما رأينا أعلاه ، كانت الدول بجيوشها هي صاحبة الكلمة العليا في عالم ويستفاليا، وكانت القوانين والقواعد والتقاليد الدولية هي القاعدة. في ظل الحكم الغربي للولايات المتحدة، كان المجتمع الدولي مسؤولاً عن تطبيق القواعد. على العكس من ذلك، في عالم ما بعد ويستفاليا، تغيرت ساحة العلاقات الدولية ومن المرجح أن تغير مستقبل الحرب، لسببين اثنين على الأقل.

أولاً، نجادل هنا بأن النظام القائم على القواعد سينهار لأن هذه القوانين أصبح من السهل مقاومتهما الآن. لو تأملنا في قصة “Little Green Men” أعلاه، فإنه من المستحيل تقريبًا على المجتمع الدولي معاقبة روسيا نظرًا لعدم وجود دليل رسمي لإثبات أن الغزاة كانوا من الروس. وبصريح العبارة، من السهل مقاومة القوانين القائمة؛ توجد العديد من المناطق الرمادية أو المناطق الضبابية حيث يكون إصدار الحكم شبه مستحيل. انظر كيف تعاني الدول (دون نجاح كبير) لفرض ضرائب على Google و Amazon و Facebook و Apple) لأن لا أحد يعرف اللوائح التنظيمية الذي يجب تطبيقها. يمكن أن يمتد هذا المثال إلى استخدام العملات المشفرة التي تتخطى الحدود والقواعد. بالعودة إلى السيناريو الخاص بنا، ما هي العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن يكون فرضها ممكنا على المسؤولين الروس إذا كانت معظم أصولهم من عملة البيتكوين؟ بعد غزو أوكرانيا في فبراير 2022، دفعت موجة من العقوبات الدولية العديد من الأوليغارشية إلى استخدام عملات البيتكوين من أجل الالتفاف حول كل القوانين. ولأنه يسهل اليوم الهروب من القوانين الدولية، ولأن العديد من الفراغات القانونية والقانونية موجودة في الساحة الدولية، من المرجح أن تظهر جهات فاعلة جديدة وتستغلها في المستقبل لشن نوع جديد من الحروب.

ثانياً، إن الساحة الدولية آخذة في التغير لأنه حتى في حالة وجود قوانين، لا توجد آلية لفرضها، إذ “لا توجد سلطة قضائية أو قوات شرطة أو سجون دولية، لذلك لا يهم إن تم تجاهل القانون”. تخرق الدول القوانين والأعراف علانية دون أن تتعرض للمقاضاة أو العزل من طرف المجتمع الدولي. في مارس 2003، كونت الولايات المتحدة تحالفًا لغزو العراق على الرغم من استخدام العديد من الدول حق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. صرح الرئيس كوفي حنان قائلاً: “لقد أشرت إلى أنه (الغزو) لا يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة. من وجهة نظرنا ومن وجهة نظر الميثاق كان ذلك غير قانوني”.  ومع ذلك، بعد الغزو الأمريكي غير المشوع، لم يحدث شيء. يُظهر مثال انتهاك الولايات المتحدة وحلفائها لاتفاقية الأمم المتحدة التي لم يُعاقب عليها أن الأمم المتحدة “تخلت عن دورها في منع الصراع … ولم تفعل شيئًا ذا مغزى لوقف الحروب في العراق وسوريا والسودان … وفي كل مكان.” إذا تمكنت بعض الدول أو الجهات الفاعلة من اتخاذ تدابير ضد النظام والإفلات من العقاب، فلماذا نتوقع من الآخرين ألا يفعلوا الشيء نفسه؟ بأي شرعية ستتحدث الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة عندما تغزو روسيا أوكرانيا؟

للتلخيص، فإن الساحة الدولية لما بعد ويستفاليا هي ساحة يسهل فيها مخالفة القوانين أو التخلص منها. لماذا تنطبق قواعد القانون على بعض الفاعلين دون غيرهم؟ وبسبب هذه الساحة الجديدة التي يسود فيها عدم احترام القانون أو خداع اللوائح التنظيمية، سيواجه العالم في المستقبل عشوائية متزايدة مع ظهور أشكال جديدة من الصراع في كل مكان. لقد بدأ هذا بالفعل ويعني ظهور نظام عالمي جديد يسميه شون ماكفيت “الاضطراب الدائم”.  والاضطراب الدائم هو الساحة التي ستندلع فيها الحروب المستقبلية، وستظهر صراعات مع فاعلين جدد، باستخدام أساليب وقواعد جديدة، سيتغير فيها مفهوم الفوز، كما سيميز الاضطراب الدائم العلاقات الدولية ويؤثر عليها ويغير وجه الحرب.

سيكون في حروب المستقبل فاعلون جدد

إذا كان لا يزال أمام حروب التي يكون طرفاها الدول بعض الوقت، لن تكون الدول الجهات الفاعلة الرئيسية في الحروب المستقبلية. في الواقع، في حالة الاضطراب الدائم، لن يكون المجتمع الدولي قادرًا على حماية الأبرياء (كما هو الحال في العراق وأوكرانيا)، وسيشهد المرء تناقص وزن سلطة الدولة. على سبيل المثال، في عام 2014، بعد خروج الولايات المتحدة من العراق،  التي تحولت لدولة منهارة، رجح وضع الدولة الضعيف صعود داعش في العراق وسوريا. في نهاية المطاف، “تم ملء الفراغ في السلطة الذي خلفته الدول المنسحبة من قبل المتمردين، والخلفاء، والشركات، ودول المخدرات، وممالك أمراء الحرب، وأسياد المرتزقة، والأراضي المقفرة.” وفي سياق فقدان الثقة في نظام ويستفاليا وتنامي الاضطراب الدائم، ستفقد الدول شرعية العنف المشروع، وستقوم الجهات الفاعلة الجديدة  بتوظيف المحاربين أو المرتزقة لشن الحروب نيابة عنها، وأي سبب سيكون جيدًا بما يكفي لهؤلاء الفاعلين الجدد لشن الحروب، سواء لكسب المال، والكفاح من أجل المعتقد أو الانتقام ومن أجل القبيلة …

وكمثال على ذلك، توضح معارك عصابات المخدرات في المكسيك كيف ستقاتل الجهات الفاعلة الجديدة بعضها البعض داخل الدول دون إشراك الجيوش الوطنية أو الشرطة. في عام 2019 ، قتلت المعارك بين فصائل الكارتل 34582 شخصًا. كانت مدينة أكابولكو، في عام 2020  مسرحًا لمعارك شرسة بين مجموعات الكارتلات المختلفة للسيطرة على التجارة في المكسيك. وحدثت حالة حرب مماثلة داخل دولة دون جهات فاعلية حكومية فاعلة عام 1994 في رواندا. أثار اغتيال رئيس الهوتو جوفينال هابياريمانا من رواندا وسيبريان نتارياميرا من بوروندي إبادة جماعية قتل فيها ما يقرب من مليون شخص، وحدثت هذا الإبادة الجماعية بين مجموعتين عرقيتين، هما الهوتو والتوتسي، دون تدخل الدولة. وعلى نفس المنوال، كما يحدث بالفعل في إفريقيا، فإن العديد من الجماعات المتمردة سوف تتحدى سلطة الدولة وتسعى إلى الانفصال أو الإطاحة بالحكومة القائمة، وهو الحال في الكاميرون، حيث يسعى “تمرد أمبازونيا” إلى الانفصال. من الواضح أن الدولة لن تكون الفاعل الوحيد في الحروب، إذ سيشنها قادمون جدد مثل المتمردين، وحركات التمرد، وكارتلات المخدرات، والقبائل، والأحزاب السياسيةَّ.

 علاوة على ذلك، فإن الاتجاه الجديد الذي من المرجح أن يظهر في المستقبل هو الحروب السرية، حيث ستقاتل الدول دولا أو جماعات أخرى باستخدام المرتزقة أو الأشخاص المستأجرين، وليس باستخدام جيوشها الدائمة، وسوف تستخدم الشركات العسكرية الخاصة في كثير من الأحيان لتفادي القوانين الدولية وشن الحروب، كما ستقوم البلدان بتوظيف هذه الشركات لمساعدتها على مكافحة التهديدات على أراضيها أو في الخارج. قد يكون الخطر تمردًا أو منظمة إرهابية أو أيًا كان. في جمهورية أفريقيا الوسطى، الدولة الفاشلة، أنقذت مجموعة واغنر الحكومة الهشة الجديدة لفاوستين أرشانج تواديرا، وساعدت في وقف تمرد سيليكا وهي الآن توفر الحماية للدولة الهشة. تكتسب هذه الظاهرة قبولا باعتبارها إتجاها قويا، ففي أوائل عام 2022 ، استأجرت دولة فاشلة أخرى هي مالي  خدمات مجموعة فاغنر لتوفر لها الأمن. 

إن هذا الميل إلى توظيف مقاتلين أجانب للمساعدة في الكفاح من أجل قضية ما لا يستخدمه الروس أو الدول الأفريقية فقط، فقد فعلت الولايات المتحدة ذلك في العراق وأفغانستان. في عام 2022، دعا الرئيس زيلينسكي علنًا المتطوعين من جميع أنحاء العالم للحضور ومساعدة أوكرانيا في القتال ضد روسيا. في المستقبل، كما تظهر هذه الأمثلة، ستسمح الأموال للدول أو الأشخاص بدفع أموال للأفراد أو الشركات مقابل توفير الأمن العسكري، كما ستدفع الشركات القوية مثل توتال، التي تعمل في المياه الخطرة مثل خليج غينيا النيجيري، الشركات الخاصة لحمايتها من قراصنة البحر.

سوف توظف حروب المستقبل وسائل وطرق جديدة

في أغسطس 2021 ، بعد 20 عامًا من الاشتباكات في أفغانستان، انسحب أقوى جيش في العالم من البلاد. وطوال عقدين من الزمن، لم يتمكن الجيش الأمريكي، مع كل الهيمنة التكنولوجية التي يتمتع بها، من إجبار طالبان على الاستسلام، فلم تساعد الطائرات المهيبة من طراز F-35 ، وعربات همفي، وعربة أبراهامز المدرعة الهجومية، والمناظير ذات الرؤية الليلية، وبنادق القنص، وغيرها من أحدث أنظمة الأسلحة المتطورة التي يمكن للمرء أن يتخيلها، على انتصار الولايات المتحدة في أفغانستان. وكما اعترف الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة قائلا: “من الواضح لنا جميعًا أن الحرب في أفغانستان لم تنته بالشروط التي أردناها، مع وجود طالبان في السلطة في كابول”. في اليوم نفسه، أقر ميلي بأن الحرب في أفغانستان كانت بمثابة فشل استراتيجي. إن هزيمة القوات الأمريكية أمام طالبان، العدو الضعيف والفاشل، تعني شيئًا واحدًا، وهو أن التكنولوجيا لن تحدد بعد الآن من سيفوز أو يخسر. في الحروب المستقبلية، لن يذهب النصر للأقوى، بل لصالح من يقاتل الأفضل في النظام العالمي للاضطراب الدائم. إذا لم يكن النصر مضمونًا بأفضل قوة نارية وبالتكنولوجيا الحديثة، فما الطرق والوسائل التي سيفضلها محاربو الغد لتحقيق ذلك؟

لقد رأينا أن التكنولوجيا لن تكسب بالضرورة حروب الغد، ذلك لأن المحاربين سيغيرون الطريقة التي يقاتلون بها. سيتوقفون عن التعويل على الوسائل الحركية مثل أفضل أنظمة الأسلحة وسيلجؤون إلى خصائص غير حركية. إن الطرق والوسائل المستخدمة في الحروب المستقبلية ستكون “عناصر مثل المعلومات واللاجئين والأيديولوجيا والوقت.” هذه هي العناصر التي سيستخدمها محاربو المستقبل كسلاح لتحقيق النصر. أي شيء يمكن استخدامه كسلاح لخدمة مصلحة أحد الأعداء سيكون ذا فائدة كبيرة. ستكون هذه هي طرق ووسائل الغد وقد بدأت بالفعل اليوم. أنظر كيف حاول بوتين تسليح الفضاء ومحطة الفضاء الدولية لمصلحته في الحرب الأوكرانية الروسية. إن أداة القوة التي يعتز بها كلاوزفيتز ستُلقى في سلة المهملات، وسيفضل المنتصرون في حروب الغد أن يكونوا متسللين وسيفضلون اقتصاد القوة.

في فبراير 2020، أدى هجوم روسي في سوريا إلى مقتل 33 مواطنًا تركيًا وأثار غضب أنقرة التي هددت بفتح حدودها والسماح لآلاف اللاجئين بدخول اليونان. بعد الغارة، أصيب العالم الغربي بالذعر وسعى للتوصل إلى اتفاق مع أردوغان. عرف بوتين أن رواية أنقرة بفتح حدودها ستستمر في زيادة الشعور القومي في الاتحاد الأوروبي وتغذية أزمة المهاجرين التي كانت مستمرة هناك. من ناحية أخرى، كان الرئيس التركي يعلم أن أوروبا لن تخاطر بقدوم أفواج كبيرة من اللاجئين إلى شواطئها مثل تلك الموجة التي حدثت في عام 2014 والتي فضلت خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأدخلت اليمين المتطرف إلى السلطة في المجر وإيطاليا وفرنسا تقريبًا. يستخدم كل من بوتين وأردوغان اللاجئين كسلاح ضد أوروبا.

كما سبق ورأينا، فإن الاضطراب الدائم هو عصر لا يهتم فيه أحد بقواعد النظام الويستفالي وقوانينه. لن يهتم المتحاربون باحترام قوانين النزاعات المسلحة وسيرتكبون فظائع وجرائم حرب، غير أن هذا لن يكون مهمًا لأن النموذج لم يعد هو نفسه، حيث ستكون الدعاية وسياسة الإنكار أقوى من القوة النارية.  قد لا يعتمد النصر في المستقبل أحيانًا على أي جيش سيفوز، ولكن على أية قصة ستنتصر”. وفي عصر وسائل التواصل الاجتماعي، سيستخدم المحاربون المستقبليون المعلومات كسلاح قوي سيكون أكثر خطورة من الرؤوس الحربية النووية.

علاوة على ذلك، لماذا سيفكر قادة الغد أو الاستراتيجيون من منطلق الحرب أو السلام؟ بدلاً من ذلك، يمكن لعدو ذكي استخدام المسافة بين هذين الاثنين لتحقيق هدفه السياسي. يتمثل أحد الإخفاقات الإستراتيجية لمفكري اليوم في أنهم يرون الحرب كأنها عملية حمل؛ إما أن تكون أو لا تكون، وسيكون مفهوم الحرب أو السلام تقسيما مصطنعا في المستقبل، وسوف يستخدم المتحاربون “استراتيجية الحرب بدون حرب”. بعبارة أخرى، سيتجنب المفكر الحكيم دائمًا التصعيد إلى صراع مفتوح لكنه سيحافظ على التوترات إلى حافة الحرب ثم تهدئة التوترات لتجنب الانفجار. إن الوضع الجديد الناتج عن نزع فتيل التوتر سيمثل الوضع الراهن الجديد، وسوف تصبح تنازلات اليوم قواعد ومعايير الغد، والصين تفعل ذلك في بحر الصين الجنوبي، وروسيا فعلت ذلك لضم شبه جزيرة القرم.

لن يبدو النصر بالضرورة كما هو اليوم

في عام 1945 انتصر الحلفاء في الحرب العالمية الثانية  بعد أن قتلوا أقصى عدد من الأعداء واستولوا على أكبر قدر ممكن من الأراضي. ونتيجة لذلك، وقعت ألمانيا في الثامن من مايو 1945 استسلامًا غير مشروط في مقر الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور.  في النظام الويستفالي، كان المنتصر هو من يستولى على معظم الأراضي، ويقتل أكبر عدد من الأعداء، ويفوز بالمعارك الحاسمة. لكن في نظام الاضطراب الدائم، قد يبدو النصر مختلفًا، فلن يكون فقط من قتل أكبر قدر من الأعداء أو ربح أكبر عدد من المعارك، بل سيكون من حقق هدفه السياسي. في أفغانستان، من المحتمل أن يكون التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قد فاز في معارك أكثر من طالبان وقتل العدد الأكبر من الأعداء، لكنهم لم ينتصروا في الحرب، ونفس الشيء حدث من قبل في العراق وفيتنام. فرغم الانتصار تستمر الحرب.

كما رأينا، سيكون للحروب في المستقبل وجه آخر، ونفس الشيء بالنسبة للنصر، حيث سيعتبر حرمان الخصم من تحقيق فوز واضح نصرا، أي مجرد التواجد حتى يتعب الخصم ويستسلم، وقد حدث هذا في أفغانستان عام 2021. قد يجادل التحالف بأنه انتصر في جميع المعارك تقريبًا، لكن الحقيقة هي أنه لم يخرج فائزا في الحرب. إن الانتصار في كل المعارك وخسارة الحرب هو “نصر متناقض” ولا يعني انتصارًا سياسيًا. الانتصار السياسي هو ما حققته طالبان، وكل ما يحتاجه الخصوم للقيام بذلك هو إنكار النجاح السياسي للآخر والبقاء على الوجود. فمن خلال التواجد في ساحة المعركة فقط، يُحقق المرء انتصاره السياسي تقريبًا ويحرم الخصم من نيله. في حروب الغد، سينتصر الأعداء الأضعف إذا لم يخسروا، وسيخسر الأقوياء إذا لم ينتصروا. ستكون نظرية انتصار المتحاربين موجودة في ساحة المعركة حتى يتنحى الخصم ويستسلم.

Homo homini lupus. تعني هذه المقولة اللاتينية “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”. بمعنى آخر، تشير إلى الطابع العدواني للبشر تجاه الآخرين في الحالة الطبيعية، وفقط كائن أسمى يمكنه منع هذا السلوك؛ كما تعني أن الحرب لن تنتهي أبدًا بين البشر لأن هذه طبيعتهم. إن تاريخ البشرية حافل بقصص الحروب من مصر القديمة في زمن الفراعنة حتى روسيا المعاصرة لبوتين، فهي حاضرة وغير قابلة للتغيير، وطبيعتها تبدو أبدية، وهي طريقة دموية لفض النزاعات السياسية. ومع ذلك، فقد تطورت طبيعتها مع مرور الزمن. فعلى مدى القرون الثلاثة الماضية، كانت حكرا على الدول القومية، ولا يمكن لأي شخص آخر شنها. وقبل هذه الفترة، كان ملاك الأراضي من ذوي النفوذ يتمتعون بسلطة تشكيل الجيوش وخوض الحروب. ونظرًا لتطور الحروب مع الوقت، من الأهمية بمكان فهم الشكل الذي سيبدو عليه مستقبلها حتى نكون على أتم الاستعداد. لقد جادلنا هنا بأن الحروب التقليدية كما نعرفها اليوم سوف تتناقص، وسوف يظهر نوع جديد من الحروب تشنها جهات فاعلة جديدة  باستخدام طرق جديدة ومن أجل تحقيق غايات جديدة، وسيكون السبب الرئيسي لهذا التحول هو تغير الباراديام الدولي. سينتهي النظام العالمي القائم على معاهدة ويستفاليا بهيمنة الدول القومية والقواعد / القوانين، وسيقوم نظام عالمي جديد قائم على الاضطراب الدائم مقامه ويكون الساحة المستقبلية لحروب الغد.

وفي هذه الساحة الجديدة، ستشترك الدول في حق شن الحروب مع الجهات الفاعلة من غير الدول، وستعود المرتزقة للظهور إلى الواجهة، ولن تكون التكنولوجيا ضمانًا لتحقيق النصر، وستساعد سياسة الإنكار الدول على شن الحروب وإنكارها، ولن يحترم أحد قواعد التسلح؛ سوف يسود والسلام والحرب في آن واحد، وسيصبح الردع النووي من خلال الدمار المؤكد المتبادل من الماضي، وأفضل الأسلحة لن تطلق الرصاص، وستكون الحروب التي تشنها الأطراف غير التابعة للدول موجودة، وسيكون النصر قابلاً للاستبدال. إن الأمر عائد للقادة والخبراء الاستراتيجيين اليوم لتوقع بداية عصر العشوائية ولأن يكونوا في أهبة الاستعداد، وعدم التفكير بشكل استراتيجي في مستقبل الحرب والتكيف معها يشكل تهديدًا وجوديًا لدول اليوم، والتعليم الاستراتيجي في عالم ما بعد ويستفاليا تعتبر بداية الاستعداد لتلك الحقبة المظلمة.

البيليوغرافيا

  • African Studies Centre Leiden. “Assassination of Juvénal Habyarimana and Cyprien Ntaryamira,” April 6, 2021. https://www.ascleiden.nl/content/library-weekly/assassination-juvenal-habyarimana-and-cyprien-ntaryamira.
  • Business Insider. “Russian Oligarchs and Officials Are Reportedly Using Crypto to Protect Millions from Sanctions.” Accessed April 1, 2022. https://www.businessinsider.in/investment/russian-oligarchs-and-officials-are-reportedly-using-crypto-to-protect-millions-from-sanctions/articleshow/90226228.cms.
  • Brooks, Rosa. “Fighting Words.” Foreign Policy (blog). Accessed March 31, 2022. https://foreignpolicy.com/2014/02/04/fighting-words/.
  • Clausewitz, Von Carl, Eliot Michael Howard, and Peter Paret. On War. Princeton University Press, 1976. https://web-p-ebscohost-com.nduezproxy.idm.oclc.org/ehost/ebookviewer/ebook?sid=fa9dca6d-1c1b-4c6d-ae12-cadc628d3edf%40redis&ppid=pp_Cover&vid=0&format=EB.
  • Crisis Group. “Russia’s Influence in the Central African Republic,” December 3, 2021. https://www.crisisgroup.org/africa/central-africa/central-african-republic/russias-influence-central-african-republic.
  • Dunant, Henry. “A Memory of Solferino,” n.d., 150.
  • Dusza, Karl. “Max Weber’s Conception of the State.” International Journal of Politics, Culture, and Society 3, no. 1 (1989): 71–105. https://www.jstor.org/stable/20006938.
  • France 24. “US ‘lost’ the 20-Year War in Afghanistan: Top US General,” September 29, 2021. https://www.france24.com/en/live-news/20210929-us-lost-the-20-year-war-in-afghanistan-top-us-general.
  • Furlong, Ray, AP, Reuters, AFP, and RFE/RL’s Ukrainian Service. The Changing Story Of Russia’s “Little Green Men” Invasion. Accessed April 1, 2022. https://www.rferl.org/a/russia-ukraine-crimea/29790037.html.
  • Giles. Sun Tzu On The Art Of War. 0 ed. Routledge, 2013. https://doi.org/10.4324/9781315030081.
  • IMDb. “Top 50 War Movies.” Accessed March 31, 2022. http://www.imdb.com/search/title/?title_type=feature&genres=war.
  • MacAskill, Ewen, and Julian Borger. “Iraq War Was Illegal and Breached UN Charter, Says Annan.” The Guardian, September 16, 2004, sec. World news. https://www.theguardian.com/world/2004/sep/16/iraq.iraq.
  • News, A. B. C. “Foreign Fighters in Ukraine Await Weapons in Chaos of War.” ABC News. Accessed April 1, 2022. https://abcnews.go.com/International/wireStory/foreign-fighters-ukraine-await-weapons-chaos-war-83452681.
  • “ON PROTRACTED WAR.” Accessed March 31, 2022. https://www.marxists.org/reference/archive/mao/selected-works/volume-2/mswv2_09.htm.
  • “Power to Declare War | Constitution Annotated | Congress.Gov | Library of Congress.” Accessed March 31, 2022. https://constitution.congress.gov/browse/essay/artI_S8_C11_1/.
  • Reuters. “As Mexico Focuses on Coronavirus, Drug Gang Violence Rises,” June 18, 2020, sec. Emerging Markets. https://www.reuters.com/article/us-health-coronavirus-mexico-cartels-idUSKBN23P1VO.
  • Ricks, Thomas E. “Despite the Myths, There Is No Such Thing as Winning Militarily and Losing Politically.” Foreign Policy (blog). Accessed April 2, 2022. https://foreignpolicy.com/2012/02/14/despite-the-myths-there-is-no-such-thing-as-winning-militarily-and-losing-politically/.
  • Rossello, Diego H. “Hobbes and the Wolf-Man: Melancholy and Animality in Modern Sovereignty.” SSRN Scholarly Paper. Rochester, NY: Social Science Research Network, September 21, 2010. https://doi.org/10.2139/ssrn.1680449.
  • Sean McFate. “The New Rules of War.” Accessed March 31, 2022. https://www.seanmcfate.com/the-new-rules-of-war.
  • The Indian Express. “Explained: Russian Space Agency’s Threat on International Space Station amid Ukraine Crisis,” March 3, 2022. https://indianexpress.com/article/explained/international-space-station-threat-russia-ukraine-war-7793394/.
  • “Timeline: The Rise, Spread, and Fall of the Islamic State | Wilson Center.” Accessed April 1, 2022. https://www.wilsoncenter.org/article/timeline-the-rise-spread-and-fall-the-islamic-state.
  • Reuters. “Turkey Says It Will Let Refugees into Europe after Its Troops Killed in Syria,” February 27, 2020, sec. Emerging Markets. https://www.reuters.com/article/us-syria-security-idUSKCN20L0GQ.
  • Ucko, David H, and Thomas A Marks. “Crafting Strategy for Irregular Warfare: A Framework for Analysis and Action,” n.d., 73.
  • Washington Post. “Opinion | President Trump’s Guerrilla Warfare.” Accessed April 2, 2022. https://www.washingtonpost.com/blogs/post-partisan/wp/2017/04/05/president-trumps-guerrilla-warfare/.
  • Washington Post. “Russian Mercenaries Have Landed in West Africa, Pushing Putin’s Goals as Kremlin Is Increasingly Isolated,” March 9, 2022. https://www.washingtonpost.com/world/2022/03/09/mali-russia-wagner/.
  • “World War II: Timeline.” Accessed April 2, 2022. https://encyclopedia.ushmm.org/content/en/article/world-war-ii-key-dates.