مجلة حكمة

تأملات وفرضيات إضافية حول كتاب “التحول الهيكلي للفضاء السياسي العام”

الكاتبيورغن هابرماس
ترجمةعلي الرواحي

ملخص

تحتوي هذه المقالة على تأملات إضافية حول كتاب “التحول الهيكلي للفضاء السياسي العام”، بناءً على دراسة المؤلف الاجتماعية والتاريخية التي نوقشت على نطاق واسع، والتي ظهرت في الأصل باللغة الألمانية في عام 1962 (الترجمة الإنجليزية 1989).تحتوي الأقسام الثلاثة الأولى على تأملات نظرية أولية حول العلاقة بين النظرية المعيارية والتجريبية، الفهم التداولي للديمقراطية، والشروط المطلوبة لاستقرار المجتمعات الديمقراطية في ظل ظروف الرأسمالية، كما يتطرق القسم الرابع إلى انعكاسات الرقمنة على حساب دور الإعلام في الفضاء العام الذي توسع في العمل الأصلي، وتحديداً كيف تؤدي إلى توسع وتجزئة الفضاء العام وتحويل جميع المشاركين إلى مؤلفين محتملين.كما يعرض القسم التالي بيانات تجريبية من دراسات ألمانية توضح أن التوسع السريع في الوسائط الرقمية يؤدي إلى تناقص ملحوظ في دور وسائل الإعلام المطبوعة الكلاسيكية.ويختتم المقال بملاحظات حول التهديدات التي تشكلها هذه التطورات على الدور التقليدي للفضاء العام في الرأي الخطابي وتساهم في تشكيل هذه الديمقراطيات.

الكلمات المفتاحية

 الرأسمالية، الشرعية التواصلية، الرقمنة، النظرية المعيارية والتجريبية، الفضاء العام، التحول الهيكلي.

النص

بصفتي مؤلف الكتاب الذي نُشر منذ ما يقرب من ستة عقود واختاره محررو هذا العدد الخاص كنقطة انطلاق للمناقشة الحالية، أود أن أبدي ملاحظتين. إذا حكمنا من خلال المبيعات، فإن الكتاب، على الرغم من أنه كان الأول لي، إلا أنه ظل الأكثر نجاحا ً بالنسبة لي حتى الآن. تتعلق الملاحظة الثانية، كما أظن، بالسبب وراء هذا الاستقبال غير العادي: يحتوي الكتاب على التاريخ الاجتماعي والمفاهيمي لـ”الفضاء العام” الذي اجتذب قدرا ً كبيرا ً من النقد ولكنه قدم أيضا ًمحفزات جديدة لمزيد من البحث التاريخي الواسع النطاق. هذا الجانب التاريخي ليس موضوعنا.ولكن بالنسبة للعلوم الاجتماعية، فقد كان لها تأثير في تضمين المفهوم السياسي لـ”الفضاء العام” في سياق اجتماعي بنيوي أوسع. حتى ذلك الحين، كان المصطلح يستخدم بمعنى غير محدد إلى حد ما، في المقام الأول داخل الفضاء المفاهيمي “للرأي العام” الذي، منذ لازارسفيلد Lazarsfeld، تم تصوره بمصطلحات ديموغرافية؛ لكن دراستي خصصت للمفهوم الاجتماعي للفضاء العام مكانا ًفي البنية المتمايزة وظيفيا ً للمجتمعات الحديثة بين المجتمع المدني والنظام السياسي. ونتيجة لذلك، يمكن دراستها بهدف مساهمتها الوظيفية في الاندماج الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص، في الاندماج السياسي للمواطنين.()على الرغم من أنني أدرك جيدا ً أن الأهمية الاجتماعية للفضاء العام تتجاوز بكثير مساهمته في تشكيل الإرادة الديمقراطية في الدول الدستورية()، فقد ناقشتها أيضا ً لاحقا ً من منظور النظرية السياسية.()في المساهمة الحالية أيضا ً، أعتبر نقطة البداية وظيفة الفضاء العام في ضمان استدامة المجتمع السياسي الديمقراطي. لقد أقنعتني الأفكار المثيرة للاهتمام لمارتن سيليجر Martin Seeliger وسيباستيان سيفينياني Sebastian Sevignani بالتفكير في التحول الهيكلي الإضافي للفضاء العام، على الرغم من أنني كنت أتعامل مع مواضيع أخرى لفترة طويلة ولم أتمكن إلا من تدوين ملاحظات انتقائية للغاية للمنشورات ذات الصلة.ومع ذلك، كانت لدي فرصة لقراءة معظم المساهمات الشيقة في هذه المجموعة وأنا ممتن لزملائي على هذه القراءة المفيدة.

سأبدأ بمعالجة العلاقة بين النظرية المعيارية والتجريبية (1)؛ ثم سأستمر في شرح لماذا وكيف يجب أن نفهم العملية الديمقراطية، بمجرد إضفاء الطابع المؤسسي عليها في ظل ظروف اجتماعية تتميز بالفردانية والتعددية، في ضوء السياسة التداولية (2)؛ سأختتم هذه التأملات النظرية التمهيدية بالتذكير بالظروف غير الأكيدة التي يجب أن تتحقق إذا كان لأزمة الديمقراطية الرأسمالية أن تظل مستقرة .(3) ضمن هذا الإطار النظري، الذي قدم فيه كتاب التحول الهيكلي (1962؛ الترجمة الإنجليزية 1989) تحليلا ً تاريخيا ً اجتماعيا ً أوليا ً، سأوضح كيف تعمل الرقمنة على تغيير هيكل وسائل الإعلام وتداعيات هذا التحول على العملية السياسية. يعزز التقدم التكنولوجي للاتصالات الرقمية في البداية الاتجاهات نحو تفكيك الحدود، ولكن أيضا ً نحو تجزئة الفضاء العام.كما يخلق الطابع الأساسي لوسائل الإعلام الجديدة مساحة من التواصل جنبا ً إلى جنب مع الفضاء العام التحريري حيث يمكن للقراء والمستمعين والمشاهدين القيام تلقائيا ًبدور المؤلفين .(4) يظهر مدى وصول وسائل الإعلام الجديدة من خلال نتائج مسح طولي حول استخدام عروض الوسائط الموسعة.ففي حين أن كل من التلفزيون والراديو كانا أكثر أو أقل قدرة على الصمود في سياق الزيادة السريعة في استخدام الإنترنت على مدى العقدين الماضيين، انخفض استهلاك الصحف والمجلات المطبوعة(5). إن ظهور وسائل الإعلام الجديدة يحدث في ظل الاستغلال التجاري لاتصالات الإنترنت غير المنظمة حالياً. فمن ناحية، يهدد هذا بتقويض الأساس الاقتصادي لناشري الصحف التقليديين والصحفيين بوصفهم المجموعة المهنية المتضررة؛ بينما من ناحية أخرى، يبدو أن نمطا ً من التواصل شبه العام والمشتت والمنغلق بذاته ينتشر بين المستخدمين الحصريين لوسائل التواصل الاجتماعي التي تشوه تصورهم للفضاء السياسي العام على هذا النحو.إذا كان هذا الحدس صحيحا ً، فإن جانبا ً ذاتيا ً مهما ً مسبقا ً لتشكيل الرأي العام والإرادة السياسية بطريقة تداولية إلى حد ما يتعرض للخطر بين شريحة متزايدة من المواطنين (6).

  1.  

في الدراسات التي تتناول دور الفضاء السياسي العام في الديمقراطيات الدستورية، نميز بشكل عام بين التحقيقات التجريبية والنظريات المعيارية.جون رولز، على سبيل المثال، يتحدث في هذا الصدد عن “النظرية المثالية”.أعتقد أن هذا البديل مفرط في التبسيط. من وجهة نظري، يتمثل دور النظرية الديمقراطية في إعادة بناء المحتوى العقلاني للمعايير والممارسات التي اكتسبت صلاحية إيجابية منذ الثورات الدستورية في أواخر القرن الثامن عشر، وعلى هذا النحو، أصبحت جزءا ً من الواقع التاريخي.حقيقة أن الدراسات التجريبية لتشكيل الآراء في ظل ظروف ديمقراطية تصبح عديمة الجدوى إذا لم يتم تفسيرها أيضا ً في ضوء المتطلبات المعيارية التي من المفترض أن تلبيها في الديمقراطيات الدستورية، والتي تبرز ظروفا ً مثيرة للاهتمام. ومع ذلك، فإن فهم هذا يستدعي استطرادا ً تاريخيا ً موجزا ً.بالنسبة للأفعال الثورية التي منحت الحقوق الأساسية صلاحية إيجابية، جعلت المواطنين في البداية يدركون التدرج المعياري الجديد (Gefälle normatives)  والذي أصبح بالتالي جزءا ًمن الواقع الاجتماعي نفسه.

يمكن فهم الجدة التاريخية لهذه المعيارية للأنظمة الدستورية القائمة على الحقوق الأساسية، والتي تشير طابعها “غير المشبع” إلى ما وراء الوضع الراهن بشكل خاص، على خلفية الشكل المعتاد للمعيارية الاجتماعية. فالظواهر الاجتماعية، سواء كانت أفعالا ً، أو تدفقات الاتصال أو المصنوعات اليدوية، أو القيم أو الأعراف، أو العادات أو المؤسسات، أو العقود أو المنظمات، لها طابع تحكمها القاعدة. يتضح هذا من خلال إمكانية السلوك المنحرف: يمكن اتباع القواعد أو كسرها. كما أن هناك أنواع مختلفة من القواعد: القواعد المنطقية والرياضية والنحوية، وقواعد اللعبة وقواعد العمل، حيث تشتمل الأخيرة على قواعد عمل آلية واجتماعية، والتي يمكن تمييزها بدورها وفقا ً للتفاعلات الاستراتيجية والمنظمة بشكل معياري. فالمعايير الأخيرة، على وجه الخصوص، التي تتميز بالنمط الغريب لصلاحية “ما يجب”(). كما تظهر طبيعة العقوبات المفروضة على السلوك المنحرف، فإن مثل هذه التوقعات السلوكية المعيارية قد تتطلب مطالب أكثر أو أقل صرامة، حيث تفرض الأخلاق المطالب الأكثر صرامة.تتميز المفاهيم الأخلاقية الكونية التي نشأت مع النظرة العالمية للعصر المحوري Axial Age بحقيقة أنها تدعو إلى معاملة متساوية لجميع الأشخاص من حيث المبدأ.بينما في سياق التنوير الأوروبي، أصبحت هذه الإمكانات المعرفية الأخلاقية منفصلة عن الخلفية الدينية أو الميتافيزيقية ذات الصلة وتم تمييزها بطريقة – وفقا ً للمفهوم الكانطي الذي لا يزال موثوقا ً – يجب أن يكون كل فرد في شخصيته الفردية غير القابلة للتصرف يمنح احتراما ً متساويا ً ومعاملة متساوية. بناءً على هذا المفهوم، يجب الحكم على سلوك كل شخص في ضوء وضعه الفردي وفقا ً للمعايير العامة التي تكون جيدة بنفس القدر للجميع من وجهة نظر يتم فحصها بشكل استطرادي لجميع الأشخاص المحتمل تأثرهم.

هناك تأثير اجتماعي خاص لهذا التطور مثير للاهتمام بشكل خاص في السياق الحالي .يجب أن نتذكر الراديكالية غير المسبوقة للأخلاق العقلانية من أجل قياس السمات التي يدعي مطالبتها بضرورة المطالبة التي أثيرت عن طريق هذه الشمولية الفردية المتساوية، وتبديل المنظور من الأخلاق العقلانية إلى القانون العقلاني المستوحى من هذه الأخلاق، لفهم المغزى التاريخي للكيفية، منذ الثورتين الدستوريتين الأولين، التي شكلت هذه الإمكانية المعرفية الأخلاقية الشديدة لجوهر الحقوق الأساسية التي أقرتها الدولة، وبالتالي القانون الوضعي بشكل عام. مع “إعلان” الحقوق الأساسية وحقوق الإنسان، انتقل جوهر الأخلاق العقلانية إلى وسط قانون دستوري ملزم مبني على حقوق ذاتية! مع تلك الأعمال التأسيسية غير المسبوقة تاريخيا ً والتي أدت إلى ظهور أنظمة دستورية ديمقراطية في أواخر القرن الثامن عشر،حيث استقر التوتر المجهول حتى الآن للتدرج المعياري في الوعي السياسي للمواطنين الأحرار والمتساوين في شكل ٍ قانوني. هذا التشجيع على تطوير فهم ذاتي معياري جديد سار جنبا ً إلى جنب مع وعي تاريخي جديد تحول بشكل عدواني نحو المستقبل (بحثه راينهارد كوسليك Reinhard Koselleck). وبصورة عامة، كان هذا بمثابة تحول معقد في الوعي المتجسد في الآليات الرأسمالية لتحول الظروف الاجتماعية الذي تسارع بالتقدم التكنولوجي. في غضون ذلك، أثارت هذه الآليات في المجتمعات الغربية عقلية أكثر دفاعية، وبدلاً من ذلك تشعر بالارتباك بسبب التعقيد الاجتماعي المتزايد الذي تدفعه التكنولوجيا والاقتصاد.لكن الحركات الاجتماعية المستمرة التي تعيد إيقاظ الوعي باستمرار الإدماج غير الكامل للمضطهدين والمهمشين والمتدهورين، للفئات والطبقات والثقافات الفرعية والأجناس والأثنيات والأمم والقارات المنكوبة والمستغلة والمحرومة، تذكرنا بالتدرج الحاد بين الصلاحية الإيجابية والمحتوى الذي لا يزال غير مشبع لحقوق الإنسان التي تم “إعلانها”، في غضون ذلك، ليس فقط على المستوى الوطني.()ومن هنا، وهذه هي نقطة استطرادي، من بين الشروط المسبقة لبقاء نظام حكم ديمقراطي هو أن المواطنين يجب أن يعتبروا أنفسهم من منظور المشارك كمشاركين في عملية التقدم التدريجي للحقوق الأساسية التي، على الرغم من عدم استنفادها، تتمتع بالصلاحية الإيجابية.

بصرف النظر تماما ًعن هذه العمليات طويلة الأجل التي يتم من خلالها اقرار الحقوق الأساسية، فإن ما يهمني هو الحالة الطبيعية التي يرتبط فيها وضع المواطنين الأحرار والمتساوين في نظام حكم ديمقراطي ببعض الأفكار المثالية المسلمة. فعندما يشارك المواطنون في ممارساتهم المدنية، لا يمكنهم تجنب الافتراض البديهي (والواقعي المغاير) بأن الحقوق المدنية التي يمارسونها تفي عموما ً بما يعدون به. ولا سيما بهدف استقرار النظام السياسي، يجب أن يرتكز الجوهر المعياري للدستور الديمقراطي على الوعي المدني، أي في المعتقدات الضمنية للمواطنين. ليس الفلاسفة، بل الغالبية العظمى من المواطنين هم من يجب أن يقتنعوا حدسيا ً بالمبادئ الدستورية.من ناحية أخرى، يجب أن يكون المواطنون أيضا ً قادرين على الوثوق بأن أصواتهم لها أهمية متساوية في الانتخابات الديمقراطية، وأن التشريع والولاية القضائية، وإجراءات الحكومة والإدارة، هي في الغالب فوق المجلس، وكقاعدة عامة، هناك فرصة عادلة لمراجعة القرارات المشبوهة.على الرغم من أن هذه التوقعات هي مثالية لا ترقى بها الممارسة الفعلية أحيانا ً إلى حد كبير أو أقل من ذلك، إلا أنها تخلق حقائق اجتماعية بقدر ما تنعكس في تصريحات وسلوك المواطنين القضاة.إن المشكلة في مثل هذه الممارسات ليست الافتراضات المثالية التي يطلبونها من المشاركين فيها، ولكن مصداقية المؤسسات، التي يجب ألا تنكر بشكل ٍ صريح ودائم هذه المثالية.

من الصعب أن تقابل نصيحة ترامب القاتلة بأن الاستجابة الغاضبة المقصودة من المواطنين الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021 إذا لم تخيب النخب السياسية لعقود التوقعات المشروعة المضمونة دستوريًا لجزء كبير من مواطنيها.ومن ثم، فإن النظرية السياسية المصممة لهذا النوع من الدولة الدستورية يجب أن تصمم بطريقة تحقق العدالة لكل من الفائض المثالي المتمثل في نظام قائم على الحقوق الأساسية أخلاقيًا يضمن للمواطنين أنهم يشاركون في ممارسة الديمقراطية بشكل يضفي الشرعية على الحكومة، وكذلك للظروف الاجتماعية والمؤسسية التي تضفي مصداقية على المثالية التي يربطها المواطنون بالضرورة بممارساتهم.

لذلك، لا تحتاج نظرية الديمقراطية إلى الاضطلاع بمهمة تصميم، أي بناء وتبرير، مبادئ نظام سياسي عادل من تلقاء نفسها لغرسها في المواطنين مثل المعلم؛ بعبارة أخرى، ليس من الضروري أن تفهم نفسها كنظرية مصممة بشكل معياري. تتمثل مهمتها بدلاً من ذلك في إعادة بناء مثل هذه المبادئ بشكل عقلاني من القانون القائم ومن التوقعات البديهية المقابلة ومفاهيم شرعية المواطنين.يجب أن تجعل المعنى الأساسي للأوامر الدستورية المنشأة والمثبتة تاريخيا ً، وبالتالي المستقرة بشكل كافٍ، صريحة وتشرح الأسباب المبررة التي يمكن أن تستثمر الممارسة الفعلية للحكومة مع سلطة إضفاء الشرعية الفعلية في أعين مواطنيها، وبالتالي ضمان المشاركة المدنية (انظر Gaus، 2013).هذه النظرية السياسية، من خلال توضيح الوعي الضمني لجماهير المواطنين الذين يشاركون في الحياة السياسية، يمكنها بدورها تشكيل فهمهم المعياري لذاتهم ليس أكثر غرابة من دور المؤرخ الأكاديمي المعاصر، والذي يؤثر بشكل عملي على المسار الإضافي للأحداث التاريخية التي يصفها. هذا لا يعني أن النظرية السياسية تلعب دورا ً تربويا ًبطبيعته مقابل السياسة. لذلك، لا أرى السياسة التداولية على أنها مثال بعيد المنال يجب قياس الواقع الدنيء مقابله، ولكن كشرط وجودي مسبق في المجتمعات التعددية لأي ديمقراطية جديرة بهذا الاسم (انظر Habermas، 2018).فكلما كانت ظروف الحياة غير متجانسة، وكذلك الأشكال الثقافية للحياة وأنماط الحياة الفردية في مجتمع معين، يجب أن يقابل الافتقار إلى توافق آراء موجود من باب أولى من خلال قواسم مشتركة لتشكيل الرأي العام والإرادة السياسية.

نظرا ً لأن أصول النظريات الكلاسيكية سبقت الثورات الدستورية في أواخر القرن الثامن عشر، فقد تقدم نفسها كمخططات معيارية لإنشاء دساتير ديمقراطية. ومع ذلك، يمكن للنظرية السياسية المعاصرة أن تلاحظ ببساطة أن الفكرة الدستورية الديمقراطية الصارمة تُدخل توترا ً بين الصلاحية الإيجابية للمعايير الدستورية الملزمة والواقع الدستوري في واقع المجتمعات الحديثة، وعندما تتضح هذه التناقضات المتطرفة، قد يطلق التوتر شرارة ديناميكية تعبئة الاحتجاجات الجماهيرية.ومن ثم، يجب أن تدرك مثل هذه النظرية أن مهمتها هي إعادة بناء في الطبيعة.ومع ذلك، فإن التقاليد النظرية الجمهورية والليبرالية تشوه بالفعل هذه الفكرة من خلال منح الأولوية من جانب واحد إما للسيادة الشعبية أو لسيادة القانون، وبالتالي تغفل عن النقطة التي مفادها أن الحريات الذاتية التي يمارسها الأفراد والتي تمارس السيادة الشعبية بشكل متبادل هي أصلية على قدم المساواة.لأن الفكرة التي تكمن وراء هاتين الثورتين الدستوريتين هي الأساس لتجمع ذاتي القرار من المؤيدين الأحرار بموجب القانون، حيث يجب أن يمنح الأخيرون، بصفتهم مشرعين ديمقراطيين، حريتهم في نهاية المطاف من خلال التوزيع المتساوي للحقوق الذاتية وفقا ً للقوانين العامة. وفقا ً لفكرة تقرير المصير الجماعي هذه، التي تجمع بين عالمية المساواة في الحقوق المتساوية للجميع مع الفردية لكل شخص، فإن الديمقراطية وسيادة القانون على قدم المساواة.وفقط نظرية الخطاب التي تدور حول فكرة السياسة التداولية يمكنها أن تنصف هذه الفكرة (انظر هابرماس، 1995، 2009).

يمكن إرجاع نهج السياسة التداولية إلى العالم الليبرالي المبكر للأفكار في فترة فورمارز Vormärz، لكنه في الوقت نفسه قد ظهر في سياق دولة الرفاهية. وتتمثل الميزة الرئيسية في أنه يشرح كيف يمكن، في المجتمعات التعددية التي تفتقر إلى دين مشترك أو وجهة نظر عالمية، التوصل إلى حلول وسط سياسية على خلفية إجماع دستوري بديهي.أدت علمنة سلطة الدولة إلى ظهور فجوة في الشرعية.لأن الاعتقاد بأن السلالات الحاكمة كانت مفروضة من الله لم يعد كافياً لإضفاء الشرعية عليها في المجتمعات الحديثة، كان على النظام الديمقراطي إضفاء الشرعية على نفسه من مصادره الخاصة، إذا جاز التعبير، من خلال السلطة المولدة للإجراء المؤسسي القانوني لتشكيل الإرادة الديمقراطية. لم يتم استبدال المفاهيم الدينية للشرعية بفكرة مختلفة، ولكن بدلاً من ذلك من خلال إجراء التمكين الذاتي الديمقراطي، والذي تم إضفاء الطابع المؤسسي عليه في شكل حقوق ذاتية موزعة بالتساوي، بحيث يمكن أن يمارسها مواطنون أحرار ومتساوون.للوهلة الأولى، يبدو من الغامض تماما ً كيف يمكن للمأسسة القانونية لإجراءات تشكيل الإرادة الديمقراطية – بعبارة أخرى، “الشرعية” المطلقة – يمكنها إضفاء “شرعية” النتائج المقنعة عالميا ً.من الضروري شرح ذلك وتحليل المعنى الذي يكتسبه هذا الإجراء من وجهة نظر المشاركين.فهو مدين بإقناعه إلى مزيج متساو ٍ من شرطين: فمن ناحية، يدعو الإجراء إلى إشراك جميع المتأثرين بالقرارات المحتملة كمشاركين متساوين في عملية صنع القرار السياسي؛ ومن ناحية أخرى، يتخذ قرارات ديمقراطية يشارك فيها جميع الأفراد معا ً، اعتمادا ً على الطابع الخطابي الواضح إلى حد ما للمداولات السابقة.ونتيجة لذلك، فإن التكوين الشامل للإرادة يتوقف على قوة الأسباب التي تم حشدها خلال عملية تكوين الرأي السابقة.يتوافق الإدماج مع المطلب الديمقراطي بأن جميع المتأثرين يجب أن يتمتعوا بحقوق متساوية في المشاركة في تكوين الإرادة السياسية، بينما يأخذ مرشح المداولات في الاعتبار توقع أن تكون حلول المشكلات صحيحة وقابلة للتطبيق من الناحية المعرفية، ويؤسس الافتراض بأن النتائج الصحيحة مقبولة عقلانيا ً. يمكن تبرير هذا الافتراض، بدوره، بالافتراض المناقض بأنه، في المشاورات التي تسبق قرار الأغلبية، تتم مناقشة جميع الموضوعات ذات الصلة والمعلومات المطلوبة والمقترحات المناسبة للحلول بقدر الإمكان مع الحجج المؤيدة والمعارضة.وهذا مطلب التداول الحر هو الذي يفسر الدور المركزي للفضاء السياسي العام.()وبالمناسبة، فإن هذا الاعتبار المجرد تؤكده الحقيقة التاريخية المتمثلة في أن شيئًا مثل “الفضاء البرجوازي العام ” ظهر في نفس الوقت الذي نشأت فيه الديمقراطية الليبرالية، أولاً في إنجلترا ثم في الولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى.

ومع ذلك ، فإن هذين المطلبين للعملية الديمقراطية – وهما التداول وإدماج جميع المواطنين – لا يمكن تحقيقهما، حتى بشكل ٍ تقريبي، على مستوى مؤسسات الدولة، وخاصة في الهيئات التمثيلية لسن القوانين البرلمانية. وهذا يفسر المساهمة الأساسية والمحدودة التي يمكن أن يقدمها التواصل السياسي في الفضاء العام للعملية الديمقراطية.فمساهمتها ضرورية لأنها تمثل المكان الوحيد الذي يتشكل فيه الرأي العام والإرادة السياسية بطريقة تشمل من حيث المبدأ جميع المواطنين البالغين المؤهلين للتصويت.وهذا بدوره يمكن أن يحفز القرارات التي يتخذها المواطنون بشكل جماعي، ولكن كأفراد وفي عزلة مقصورة الاقتراع – أي “بإرادتهم الحرة”. تؤدي هذه القرارات الانتخابية إلى نتيجة تكون ملزمة لجميع المواطنين بقدر ما تحدد التكوين السياسي للبرلمان، وبشكل مباشر أو غير مباشر، للحكومة أيضا ً.فمن ناحية، فإن مساهمة الفضاء العام في تكوين الرأي العام والإرادة السياسية في الديمقراطية محدودة لأنه، كقاعدة عامة، لا يتم اتخاذ قرارات فردية ملزمة بشكل جماعي هناك (فقط في حالات نادرة، يكون للقضايا الأساسية مثل هذه هيكل واضح يمكن تقريره من خلال مثل هذه الاستفتاءات).يؤدي تكوين الرأي الذي يوجهه الإعلام إلى تعدد الآراء العامة بين جمهور المواطنين المشتتين.هذه الآراء العامة، التي يتم تجميعها من الموضوعات والمساهمات والمعلومات وبالتالي تحمل صورة مميزة، تتنافس على القضايا ذات الصلة، وأهداف السياسة الصحيحة وأفضل استراتيجيات لحل المشكلات.هناك ظرف واحد مهم بشكل خاص في سياقنا: التأثير العام الذي تكتسبه إرادة المواطنين، وبالتالي للسيادة، على قرارات النظام السياسي الذي يعتمد بشكل أساسي على الجودة التنويرية لمساهمة وسائل الإعلام في تشكيل هذا الرأي. وذلك لأن تكوين الرأي يتم دعمه من خلال المعالجة المسبقة للمواضيع والمساهمات، والمقترحات البديلة، والمعلومات، والمواقف المؤيدة والمعارضة من قبل الصحفيين.تتمثل وظيفة وسائل الإعلام المهنية في المعالجة العقلانية للمدخلات التي يتم تغذيتها في الفضاء العام عبر قنوات المعلومات للأحزاب السياسية، ومجموعات المصالح ووكالات العلاقات العامة، والأنظمة الفرعية المجتمعية، من بين أمور أخرى، وكذلك من خلال منظمات ومفكري المجتمع المدني.هذه التعددية المستنيرة للرأي التي تمت تصفيتها من قبل النظام الإعلامي تمنح كل مواطن الفرصة لتشكيل رأيه الخاص واتخاذ قرار انتخابي، من وجهة نظره، بدوافع عقلانية.ومع ذلك، تظل نتيجة التنافس على الآراء والقرارات مفتوحة في الفضاء العام نفسه؛ وهنا تظل المداولات منفصلة عن قرارات الناخبين الفرديين، لأن الأصوات الانتخابية معدة فقط في العلن.لا يمكن لأعضاء البرلمان المنتخبين أن يتشاوروا ويقرروا فيما بينهم إلا بما يتجاوز عتبة الانتخابات العامة، وفقا ً للإجراءات الديمقراطية.فقط في الهيئات التمثيلية ومؤسسات الدولة الأخرى، وبطريقة رسمية خاصة في المحاكم، توجد قواعد إجرائية مصممة للصيغة التداولية للرأي وتشكيل الإرادة الذي يبرر الافتراض بأن قرارات الأغلبية مقبولة بشكل عقلاني إلى حد ما.

من أجل تقييم المساهمة المحدودة التي يمكن للجمهور السياسي تقديمها بشكل صحيح، يجب علينا فحص القسم التنظيمي للنص الدستوري والتقسيم الهيكلي للعمل داخل النظام السياسي ككل – وقراءته مثل رسم بياني. من الواضح كيف سيشكل التدفق الديمقراطي للرأي العام للمواطنين مجالات تتعدى الانتخابات ويتم توجيهها إلى القنوات – المطوقة من خلال لوبيات الأنظمة الوظيفية – للسياسات الحزبية والتشريعات والولاية القضائية والإدارة والحكومة.حيث يتدفق في النهاية إلى القرارات التي تنبع – في إطار القانون – من التنازلات بين الضرورات الوظيفية والمصالح السياسية والاجتماعية وتفضيلات الناخبين.فالنتائج السياسية المشروعة يتم تقييمها وانتقادها في الفضاء السياسي العام وتتم معالجتها في تفضيلات جديدة للناخبين بعد الانتهاء من البنود التشريعية.

غالبا ًما يساء فهم الافتراض القائل بأن الخطاب السياسي موجه أيضا ً نحو هدف التوصل إلى اتفاق.وهي لا تعني بأي حال من الأحوال المفهوم المثالي للعملية الديمقراطية كشيء يشبه ندوة جامعية مبهجة.على العكس من ذلك، يمكن للمرء أن يفترض أن توجه المشاركين العقلانيين إلى حقيقة أو صحة قناعاتهم التي تم مناقشتها، من الممكن أن يضيف مزيدًا من الوقود إلى نيران الخلافات السياسية ويضفي عليها طابعا ً مؤلما ًبشكل أساسي.الجدل هو التناقض. فقط بحكم الحق، وحتى التشجيع، لقول “لا” لبعضنا البعض يمكن أن تتكشف الإمكانات المعرفية للآراء المتضاربة في الخطاب؛ لأن الأخير موجه للتصحيح الذاتي للمشاركين الذين، بدون النقد المتبادل، لا يستطيعون التعلم من بعضهم البعض.الهدف من السياسة التداولية، بعد كل شيء، أنها تمكننا من تحسين معتقداتنا من خلال النزاعات السياسية والاقتراب من الحلول الصحيحة للمشاكل. في نشاز الآراء المتضاربة التي تم إطلاقها في الفضاء العام، هناك شيء واحد فقط يُفترض مسبقا ً- الإجماع على المبادئ الدستورية المشتركة التي تضفي الشرعية على جميع الخلافات الأخرى. في ظل هذه الخلفية التوافقية، تتكون العملية الديمقراطية برمتها من تيار من المعارضة يحركه مرارا ً وتكرارا ً بحث المواطنين عن قرارات مقبولة عقلانيا ًوموجهة نحو الحقيقة.

يُقاس الطابع التداولي لتشكيل الرأي العام والإرادة السياسية من قبل الناخبين في الفضاء العام بالجودة الخطابية للمشاركين، وليس بهدف الإجماع الذي لا يمكن تحقيقه بأي حال من الأحوال؛ فبدلاً من ذلك، من المفترض هنا أن يؤدي توجه المشاركين إلى الحقيقة إلى إشعال صراع مفتوح في الآراء يؤدي إلى ظهور آراء عامة متنافسة.هذه الديناميكية المتمثلة في استمرار المعارضة في الفضاء العام تشكل أيضا ًالمنافسة بين الأحزاب والعداء بين الحكومة والمعارضة، فضلاً عن الاختلافات في الرأي بين الخبراء. يمكن للحجج التي يتم حشدها بهذه الطريقة أن تسترشد بالقرارات الإجرائية الملزمة التي يجب اتخاذها في الوقت المناسب من قبل الأجهزة المناسبة في النظام السياسي. كل ما هو مطلوب لإضفاء الطابع المؤسسي على القوة الفوضوية لقول “لا” التي تم إطلاقها في النقاشات العامة والحملات الانتخابية، وفي الخلافات بين الأحزاب السياسية، وفي مفاوضات البرلمان ولجانه وفي مداولات الحكومة والمحاكم، هو التكامل السياسي لجميع المشاركين في الإجماع حول المقصد الأساسي لدستورهم. هذا الأخير بسيط بما فيه الكفاية: فهو يوضح فقط إرادة المواطنين الصريحة في إطاعة القوانين التي قدموها لأنفسهم. بدون مثل هذا الإجماع على معنى التشريع الذاتي الديمقراطي التداولي، لن يكون للأقليات المعنية أي سبب للخضوع لقرارات الأغلبية، في الوقت الحالي على الأقل.ومع ذلك، عند توضيح هذه النقطة، يجب ألا نغفل العامل الرئيسي الذي يعتمد عليه مصير الديمقراطية: بالحكم عليه من وجهة النظر المعيارية، يجب أيضا ً أن يعمل التكوين المؤسسي للإرادة السياسية بشكل عام بطريقة تجعل يتم تأكيد الإجماع الدستوري للناخبين من وقت لآخر عن طريق التجربة.بعبارة أخرى، يجب أن يكون هناك ارتباط واضح بين نتائج عمل الحكومة ومدخلات قرارات الناخبين بحيث يمكن للمواطنين التعرف عليها كتأكيد للقوة العقلانية لرأيهم الديمقراطي وتشكيل إرادتهم. ()أن يكونوا قادرين على إدراك أن تضاربهم في الآراء يدل على أنه نزاع وخلاف على أفضل الأسباب.()

“لكن هذا يتعارض مع الواقع”، قد يعترض المرء، حتى الآن في أقدم الديمقراطيات الأنجلو – سكسونية.من المحتمل أيضا ً أن تُفهم الموافقة على اقتحام مبنى الكابيتول بين ناخبي ترامب على أنها رد فعل عاطفي من الناخبين الذين افتقروا لعقود من الزمن إلى الشعور بأن مصالحهم التي تم تجاهلها تؤخذ على محمل الجد من قبل النظام السياسي بطرق ملموسة وقابلة للإدراك. يمكن قياس ديناميكية الانحدار السياسي التي انجذبت إليها جميع الديمقراطيات الغربية تقريبا ً منذ مطلع الألفية من خلال تراجع هذه القوة العقلانية للمناقشات العامة، وفي بعض البلدان تقريبا ًبزوالها. ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاعتماد على قوة حل المشكلات للديمقراطية على تدفق السياسات التداولية يسلط الضوء على الدور المركزي للفضاء السياسي العام.

ومع ذلك، بدون سياق مناسب، لا يمكن للشروط المسبقة الأساسية للسياسات التداولية لإضفاء الشرعية الديمقراطية للحكومة أن تكتسب قوة جذب بين السكان الذين يفترض، بعد كل شيء، أن “تستمد” “كل سلطة” منها.()حيث تتطلب الإجراءات الحكومية والقرارات التاريخية للمحاكم العليا والتشريعات البرلمانية والتنافس بين الأحزاب السياسية والانتخابات السياسية الحرة مواطنين فاعلين، لأن الفضاء السياسي العام متجذر في المجتمع المدني الذي – بصفته مجلس صوتي لاضطرابات انظمة الوظائف الرئيسية التي تحتاج إلى الإصلاح، والتي تؤسس الروابط التواصلية بين السياسة و “بيئاتها” الاجتماعية.علاوة على ذلك، لا يمكن للمجتمع المدني أن يلعب دور نوع من نظام الإنذار المبكر لواضعي السياسات إلا إذا كان يجلب الجهات الفاعلة التي تنظم الاهتمام العام بالقضايا التي تشغل بال المواطنين.في المجتمعات الإقليمية الكبيرة للديمقراطيات الغربية الحديثة، كان هناك دائما ً توتر بين المستوى المطلوب وظيفيا ً للالتزام المدني والالتزامات والمصالح الخاصة التي يرغب المواطنون في تحقيقها ويحتاجون لتحقيقها.ينعكس هذا الصراع الهيكلي بين الأدوار العامة والخاصة للمواطنين في الفضاء العام نفسه.في أوروبا، لم يكن الفضاء العام البرجوازي في شكله الأدبي والسياسي قادرا ً على تحرير نفسه إلا تدريجياً من ظل التشكيلات القديمة – وقبل كل شيء الفضاء الكنسي الديني العام للحكومة، والفضاء العام التمثيلي للحكم الشخصي للأباطرة والملوك والأمراء – بمجرد استيفاء المتطلبات الاجتماعية الهيكلية للفصل الوظيفي بين الدولة والمجتمع، وبين الفضاءات الاقتصادية العامة والخاصة.إذا نظرنا إلى المجتمع المدني للمواطنين الناشطين سياسيا ً، من منظور العالم الحي للمشاركين، فإنه يقع بطبيعته في هذا الفضاء من التوتر بين الفضاءين الخاص والعام.كما سنرى، فإن رقمنة الاتصالات العامة تعمل على طمس تصور هذه الحدود بين مجالات الحياة الخاصة والعامة، على الرغم من أن المتطلبات الأساسية الاجتماعية – البنيوية لهذا التمييز، والتي لها أيضا ً آثار بعيدة المدى على النظام القانوني، قد تغيرت ولم تعد كما كانت. من منظور فضاءات الاتصال شبه العامة وشبه الخاصة التي ينشط فيها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، فإن الطابع الشامل للفضاء العام، الذي كان حتى الآن منفصلًا بوضوح عن الفضاء الخاص، آخذ في الاختفاء.وهذا يمثل، كما أود أن أبين الآن، الظاهرة المقلقة على الجانب الشخصي لمستخدمي وسائل الإعلام التي تلفت الانتباه في نفس الوقت إلى عدم كفاية التنظيم السياسي لتلك الوسائط الجديدة.

3)

قبل معالجة التغييرات المحددة في بنية وسائل الإعلام والفرضيات المتعلقة بآثارها على الوظيفة السياسية للفضاء العام، أود أن أقحم بعض الملاحظات حول شروط الحدود الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يجب الوفاء بها إلى حد كافٍ باعتباره شرط مسبق لسياسة التداول.لأنه فقط على خلفية الأسباب المعقدة لاتجاهات الأزمة للديمقراطيات الرأسمالية بشكل عام يمكننا تقييم المساهمة المحدودة التي قد تضيفها رقمنة الاتصالات العامة إلى الأسباب الأخرى ذات الصلة لإضعاف الرأي التداولي وتشكيل الإرادة.

تتطلب المواطنة الفاعلة، أولاً، ثقافة سياسية ليبرالية إلى حد كبير تتكون من نسيج دقيق من المواقف والافتراضات الثقافية المسلم بها.ويرجع ذلك إلى أن فهم السكان الأساسي للمبادئ الدستورية الديمقراطية، والذي يظل ضمنيا ً في معظمه، جزء لا يتجزأ من شبكة واسعة من الذكريات التاريخية والمعتقدات والممارسات التقليدية وتوجهات القيمية؛ والتي يتم الحفاظ عليها من جيل إلى جيل فقط بفضل الأنماط العرفية للتنشئة الاجتماعية السياسية والأنماط المؤسسية للتربية السياسية. فالفترة الزمنية لنصف قرن المطلوبة، على سبيل المثال، لإعادة التوطين السياسي لسكان جمهورية ألمانيا الاتحادية (القديمة) بعد نهاية الحقبة النازية – على الرغم من 150 عاما ً من التطور الدستوري – هو مؤشر على العقبات التي يجب التغلب عليها عموما ً من خلال أي تأقلم مع الثقافة السياسية الليبرالية.لأن الجوهر الأخلاقي لمثل هذه الثقافة يتمثل في استعداد المواطنين للاعتراف المتبادل بالآخرين بوصفهم مواطنين ومشرعين ديمقراطيين يتمتعون بحقوق متساوية (انظر Forst، 2013).يبدأ هذا فيما يتعلق بمعاملة الخصوم السياسيين بروح منفتحة على التسوية كمعارضين ولم يعودوا  أعداء – ويستمر ذلك، إلى ما وراء حدود أساليب الحياة العرقية واللغوية والدينية المختلفة، مع إدماج متبادل في ثقافة سياسية مشتركة مع الغرباء الذين يريدون أن يظلوا غرباء عن بعضهم البعض.في ظل ظروف التعددية الثقافية، يجب أن تكون هذه الثقافة السياسية قد ميزت نفسها عن ثقافة الأغلبية المشتركة إلى الحد الذي يمكن فيه لكل مواطن أن يُعرّف نفسه كعضو.سوف تظل الرابطة الاجتماعية للمجتمع، مهما كانت غير متجانسة، سليمة إلا إذا كان التكامل السياسي يضمن بشكل عام شكلاً من أشكال التضامن المدني الذي، بعيدا ًعن المطالبة بالإيثار غير المشروط، يدعو إلى استعداد متبادل محدود للمساعدة.هذا النوع من التضامن يتجاوز الرغبة في تقديم تنازلات بناءً على مصالح الفرد. ومع ذلك، بين زملائه الأعضاء في نفس المجتمع السياسي، فإنه يرتبط فقط بتوقع المعاملة بالمثل في وقت غير محدد في المستقبل، على وجه التحديد مع توقع أن يشعر الآخرون بأنهم ملزمون بتقديم مساعدة مماثلة في وضع مماثل().فالثقافة السياسية “الليبرالية” ليست أرضا ً خصبة للمواقف “التحررية”.فهو يدعو إلى التوجه نحو الصالح العام، وإن كان ذلك يتطلب مطالب متواضعة على من يخاطبهم. فإذا كانت الأقلية التي فازت بأصواتها قادرة على قبول قرارات الأغلبية، فلا يجوز لجميع المواطنين بناء قراراتهم الانتخابية حصريا ًعلى مصلحتهم الذاتية قصيرة المدى. بل يجب أن تكون نسبة كافية تمثيلية – علاوة على ذلك – من المواطنين على استعداد للمشاركة في دور المشرعين الديمقراطيين الذين يتبنون توجها ً نحو الصالح العام.

الشرط الثاني الضروري للمجتمع المدني النشط هو مستوى المساواة الاجتماعية الذي يسمح للناخبين بالمشاركة بشكل عفوي وإلى حد كاف في العملية الديمقراطية التي يتم من خلالها تكوين الآراء العامة والإرادة السياسية، على الرغم من أن هذه المشاركة يجب ألا تتم بشكل ٍ إلزامي.فبنية نظام الدولة الدستورية للحقوق الأساسية – الذي يضمن، من ناحية، حريات المواطنين العاديين عن طريق الحقوق الشخصية الذاتية (واستحقاقات دولة الرفاهية)، ومن ناحية أخرى، الاستقلال السياسي للمواطنين من خلال حقوق الاتصال العام والمشاركة – تصبح متاحة بشكل كامل فقط في ضوء المعنى الوظيفي للأدوار التكميلية التي تلعبها أيضا ً استقلالية المواطنين الخاصة والعامة لبعضهم البعض، بصرف النظر عن القيمة الجوهرية لكل منهم. تُمكِّن الحقوق السياسية، من ناحية، المواطنين من المشاركة في التشريع الديمقراطي، الذي يقرر، من بين أمور أخرى، توزيع الحقوق والاستحقاقات الخاصة، وبالتالي تسري على فرص حصول المواطنين على وضع اجتماعي مناسب؛ ومن ناحية أخرى، فإن هذا الوضع الاجتماعي يخلق بدوره المتطلبات الأساسية والحوافز لاستخدام المواطنون العموميون لحقوقهم المدنية في كل حالة.تم توثيق الارتباط الوثيق بين الوضع الاجتماعي وإقبال الناخبين على نطاق واسع. لكن هذا التوقع بأن المشاركة الديمقراطية وتأمين الوضع الاجتماعي يجب أن ييسر كل منهما الآخر لن يعمل إلا طالما أن الانتخابات الديمقراطية تصحح فعليا ً التفاوتات الاجتماعية الجوهرية والراسخة هيكليا ً.تؤكد الدراسات التجريبية الحلقة المفرغة التي تتجذر عندما، بسبب الاستقالة أو العزوف بسبب عدم وجود تحسينات ملموسة في الظروف المعيشية، يصبح الامتناع عن ممارسة التصويت مترسخا ً بين شرائح المكانة الأدنى من السكان.ثم تميل الأطراف التي كانت ذات يوم “مسؤولة” عن مصالح هذه الفئات المحرومة إلى إهمال العملاء الذين لا يمكنهم في الوقت الحالي توقع حصولهم على أصوات؛ وهذا الاتجاه بدوره يقوي الدافع وراء الامتناع عن التصويت(انظر Schäfer ، 2015).اليوم، لا نلاحظ انعكاسا ً، بل نلاحظ انعكاسا ً ساخرا ً لهذه الحلقة المفرغة بقدر ما تعمل الحركات الشعبوية على تعبئة إمكانات غير الناخبين بنجاح (Schäfer and Zürn، 2021).بعد ذلك، بالطبع، لم تعد هذه المجموعات المتطرفة من غير الناخبين تشارك في الانتخابات وفقا ً للافتراضات المقبولة لانتخابات ديمقراطية، ولكن بدلا ً من ذلك بروح “معارضة النظام” المعرقلة (.(حتى إذا كان لا يمكن تفسير هذه الشعبوية ل”المنفصل” فقط من خلال زيادة عدم المساواة الاجتماعية، لأن الطبقات الأخرى التي تكافح من أجل التكيف مع التغيير التكنولوجي والاجتماعي المتسارع تشعر أيضا ً بأنها “غير متصلة”، فهي على أي حال مظهر من مظاهر التفكك الخطير للمجتمع وعدم وجود سياسات ناجحة لمواجهته.()

وهذا يلفت الانتباه، أخيرا ً، إلى العلاقة غير المستقرة بين الدولة الديمقراطية والاقتصاد الرأسمالي الذي يميل إلى تعزيز التفاوتات الاجتماعية. إن موازنة الضرورات الوظيفية المتضاربة من قبل دولة الرفاهية هي (على هذا المستوى من التجريد) الشرط المسبق الثالث لنجاح نظام ديمقراطي جدير بهذا الاسم.كشف الاقتصاد السياسي لأول مرة عن العلاقة المنهجية بين النظام السياسي والمجتمع. كان هذا هو المنظور الذي تتبعت من خلاله التحول الهيكلي للفضاء السياسي العام في العمل السابق().ومع ذلك، فإن الثقافة السياسية الليبرالية تُمثّل شرطا ً حدوديا ً للدولة، وهي حالة تكون مُرضية بدرجة أكبر أو أقل، بدلاً من شيء يعتمد بدوره على التدخل الإداري. يختلف الوضع مع التقسيم الطبقي الاجتماعي للمجتمع والدرجة الحالية من عدم المساواة الاجتماعية. على أي حال، يولد التحديث الرأسمالي المستمر بذاته الحاجة إلى تنظيم الدولة لكبح قوى الطرد المركزي للتفكك الاجتماعي. فحكومات دول الرفاهية الوطنية التي ظهرت في الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين وجدت نفسها مضطرة لاتخاذ مثل هذه الإجراءات السياسية المضادة في حين أن شروط الشرعية السياسية أصبحت تتطلب المزيد من الاحتياجات.ولتجنب أزمات الاندماج الاجتماعي، تحاول الحكومات، كما أوضح كلاوس أوفه Claus Offe، تلبية مطلبين متعارضين: فمن ناحية، يجب أن تضمن الظروف الكافية لزيادة  valorisation رأس المال من أجل توليد الإيرادات الضريبية؛ ومن ناحية أخرى، من وجهة نظر العدالة السياسية والاجتماعية، يجب على الحكومات تلبية مصلحة السكان ككل في تأمين الشروط المسبقة القانونية والمادية للاستقلال الذاتي الخاص والعام لكل مواطن – وإلا سيتم تجريدهم من شرعيتهم الديمقراطية.ومع ذلك، لن تتمكن الديمقراطيات الرأسمالية من السير على طريق تجنب الأزمات بين هاتين الضرورتين إلا إذا كانت تمتلك قدرة حوكمة كافية، وبعبارة أخرى، يجب أن يتطابق نطاق سياسات التدخل مع مدى الدورات الاقتصادية ذات الصلة بتأمين الرخاء الوطني.فمن الواضح أن الديمقراطيات الغربية استوفت هذا الشرط بشكل كافٍ لفترة محدودة فقط – أي حتى إلغاء القيود على الأسواق العالمية وعولمة الأسواق المالية التي قيدت السياسات المالية للدول.

سيوضح الحساب التاريخي للفضاءات الوطنية العامة بناءً على وجهات النظر المنهجية الموضحة تقريبا ًمدى صعوبة الوصول إلى أي تعميمات يمكن الدفاع عنها على الإطلاق حول الشروط الإطارية لعمل الفضاءات الوطنية العامة في فترات تاريخية مختلفة. 

تغلف الخصوصية الوطنية الاتجاهات العامة نحو نوع الرأسمالية المنظمة على المستوى المحلي التي شكلت تطور الديمقراطية بعد الحرب في الغرب حتى الانعطاف النيوليبرالي.فبينما أدى تطور دولة الرفاهية خلال هذه الفترة إلى تعزيز الدعم الشعبي للديمقراطية، ظهرت اتجاهات الخصخصة نحو نزع التسييس بالفعل في سياق تطور المجتمع الاستهلاكي (الذي ربما كنت متشككًا بشأن بداياته وقت كتابة كتاب التحولات الهيكلية – في ما كان يُعتقد أنه المناخ الاستبدادي في فترة أديناور).لكن منذ التحول نحو السياسات النيوليبرالية، دخلت الديمقراطيات الغربية مرحلة من عدم الاستقرار الداخلي المتزايد، والذي تفاقم بسبب تحديات أزمة المناخ والضغط المتزايد للهجرة. ومن العوامل الأخرى التي تفاقمت الصعود الملحوظ للصين و”الدول الناشئة” الأخرى وما ينتج عن ذلك من تحول في المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي.على الصعيد المحلي، ازدادت عدم المساواة الاجتماعية حيث تم تقييد نطاق عمل الدول بسبب ضرورات الأسواق غير المنظمة عالمياً.وفي الثقافات الفرعية المتضررة، نما الخوف من التدهور الاجتماعي جنبا ً إلى جنب مع القلق بشأن عدم قدرة الدولة القومية على التعامل مع تعقيد التغيرات الاجتماعية المتسارعة.

حتى بصرف النظر عن الوضع السياسي العالمي الجديد الناجم عن الوباء، فإن هذه الظروف تشير إلى أن الدول القومية المتحدة في الاتحاد الأوروبي يجب أن تسعى جاهدة لتحقيق تكامل أكبر – وبعبارة أخرى، يجب أن تحاول استعادة الكفاءات التي فقدتها على المستوى الوطني نتيجة لهذا التطور عن طريق خلق قدرات سياسية جديدة للعمل على المستوى عبر الوطني (انظر Habermas، 2012).ومع ذلك، فإن الوصف الرصين للرؤى المؤسسية للحوكمة العالمية، التي عززت عدم تناسق القوة الدولي بدلاً من تفكيكها، لا يبعث الأمل (انظر Zürn ، 2021).وبشكل ٍ أكثر تحديدا ً، يثير تردد الاتحاد الأوروبي في الحسم في مواجهة مشاكله الحالية التساؤل حول كيف يمكن للدول القومية أن تتحد على المستوى العابر للحدود لتشكيل نظام ديمقراطي، دون أن يتخذ نفسه طابع الدولة الفعلية، فإنه سيكتسب مع ذلك القوة للعمل على الصعيد العالمي. وهذا من شأنه أيضا ً أن يفترض مسبقا ً انفتاحا ً أكثر وضوحا ً للمجالات العامة الوطنية لبعضها البعض.لكن كل من الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي تم إيقافه وإنجازه في نهاية المطاف تشير بدلاً من ذلك إلى أن الأنظمة الديمقراطية القائمة يتم تفريغها – وأن السياسة الخارجية للقوى العظمى قد تعود إلى نوع جديد من الإمبريالية. في الوقت الحالي، لا نعرف كيف سيتم التعامل مع المشكلات الاقتصادية الوطنية والعالمية التي تواجه مجتمعا ً عالميا ً مصابا ً بالوباء ومعالجتها من قبل النخب السياسية في بلداننا التي لا تزال لديها بعض القوة للتصرف.في الوقت الحالي، هناك القليل من المؤشرات للتحول السياسي المرغوب فيه إلى جدول أعمال اجتماعي وبيئي يؤدي إلى تكامل أكبر لأوروبا الأساسية على الأقل.

4)

يعتبر النظام الإعلامي مهما ً للغاية للفضاء السياسي العام، لأداء دوره في توليد آراء عامة متنافسة تفي بمعايير السياسة التداولية، وذلك لأن الجودة التداولية لهذه الآراء تعتمد على ما إذا كانت العملية التي تخرج منها تفي بمتطلبات وظيفية معينة في كل من جانبي الإنتاجية والإخراج. فهذه الآراء العامة لا تكون ذات صلة إلا إذا كان أولئك الذين ينتمون إلى صفوف السياسة، وكذلك جماعات الضغط ووكالات العلاقات العامة للأنظمة الفرعية الوظيفية، وأخيرا ً، الجهات الفاعلة المختلفة من المجتمع المدني، تستجيب بشكل كافٍ لاكتشاف المشكلات التي تحتاج إلى التنظيم والتأكد من الإدخال الصحيح.كما أن الآراء العامة لا تكون فعالة إلا إذا وجدت المواضيع المنسجمة مع مساهمات أولئك الذين ينتجون الآراء طريقها إلى نظر الجمهور، وعلى جانب المخرجات، اجتذبت انتباه الجمهور الأوسع من الناخبين.اهتمامنا الأساسي هنا هو النظام الإعلامي المسؤول عن الإنتاجية.على الرغم من أنه بالنسبة للجهات الفاعلة في المجتمع المدني، فإن المواجهات وجها ً لوجه في الحياة اليومية وفي المناسبات العامة تمثل المنطقتين المحليتين من الفضاء العام التي نشأت فيهما مبادراتهما الخاصة، إلا أن التواصل العمومي الذي توجهه وسائل الإعلام هو الفضاء الوحيد الذي يتم فيه الضجيج، حيث يمكن تكثيف الأصوات في الآراء العامة ذات الصلة والفعالة.موضوعنا هنا هو كيف غيرت الرقمنة نظام الوسائط الذي يوجه هذا الاتصال الجماهيري. كما يتطلب النظام الإعلامي شديد التعقيد تقنيا ً وتنظيميا ً موظفين محترفين يلعبون دور حارس البوابة (كما أصبح يُطلق عليه) للتيارات التواصلية التي يستنبط منها المواطنون الآراء العامة.ويتألف هذا الطاقم من الصحفيين الذين يعملون في الخدمات الإخبارية ووسائل الإعلام ودور النشر – وبعبارة أخرى، متخصصون يؤدون وظائف تأليف وتحرير وتصحيح التجارب المطبعية والإدارية في مجال الإعلام والنشر.فالموظفون يوجهون الإنتاجية، ويشكلون، جنبا ً إلى جنب مع الشركات التي تدير الإنتاج وتنظيم التوزيع، يوجهون البنية التحتية للفضاء العام التي تحدد في النهاية العاملين الحاسمين للتواصل العمومي: النطاق والجودة التداولية للعروض.ما مدى نطاق استقبال الآراء المنشورة في الواقع؟ وما مدى كثافة الوقت المستثمر التي يتم وضعها على المخرجات من قبل القراء والمستمعين ويتم معالجتها بشكل أكبر في الآراء العامة الفعالة في الفضاءين المحليين المذكورين أعلاه من الفضاء السياسي العام؟ وأخيرا ً، تُدفع للنظام السياسي بعملة نتائج الانتخابات الذي يعتمد في النهاية على مستخدمي وسائل الإعلام، وتحديداً على اهتمامهم وميولهم، وميزانياتهم الزمنية، وخلفيتهم التعليمية، وما إلى ذلك.

يمكن رؤية تأثير الإعلام الرقمي على تحول هيكلي إضافي في الفضاء العام السياسي، على سبيل المثال منذ مطلع الألفية، في حجم وطبيعة استخدام وسائل الإعلام. فالسؤال حول إذا ما كان هذا التغيير في النطاق يؤثر أيضاً على الجودة التداولية للنقاش العام يبقى سؤالا ً مفتوحا ُ. 

فكما توضح الأبحاث ذات الصلة في مجالات علوم الاتصال والعلوم السياسية وعلم اجتماع الانتخابات – لا سيما الدراسات حول إقبال الناخبين والجهل العام – فإن قيم هذين البعدين للتواصل العام وفقا ً للمعايير الديمقراطية كانت بالفعل غير مرضية قبل الرقمنة؛ لكنها أشارت إلى ظروف ديمقراطية لا ترقى إلى مستوى الأزمات التي تهدد الاستقرار.علامات التراجع السياسي اليوم موجودة ليراها الجميع.سواء ً كانت حالة الفضاء العام تساهم أيضا ً في هذا التطور وإلى أي مدى يجب أن تظهر من خلال دراسة شمولية تشكيل الآراء العامة وعقلانية الآراء البارزة في الفضاء العام. من الواضح أن الدراسات التجريبية للمتغير الأخير تواجه عقبات كبيرة، ففي حين أن البيانات متاحة للاستخدام الإعلامي، فإن النظرية الكمية مثل “الجودة التداولية” يصعب بالفعل تفعيلها لتشكيل الرأي المنظم من الناحية الإجرائية في الهيئات الفردية مثل اللجان والبرلمانات والمحاكم (Steiner et al, 2004)، ولكن من الصعب تفعيلها لعمليات الاتصال غير المنظمة في الفضاءات العامة الوطنية الواسعة .ومع ذلك، فإن البيانات المأخوذة من دراسة مقارنة طويلة الأجل لاستخدام الوسائط توفر أساسا ً للاستدلال في تقييم مستقل لجودة العروض الإعلامية التي يتم استهلاكها إلى مستوى تأملات الآراء العامة.لكن قبل متابعة هذا السؤال أكثر، نحتاج إلى توضيح الطابع الثوري لوسائل الإعلام الجديدة. فهذه ليست مجرد مسألة توسيع نطاق الوسائط المتاحة سابقا ً، ولكنها تتعلق بتطور وسائل الإعلام في تاريخ البشرية مقارنة بإدخال الطباعة.

بعد التقدم التطوري الأول لتسجيل الكلمة المنطوقة في الكتابة، كان إدخال المطبعة الميكانيكية في أوائل الحداثة يعني أن الأحرف الأبجدية أصبحت منفصلة عن الرق المكتوب بخط اليد؛ في العقود الأخيرة، نتيجة للرقمنة الإلكترونية، أصبحت الأحرف ثنائية الترميز منفصلة بطريقة مماثلة عن الورق المطبوع. مع تطور هذا الابتكار الهام بنفس القدر، انتشرت تدفقات الاتصالات لأنواعنا الثرثارة وتسارعت وأصبحت مترابطة بسرعة غير مسبوقة في جميع أنحاء العالم، وبأثر رجعي، عبر جميع حقب تاريخ العالم.مع هذا التلاشي العالمي للحدود في المكان والزمان، أصبحت هذه التدفقات في نفس الوقت مكثفة ومتباينة ومضاعفة وفقا ً للوظائف والمحتويات، وتم تعميمها عبر التقسيمات الثقافية والطبقية المحددة.كانت الفكرة المبتكرة التي أدت إلى هذه الثورة الثالثة في تقنيات الاتصالات هي الشبكات العالمية لأجهزة الكمبيوتر، ونتيجة لذلك يمكن لأي شخص التواصل من أي مكان مع أي شخص في أي مكان آخر في العالم. في البداية تم استخدام التكنولوجيا الجديدة من قبل العلماء.في عام 1991م، قررت المؤسسة الأمريكية الوطنية للعلوم إتاحة هذا الاختراع للاستخدام الخاص، مما يعني أنه متاح أيضًا للأغراض التجارية.كانت هذه هي الخطوة الحاسمة نحو إنشاء شبكة الويب العالمية (www) بعد ذلك بعامين، والتي أوجدت الأساس التقني للإكمال المنطقي للتطور في تكنولوجيا الاتصالات الذي، على مدار التاريخ البشري، تغلب تدريجيا ًعلى الحدود الأصلية للتواصل اللغوي للمحادثات الشفوية وجهاً لوجه والتبادلات داخل نطاق السمع.بالنسبة للعديد من مجالات الحياة والنشاط، يفتح هذا الابتكار تقدما ً لا شك فيه.ولكن بالنسبة للفضاء العام الديمقراطي، فإن التوسع خارج المركز للتواصل السريع في وقت واحد إلى عدد غير معلوم من المشاركين عبر مسافات غير معلومة يولد قوة متفجرة متناقضة؛ لأن الفضاء العام، بتوجهه نحو المركز الذي تشكله المنظمات التي لديها القوة السياسية للفعل، يقتصر في الوقت الحالي على الأراضي الوطنية().بلا شك أن توسيع وتسريع فرص التواصل وزيادة نطاق الأحداث الموضوعة للجمهور تعود بالفائدة على المواطنين السياسيين أيضا ً.حيث تقلص العالم أيضا ً على شاشات التلفزيون في غرف المعيشة لدينا.فمحتوى البرامج الصحفية والإذاعية والتلفزيونية لا يتغير عند استقبالها على الهواتف الذكية.وعندما يتم إنتاج الأفلام لخدمات البث مثل  نتفليكسNetflix ، فقد يؤدي ذلك إلى تغييرات جمالية مثيرة للاهتمام؛ لكن التغييرات في الاستقبال والانتاج المؤسف للسينما توحي منذ فترة طويلة بمنافسة التلفزيون. من ناحية أخرى، وبغض النظر عن فوائدها الواضحة، فإن التكنولوجيا الجديدة لها أيضا ً تداعيات شديدة التناقض وقد تكون مدمرة للفضاء السياسي العام في السياق الوطني.فهذا نتيجة لكيفية استفادة مستهلكي الوسائط الجديدة من توفر إمكانيات غير محدودة للشبكات، أي “المنصات” للاتصالات الممكنة مع العناوين الاعتباطية.

بالنسبة للهيكل الإعلامي للفضاء العام، تمثل سمات ومواصفات المنصة هذه ما هو جديد في الواقع حول الوسائط الجديدة.فمن ناحية، تستغني المنصات عن الدور الإنتاجي للوساطة الصحفية وتصميم البرامج التي كانت تقوم بها وسائل الإعلام القديمة؛ في هذا الصدد، فإن وسائل الإعلام الجديدة ليست “وسائط” بالمعنى الراسخ.فهي تُغير جذريا ً نمط التواصل السائد سابقا ً في الفضاء العام من خلال تمكين جميع المستخدمين المحتملين من حيث المبدأ ليصبحوا مستقلين ويتمتعون بحقوق متساوية مع المؤلفين.تختلف الوسائط “الجديدة” عن الوسائط التقليدية في أن الشركات الرقمية تستفيد من هذه التقنية لتزويد المستخدمين المحتملين بفرص غير محدودة للشبكات الرقمية مثل القوائم الفارغة لمحتوى التواصل الخاص بهم. وذلك على عكس الخدمات الإخبارية والناشرين التقليدية، مثل وسائل الإعلام المطبوعة والراديو والتلفزيون، فإن هذه الشركات ليست مسؤولة عن “برامجها” الخاصة بها، أي عن المحتويات التواصلية التي يتم إنتاجها بشكل احترافي وتمريرها عن طريق عوامل التصفية التحريرية.فهم لا ينتجون ولا يحررون ولا يختارون ؛ ولكن من خلال العمل في الشبكة العالمية كوسطاء “بدون مسؤولية” ينشئون اتصالات جديدة، ومع التكاثر العرضي وتسريع الاتصالات غير المتوقعة، يبدؤون ويكثفون الخطابات ذات المحتويات غير المتوقعة، فإنهم يغيرون بشكل عميق طابع التواصل العام نفسه.

تُنشئ عمليات البث اتصالاً خطيا ًوأحادي الاتجاه بين هيئة البث والعديد من المستلمين المحتملين؛ يواجه الطرفان بعضهما البعض في أدوار مختلفة، أي كمنتجين معروفين أو معلومي الهوية، ومحررين ومؤلفين مسؤولين عن منشوراتهم، من جهة، وجمهور مجهول من القراء أو المستمعين أو المشاهدين من جهة أخرى. في المقابل، توفر هذه المنصات علاقات تواصلية متعددة الأوجه مفتوحة للشبكات التي تسهل التبادل التلقائي للمحتويات المحتملة بين العديد من المستخدمين المحتملين.لا يتم التمييز بين هؤلاء الأخيرين فيما يتعلق بأدوارهم من خلال الوسيط وحده؛ فبدلاً من ذلك، فإنهم يواجهون بعضهم البعض كمشاركين في التبادلات التواصلية حول مواضيع تم اختيارها تلقائيا ً والذين هم من حيث المبدأ متساوون ومسؤولون عن أنفسهم.على عكس العلاقة غير المتكافئة بين المذيعين والمستقبلين، فإن الاتصال اللامركزي بين مستخدمي الوسائط هؤلاء متبادل من حيث المبدأ، لكن محتواه غير منظم بسبب الافتقار إلى المرشحات الاحترافية. تشكل الطبيعة المتساوية وغير المنظمة للعلاقات بين المشاركين والتفويض المتساوي للمستخدمين لتقديم مساهماتهم العفوية النمط التواصلي الذي كان من المفترض في الأصل أن يكون السمة المميزة لوسائل الإعلام الجديدة.واليوم، يغرق هذا الوعد التحرري العظيم بسبب النشاز المقفر في غرف صدئة مجزأة ومغلقة بذاتها.

أدى النمط الجديد للتواصل إلى ظهور تأثيرين ملحوظين للتحول الهيكلي في الفضاء العام. في البداية، بدت وسائل الإعلام الجديدة وكأنها تبشر أخيرا ً بتحقيق ادعاء المساواة الشامل للفضاء العام البرجوازي بأن يشمل جميع المواطنين على قدم المساواة.لقد وعدت وسائل الإعلام هذه بإعطاء جميع المواطنين صوتهم الواضح للجمهور وحتى تزويده بقوة تعبوية. وبأنها ستحرر المستخدمين من الدور الاستقبالي للمخاطبين الذين يختارون بين عدد محدود من البرامج وستمكن كل فرد من جعل صوته مسموعا ً في التبادل الفوضوي للآراء العفوية.لكن الحمم البركانية لهذه الإمكانات المناهضة للاستبداد والمساواة في آن واحد، والتي كانت لا تزال ملحوظة في الروح التأسيسية في كاليفورنيا في السنوات الأولى، سرعان ما توطدت في وادي السيليكون في الكآبة التحررية للشركات الرقمية المهيمنة على العالم.

علاوة على ذلك، فإن الإمكانات التنظيمية العالمية التي توفرها وسائل الإعلام الجديدة هي في خدمة شبكات اليمين المتطرف وكذلك النساء البيلاروسيات الشجاعات في احتجاجهن المستمر ضد لوكاشينكو.أحد الآثار هو التمكين الذاتي لمستخدمي الوسائط؛ والآخر هو الثمن الذي يدفعه الأخير مقابل تحريره من الوصاية التحريرية لوسائل الإعلام القديمة طالما لم يتعلموا بعد كيفية الاستفادة من وسائل الإعلام الجديدة.فمثلما جعلت الطباعة الجميع قارئا ً محتملاً، فإن الرقمنة اليوم تجعل الجميع مؤلفين محتملين.ولكن كم من الوقت استغرق حتى يتمكن الجميع من القراءة؟ لا تقدم المنصات لمستخدميها المتحررين Emancipated أي بديل للاختيار المهني والفحص الخطابي للمحتويات بناءً على المعايير المعرفية المقبولة عموما ً.هذا هو السبب في وجود الكثير من الحديث في الوقت الحالي عن نموذج حارس البوابة المتآكل لوسائل الإعلام.()لا يعني هذا النموذج بأي حال حرمان مستخدمي الوسائط من حق التصويت؛ إنه يصف فقط شكلاً من أشكال التواصل الذي يمكن أن يمكّن المواطنين من اكتساب المعرفة والمعلومات الضرورية بحيث يمكن لكل منهم تكوين رأيه الخاص حول المشكلات التي تحتاج إلى تنظيم سياسي.إن التصور الملائم سياسياً لدور المؤلف، والذي يختلف عن دور المستهلك، يميل إلى زيادة الوعي بالعجز في مستوى المعرفة الخاصة بالفرد.كما يجب تعلم دور المؤلف؛ وطالما لم يتحقق ذلك في التبادل السياسي في وسائل التواصل الاجتماعي، فإن نوعية الخطاب غير المقيد المحمي من الآراء والنقد المتعارضين ستستمر في المعاناة.هذا يثير أولاً خطر انقسام الرأي السياسي وتشكيل الإرادة في المجتمع السياسي في تواصل مع فضاء عام غير محدود في نفس الوقت.يمكن لشبكات الاتصال اللامحدودة التي تتشكل تلقائيا ًحول موضوعات معينة أو أفراد معينين أن تنتشر بطريقة الطرد المركزي بينما تتكثف في نفس الوقت في دوائر الاتصال التي تعزل نفسها بشكل دوغمائي عن بعضها البعض.ثم تعزز الاتجاهات نحو التجزئة وتفكك الحدود بعضها البعض لخلق ديناميكية تتعارض مع القوة التكاملية لسياق الاتصالات في الفضاءات العامة المتمركزة على الصعيد الوطني والتي أنشأتها الصحافة والإذاعة والتلفزيون.قبل الخوض في هذه الديناميكية بمزيد من التفصيل، أود أولاً مراجعة كيفية تطور حصة وسائل التواصل الاجتماعي في العروض الإعلامية الإجمالية.

5) 

من الناحية التجريبية، ليس من السهل حصر تأثير إدخال الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، على تكوين الرأي والإرادة في الفضاء العام.ومع ذلك، فإن نتائج الدراسة طويلة المدى حول استخدام وسائل الإعلام في ألمانيا التي أجرتها هيئات البث الوطنية للفترة من 1964م إلى 2020م تسمح ببعض الاستنتاجات التقريبية حول التغييرات في العروض الإعلامية وكيفية استخدامها(.(كما كان هناك توسع كبير في العروض، أولاً كنتيجة لإدخال التلفزيون الخاص، ثم قبل كل شيء نتيجة لمجموعة واسعة من الخيارات عبر الإنترنت.هذا لا ينطبق فقط على المستوى الوطني ، لأن الإنترنت يوفر أيضا ً عددا ً كبيرا ً من البرامج الصحفية والإذاعية والتلفزيونية “الأجنبية”.حيث تمكن الأشخاص المهتمون من جميع أنحاء العالم من مشاهدة اقتحام مبنى الكابيتول مباشرة على شبكة CNN.في المقابل، تضخمت الميزانية الزمنية المستثمرة في الاستهلاك اليومي للوسائط. حيث ارتفع وقت الاستخدام لجميع الوسائط بشكل حاد منذ عام 2000م، لكنه بلغ ذروته في عام 2005م؛ منذ ذلك الحين، استقر عند مستوى تشبع مذهل لمدة ثماني ساعات في اليوم. وتغيرت نسب وسائل الإعلام المختلفة على مر العقود.فمنذ عام 1970م، تجاوز استخدام وسيلة التلفزيون الجديدة آنذاك وسائل الإعلام التقليدية في الصحف اليومية والإذاعة.ولكن حتى بعد أن أصبحت المنافسة عبر الإنترنت محسوسة بشكل واضح منذ عام 2000 فصاعدا ً، لا يزال التلفزيون والراديو يتمتعان بأكبر قدر من الوصول.كما ظل استهلاك الكتب مستقرا ً تماما ً، مع تقلبات، بين عامي 1980م و 2015م. ما يجب التأكيد عليه في سياقنا هو أنه، على النقيض من ذلك، شهد الوصول المقابل للصحف اليومية انخفاضا ً مطردا ً منذ إدخال التلفزيون، من 69 % في عام 1964م إلى 33 % في عام 2015م.انعكس الركود منذ إدخال وسائل الإعلام الجديدة في الانخفاض الكبير في وصول الصحف والمجلات المطبوعة من 60 % في عام 2005م إلى 22 % في عام 2020م. وسيستمر هذا الاتجاه بمعدل متسارع، بالنظر إلى أن 40 % من الأشخاص في الفئة العمرية 14 عاما ً كان الأطفال البالغون من العمر 29 عاما ً لا يزالون يقرؤون الصحف أو المجلات المطبوعة في عام 2005م، مقارنة بنسبة 6 % في نفس الفئة العمرية في عام 2020م.في الوقت نفسه، انخفضت كثافة القراءة: فبينما أمضى القارئ العادي 38 دقيقة يوميا ً في قراءة الصحف اليومية في عام 1980م (و 1 دقيقة في قراءة المجلات)، انخفض متوسط وقت القراءة اليومي إلى 23 دقيقة في عام 2015م (أو 11 دقيقة للمجلات) وإلى 15 دقيقة في عام 2020م (للصحف والمجلات مجتمعة).بالطبع ، تحول استهلاك الصحف أيضا ً إلى الإنترنت؛ ولكن بصرف النظر عن حقيقة أن قراءة النصوص الرقمية يفترض أنها لا تتطلب نفس المستوى من الاهتمام المكثف والمعالجة التحليلية مثل قراءة النصوص المطبوعة، فإن التطبيقات أو البودكاست للعروض المقابلة عبر الإنترنت لا يمكن أن تعوض بالكامل عن عروض الصحف اليومية. فالوقت اليومي الذي يقضيه السكان في قراءة النصوص الرقمية – 18 دقيقة في المجموع، 6 دقائق منها في الصحف والمجلات – يعتبر مؤشرا ً على ذلك.

يؤكد أحدث مقياس تمثيلي صادر عن يوروباروميتر Eurobarometer لسكان دول الاتحاد الأوروبي التي كانت آنذاك 28 دولة، والذي تم إجراؤه في نهاية عام 2019م، النطاق الحالي لتوافر واستخدام وسائل الإعلام المختلفة: على أساس يومي، يستخدم 81 % من المستجيبين التلفزيون، 67  % الإنترنت بشكل عام، 47 % من وسائل التواصل الاجتماعي، 46 % الإذاعة و 26 % للصحافة، مقارنة بنسبة 38 % من قراء الصحف اليومية في عام 2010م.كما سجل هذا المركز الاستخدام اليومي لوسائل الإعلام الاجتماعية بشكل منفصل عن استخدام الإنترنت بشكل عام، وقد ارتفعت هذه الحصة بسرعة مذهلة من 18 % من جميع المستجيبين في عام 2010م إلى 48 % حالياً.ومن المثير للاهتمام أن التلفزيون، وعلى المستوى الأدنى، يحافظ الراديو أيضا ً على دورهما الرائد في المطالبة “بالمعلومات السياسية حول الشؤون الوطنية”. وفي هذا الصدد، ذكر 77 % ممن شملهم الاستطلاع التلفزيون، و 40 % من الإذاعة و 36 % من وسائل الإعلام المطبوعة باعتبارها “المصادر الرئيسية للمعلومات”، في حين ذكر 49 % الإنترنت بشكل عام و 20 % من وسائل التواصل الاجتماعي.

حقيقة أن هذا الرقم، الذي هو موضع اهتمام في السياق الحالي، قد ارتفع بالفعل بمقدار أربع نقاط أخرى مقارنة بمسح العام السابق يؤكد الاتجاه المتزايد الموثق أيضا ً في أماكن أخرى.على أي حال، فإن الانخفاض الحاد في استهلاك الصحف والمجلات اليومية هو أيضا ً مؤشر على أنه منذ ظهور الإنترنت، انخفض متوسط مقدار الاهتمام بالأخبار السياسية والمعالجة التحليلية للقضايا ذات الصلة بالسياسة.ومع ذلك، فإن الاستقرار النسبي لحصة التلفزيون والراديو أيضا ً في استهلاك وسائل الإعلام بشكل عام يشير إلى أنه في الوقت الحالي، توفر هاتان الوسيلتان معلومات سياسية موثوقة ومتنوعة بما فيه الكفاية لثلاثة أرباع الناخبين في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.هذا يجعل اتجاه آخر أكثر إثارة للإعجاب.فمن الواضح أن التسرب المتزايد للأخبار الكاذبة إلى الفضاء العام، وخاصة التطور المذهل نحو “ديمقراطية ما بعد الحقيقة” التي أصبحت الحالة الطبيعية المقلقة في الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، قد عزز أيضا ًعدم الثقة في وسائل الإعلام في أوروبا.حيث يشك 41 % من المستجيبين في أن تغطية وسائل الإعلام الوطنية خالية من التأثير السياسي والاقتصادي؛ بينما 39  % من المستجيبين يؤكدون صراحة على عدم الثقة هذا فيما يتعلق بوسائل الإعلام العامة التي تشكل اليوم العمود الفقري للمجال العام الليبرالي؛ وزعم ما يصل إلى 79 % أنهم واجهوا أخبارا ً مشوهة أو كاذبة.

توفر هذه البيانات معلومات حول التغيرات في طيف الوسائط المتاحة واستخدامها؛ ومع ذلك ، فهي لا تقدم سوى مؤشرات غير مباشرة عن جودة الآراء العامة التي تشكلت على هذا الأساس ومدى مشاركة المواطنين في عملية تكوين الرأي والإرادة. لذلك، يجب أن أقصر نفسي على التخمينات المتعلمة.فمن ناحية، يبدو أن الخسارة الدراماتيكية لوسائل الإعلام المطبوعة مقارنة بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة السائدة تشير إلى انخفاض مستوى الطموح للعروض، وبالتالي أيضا ً إلى حقيقة أن تقبل المواطنين ومعالجتهم الفكرية للأخبار والمشاكل ذات الصلة بالسياسة آخذة في الانخفاض.وبالمناسبة، يتم تأكيد هذا التشخيص من خلال طريقة تكيف الصحف اليومية والأسبوعية الرائدة سياسيا ً مع الشكل “الملون” لصحف الأحد الترفيهية.ومن ناحية أخرى، يجد المراقب المشارك دليلاً يوميا ًعلى أن ما تبقى من الصحف والمجلات الوطنية الأكثر تطورًا لا يزال يعمل كإعلام سياسي رائد تستمر منه وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة التلفزيون، الاستحواذ على المساهمات المنعكسة والمواقف الرسمية بشأن الموضوعات الرئيسية. ومع ذلك، فإن عدم الثقة في حقيقة البرامج وجديتها واكتمالها آخذ في الازدياد بين عامة السكان في ألمانيا، على الرغم من استمرار كل من القناتين التلفزيونيتين والإذاعيتين الرائدتين في ضمان إمداد موثوق للأخبار والبرامج السياسية. يبدو أن الشكوك المتزايدة حول جودة وسائل الإعلام التي تمولها الدولة تتوافق مع القناعة المنتشرة على نطاق واسع بأن الطبقة السياسية إما غير موثوق بها أو فاسدة، أو أنها مشبوهة بأي حال من الأحوال.تشير هذه الصورة العامة، من ناحية، إلى أن تنوع وسائل الإعلام وزيادة المعروض، وما يقابله من تعددية في الآراء والحجج ووجهات النظر حول الحياة، يفي بشروط مسبقة مهمة لتشكيل الآراء النقدية على المدى الطويل والتي تكون محصنة ضد التحيز؛ ولكن هذا، من ناحية أخرى، التنافر المتزايد بين التنوع الحاد في الأصوات وتعقيد الموضوعات والمواقف الصعبة يقود أقلية متزايدة من مستهلكي الوسائط إلى استخدام المنصات الرقمية للتراجع إلى غرف صدى محمية من ذوي التفكير المماثل.بالنسبة للمنصات الرقمية، لا تقوم فقط بدعوة مستخدميها لتوليد عوالم خاصة بهم بشكل تلقائي، ولكن يبدو أنها تضفي المنطق الداخلي على الوضع التواصلي الجامح والمنعزل، بالإضافة إلى الوضع المعرفي للمجالات العامة المتنافسة.ولكن قبل أن نتمكن من تقييم هذا الجانب الذاتي من التغييرات في مواقف المتلقين نتيجة للعروض الإعلامية، يجب علينا أولاً فحص الديناميكيات الاقتصادية، التي تشوه التصورات الذاتية بشكل متزايد للمجال التحريري العام.بالنسبة للطابع الخاص لأنماط الاستقبال هذه التي تعززها وسائل التواصل الاجتماعي، يجب ألا تعمينا عن الثبات الاقتصادي لهذا التحول الذي تم تحديده تقريبا ً، وفي الوقت الحالي غير منظم سياسيا ً إلى حد ٍ كبير، للقيام بتحول هيكلي في وسائل الإعلام.

6) 

يعتبر وصف المنصات على أنها “عروض وسائط لمحتوى تواصلي عبر الشبكات بمسافات عشوائية”، نظرا ً للأداء البعيد عن الحياد للمنصات المصممة للخوارزميات مثل Facebook و YouTube و Instagram و Twitter ، إن لم تكن ساذجة، فهي على الأقل غير مكتملة.بالنسبة لهذه الوسائط الجديدة، هناك شركات تلتزم بالضرورات التي تحكم زيادة Valorisation رأس المال وهي من بين أكثر الشركات التي يتم تداولها في البورصة.فهم مدينون بأرباحهم لاستغلال البيانات التي يبيعونها لأغراض الدعاية كسلع.تتكون هذه البيانات من المعلومات التي تتراكم كمنتجات ثانوية للعروض الموجهة للمستخدم في شكل بيانات شخصية يتركها عملاؤهم وراءهم على الإنترنت (تخضع الآن لموافقة رسمية).فالصحف بشكل عام هي أيضا ً شركات مملوكة للقطاع الخاص يتم تمويلها إلى حد كبير من عائدات الإعلانات. ولكن في حين أن وسائل الإعلام القديمة هي نفسها وسائل الإعلان، فإن هذا النوع من خلق القيمة الذي أثار انتقادات لـ “رأسمالية المراقبة”(انظر Zuboff، 2018)، يتغذى على المعلومات القابلة للاستغلال تجاريا ً والتي يتم “التقاطها” عشوائيا ً من قبل الخدمات الأخرى والتي بدورها تمكّن الأفراد من استراتيجيات الإعلان (انظر Fuchs، 2021).في هذا المسار الذي تتحكم فيه الخوارزمية، تعزز وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا تقدما ً إضافيا ً نحو تسليع سياقات العالم المُعاش.

ومع ذلك، فأنا مهتم بجانب آخر، وهو الضغط للتكيف الذي يمارسه منطق استغلال الإعلام الجديد على الإعلام القديم. كانت الأخيرة مناسبة كوسيلة للدعاية فقط بقدر ما كانت محتوياتها ناجحة تجاريا ً؛ ومع ذلك، تخضع هذه المحتويات بطبيعتها لمنطق مختلف تماما ً، أي الطلب على النصوص والبرامج التي يجب أن يفي شكلها ومحتواها بالمعايير المعرفية أو المعيارية أو الجمالية.إن تقييم القراء والجماهير للأداء الصحفي وفقا ً لمعايير معرفية (مفهومة على نطاق واسع) يصبح واضحا ً على الفور بمجرد أن نفهم – من منظور فلسفي لتحليل العالم المُعاش – الوظيفة المهمة التي تؤديها وسائل الإعلام في توفير التوجيه في “مجتمع الإعلام” المربك بشكل متزايد.نظرا ً لتعقيد المجتمع، فإن وسائل الإعلام هي الوسيط الذي، في تنوع وجهات نظر المواقف الاجتماعية والأشكال الثقافية للحياة، يُظهر الجوهر المشترك بين التفسيرات المتنافسة للعالم ويثبت صحته على أنه مقبول بشكل عقلاني بشكل عام. بطبيعة الحال، فإن الصحافة، بتقسيمها الكلاسيكي الثلاثي لمحتويات الصحف إلى صفحات سياسية، وأعمال، وصفحات رئيسية، لا تمثل مطلقا ً السلطة النهائية فيما يتعلق بصحة أو صلاحية البيانات الفردية أو التفسيرات القانونية للحقائق، ومعقولية التقييمات العامة، وحتى سلامة معايير أو إجراءات الحكم.ولكن من خلال التدفق اليومي للمعلومات والتفسيرات الجديدة، تؤكد وسائل الإعلام باستمرار، وتصحح، وتكمل الصورة اليومية غير الواضحة لعالم يُفترض أنه موضوعي، والذي يفترض جميع المعاصرين أنه مقبول أيضا ً من قبل أي شخص آخر على أنه “طبيعي” أو صالح.

تشرح المقالة الإعلامية التي كتبها أوتفريد جارين وريناتي فيشر(2021) لماذا يخلق التقدم نحو “إنشاء منصة في الفضاء العام” صعوبات لوسائل الإعلام التقليدية، سواء من الناحية الاقتصادية أو في ضوء تضاؤل التأثير الصحفي وإضعاف المعايير المهنية. ونظرا ً لوجود علاقة بين التداول وعائدات الإعلانات، فإن تراجع الطلب على الصحف والمجلات المطبوعة يهدد الأساس الاقتصادي للصحافة؛ وحتى الآن لم تجد الصحافة نموذجا ً تجاريا ً ناجحا ً حقا ً للمبيعات التجارية للصيغ الرقمية، حيث إنها في منافسة على الإنترنت مع الوسائط الجديدة التي تقدم لمستخدميها المعلومات المقابلة مجانا ً.

والنتيجة هي تخفيضات وظروف عمل غير مستقرة مع آثار سلبية على جودة العمل التحريري ونطاقه.لكن الخسائر في الإعلانات والجمهور ليست العوامل الوحيدة التي تخفف من أهمية الصحافة وقوتها التأويلية. يتطلب التكيف مع المنافسة على الإنترنت تغييرات في كيفية عمل الصحفيين.حتى لو لم يكن “تحول الجمهور”، أي زيادة مشاركة الجمهور وزيادة الحساسية تجاه ردود أفعال القراء، من السلبيات بالضرورة، فإن الاتجاهات نحو عدم الاحتراف وفهم العمل الصحفي كخدمة محايدة وغير مسيسة – كمسألة إدارة البيانات والاهتمام بدلاً من البحث المستهدف والتفسير الدقيق – يتم تكثيفها: “نتيجة لذلك، بأن يتم تحويل غرف الأخبار، من أماكن النقاش السياسي سابقا ً، إلى مراكز تنسيق لتوريد وإدارة إنتاج المحتوى وتوزيعه”(انظر جارين وفيشر، 2021: 370).إن التغيير في المعايير المهنية هو انعكاس لتكيف الصحافة، التي يتمثل أكبر ارتباط لها في التكوين الخطابي للآراء العامة والإرادة السياسية من قبل المواطنين، مع الخدمات التجارية للمنصات التي تتنافس على جذب انتباه المستهلكين .ومع انتصار مقتضيات اقتصاد الانتباه Attention Economy، تعمل وسائل الإعلام الجديدة أيضا ً على تعزيز الاتجاهات المألوفة منذ فترة طويلة من الصحف الشعبية والصحافة الجماهيرية نحو الترفيه والتأثير العاطفي وإضفاء الطابع الشخصي على القضايا التي يهتم بها الفضاء العام السياسي بشكل متزايد.

مع مواءمة البرامج السياسية مع عروض الترفيه والاستهلاك الموجهة إلى المواطنين كمستهلكين، فإننا نتطرق إلى الاتجاهات نحو عدم التسييس التي لوحظت في البحوث الإعلامية منذ الثلاثينيات، والتي تتزايد بشكل واضح نتيجة لتوافر وسائل التواصل الاجتماعي.فعندما نحول انتباهنا بعيدا ً عن الجانب الموضوعي للهيكل الموسع للإعلام وأساسه الاقتصادي المتحول نحو جانب المتلقيين وأنماط استقبالهم المتغيرة، فإننا نتطرق إلى السؤال المركزي حول ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تغير إدراك المستخدمين نحو الفضاء السياسي العام .بطبيعة الحال، فإن المزايا التقنية للمنصات التجارية، وحتى لوسائل مثل Twitter التي تجبر مستخدميها على إنتاج رسائل موجزة، تقدم فوائد للمستخدمين للأغراض السياسية والمهنية والخاصة.لكن هذه التطورات ليست موضوعنا. إن سؤالنا هو بالأحرى ما إذا كانت هذه المنصات، من خلال أسلوب الاستخدام المتغير، تثير أيضا ً نوعا ً من التبادل حول وجهات النظر السياسية الضمنية أو الصريحة التي يمكن أن تؤثر على تصور الفضاء السياسي العام على هذا النحو.يشير فيليب ستاب وتورستن ثيل Philipp Staab and Thorsten Thiel فيما يتعلق بالجانب الشخصي لاستخدام الوسائط الجديدة إلى نظرية أندرياس ريكفيتز Andreas Reckwitz عن “مجتمع التفردات”، وعلى وجه الخصوص، الحوافز التي توفرها منصات التنشيط لمستخدميها من أجل عرض الذات النرجسي و”تنظيم التفرد” (ريكفيتز، 2020).إذا ميزنا تمييزا ً واضحا ً بين “الفردية” و “التفرد” – أي بين التمييز الذي يكتسبه الأفراد من خلال تاريخ حياتهم ورؤيتهم واكتساب التميز الذي يمكنهم تحقيقه من خلال المساهمات التلقائية على الإنترنت – ف”الوعد بـ”التفرد” قد يكون هو المصطلح الصحيح للمؤثرين الذين يلتمسون موافقة المتابعين على برنامجهم وسمعتهم.مهما كان الأمر، عندما يتعلق الأمر بمساهمة وسائل التواصل الاجتماعي في تكوين الرأي والإرادة في الفضاء السياسي العام، فإن جانبا ً آخر من جوانب الاستقبال يبدو أكثر أهمية بالنسبة لي. كما لوحظ مرارا ً وتكرارا ً، فإن الفضاءات العامة ذات التوجيه الذاتي والمجزأة التي تنفصل عن كل من الفضاء العام التحريري أو الرسمي وعن بعضها البعض تولد جاذبية نحو تأكيد مرجعي ذاتي متبادل للتفسيرات والآراء.ومع ذلك، إذا تغيرت خبرة وإدراك المشاركين في هذه الأوساط لما كان يُطلق عليه حتى الآن الفضاء العام والفضاء السياسي العام، وإذا كان التمييز المفاهيمي المألوف حتى الآن بين الفضائين الخاص والعام سيتأثر، بالضرورة بعواقب بعيدة المدى على الفهم الذاتي لمستهلكي الإنترنت بوصفهم مواطنين. ففي الوقت الحاضر، نفتقر إلى البيانات لاختبار هذه الفرضية؛ لكن المؤشرات التي تدفع إلى مثل هذه الفرضية مقلقة بدرجة كافية.

لم يطرأ أي تغيير هيكلي على الأساس الاجتماعي للتمايز القانوني والسياسي للفضاء العام عن الفضاء الخاص للتواصل الاقتصادي والمدني والعائلي خلال الفترة قيد النظر، لأن الشكل الاقتصادي الرأسمالي قائم بذاته على هذا الفصل.في الديمقراطيات الدستورية، انعكس هذا الهيكل أيضا ً في وعي المواطنين. وإدراكهم هو القضية الحاسمة. حيث يتوقع من المواطنين اتخاذ قراراتهم السياسية في مجال التوتر بين المصلحة الذاتية والتوجه نحو الصالح العام.كما رأينا، يحدث هذا التوتر في فضاء الفضاء السياسي العام الذي يشمل، كمسألة مبدأ، جميع المواطنين كجمهور محتمل.إن حقيقة أن تدفقات التواصل العمومية تتدفق عبر مسارات التحرير تميزها عن جميع جهات الاتصال الخاصة والتجارية.حيث تنطبق معايير مختلفة على تكوين المادة المطبوعة الموجهة إلى عامة القراءة المجهولين عن المراسلات الخاصة، والتي كانت لا تزال مكتوبة بخط اليد لفترة طويلة().ما يشكل الفضاء العام ليس التباين بين المشاركة الإيجابية والسلبية في الخطاب، بل الموضوعات التي تستحق الاهتمام المشترك والشكل المدروس مهنيا ًوعقلانية المساهمات التي تعزز التفاهم المتبادل حول المصالح المشتركة والمختلفة.يجب ألا تضللنا الاستعارة المكانية للتمييز بين “الأماكن” الخاصة والعامة؛ العامل الحاسم هو تصور العتبة (نفسها متنازع عليها سياسيا ً) بين الأمور الخاصة والقضايا العامة التي تتم مناقشتها في الفضاء السياسي العام.هذا التصور تشاركه أيضا ً الحركات الاجتماعية التي تخلق جمهوريات مضادة لمكافحة تضييق رؤية جمهور وسائل الإعلام.بصرف النظر عن الإشارة إلى السلطة السياسية المركزية التي لديها القدرة على التصرف، فإن شكل وملاءمة المساهمات التحريرية المختارة هي التي تجذب انتباه الجمهور.وهذا التوقع لمصداقية وجودة وملاءمة المساهمات العامة هو أيضا ًعنصر أساسي لإدراك الطابع الشامل للفضاء العام الذي من المفترض أن يوجه انتباه جميع المواطنين إلى نفس الموضوعات من أجل تحفيز وتمكين كل منهم لتكوين أحكامهم الخاصة وفقًا للمعايير المعترف بها حول القضايا ذات الصلة لصنع القرار السياسي.()

صحيح أنه منذ ظهور “مجتمعات الإعلام”، لم يتغير شيء جوهري في الأساس الاجتماعي لمثل هذا الفصل بين الفضاء العام ومجالات الحياة الخاصة. ومع ذلك، ربما أدى الاستخدام الحصري إلى حد ما لوسائل التواصل الاجتماعي لدى أجزاء من السكان إلى تغيير في تصور الفضاء العام أدى إلى عدم وضوح التمييز بين “العام” و “الخاص”، وبالتالي المعنى الشامل للفضاء العام. في الأدبيات في دراسات التواصل، يواجه المرء بشكل متزايد ملاحظات عن اتجاه بعيد عن التصورات التقليدية للفضاء السياسي العام والسياسة نفسها (انظر Bennett and Pfetsch، 2018).في بعض الثقافات الفرعية، لم يعد يُنظر إلى الفضاء العام على أنه شامل، ولم يعد يُنظر إلى الفضاء السياسي العام على أنه مساحة تواصل لتعميم المصالح التي تشمل جميع المواطنين. لذلك، سأحاول شرح فرضية وجعلها معقولة على هذا النحو(). كما ذكرنا، يفتح الإنترنت مساحات افتراضية يمكن للمستخدمين الاستحواذ عليها على الفور كمؤلفين بطريقة جديدة.حيث تنشئ وسائل التواصل الاجتماعي مساحات عامة يمكن الوصول إليها مجانا ًوتدعو جميع المستخدمين إلى إجراء تدخلات لا يتم التحقق منها من قبل أي شخص – والتي، كما يحدث، تغري السياسيين منذ فترة طويلة لممارسة تأثير شخصي مباشر على جمهور الناخبين. هذا “الفضاء العام” الذي تم تجريده إلى نقرات “الإعجاب”و”عدم الإعجاب”، يعتمد على بنية تحتية تقنية واقتصادية. ولكن في هذه المساحات الإعلامية التي يمكن الوصول إليها مجانا ً، يمكن لجميع المستخدمين الذين تم تحريرهم من الحاجة للرضى إلى تلبية متطلبات الدخول إلى الفضاء العام التحريري، ومن وجهة نظرهم، تحرروا من “الرقابة”، فمن حيث المبدأ تخاطب جمهورا ً مجهولاً وتطلب موافقتهم .يبدو أن هذه المساحات تكتسب ألفة غريبة مجهولة الهوية: وفقا ً للمعايير السابقة، لا يمكن فهمها على أنها عامة ولا خاصة، ولكن بالأحرى مجال تواصل كان محجوزا ً في السابق للمراسلات الخاصة ولكنه يتم تضخيمه الآن ليصبح جديدًا وحميميا ً، ونوعا ً من الفضاء العام.

فالمستخدمون الذين تم تمكينهم كمؤلفين يثيرون الانتباه برسائلهم، لأن الفضاء العام غير المنظم يتم إنشاؤه أولاً من خلال تعليقات القراء وإعجاب المتابعين. وبقدر ما يؤدي ذلك إلى تكوين غرف صدى ذاتية الدعم، فإن هذه الفقاعات تشترك مع الفضاء الكلاسيكي العام في سهولة اختراقها لمزيد من الشبكات؛ ومع ذلك، فهي تختلف في الوقت نفسه عن الطابع الشامل بشكل أساسي للفضاء العام، والتناقض مع الفضاء الخاص من خلال رفضها للتنافر وإدراج الأصوات الساكنة في أفقها المحدود والمحافظ على الهوية من المفترض، ومع ذلك غير المفلترة مهنيا ً، وهي “المعرفة”. من وجهة نظر محصنة عن طريق التأكيد المتبادل لأحكامهم، فإن الادعاءات المتعلقة بالعالمية الممتدة إلى ما وراء آفاقهم تصبح مشتبها ً فيها بشكل أساسي بأنها نفاقية.من المنظور المحدود لمثل هذا الفضاء شبه العام، لم يعد من الممكن اعتبار الفضاء السياسي العام للديمقراطيات الدستورية كمساحة شاملة للتوضيح الخطابي المحتمل للمزاعم المتنافسة حول الحقيقة وتعميم المصالح؛ على وجه التحديد، هذا الفضاء العام، الذي قدم نفسه حتى الآن على أنه شامل، يتم تقليصه بعد ذلك إلى أحد الفضاءات شبه العامة التي تتنافس على قدم المساواة(.(

أحد أعراض ذلك هو الاستراتيجية المزدوجة لنشر الأخبار الكاذبة وفي الوقت نفسه مكافحة “الصحافة الكاذبة”، والتي بدورها تزعج الجمهور ووسائل الإعلام الرائدة نفسها (Jaster and Lanius، 2020(.ولكن عندما تتدهور المساحة “السياسية” المشتركة إلى ساحة معركة الجماهير المتنافسة، فإن البرامج السياسية التي تتمتع بشرعية ديمقراطية وتفرضها الدولة تثير نظريات المؤامرة – كما في حالة المظاهرات المناهضة لفيروس كورونا، والتي يتم تنظيمها بروح تحررية، لكنها في الواقع مدفوعة بدوافع سلطوية. 

يمكن بالفعل ملاحظة هذه الاتجاهات في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ لكن يمكنهم حتى السيطرة على النظام السياسي وتشويهه على هذا النحو، إذا تم تقويض ذلك وتمزقه لفترة طويلة بما يكفي بسبب الصراعات الهيكلية الاجتماعية. في الولايات المتحدة، أصبحت السياسة عالقة في دوامة الاستقطاب المستمر للفضاء العام بعد أن تكيفت الإدارة وقطاعات كبيرة من الحزب الحاكم مع التصور الذاتي لرئيس كان ناجحا ً على وسائل التواصل الاجتماعي وسعى للحصول على موافقة الجمهور أتباعه الشعبوي على أساس يومي عبر تويتر().إن التفكك المؤقت للفضاء السياسي العام – يمكننا فقط أن نأمل – وجد تعبيرا ً في حقيقة أنه، بالنسبة لنصف السكان تقريبا ً، لم يعد من الممكن تبادل المضامين التواصلية بعملة ادعاءات الصحة القابلة للنقد.لا يعد تراكم الأخبار المزيفة أمرا ً مهما ً لتشويه واسع النطاق لتصور الفضاء السياسي العام، ولكن حقيقة أنه لم يعد من الممكن تحديد الأخبار المزيفة على هذا النحو (انظر Hohlfeld ، 2020). 

في مجال التواصل والعلوم الاجتماعية، أصبح من الشائع الآن التحدث عن الفضاءات العامة المعطلة التي أصبحت منفصلة عن الفضاء العام المؤسس صحافيا ً. لكن قد يخطئ المراقبون الأكاديميون في استنتاجهم أن وصف هذه الظواهر العرضية يجب فصله عن أسئلة النظرية الديمقراطية تماما ً(). فبعد كل شيء، فإن التواصل في الفضاءات شبه العامة المستقلة هو بحد ذاته غير مسيس بأي حال من الأحوال.وحتى عندما يكون الأمر كذلك، فإن القوة التكوينية لهذا التواصل بالنسبة لوجهة النظر العالمية للمشاركين ليست غير سياسية.يتضرر النظام الديمقراطي ككل عندما لا تعود البنية التحتية للفضاء العام قادرة على توجيه انتباه المواطنين إلى القضايا ذات الصلة التي يجب اتخاذ قرار بشأنها، بالإضافة لذلك، ضمان تكوين آراء عامة متنافسة – وهذا يعني آراء تمت تصفيتها نوعيا ً. إذا تذكرنا الشروط المسبقة المعقدة لبقاء الديمقراطيات الرأسمالية المعرضة للأزمات بطبيعتها، فمن الواضح بالفعل أنه قد تكون هناك أسباب أعمق لفقدان وظيفة الفضاء السياسي العام. لكن هذا لا يعفينا من البحث عن أسباب واضحة.

أرى أحد هذه الأسباب في مصادفة ظهور وادي السيليكون، أي الاستخدام التجاري للشبكة الرقمية من جهة، والانتشار العالمي لبرنامج الاقتصاد النيوليبرالي من الجهة الأخرى.قدمت المنطقة الممتدة عالميا ً للتدفقات الحرة للاتصالات، والتي أصبحت ممكنة في الأصل من خلال اختراع الهيكل الفني لـ “الشبكة”، نفسها منذ البداية على أنها صورة طبق الأصل لسوق مثالي.لم يكن هذا السوق في حاجة حتى إلى تحريره من الضوابط الرقابية. في غضون ذلك، يتم تعطيل هذه الصورة الموحية من خلال التحكم الخوارزمي في تدفقات الاتصالات التي تغذي كثافة القوة السوقية لشركات الإنترنت الكبيرة. إن التشويه والمعالجة الرقمية للبيانات الشخصية للعملاء، والتي يتم تبادلها بشكل غير واضح إلى حد ما للحصول على المعلومات المقدمة مجانا ً من خلال محركات البحث والبوابات الإخبارية وغيرها من الخدمات، يفسر سبب رغبة مفوض المنافسة في الاتحاد الأوروبي في تنظيم هذا السوق. لكن قانون المنافسة هو النهج الخاطئ إذا كان هدف المرء هو تصحيح الخطأ الأساسي الذي يقول إن المنصات، على عكس الوسائط التقليدية، لا تريد تحمل المسؤولية عن نشر محتويات حساسة للحقيقة، وبالتالي عرضة للخداع والتواصل. فحقيقة أن الصحافة والإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، ملزمة بتصحيح التقارير الكاذبة تلفت الانتباه إلى حقيقة الاهتمام في السياق الحالي. ونظرا ً للطبيعة الخاصة لمنتجاتهم، والتي ليست مجرد سلع، لا يمكن للمنصات التهرب من جميع واجبات الرعاية الصحفية.

هم أيضا ً مسؤولون ويجب أن يكونوا مسؤولين عن الأخبار التي لا ينتجونها ولا يحررونها؛ حيث أن لهذه المعلومات أيضا ً القدرة على تشكيل الآراء والعقليات. أولاً وقبل كل شيء، لا تخضع لمعايير جودة السلع، ولكن للمعايير المعرفية للأحكام التي بدونها لا يمكن أن تكون موضوعية عالم الحقائق ولا الهوية والعالم المشترك، مشتركة بين الذوات(). ففي “عالم” يصعب تخيله من الأخبار المزيفة التي لم يعد من الممكن تحديدها على هذا النحو، أي حيث لا يمكن تمييزها عن المعلومات الحقيقية، لن يتمكن أي طفل من النمو دون ظهور أعراض إكلينيكية. لذلك، فإن الحفاظ على هيكل إعلامي يضمن الطابع الشامل للفضاء العام والطابع التداولي لتشكيل الرأي العام والإرادة السياسية ليس مسألة تفضيل سياسي بل ضرورة دستورية.


المراجع

  • Barthelmes, Andreas (2020) Die große Zerstörung: Was der digitale Bruch mit unserem Leben
  • macht. Berlin: Duden Verlag.
  • Bennett, W. Lance and Pfetsch, Barbara (2018) Rethinking political communication in a time of
  • disrupted public spheres. Journal of Communication 68(2): 243–253.
  • Berg, Sebastian, Rakowski, Niklas, and Thiel, Thorsten (2020) Die digitale Konstellation:
  • Eine Positionsbestimmung. Zeitschrift für Politikwissenschaft 30: 171–191. https://doi.
  • org/10.1007/s41358-020-00207-6
  • Forst, Rainer (2013) Toleration in Conflict: Past and Present, trans. Ciaran Cronin. Cambridge:
  • Cambridge University Press.
  • Fuchs, Christian (2021) Soziale Medien und Öffentlichkeit. In: Das digitale Kapital: Zur Kritik
  • der politischen Ökonomie des 21. Jahrhunderts. Wien: Mandelbaum, pp. 235–272.
  • Gaus, Daniel (2013) Rational reconstruction as a method of political theory between social critique
  • and empirical political science. Constellations 20(4): 553–570.
  • Habermas, Jürgen (1989) The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a
  • Category of Bourgeois Society, trans. Thomas Burger and Frederick Lawrence. Cambridge,
  • MA: MIT Press.
  • Habermas, Jürgen (1992) Further reflections on the public sphere. In: Calhoun, Craig (ed.)
  • Habermas and the Public Sphere. Cambridge, MA: MIT Press, pp. 421–461.
  • Habermas, Jürgen (1995) On the internal relation between the rule of law and democracy. European
  • Journal of Philosophy 3(1): 12–20.
  • Habermas, Jürgen (1996) Between Facts and Norms, trans. William Rehg. Cambridge: Polity.
  • Habermas, Jürgen (2006) Constitutional democracy – a paradoxical union of contradictory principles?
  • In: Time of Transitions, trans. Ciaran Cronin and Max Pensky. Cambridge: Polity,
  • pp. 113–128.
  • Habermas, Jürgen (2009) Political communication in media society: Does democracy still have
  • an epistemic dimension? The impact of normative theory on empirical research. In: Europe
  • – The Faltering Project, trans. Ciaran Cronin. Cambridge: Polity, pp. 138–183.
  • Habermas, Jürgen (2012) The Crisis of the European Union, trans. Ciaran Cronin. Cambridge:
  • Polity.
  • Habermas, Jürgen (2015) The Lure of Technocracy, trans. Ciaran Cronin. Cambridge: Polity.
  • Habermas, Jürgen (2018 [2016]) Interview. In: Bächtiger, André, Dryzek, John S., Mansbridge,
  • Jane, and Warren, Mark E. (eds) The Oxford Handbook of Deliberative Democracy. Oxford:
  • Oxford University Press, pp. 871–882.
  • Habermas, Jürgen (2020) Review of Cristina Lafont, Democracy without Shortcuts. Journal of
  • Deliberative Democracy 16(2): 10–14.
  • Hohlfeld, Ralf (2020) Die Post-Truth-Ära: Kommunikation im Zeitalter von gefühlten Wahrheiten
  • und Alternativen Fakten. In: Hohlfeld, Ralf, Harnischmacher, Michael, Heinke, Elfi, Lehner,
  • Lea, and Sengl, Michael (eds) Fake News und Desinformation. Baden-Baden: Nomos,
  • pp. 43–60.
  • Jarren, Ottfried and Fischer, Renate (2021) Die Plattformisierung von Öffentlichkeit und die
  • Relevanzstruktur des Journalismus als demokratische Herausforderung. In: Seeliger, Martin,
  • and Sevignany, Sebastian (eds) Ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit? Baden-Baden:
  • Nomos, pp. 365–384.
  • Jaster, Romy and Lanius, David (2020) Fake News in Politik und Öffentlichkeit. In: Hohlfeld,
  • Ralf, Harnischmacher, Michael, Heinke, Elfi, Lehner, Lea, and Sengl, Michael (eds) Fake
  • News und Desinformation. Baden-Baden: Nomos, pp. 245–269.
  • Oswald, Michael (2020) Der Begriff ‘Fake News’ als rhetorisches Mittel des Framings in der
  • politischen Kommunikation. In: Hohlfeld, Ralf, Harnischmacher, Michael, Heinke, Elfi,
  • Lehner, Lea, and Sengl, Michael (eds) Fake News und Desinformation. Baden-Baden:
  • Nomos, pp. 61–82.
  • Peters, Bernhard (1993) Die Integration moderner Gesellschaften. Frankfurt am Main: Suhrkamp.
  • Peters, Bernhard (2008) On public deliberation and public culture: Reflections on the public
  • sphere. In: Wessler, Hartmut (ed.) Public Deliberation and Public Culture: The Writings of
  • Bernhard Peters, 1993–2005. London: Palgrave Macmillan, pp. 134–159.
  • Reckwitz, Andreas (2020) The Society of Singularities, trans. Valentine A. Pakis. Cambridge:
  • Polity.
  • Ritzi, Claudia (2021) Libration im Öffentlichkeitsuniversum. Anziehung und Kräfteausgleich in
  • der digitalisierten Kommunikationsstruktur. In: Seeliger, Martin, and Sevignany, Sebastian
  • (eds) Ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit? Baden-Baden: Nomos, pp. 298-319.
  • Schäfer, Armin (2015) Der Verlust politischer Gleichheit. Frankfurt am Main: Campus.
  • Schäfer, Armin and Zürn, Michael (2021) Die demokratische Regression. Frankfurt am Main:
  • Suhrkamp.
  • Steiner, Jürg, Bächtiger, André, Spörndli, Markus, and Steenbergen, Marco R. (2004) Deliberative
  • Politics in Action. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Trentz, Hans-Jörg (2021) Öffentlichkeitstheorie als Erkenntnistheorie moderner Gesellschaft. In:
  • Seeliger, Martin, and Sevignany, Sebastian (eds) Ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit?
  • Baden-Baden: Nomos, pp. 385–405.
  • Wessler, Hartmut (2018) Habermas and the Media. Cambridge: Polity.
  • Zuboff, Shoshana (2018) The Age of Surveillance Capitalism: The Fight for a Human Future at
  • the New Frontier of Power. New York: Public Affairs.
  • Zürn, Michael (2021) ‘Öffentlichkeit und Global Governance’. In: Seeliger, Martin, and
  • Sevignany, Sebastian (eds) Ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit? Baden-Baden:
  • Nomos, pp. 160–187.
  • هذا المقال جزء من العدد الخاص بالنظرية والثقافة والمجتمع حول “تحول هيكلي جديد للفضاء العام؟”، من تحرير مارتن سيليجر وسيباستيان سيفيناني.

المصدر: Habermas, J. (2022). Reflections and Hypotheses on a Further Structural Transformation of the Political Public Sphere. Theory, Culture & Society, 39(4), 145–171. https://doi.org/10.1177/02632764221112341