مجلة حكمة
الإسلاموية في إيران آصف بيات

صناعة ما بعد الإسلاموية في إيران – آصف بيات / ترجمة: محمد العربي

ما بعد الإسلاموية آصف بيات
غلاف الكتاب

الفصل الثاني (صناعة ما بعد الإسلاموية في إيران) من كتاب (ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي) – تحرير: آصف بيّات، ترجمة: محمد العربي – نشر دار جداول 2016 (للاطلاع على الفصل الأول اتبع هذا الرابط)


 تكمن المفارقة في تاريخ إيران المعاصرة أن الثورة الإسلامية عام 1979، لم تنبع من رحم حركة إسلامية قوية، ولكن على الرغم من غيابها، أدى تصاعد حركة الأسلمة، التي قادتها الثورة في منتصف التسعينيات من أعلى، إلى ظهور حركات ما بعد إسلاموية هي الأبرز في العالم الإسلامي[1] في هذا الفصل، أتناول المنطق الكامن وراء مظاهر التغير الاجتماعي والسياسي في إيران منذ اندلاع الثورة مركزًا على ظهور ما بعد الإسلاموية باعتبارها المحرك والتجسيد لكل هذه التغيرات الذي بلغ ذروته مع الحركة الخضراء التي هزت الأسس الأخلاقية والإيراني للنظام الإسلامي. بشرت ما بعد الإسلاموية التي حملها بالأساس الطلبة والنساء والشباب والمثقفون الدينيون، وكذلك موظفو الدولة وطبقة المهنيين، برؤية جديدة للمجتمع والسياسة التي تم التعبير عنها بمنظور جديد للمجال العام وثقافة الشباب والسياسات الطلابية والعلاقة بين الجنسين، والدولة والفكر الديني. وفي القلب من المشروع الما بعد الإسلاموي يكمن مزيج من المثل الجمهورية والأخلاق الدينية والديمقراطية؛ حيث يعتبر هذا المزيج رسالته السياسية. لقد كان المذهب الجمهوري ما بعد الإسلاموي بمثابة استجابة للاستياء الشعبي من نظام الثورة الذي أصبح عليه أن يدرك إخفاقاته وتناقضاته. إنها تمثل باتساع معارضة للنظام الديني الذي هضم العديد من حقوق المواطنين الفردية، وأنكر المساواة بين النوعين والمشاركة الفعالة في الحياة العامة. وأصبح الإصلاح هو استراتيجية القوى الشعبية الصاعدة والحركات الاجتماعية لتحقيق أهداف ما بعد الإسلاموية الرامية إلى دمقرطة النظام السياسي والفكر الديني، وفصل الشؤون الدينية عن شؤون الدولة.

الأسلمة

في 11 فبراير  1979، أعلن راديو طهران انتصار الثورة في إيران بفرحة عارمة، مبشرًا بنهاية 2500 عام من الملكية. لقد كان يوم النصر  ذروة أكثر من ثمانية عشر شهرًا من المظاهرات الجماهيرية والصدامات العنيفة والإضرابات الواسعة والعصيان العام والعديد من المناورات السياسية. غير أن جذور الثورة كانت أبعد من ذاك التاريخ، كانت جذورها ممتدة إلى التغيرات الهيكلية التي شهدتها إيران من ثلاثينيات القرن العشرين، حينما بدأت الدولة في الشروع في عملية التحديث. وتكثفت أسباب الثورة مع الانقلاب العسكري الذي هندسته المخابرات المركزية الأمريكية CIA عام 1953، وأطاح بحكومة رئيس الوزراء الوطني محمد مصدق وأعادت تنصيب نظام الشاه الأوتوقراطي حتى تم إسقاطه في ثورة 1979. أشعلت هذه التغييرات الهيكلية العديد من الصراعات، كان أكبرها الصراع بين التطور الاجتماعي والاقتصادي والأوتوقراطية السياسية. وفي غمارها عجلت عدم كفاءة الدولة، والفساد وكذا الشعور بعدم العدالة بين قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني من الصراع السياسي في البلاد.

جاءت فرصة الحراك الشعبي مع دعوة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إلى سياسة حقوق الإنسان في أواخر السبعينيات؛ وأجبرت هذه السياسة الشاه على فتح المجال السياسي بدرجة محدودة من حرية التعبير. لقد تصاعد هذا التعبير  حتى وصل ذروته وفي غضون أقل من عاميْن أطاح بالملكية. ولكن، لماذا قاد رجال الدين على وجه التحديد الثورة؟ عبر 25 عامًا منذ انقلاب 1953، تم تدمير وحل كل الأحزاب السياسية العلمانية وكل المنظمات الحكومية الفعالة. وتمثلت المعارضة الوحيدة المنظمة في حركة متمردة تحت الأرض هي منظمة فدائيو خلق “سازمان فدائيان خلق” الماركسية والإسلاميون الجهاديون التي انحصرت أنشطتهم في عمليات مسلحة معزولة. وظلت الحركة الطلابية أيضًا مقتصرة على السياسات الجامعية داخل البلاد، أو بالأنشطة التي يقوم بها الطلبة الإيرانيون بالخارج. باختصار على الرغم من أن التنظيمات العلمانية كانت متبرمة للغاية، إلا أنها كانت بلا أي قيادة تنظيمية.

على الخلاف من هذا، كان للعلماء ميزة نسبية تمثلت في امتلاكهم قدرات مؤسسية فذة. اشتملت على بنيتهم التنظيمية الهيراركية وأكثر من عشرة آلاف مسجد (حسينيات)، وهي تجمعات دينية غير رسمية، والحوزات الدينية، وهي مدارس علمية دينية، وجمعيات خدمت كوسائل اتصالات هامة بين الثوار المتنافسين. وبعيدًا عن غياب البديل ذي المصداقية، ضمنت القدرات المؤسسية والعموميات الملحوظة والغموض في رسالة رجال الدين، قيادة العلماء للثورة. أما ما رسخ هذه القيادة، هو الانتهاء السريع لأحداث الثورة، فقد كان هناك القليل من الوقت لإجراء المناقشات أو الخلافات أو  لتطور حركات اجتماعية وبدائل للقيادة. ومن ثم، تحولت الحركة الإسلامية الوليدة في السبعينيات سريعًا إلى دولة موازية. ومن هنا، انتشرت عملية الأسلمة بعد انتصار الثورة وتم فرضها من الأعلى من قبل الدولة الإسلامية الجديدة. وتجلت الأسلمة في إنشاء حكم رجال الدين والنظام التشريعي الإسلامي والممارسات والمؤسسات الثقافية والمزيد من الرقابة على المجال العام.

لقد ظهر النظام الإسلاموي على الفور في المجال العام الحضري. وفي بداية الثمانينات أعلن النظام الثورة الثقافية لتغيير  النظام التعليمي الوطني. وأغلق الجامعات لثلاث سنوات لإعادة تنظيمها طبقًا للقيم الدينية. وبهدف خلق الإنسان الإسلامي، ألغى النظام كل المراكز الشبابية التي أنشأت فيما قبل الثورة وحولتها إلى مقرات للحرس الثوري أو  مراكز للشرطة. لقد أصبحت مقرات الأعمال والمصانع والمكاتب والبنوك والمستشفيات أماكن للتعليمات الأخلاقية: وتم فرض الفصل بين الجنسين، والصلوات اليومية الجماعية بالقانون ودفعت بها الجمعيات الإسلامية المحافظة التي تم إنشاؤها داخل المؤسسات العامة. وشاعت الشعارات والملصقات الثورية في كل الساحات العامة، وأخذت الهتافات والترتيلات الدينية المستمرة في تذكير المواطنين بالنظام الاجتماعي الجديد.

شهِد المجال العام الحضري وشوارعه تحولات جذرية. لقد أزيلت كل الشعارات والأسماء الغربية بالكامل، وتوقفت دور السينما والمسارح عن جذب المواطنين. وكان قد تم إغلاق البارات والحانات والملاهي أثناء الاضطرابات قبل ذلك بالفعل. وأحرقت منطقة الأضواء الحمراء في جنوب طهران*، بما أجبر بائعات الهواء إلى العمل تحت الحجاب منتشرات في شوارع طهران. وطغى الإرث البصري للثورة، متمثلاً في الجرافيتي السياسي والجداريات الضخمة والملصقات واللافتات الثورية على كل الشوارع والضواحي الخلفية. وتلاشت سريعًا ثقافة جوانب الشوارع القديمة أو كما تعرف بالفارسية “سر كوچه”**، حيث كان يجتمع الشباب ويكونون صداقات ويغازلون الصبايا الصغيرات، حيث جرمها الثوريون باعتبارها تنشر الخيلاء والخمول بين الشباب. وبدورهم قامت مجموعات من الحرس الثوري، يرافقها الشباب الحراس المنتمون إلى “حزب الله” بحمل الهراوات والأسلحة وجابوا الشوارع  لفرض النظام الأخلاقي الجديد. لقد كانت الزيادة الدرامية في أسماء الشوارع التي تبدأ باسم “شهيد” شاهدة على مساحة العنف الجديدة المتسعة. ولم يكن أي مشهد صارخ في المجال العام الجديد أكثر  من الاختفاء المفاجئ للألوان البارقة؛ لقد هيمن الأسود والرمادي، الذي عكسته أحجبة النساء ولحى الرجال على المشهد الحضري البصري بما جسد جانبًا من سيطرة الإسلاميين على الجسد واللون والذوق العام.

عبرّ الحجاب القسري على الإجراء الأقسى الذي اتخذ لإضفاء الهوية الدينة على النسوة الإيرانيات. لقد تم إلغاء العديد من القوانين الليبرالية التي عززت وضع المرأة تحت حكم الشاه، مثل قوانين حماية الأسرة . وتم تخفيض سن البلوغ الشرعي إلى 9 سنوات بالنسبة للفتيات و14 عامًا بالنسبة للفتيان. وتم تهميش مراكز الرعايا اليومية وبرامج التخطيط الأسري، وجاز تعدد الزوجات والزواج المؤقت على شرعية جديدة. وأصبح للرجال الحق في حضانة الأطفال والطلاق المباشر. ومنع نظام الحصص في التعليم العديد من الفتيات من الالتحاق بعدد من الكليات وألزمتهم بأخرى.

وفي القلب من الإسلاموية الإيرانية، تأسست الجمهورية الإسلامية على فكرة “ولاية الفقيه”؛ وقد منح الدستور الذي كتبه في معظمه العلماء ورجال الدين، الولي الفقيه أو المرشد الأعلى سلطة حكم الأمة الإيرانية على قواعد الإسلام. وعلى الرغم من إقرار الدستور بسيادة الشعب، التي منحه الله إياها، قد تمت مأسستها في برلمان على النمط الغربي، فإن قرارات أعضاء البرلمان ممثلي الشعب خاضعة لموافقة “مجلس تشخيص مصلحة النظام”، وهو مجلس مكون من اثني عشر  مستشار  يعينهم الفقيه ورئيس مجلس الشورى الإسلامي. ومع أن الشريعة هي قانون البلاد، فقد استمر العمل بالعديد من قوانين ما قبل الثورة، ولم يتم تغيير إلا 18 مادة في القانون المدني، فيما تعرض قانون العقوبات إلى تغيرات جذرية. وتم استبدال قانون إسلامي بشكل ما بقانون العمل، وبقي القانون التجاري غير ممسوس. لقد أثبتت الإسلاموية توافقها مع الرأسمالية.

أيديولوجيًّا، مثلت الإسلاموية قراءة للإسلام باعتباره نظامًا سياسيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيّا واجتماعيّا كاملاً يحمل حلولاً لكل أزمات الإنسان. وسيكون على المسلم الحق عبر الالتزام والصمود أن يكتشف هذه الحلول. إن عمل الإسلاميين على احتكار الحقيقة يعني أن هناك مجالاً ضيقًا لتعايش رؤى العالم المتناقضة. لقد ظهرت الإسلاموية كرؤية إقصائية، وأحادية الصوت، وغير متقبلة لفكرة التعددية، ممثلة أيديولوجية شمولية واستبدادية تؤكد على واجبات الشعب التي يتم فرضها عبر رقابة اجتماعية وأخلاقية وحشية. ومن التبسيط القول إن الإسلاموية قد استبطنتها الجماهير أو حتى المسلمون الحق كليًّا؛ لقد قاومت مجموعات كثيرة من الناس، وحتى من العلماء أنفسهم الإسلاموية السلطوية، خاصة فكرة آية الله الخميني عن ولاية الفقيه. وقاومت الكثير من النساء المسلمات الحجاب القسري، فيما عمدت المعارضة الليبرالية الدينية والعلمانية اليسارية إلى النضال ضد النظام بشراسة. غير أن هذه المعارضة المبكرة قمعت في مهدها. وساهمت الحرب مع العراق، حيث استخدمت الرموز الإسلامية على نطاق واسع في استكمال الرؤية الدينية العامة.

غير أنه مع انتهاء الحرب مع العراق 1988، ووفاة آية الله الخميني 1989، بدأت مرحلة جديدة. لقد أشّر برنامج إعادة الإعمار الذي أطلق  أثناء حكم الرئيس هاشمي رافسنجاني على بداية ما أسميه “ما بعد الإسلاموية”. باعتبارها حالةً ومشروعًا معًا، فإن ما بعد الإسلاموية تتسم بوجود سلسلة من الحركات الاجتماعية والفكرية الرائعة التي يقودها أجيال شابة والطلاب والنساء والمثقفون الدينيون، وبوجود نظرة جديدة إلى المجال العام الحضري التي ستشكل وجه إيران في غضون السنوات القادمة. تتجاوز ما بعد الإسلاموية بدمجها الإيمان بالحرية، والدين بالحقوق السياسة الإسلاموية. إنها تدعو إلى الاختيار الفردي، والتعددية والديمقراطية، وكذلك الأخلاق الدينية.

نحو مجتمع ما بعد إسلاموي

ظهرت أولى الإشارة المبكرة والأكثر وضوحًا للعيان على الاتجاه ما بعد الإسلاموي في الساحات الحضرية العامة، وقد بدأت في طهران عام 1992 وانتشرت إلى مدنٍ أخرى. في أواخر الثمانينيات، لقد عكست طهران أزمة الحكومة العامة في عموم البلاد.؛ لقد نمت المدينة باتساع، وازدادت تلوثًا، وزاد حجم سكانها وانعدام النظام فيها وسوء إدارتها وأرهقتها سنوات الحرب. لقد جعل التنظيم المكاني الإسلاموي المتسم بالإقصائية، والذكورية والقسوة والفصل بين الرجال والنساء، المدينة غريبة على غالبية الشباب والنساء والطبقة الحديثة الوسطى. في عام 1989، عين الرئيس البراغماتي هاشمي رافسنجاني غلام حسين كرباشي، وهو طالب سابق للاهوت، تحول إلى التخطيط الحضري، كي ينظم المدينة العاصمة. وفي غضون ثماني سنوات (1990-1998)، امتلكت طهران شخصية جديدة كان له قليل الشبه بصورة المدينة الإسلامية، لقد جعلها التنظيم الجمالي والمكاني الجديد، ورمزيتها وطرقها السريعة ولوحاتها التجارية الضخمة ومولات التسوق الكبيرة تضاهي مدريد أو لوس أنجلوس لا قم أو كربلاء.

تم استبدال الجرافيتي الثوري تدريجيّا باللوحات التجارية، وتم إنشاء مجمع بهمن الثقافي في جنوب طهران لتقديم أنواع الفنون والموسيقى، بما في ذلك أنواع الموسيقى الغربية الكلاسيكية، والتكنولوجيا الحديثة؛ لقد كان انتشار المراكز التجارية عاملاً  هامًّا في الثقافة الحضرية، فيما عملت على كسر الاحتكار  للبازار التقليدي لتجارة التجزئة. وفيما استمر فرض غطاء الرأس والفصل بين الرجال والنساء بقوة الدولة، فقد كان التنظيم الجديد للمدينة الذي اشتمل على 600 حديقة عامة فرصة للجمع بين الرجال والنساء والأولاد والبنات في الأماكن العامة، وسهلت الأنشطة الترفيهية بما في ذلك تسلق الجبال والتزلج على الجليد في شمال طهران وركوب الدراجات في اختلاط مقيد بين الجنسين. أخذ سكان المدينة الذين كانوا يقضون أوقات فراغهم سابقًا في الانعزال في منازلهم أو في منازل أقاربهم وأصدقائهم، أو حضور التجمعات الدينية، يتجمعون في الساحات العامة. وفيما كان الفضاء الحضري في الثمانينات يحتضن القرابات والعبادات محليًّا، أخذ المنطق المكاني الجديد في احتضان المدنية والمواطنة والممارسات العلمانية. لقد كان ساحة للاندماج النسبي، والحوارات والتفاعلات غير الدينية. بيد أن القيادة المحلية للمدينة لم ترد تغريب الشباب ولكن بالأحرى، أرادت حمايتهم من السلوكيات غير المنضبطة والفاسدة، ساعيةً إلى حداثة بديلة ومختلطة، فعالة ولكنها متجاوبة مع الحساسيات الأخلاقية. لقد أغضب الأثر  الذي صنع الفرد الحضري الإسلاميين، الذي انتقدوا التمدين على النمط الغربي؛ حيث رأوا فيه تدميرًا للقيمة والهوية الإسلامية. وعلى الرغم من أن الإسلاميين المحافظين قد انتقموا عام 1998، بوضع عمدة طهران صاحب الشعبية الكبيرة وراء القضبان بتهمة الاختلاس، فقد استمر  توسع الحيز ما بعد الإسلاموي، وانتشر في مدن أخرى غير طهران.

كان الشباب والنساء عنصرًا أساسيًّا في الثقافة الحضرية الجديدة، وفي واقع الحال، كان الفضاء الحضري ما بعد الإسلاموي نتاجًا ومنتجًا للشباب ما بعد الإسلاموي. وأكثر من أي فئة اجتماعية أخرى، تشكل الشباب باعتبارهم ناشطين في الحركات والسياسات الثقافية، وعبروا عن أنفسهم من داخل الفضاءات الحضرية العامة؛ حيث تلاقت السلطات الأخلاقية والسياسية، بما منح النظام الاجتماعي المهيمن دفعة للهوية الشبابية المتفردة، وتحديًّا جمعيًّا. لقد امتزج النضال من أجل إثبات الشباب لوجوده بالنضال من أجل تحقيق المثل الديمقراطية، وهي عملية اختبر فيها الشباب كيف يكونوا شبابًا ومسلمين في الوقت نفسه. ومن ثم، وفي حياتهم اليومية، عير الشباب عن أنواع من السلوكيات والثقافة الفرعية التي مثلت تحديًّا سياسيًّا ومعنويًّا للمبادئ السياسية الإسلاموية. لقد انخرط الشباب في حفلات الموسيقى السرية، والعلاقات الجنسية الحرة والمواعدات الغرامية، وتناول المخدرات والموضة، والتراخي في ارتداء الحجاب والانحراف عن التعاليم الدينية الرسمية. غير أن هؤلاء الشباب لم يهجروا الإسلام تمامًا؛ لقد أظهر العديد منهم إيمانًا وشعورًا دينيًّا قويًّا، حتى إذا لم يمارسوا العبادات الدينية[2]. فكان للإسلام قليل الأثر على حياتهم اليومية؛ والله موجود لكنه لم يمنعهم من شرب الخمور أو المواعدة. ورغم أن القليل منهم كان يذهب إلى المساجد، إلا أنهم كانوا متشربين لمحاضرات المثقفين الدينيين الذين بشروا بإسلامٍ أكثر استيعابًا. لقد عمل الشباب على التأسيس لثقافة دينية فرعية تحتضن العلماني والمقدس، والإيمان والمرح، والسماوي والأرضي.

ظلت قوى النظام منقسمة بعمق حول ما تقوم به حيال هذه السلوكيات المدمرة. دعا المتشددون من يجويون الشوارع إلى محاربة الغزو الثقافي، والهمجية والمشاعر المعادية للإسلام[3]. لقد أخذوا في عقاب الناس الذين رأوهم يشجعون اللا-أخلاقية والانحراف وقلة الاحتشام، وقاموا بإغلاق عدد من المقاهي ومحلات الأزياء والمطاعم[4]. وفي يوليو 2002، على سبيل المثال، قامت ستون من الوحدات الخاصة بها مئات من الرجال في زي أخضر  يعتمرون بنادق ألية وقنابل يدوية بالتوجه نحو شوارع طهران ومطاردة السائقين الشباب الذين يستمعون إلى موسيقى صاخبة والنساء اللائي يضعن زينة أو يرتدين حجابًا متراخيًّا، وكذلك مرتادي الحفلات وشاربي الكحول[5]. غير أن هذه الحملة لم تقم بتغيير هذه السلوكيات إلا قليلاً. بل بالعكس من هذا، أحدثت غضبًا شعبيًّا وضع أسس القانون الجنائي في الجمهورية الإسلامية نصب هجومه، وأخذ عدد من رجال الدين ذوي التوجهات الإصلاحية في التساؤل حول جدوى تطبيقه في العصر الحديث.

في القلب من الشباب ما بعد الإسلاموي الإيراني، يقع طلبة إيران وهم يشملون مليون من طلبة الجامعات. منذ أواخر التسعينيات قطع النشاط الطلابي، بهوياته الثلاثية، الإسلامية، الجامعية، والأنثوية بتزايد، شوطًا طويلاً ليصبح العمود الفقري للحركة الطلابية. لقد تغيرت الأمور كثيرًا. بعد الثورة مباشرةً، اكتسبت الحركة الطلابية شخصيتها الأيديولوجية المتمثلة في الراديكالية السياسية والنهج الثوري والقومية والعالم-ثالثية* والتوجهات المعادية للإمبريالية. لكنها إسلاموية وذكورية بامتياز. لقد تحول الحرم الجامعي إلى مقار للمجموعات الراديكالية الإسلامية واليسارية. فانقسمت الحركة الطلابية بشدة بين الطلاب الإسلاميين المؤيدين للنظام الذين تجمعوا حول مكتب دعم ووحدة الجمعيات الإسلامية المعروف اختصاراً بـ”دفتر تحکیم وحدت” DTV، والطلاب العلمانيين واليساريين أي معارضي النظام، وغير الملتزمين. لقد سيطر المكتب الإسلامي على الجامعات مع إعادة فتحها عام 1983، وعمل مع الباسدياران والباسيج كوكلاء النظام في الحرم الجامعي، حيث شاركوا في تعبئة المجهود الحربي، وإطلاق حملات البناء في الريف، والرقابة لإجبار غير الملتزمين على التخفي أو  إيداعهم في السجون أو  اللامبالاة والإحباط[6].

في الفترة ما بين بداية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، عملت المنظمة الطلابية الرسمية، المكتب الإسلامي، كامتداد للدولة وتحالف مع الفصائل الإسلامية اليسارية ومع قادة الطلبة الذين تصرفوا كموظفين رسميين. بالنسبة للإسلاميين، فإن النشاط الطلابي كان التزامًا واجبًا ولم يكن حقًا وكان المقصود به تدعيم شرعية الدولة[7]. دفع النهج الإقصائي الأيديولوجي للمكتب الإسلامي وكذلك خطابه الإسلامي وموقفه الشعبوي ونزعته الأبوية إلى تعميق الشعور بالاغتراب لدى الغالبية الواسعة من بقية الطلاب الذين لم يزد عددهم فقط، ولكن حجم النساء بينهم وكذلك أصولهم الإقليمية[8]. وخلافًا لطلبة السبعينيات الذين أطالوا سنواتهم الدراسية كي يستمتعوا بحياة الجامعة، لم يكن لطلبة التسعينيات أي اهتمام بالدراسة الجامعية إلا ما تمنحه من درجات. ومقارنة بسنوات السبعينيات، كان الشعور بالقمع داخل الجامعة في منتصف التسعينيات صادمًا. لقد ولت مركزية الجامعة وهيبتها وحيويتها وحصريتها في حياة الطلبة حيث لم تعد مكانًا ملائمًا لتكوين الصداقات والمرح والحرية وممارسة الحياة السياسية والثقافية والرياضية. ودفع النظام الاجتماعي الشمولي بالطلبة إلى قضاء أوقاتهم خارج الجامعة.

لذا، لم يرتكز النشاط الطلابي على القضايا السياسية الاعتيادية والجدالات الأيديولوجية كما في السبعينيات وبعد الثورة مباشرة، بل أخذ في التركيز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على حياة الطلبة أنفسهم. لقد كان الطلبة قوة اجتماعية كامنة، خاصة هؤلاء الذين تحطمت رغبتهم في حياة مادية أفضل بسبب الاقتصاد متباطئ النمو والهيمنة القوية لرجال الدين على المؤسسات السياسية والحياة اليومية. كانوا مستعدين للحراك السياسي، ولكن أي توجهات أيديولوجية سيتبناها هؤلاء الشباب فيما اختبروا بالفعل الإسلاموية. لقد أصبح الجيل الجديد من الشباب الذي كان أبعد من أن يكون معاديًّا للغرب او أيديولوجيًّا أو على الأقل إسلامويًّا، براغماتيًّا، ولا أيديولوجي وغير مرحب بالعنف وغير واثق من مؤسسات الدولة. لقد امتدح هذا الجيل الغرب لانفتاحه وتقدمه ورفاهيته، واستوعبوا منتجاته الثقافية المتاحة مثل الموضة والموسيقى والسينما والمواعدات الغرامية. وتطلع لأن يصبح جزءًا منه كما أصبح آخرون. أي أن طلبة التسعينيات هجروا التوجهات الراديكالية الأيديولوجية الماركسية والإسلاموية على السواء؛ وفيما طالب الجيل القديم بالعدالة الاجتماعية، تاق الجيل الشاب إلى الحرية الفردية[9].

أجبر الطلبة الجدد، بلا مبالتهم السياسية وعدم التزامهم، المكتب الإسلامي، المنظمة الطلابية الرسمية على الدعوة إلى مراجعة رؤيتها. شرع الطلبة الإسلاميون الذين كانوا قد قبلوا بالخميني ذي الشخصية الكاريزمية باعتباره الولي الفقيه الذي يعلو فوق القانون، في القول بأن القانون يسمو فوق الفقيه وفي تأييد النظام الديمقراطي المنفتح[10]. وعلاوة على هذا، دفعت الهزيمة العسكرية في الحرب وسقوط المثال الطوباوي للنظام الذي سعي نحو إقامة حكومة إسلامية عالمية[11]، بالطلبة الملتزمين أيديولوجيًّا نحو البراجماتية والرشادة السياسية. لقد أقلع كثيرون منهم عن العمل السياسي، لكن آخرين كثيرين أيضًا التحقوا باليسار الإسلامي، فيما ظل آخرون ومعظمهم قادة طلابيون في الثمانينيات باستكمال دراستهم الأكاديمية ليصبحوا فيما بعد ما عرف بالمثقفين الدينيين، وهم نقاد أقوياء للنظام الإسلامي.

بقدوم عام 1997، لم يحرك المكتب الإسلامي أعضاء باسم الأسلمة، أو معاداة  الإمبريالية أو  التفاوت بين الطبقات، ولكن تحت شعارات تتحدث عن مركزية الحرية والمشاركة السياسية وكرامة الطالب والأستاذ[12]. وعلى الرغم من ظهور روح جديدة بين كل من الطلبة وقادة المكتب الإسلامي، فقد ظل الحراك الطلابي مشتتًا وعلى نطاق محلي ضيق، حتى انتخابات 1997 الرئاسية والتي دفعت بالطلاب مرة أخرى إلى السياسة الوطنية على نحو مثير. لقد كان لمشاركتهم علاقة بكونهم شبابًا وطلابًا تعرضوا للكبت لفترة طويلة، ثم انطلقوا، أكثر من كونها متعلقة بالسعي المنظم نحو تحقيق هدف سياسي. لقد أوجد انتصار محمد خاتمي الانتخابي وحكومته الإصلاحية هياكل جديدة، ولدت من خلالها حركة طلابية جديدة لها هوية ما بعد إسلاموية ورؤية إصلاحية وتوجهات تعددية. وبتركيزها على الديمقراطية، تطورت الحركة كشبكة تنظيمية واضحة؛ ففي مايو 2000، نشرت أول جريدة طلابية وطنية وهي “آزار”. وبقدوم صيف عام 2001، وصل عدد الجرائد الطلابية إلى سبعمائة جريدة. وفي العام نفسه، تم إنشاء 1437 منظمة ثقافية وعلمية وفنية داخل الجامعات، لقد كانت هذه هي قواعد الحركة[13].

دعم حضور الطالبات في الحركة توجهاتها الديمقراطية. شكلت الطالبات نصف حجم الطلبة، وارتبطن بالحركة الطلابية وقضاياها كونهن يعانين أكثر من زملائهن الطلبة حيث تعرضن لانعدام المساواة التي تسببت لهن في قيود اجتماعية ورقابة أخلاقية متزايدة. مع ذلك، ظلت الحركة الطلابية ذكورية في مواقفها وسياساتها بشكل كبير. لذا، كانت النساء في حاجة ماسة للتعبير عن مطالبهن واهتماماتهن بطريقتهن الخاصة داخل الحلقات النسوية. لقد أوضحت الرؤية ما بعد الإسلاموية توجهات النسوة الإيرانيات في التسعينيات.

نساء ما بعد إسلامويات

ربما لم تشعر أي فئة اجتماعية في إيران بوطأة الثورة الإسلامية مثل نساء الطبقة الوسطى. عقب شهور فقط من عمر النظام الإسلامي، أثارت سياسات معادية للمرأة النساءَ اللائي انتهين لتوهن من التظاهر لإسقاط الشاه. فقد أبطل النظام الجديد قانون حماية الأسرة لعام 1968، وبين عشية وضحاها، فقدت المرأة حقها في أن تصبح قاضية، أو أن تطلق نفسها وحقها في حضانة أطفالها وأن تسافر إلى الخارج إلا بإذن من وليها الرجل، وسمح بتعدد الزوجات مرة أخرى، وأجبرت كل النساء، بغض النظر عن دينهن، على ارتداء الحجاب في العلن[14]. في السنوات الأولى، أجبرت السيطرة الاجتماعية والحصص التمييزية ضد النساء في التعليم والتوظيف العديد منهن إلى المكوث في البيوت، والسعي نحو التقاعد المبكر أو ممارسة أعمال غير رسمية أو الانشغال بشؤون الأسرة[15]. كما سعت العديد من النساء إلى الحياة في المنفى، فيما بقيت كثيرات في الوطن وقاومن.

جاءت ردة الفعل الأولية تجاه هذه السياسات الجذريات من النسوة العلمانيات. لقد أنشئن عددًا من المنظمات التي ارتبطت مع تفرقها بالتوجهات اليسارية. غير أن النظام سرعان ما أغلق هذه المنظمات فور نشوب الحرب مع العراق عام 1980. ثم ظهرت العديد من الناشطات النسويات الإسلاميات مثل زهرا رهنورد المتأثرة بكتابات علي شريعتي ومرتضى مطهري*، اللائي سعين لتكوين نموذج أصيل للمرأة المسلمة “الگوي زن مسلمان”[16] على نمط صورة ابنة النبي السيدة فاطمة وحفيدته السيدة زينب اللتان كانتا ربات للبيوت وشخصيات عامة في الوقت نفسه[17]. وبدلاً من الحديث عن المساواة، تحدثت أولئك الناشطات عن الطبيعة التكاملية للرجل والمرأة، وبررت بعضهن تعدد الزوجات بالقول بأنه يحمي الأرامل والأيتام. ورفضت معظمهن الاعتراف بالناشطات النسويات الغربيات، فضلاً عن محاولة التواصل معهن، حيث رأين أن هؤلاء الناشطات يعملن على تأليب النساء على الرجال ويثرن الشكوك حول أسس وسلامة شريعة الإسلام[18]. وبدلاً من هذا، فهن يؤكدن على الأسرة باعتبارها مركز المجتمع وعلى المرأة باعتبارها مركز الأسرة[19]، ومن ثم كانت مراكز رعاية الأطفال النهارية مضرة بهن[20]، غير أن إغلاقها أوقف كثيرًا من النساء عن العمل. قبلت الناشطات الإسلاميات التقاليد الإسلامية (القرآن والحديث، والشريعة والاجتهاد) كدليل كافٍ لتأكيد كرامة المرأة ورفاهيتها[21].

في بداية سنوات الحرب مع العراق، كان النقاش حول وضع المرأة ممنوعًا، واستمرت السلطات في تقديم المرأة باعتبارها أمًّا وزوجةً مهمتها الأساسية هي إنتاج رجال لمجهود الحرب. لتحقيق مجد الإسلام والأمة. وفي نهاية الثمانينات، بدأت تظهر المعارضة في شكل سياسات التذمر. أخذت النساء في الشكوى في كل محافل الحياة اليومية، في سيارات الأجرة والحافلات وطوابير الخبز والمحلات والمكاتب الحكومية من القمع واقتصاد الحرب والحرب نفسها. وبهذا، شكلن محاكمة للرأي العام غير القابل للقمع والذي لم يعد من الممكن تجاهله. لقد وضعتهن التعبئة من أجل المجهود الحربي بالفعل في مكانة نموذج المرأة المسلمة بما جعلهن يشعرهن بقوتهن. وبعيدًا عن أوهام الرجال حول النساء، أصبح حضورهن حقيقة. وفي غضون عشرين عامًا، أدى اهتمام النساء غير المسبوق بالتعليم إلى أكثر مما هو مضاعفة لمعدلات معرفة القراءة والكتابة؛ حيث وصل هذا المعدل إلى 74% عام 1997. وبحلول عام 1998، كان معدل التحاق البنات بالجامعات أكبر من الأولاد. وبالنسبة للشابات، لم تكن الجامعات مجرد مكان للتعلم، فقد كانت مكانًا لتكوين الصداقات واكتساب المكانة الاجتماعية وفرص أفضل في مجال العمل وكذا الالتقاء بشريك الحياة.

فيما لم تترك الحاجة المالية الماسة لكثير من النساء فرصة إلا البحث عن وظيفة في الاقتصاد الفوري، فإن معظم سيدات الطبقة الوسطى والميسورات اخترن العمل خارج منازلهن كي يكن حاضرات في المجال العام. وفي منتصف التسعينات، احتلت النساء نصف المناصب في القطاع الحكومي، وأكثر من 40% في قطاع التعليم. أما النساء المحترفات، ولا سيما الفنانات والكاتبات، فقد عاودن الظهور تاركات منفاهن المنزلي. فانخرطت العشرات من صانعات الأفلام في مجالهن التنافسي، وفازت نساء بجوائز  أكثر من الرجال في مهرجان الفيلم الإيراني عان 1995[22]. وفي الحقيقة، جعلت الظروف الاقتصادية للأسرة المرأة أكثر حضورًا من أي وقتٍ مضى. لقد أجبرت الصعوبات الاقتصادية المستمرة في الثمانينيات الرجال على ممارسة مهنٍ متعددة وقضاء ساعات أطول بعيدًا عن منازلهم، لذا لم يكونوا أبدًا بالمنزل. وبالتالي، انتقلت كل الأعمال المنزلية والخارجية حصرًا إلى النساء[23]. بالإضافة إلى هذا، في ظل هذا النظام الأخلاقي، شعر الرجال التقليديون بسهولة السماح إلى بناتهم وزوجاتهم بارتياد المدارس أو الظهور في الفاعليات العامة. لقد رفعت خطب وصلوات الجمعة من الحضور العام لنساء الأسر التقليدية الذين كان عليهن البقاء في قيود مساكنهن القاسية. هذا الحضور العام منح النساء ثقة بالنفس، ومهارات اجتماعية جديدة، ومعرفة بالمدينة، وشجع الكثيرات منهن على العودة إلى مدارسهن أو التطوع في المنظمات الحكومية أو الجمعيات الخيرية.

لم تعن نضالات النساء اليومية ومقاومتهن للحكومة الإسلامية، خاصة فرضها للحجاب، رفضهن للتدين. لقد أظهر الكثير منهن التزامًا دينيًّا[24]. غير أنهن أصررن على الاختيار الفردي والاستحقاق الذاتي بما مثل تحديًّا لدعاوى الجمهورية الإسلامية المساواتية وأسس الإسلام التقليدي. أرادت النساء ممارسة الرياضة، والالتحاق بوظائف مرغوبة، والدراسة والاستماع إلى الموسيقى وعزفها، والزواج ممن يردن وأن يكون لهن الحق في اختيار الحجاب، ورفض اللامساواة البائسة بين الجنسين. لم تردع صعوبة التعرق تحت رداء طويل وحجاب العديد من النساء من ممارسة الركض أو ركوب الدراجات أو الرماية أو سباقات السرعة، أو لعب التنس أو كرة السلة أو تسلق قمة إيفرست. ولم يمنعهن أيضًا من المشاركة في المسابقات الوطنية والدولية[25]. قد تبدو هذه التطلعات والمطالب دنيوية، غير أنها اعتبرت إعادة تحديد لوضعية المرأة في الجمهورية الإسلامية، إذ أن كل خطوة للأمام كان من شأنها أن تشجع مطالب أكبر لإزالة قيود أكثر من على النساء. ولكن، كيف يمكن حل هذه المعضلة الكبرى؟ هنا ظهرت النسوية ما بعد الإسلاموية لتضطلع بهذا التحدي.

كقطيعة مع الناشطات الإسلاميات، مثلت النسوية ما بعد الإسلاموية خليطًا من الإيمان والاختيار، والتدين والحقوق. لقد وضعت استراتيجية للتغيير من خلال الحوار والتعليم والتعبئة في إطار خطابي يدمج لغة الدين بالعلمانية. عظمت النسويات ما بعد الإسلامويات من استقلال واختيار المرأة مؤكداتٍ على المساواة بين الجنسين في كل المجالات. وبالنسبة إليهن، فإن النسوية، بغض النظر عن أصلها سواء كان دينيًّا، علمانيًّا أو غربيًّا، تتعامل مع تبعية المرأة بشكل عام. وكنسويات، فقد استخدمن خطابًا إسلاميًّا للدفع بالمساواة بين الجنسين في إطار قيود الجمهورية الإسلامية. غير أنهن أفدن أيضًا من النسوية العلمانية[26]. مثلت مجلات نسائية مثل “فارزانه” و”زان” و”زانان” هذا الاتجاه من خلال نشر المقالات التي تتناول على سبيل المثال سبل تحسين الحياة الجنسية والطبخ، وآداب النساء في إطار نسوي نقدي لتفكيك الأدب الفارسي الأبوي والنقاشات الدينية الشرعية. ساهم في هذه المقالات كتاب مسلمون وغربيون مثل فيرجينا وولف وجيلمان ودوبوفوار وفالودي[27]* .

كان التحدي الأكبر في مواجهة النسويات ما بعد الإسلامويات هو إيضاح أن المطالبة بحقوق المرأة ليست بالضرورة أمرًا غريبًا على الثقافة الإيرانية أو الإسلام. ولأجل هذه الغاية، فقد شرعن في تقديم تأويلات مرتكزة على المرأة للنصوص المقدسة، وهو الأمر الذي قامت به من قبلهن نسويات أوروبيات مثل هيلديجارد أو ف بينجن (1098- 1179) Hildegard of Bingen، وكريستين دي بيزان (1365-1430) Christine de Pizanوآنا ماريا فان شورمان (1607-1678)Anna Maria van Schurman  اللائي قمن بتفكيك الرؤى الإنجيلية حول خطيئة ودونية حواء/ المرأة[28]. ومن خلال هذا اللاهوت النسوي، تساءلت المفسرات حول التشريعات المعادية للمرأة والقراءة الحرفية للآيات القرآنية، لقد أكدن في مقابل هذا، على الروح العامة للإسلام التي رأين أنها في صالح المرأة. تجاوزت المفسرات النسويات اللائي تأثر منهجهن بالهيرمونيطيقا* والفلسفة والتاريخانية، المعاني الحرفية للآيات المقدسة لصالح استدلالات تماسية. على سبيل المثال، كي تدحض النسويات فكرة سمو  الرجال الطبيعي على النساء الذي استنتجته القراءة التقليدية من الآيات القرآنية مثل الآية 34 من سورة النساء “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ”، نقل كتاب مجلة زنان قاعدة التراتبية من الجنس إلى التقوى حيث قدمن آية خالية من التحيز النوعي “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” سورة الحجرات: الآية 13. ومن هنا فإن حضانة الأطفال ليست حقًا تلقائيًّا للرجل، كما تأمر بذلك الشريعة ولكنه مرتبط بالقدرة على تحيق المعيشة الكريمة للأطفال، وهو ما يشدد عليه الإسلام[29]، وبالتالي لم يعط القرآن الحق للرجال وحدهم في الطلاق أو أنه حرم النساء منه[30]. من ناحية أخرى، قدمت حيادية النوع في الأدب الفارسي حجة جدلية أخرى للنساء الساعيات نحو الحقوق المتساوية[31]. كان الجديد في النقاشات الدينية الحساسة للنوع، وبعيدًا عن رجال الدين المتنورين[32]، أن النساء هن من أرثنها وأنهن فعلن هذا على صفحات الجرائد الشعبية اليومية.

أثار النشاط النسوي انتباه المؤسسة الدينية، والرجال العاديين والنساء المحافظات. وحذر بعض آيات الله الناشطات “لا تشككوا في أصول الإسلام ولكن تشككوا في أفكاركم”، “من أنتم لتعبروا عن آرائكم … أمام الله ورسوله”[33]وأدانوا هؤلاء النساء “اللائي يتشككن في المؤسسات الدينية والحجاب والشريعة” ودخلت الناشطات الإسلاميات في مجلس الشورى الإسلامي على خط المواجهة. مثلت هذه الانتقادات مبررات لمخططات المحافظين والإعلام للتحرش بالحجاب السيئ، والنساء المتواجدات بالشارع وممارستهن للترفيه والرياضة، لقد هاجموا عودة “الانحلال والموضة والذوق الفردي”[34]. تعرضت مجلة “زنان” للمحاكمة وحظرت في النهاية. أما محسن سعيد زاده، رجل الدين الذي اشتهر بمقالاته النسوية التي أفزعت العلماء المحافظين، قد تعرض للسجن في يونيو 1998.

وعلى الرغم من كل هذه الضغوط، حققت هذه النضالات نجاحات معتبرة، حيث مكنت النساء من خلال التعليم والتوظيف وقانون الأسرة، ورفعت من تقدير النساء لذواتهن. لقد عادت الفرص المتساوية مع الرجال في التعليم مرة أخرى بعد الحصص المقيدة التي كانت في صالح الرجال. تم الحد من تعدد الزوجات جديًّا وقيد حق الرجال المطلق في الطلاق، أما زواج المتعة المسموح به دينيًّا فقد تم تشويهه. لقد صدرت قوانين جديدة تسمح بتسهيلات للمرأة العاملة وتلزم الدولة على توفير  أماكن لممارسة المرأة للرياضة[35]. علاوة على هذا تم إطلاق مشروع لمنع إساءة معاملة الزوجات[36]. أما حضانة الأطفال فقد تعرضت لنقاش مكثف، فيما أدى النضال من أجل تعيين المرأة كقاضية إلى السماح بتعيين نساء كمستشارات قانونيات في بعض المحاكم الدنيا، وكقاضيات مشاركات في المحاكم العليا. وفي العام 1997، تم اختيار 15 نائبة ليشكلن لجنة شؤون المرأة في مجلس الشورى[37]. وفي هذه الأثناء، غيرت هذه النضالات من علاقات القوى بين الرجال والنساء داخل الأسرة والمجتمع، لقد أظهر استطلاع عام للرأي عن الدور العام للمرأة أن 80% من المشاركين (من الرجال والنساء) يفضلون الوزيرات المشاركات في الحكومة، فيما لم يعارض 62% أن تنتخب سيدة لتولي الرئاسة[38]. لقد ثبت في النهاية أن التصور الغربي عن المرأة الإيرانية باعتبارها حالة عاجزة واقعة في عزلة المنزل ومختفية تحت شادور طويل أسود أنه مجرد تبسيط مبالغ فيه ومخل.

ليس ما سبق مغالاة في وصف حالة المرأة في الجمهورية الإسلامية؛ فقد استمرت العديد من أوجه انعدام المساواة البغيض بين الرجل والمرأة؛ مثل استمرار حق الرجال في الطلاق، وحضانة الأطفال، وتعدد الزوجات والإخضاع الجنسي، ولا زال للذكر مثل حظ الأنثييْن في الميراث. مع ذلك من الصحيح القول إن النضالات اليومية حطمت من التقسيم النوعي المعهود للمجتمع، أي أن يكون الرجال للشأن العام، والمرأة للشأن الخاص. وفي مواجهة عدائية شديدة لهن، فرضت نساء أنفسهن كفاعلات في الشأن العام. لذا، في نهاية التسعينيات شاركت مجموعات كثيرة من النساء في المئات من المنظمات غير الحكومية وشبكات التضامن الاجتماعي؛ فنظمن مسيرات، وشاركن في مؤتمرات المرأة الدولية وجمعن تأييد العديد من الساسة ورجال الدين وقمن بحملات في البرلمان. وعملت حوالي 30 مجلة نسوية على إيضاح الأفكار ونشرها والإعلان عن فاعليات وإقامة شبكات تضامنية. وانتشرت الأفكار النسوية داخل الجامعات مع وجود مجموعات الطالبات اللائي قمن بنشر النشرات الإعلانية عن قضايا النوع، وفي أواخر التسعينيات، أنشئت أربع جامعات إيرانية برامج لدراسات المرأة.

غير أن هذه الأنشطة المؤسسية لم تمثل إلا جانبًا ضئيلاً من نضالات المرأة. لقد ارتبطت النضالات الدائمة بممارسات الحياة اليومية التي تحدت الدولة الدينية وأسسها المذهبية؛ فقد مارست النساء التعليم والرياضات المختلفة مثل الركض وركوب الدراجات وشاركن في بطولات دولية، كما عملن في مهن احترافية، وأصبح منهن كاتبات وروائيات وصانعات للأفلام، وأيضًا سائقات لسيارات الأجرة والحافلات ووصلن إلى مناصب عامة عليا. وضعت هذه الأدوار العامة للمرأة الضرورات القانونية والاجتماعية على المحك، فأصبح من الضروري إعادة تكييف القوانين والأعراف المقيدة بحيث تتلاءم حاجات النساء العاملات في الشأن العام في إطار النظام الأبوي. على سبيل المثال، غالبًا ما أصبح النظام الجامع يتطلب من الفتيات العيش بعيدًا عن أسرهن، وهو ما كان سيعتبر أمرًا غير ملائم سابقًا. وهل كان على النساء اللائي يتولين مناصب عليا أن يحزن إذن سفر من أزواجهن لحضور مؤتمرات دولية؟. بالتالي، عمقت هذا النضالات والمثابرة اليومية من قبل النساء والشباب والطلبة من الجدل داخل الخطاب الديني ودفعت بتأويلات ما بعد إسلاموية للنصوص المقدسة. عبر المثقفون الدينيون عن هذه الرؤية الجديدة بشكل منظم.

مثقفو ما بعد الإسلاموية

في ذروة الهيمنة الدينية على المجتمع والدولة، رفعت مجموعة من رجال الدين والمثقفين ذوي النزعة الدينية لواء حملة خطابية ضد التأويلات التقليدية، فاتحين الطريق أمام إعادة التفكير الجاد في النصوص المقدسة. كانت هذه محاولة لضمان سلامة الدين ورشادة الدولة. ربما تذكّر هذه الحركة بشكل ما بحركة الإصلاح الديني في أوروبا في مواجهة الكنيسة الكاثوليكية، وتنقلت الأفكار ما بعد الإسلاموية عبر حقول اللاهوت والتشريع والمؤسسات الدينية ودمج الدين بالدولة. وكما في حركة الإصلاح الديني، فقد برزت المعارضة من داخل المؤسسة الدينية، والأكثر أهمية من خارجها[39].

ظهر مصطلح “روشنفكران ديني” أو المثقفون الدينيون للمرة الأولى في خطاب لمحمد خاتمي عام 1993، قبل فترة طويلة من توليه الرئاسة، وفيه رثى لحقيقة معاناة الإسلام والمسلمين الثوريين من “الفراغ النظري”[40]. لقد رأى أن هذا النوع الجديد من المثقفين ضروري ليحل محل “المتعصبين الدينيين المنشغلين بالله والمهملين للإنسان” والمثقفين العلمانيين الذين يركزون على الإنسان ويتجاهلون الله. إن المثقف الديني “يحترم العقل ويثمن الحرية” ولكنه يدرك أن الجسد أكثر من مجرد مادة وأن الإنسان أعظم من الطبيعة المجردة[41]. ومن هنا يصبح العقل والحقوق والدين عناصر أساسية في خطاب هؤلاء المفكرين. أتت نواة هذه المجموعة من خلفية طبقة وسطى، ثورية وعالم-ثالثية وقبل كل هذا، إسلاموية. لقد تأثر هؤلاء المثقفون على نحو متسق بأفكار حداثيين مسلمين مثل علي شريعتي ومرتضى مطهري وآية الله الخميني. وعمل الجزء الأكبر منهم كموظفين في الدولة الإسلامية خلال الثمانينات، حيث تم تعينهم في مناصب حساسة، وعمل بعضهم في مؤسسات ثورية مثل حرس الثورة الإسلامية “سپاه پاسداران انقلاب اسلامی” وفي الحوزات الدينية.

وفي غضون أكثر من عقدٍ، تحول هؤلاء فكريًّا وعبروا عن أفكارٍ مختلفة كليًّا عن أفكارهم السابقة وعن أفكار سابقيهم مثل علي شريعتي. أولاً، احتضن هؤلاء المثقفون الدينيون بوعي ذاتي الحداثة وأكدوا على أفكار من قبيل العقل النقدي “عقلانيات إ انتقادي” باعتباره جوهر الحياة الحديثة”، والرشادة وحقوق الإنسان والحرية والتعددية والعلم واقتصاد السوق الحرة. بيد أنهم أيضًا اعتنقوا الإيمان والروحانية والأخلاق الدينية. بالطبع، أكد عدد من المفكرين القدامى من الإصلاحيين ولا سيما جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، حتى معارضيهم من المحافظين على التوافق بين الإسلام والعلم والعقل. غير أن المثقفين ما بعد الإسلامويين رأوا أن الحداثة لا تتطلب فقط العلوم والتكنولوجيا “أي المكون الصلب” ولكن أيضًا عقلية وسلوكيات ومفاهيم جديدة “أي المكون الناعم”[42]. كما أن هؤلاء المثقفين تجاوزوا قناعات المفكرين الإصلاحيين القومية والعالمثالثية المعادية للاستعمار.

 ثانيًّا، تبنى المثقفون الدينيون توجهات ما بعد قومية. فلم يعودوا يلقون باللوم على القوى الخارجية والإمبريالية الغربية على أزمات أمتهم. ومن ثم اعتقدوا أن تخلف إيران إنما يعود إلى إرثها التاريخي من الاستبداد[43]. ومن هنا فإن التركيز يجب ألا يكون على المؤامرة الغربية المجردة ولكن على كيفية مأسسة مُثُل الحرية والديمقراطية داخل المجتمع. ثالثًا، كان المثقفون الدينيون ما بعد ثوريين، ومتجاوزين لفكرة الثورة. لقد اختبروا وتجاوزا الخطاب الثوري المرتكز  على مفاهيم الشهادة والشجاعة والنظام والعسكرية والحرية والعنف على وجه الخصوص[44]. وهي المفاهيم التي استمر الإسلاميون في تبنيها. وميز غياب اللغة الشعبوية عن الخطاب ما بعد الإسلاموي عن الإسلاميين على نحو واضح. وبديلاً عن هذا، أكدوا على مفاهيم الإصلاح والتسامح والاعتراف بالاختلافات والتعايش السلمي. وأخيرًا، كان المثقفون الدينيون ما بعد أيديولجيين. لقد رأوا في الأيديولوجيا تزمتًا ونقيضًا فكريًّا للتفكير النقدي الحر  وتقتضي خلق أعداءٍ. كما هاجم هؤلاء المفكرون ما بعد الإسلامويون بشراسة أدلجة الدين التي قام بها علي شريعتي ومرتضى مطهري[45]. ومن هنا قرأوا وتأثروا بكارل ماركس وكارل بوبر وأنتوني جيدنز، وديفيد هيلد وهوما (همايون) كاتوزيان وحسين بشيريه، غير أنهم لم يحاولوا أن يقيموا حوارًا مع المثقفين الإيرانيين العلمانيين المهمشين التي ساهمت أفكارهم حول السياسة والثقافة والمجتمع التي انتشرت عبر العديد من الجرائد في إحداث هذه النقلة الفكرية إلا قليلاً.

ربما مثل المثقفون الدينيون أول مجموعة مثقفة ما بعد كولونيالية في العالم الإسلامي. رفض مفكرو ما بعد الكولونيالية الاستشراق المعكوس، كما رفضوا النظر إلى كل من العالم الإسلامي والغرب ككيانات متمايزة وأحادية ولا تتغير، وأن يكون كل منهما في مواجهة الآخر. بالأحرى عملوا على فهم التميز والتغير والتنوع داخل كل منهما وخلق حوار بين هذيْن العالميْن. طبقًا لـ”كِيان”، “ليس الغرب مجرد مكان للهو الليلي، لكنه أيضًا معقل للإبداع الفكري والتقاني، إنه المكان الذي تثار فيه قضايا الإنسان الأساسية وتعالج[46]“يرى رجل الدين محسن كديور أن مفهوم “حوار الحضارات” لا يعني إلا تبادلاً بين الغرب والعالم الإسلامي، “فنحن نعطي شيئًا، ونأخذ شيئًا آخر.. وفيما نأخذ من الغرب الصناعة والتحديث وأنواع العلوم الاجتماعية والفلسفية، فإننا نقدم له المفاهيم الأخلاقية والتصوف”[47].

سعى المثقفون ما بعد الإسلامويين الذين تأثروا بعمق بالظروف الاجتماعية والسياسية في عقد التسعينيات لإعادة تحديد إمكانيات الدين في العصر الحديث للاستجابة إلى حاجات الإنسان المعقدة. ومن هنا، ارتكزت جهودهم الفكرية على بناء لاهوت جمهوري تندمج فيها مثل الحداثة والديمقراطية والتدين. وكان العقل والرشادة “عقلانيت ديني” عنصريْن أساسييْن في نظرتهم إلى الدين. إن القرآن دائمًا ما يدعو الإنسان إلى التفكير  وإعمال العقل والاكتشاف بدلاً من التقليد كما يشير الملا عبد الله نوري[48]. على هذا، فإن النصوص المقدسة لا يمكن فهمها إلا في ضوء إعمال العقل والتنعم فيها. وفي حقيقة الأمر، فإن الدين والحرية وجهان لعملة واحدة، “ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”[49]. فلا يمكن فرض الإيمان على الناس، إذ أن الإكراه يؤدي إلى شيوع النفاق، أما الكفار المعاندون المعادون، فسيسألهم الله وحده في الحياة الآخرة؛ “لذا، لا ينبغي أن نعاقب الكفر في الدنيا”[50].

معرفيًّا، دعا المثقفون الدينيون إلى قراءة تأويلية للنصوص الدينية ولا سيما القرآن الكريم، رافضين ما يسمى “التفسير الواحد الصحيح” للنص، أو “قراءة أهل العلم” الحصرية[51]. في الحقيقة، ود هؤلاء إنهاء احتكار رجال الدين للتفسيرات الدينية؛ حيث يعتاشون على الدين ويحتكرون المعرفة الدينية والمزايا الروحية[52]. قام هاشم آغاجاري وهو مفكر ومتطوع سابق في الحرب بشن هجوم ضارٍ على المؤسسة الدينية رافضًا أن يكون للعلماء دور ليس فقط في السياسة ولكن في الدين نفسه. ودعا من خلال “بروتستانتية إسلامية” المسلمين الأفراد أن يصلوا إلى حقائقهم الدينية بأنفسهم دون وساطة رجال الدين.

كان سؤال الحقيقة الدينية المقدسة قضية محورية في فسلفة الدين. كيف كان للمثقفين ما بعد الإسلامويين حقائق مختلفة لأديان مختلفة؟ وهل يعني هذا أن الحقيقة الدينية نسبية؟ تصدى الملا عبد الله نوري لهذه الأسئلة بجدارة أثناء استجوابه في محاكمة دينية عام 1999، حيث قال “إن نسبية الحقيقة شيء، والخطأ المعرفي شيء آخر”، وحاجج أنه “ببساطة، الحقيقة ليست واضحة”. أما في الإسلام “ففيما عدا الله، فإنه لا يوجد أي شيء مطلق”[53]..باختصار، “إن فكرة الدين كاملة، وصادقة ومقدسة، غير أن إدراكنا لها ليس كذلك، وفي حين أن فكرة الدين ليست عرضة للتغير، فإن وعينا دائمًا ما يتعرض للتغير”[54]. يرى المفكرون ما بعد الإسلامويين أن أهمية أي دين، ولا سيما الإسلام، لا تكمن في فقهه “أي نظامه الأدنى” ولا في طقوسه” بل بالأحرى في أخلاقه وقيمه. وليست التعاليم الفقهية ملزمة ما لم تتحول إلى قوانين، وعلى هذه القوانين أن تعكس الضرورات الاجتماعية التي قد تتعارض مع الشريعة.

ومع تطور أفكارهم، نبذ مثقفو ما بعد الإسلاموية فكرة ولاية الفقيه باعتبارها نمطًا غير مرغوب وغير ديمقراطي ومن ثم غير مقبول من الحكم؛ فحاجج عبد الكريم سروش بوضوح بأن إدارة المجتمعات الحديثة ممكنة فقط من خلال الرشادة العلمية في بنية ديمقراطية لا من خلال الدين[55]. كما أن الإسلام لم يكن متوافقًا فقط مع الديمقراطية، بل إن ارتباطهما ببعض حتمي. في الحقيقة، دعا المثقفون الدينيون إلى تأسيس دولة علمانية ديمقراطية متوافقة مع المجتمع المتدين. وقدم بعضهم مثل الملا السيد محسن سعيد زاده قراءة للنصوص الدينية محورها المرأة، بما منح النسويات ما بعد الإسلامويات موارد فكرية هامة للاستمرار في نضالهن. بهذا، كانت المجلة الشهرية النسوية “زنان” أختًا لـ”كِيان” جريدة المثقفين الدينين.

بكلمات أخرى، رفض هؤلاء المفكرون بشكل واضح مقولة “الإسلام هو الحل” وهو الشعار الشعبي السائد في أوساط الحركات الإسلامية في العالم العربي؛ حيث يرى هؤلاء المثقفون أن للإسلام حدوده في التعامل مع كل أزمات الإنسانية، والدين في جوهره ليس مجال الاهتمامات الدنيوية لكنه محل المعنى والحب والإخلاص والروحانية. وبهذه الروح، يجب أن يشجع الإيمان الديني، ليس فقط لأنه يجعل من الحياة متسامحة بجعله البشر قادرين على التعامل مع واقع الحياة القاسية، ولكن أيضًا بقدرته على منح البشر أليات للسيطرة الداخلية على شهوتهم في استغلال الآخرين، فيما تسهل الديمقراطية السيطرة عليها من الخارج[56].

لم يلقَ الفكر الديني الجديد الرواج فقط بين جمهور المتعلمين، ولكن أيضًا في أوساط الحوزات الدينية، وليس بين العلماء الكبار المعترف بهم، ولكن بشكل أساسي بين الملالي الصغار. حظت مجلة كيان الشهرية بنسبة متابعة كبيرة في مدينة قم؛ مدينة الحوزات العلمية[57]. وأخذ الملالي الصغار في نقد الإرث الثقافي والمعرفي للحوزة[58]، فلم تعد المعرفة الدينية مقتصرة على تدارس النصوص التقليدية، بل أخذت تعتمد بازدياد على أدبيات من خارج الحوزة، بما في ذلك، كتابات فلاسفة غربيين. لقد فقد الفقه حظوته لصالح اللاهوت والفلسفة، فيما تنحى المنهج النصي ليفسح الطريق أمام العقل والتأويلية.

لم تكن الأفكار التي عبر عنها المثقفون الدينيون بلا أخطاء أو أصيلة كليًّا. فلم يتحدثوا عن الاقتصاد إلا قليلاً. سجلت الخلافات والنقاشات المستمرة بين المجموعة، كما وضح في صفحات “كِيان” التطور الفكري للجماعة. يمكن أن نجد نظرية المعرفة التي استخدمها المفكرون الدينيون في كتاب عدد من الحداثيين المسلمين مثل الجزائري محمد أركون والمصري حسن حنفي والسوري محمد شحرور ، والمصري العلماني نصر حامد أبو زيد ولا سيما الأبحاث الكثيرة التي كتبت عن التعددية الدينية[59]. غير أن أهمية هذه الأفكار لا يكمن في أصالتها ولكن في الرواج الشعبي الذي حققته في السياق الإيراني المؤطر بالدولة الإسلامية. لم تهز هذه الأفكار  الأساس الفكري لرجال الدين التقليديين، والحوزات الدينية فقط، إذ أن تلاقيها مع استياء الشعب السياسي منحها قوة اجتماعية. لاقت هذه الأفكار الدعم أساسًا من بين الشباب المتعلم وذوي الميول الدينية وأيضًا من بين الإيرانيين العلمانيين خاصة في الطبقة الوسطى الحديثة، وقد تعرض الكثير منهم للتهميش السياسي[60]. وأخذت المنتديات العامة مثل قاعات المحاضرات والصحف اليومية في نشر  هذه الأفكار بين الفئات الاجتماعية الأخرى. ومن الملاحظ، أنها لاقت متابعة بين الطلاب اللاهوتيين، بمن في ذلك تلاميذ رجل الدين آية الله مصباح يزدي[61].

يعود تكوين هذه المجموعة باعتبارها نواة هذا التيار  إلى العام 1991، عندما دعا وزير الثقافة آنذاك محمد خاتمي إلى ضرورة تكوين مثقفين دينيين. انخرطت هذه المجموعة في حلقات قراءة ومشروعات بحثية وإلقاء محاضرات في البيوت أو في الأماكن الدينية. وتحول مقر  إصدار مجلة كيان في طهران إلى صالون ثقافي للفكر ما بعد الإسلاموي، فيما بدأت تتشكل حلقات فكرية جديدة وتترابط مع المثقفين الدينيين. فالتف الناشطون الإسلاميون الليبراليون “ميللي مذهبيه” حول مجلة “ايران إي فردا” وأقيمت الحلقات الفكرية في الحوزة الدينية بقم، مثل هؤلاء الذين التفوا حول مصطفى مالكيان وتلاميذ آية الله منتظري، من خلال مجلة “نقد و نظر”. وأسس المثقفون العلمانيون مجلة ” گفت و گو” وعددًا من الإصدارات الاجتماعية والأدبية.

واجه المثقفون الدينيون سؤالاً استراتيجيا وهو “ما الوجهة التالية”؟ رأى البعض أن عليهم أن ينشروا أفكارهم بين فئات اجتماعية أكثر اتساعًا من خلال تأسيس جريدة يومية وحزب سياسي. غير أن الضغوطات التي مارسها الإسلاميون المحافظون أثبتت مخاوف الآخرين ضمن المجموعة الذين رأوا أنه من السذاجة القيام بمثل هذه الأنشطة الراديكالية كونها قد تسبب ردود فعل عنيفة. ولنشر مشروعهم الفكري على مستوى الجماهير، رأى بعض أعضاء المجموعة أن هذا يقتضي وجود مناخ سياسي أكثر انفتاحًا. لقد احتاجوا أن يوجدوا هذا المناخ.

في الوقت الذي بدأت فيه الحركات النسوية والشبابية والمثقفون وموظفو الدولة في حشد أنصارهم نحو التغير الاجتماعي والفكري، شرع المثقفون الدينيون في التفكير كيف يمكن لمثل هذه الحركات الاجتماعية أن تستمر وأن تكتسب طاقة هائلة يمكن ترجمتها إلى تغيير سياسي على مستوى الدولة. ومن ثم، أصبح التطور السياسي شاغلاً من شواغل المجموعة. وأصبح غايتهم النهائية دمقرطة الدولة الأبوية الإسلامية، آملين أن يحققوا نموذج “الديمقراطية الدينية”، ويعود التوجه نحو التطور السياسي إلى بداية التسعينيات، عندما تعرض المثقفون الدينيون إلى تشريح البنية السياسية المغلقة لإيران. لقد صيغ هذا التطور بشكل منظم بتكوين فريق بحثي قاده سعيد حجاريان كان مقره في مكتب المركز الرئاسي للدراسات الاستراتيجية الذي تم إنشاؤه في عهد الرئيس رافسنجاني، لقد أصبح هذا المركز المقر التنظيمي والفكري للإصلاحيين السياسيين. وجمع حجاريان مجموعة موهوبة من المفكرين الاستراتيجيين ما بعد الإسلامويين، وأسند لكل منهم مشروع معين، مثل الدراسات الثقافية والفكر السياسي الإسلامي إلى جانب أخرى تتناول الثقافة السياسية في إيران وطبيعة الدولة والتحديث والنظريات السياسية والاستراتيجية ونظريات الثورة[62].

استخلص حجاريان أن التطور السياسي ضرورة لعدة أساب؛ أولاً: لكونه شرطًا مسبقًا للتنمية الاقتصادية (مثلما تشير الفكرة القائلة بأن الديمقراطية تفيد النمو الاقتصادي)[63]، وثانيًّا، أن يستطيع احتواء تداعيات إعادة هيكلة الاقتصاد خاصة مع تفاقم التفاوت والاضطراب الاجتماعي[64]. بالإضافة إلى العمل الفكري، اهتمت المجموعة بقضايا عملية؛ بدايةً بإنشاء جامعة لتدريب الكوادر الثقافية، ودعم المجتمع المدني، وإطلاق حملات “سلام” اليومية تمت تغطية ما توصلت إليه الدراسات في المجلة الشهرية “راهبورد” ولاحقًا في مجلة “أسر إي معا”.

أطلق نشاط المجموعة نقاشًا غير مسبوق حول طبيعة الدولة الدينية في إيران؛ وغالبًا ما تساءلوا حول أهمية مفهوم ولاية الفقيه. ورأوا، طبقًا لرؤيتهم الجديدة، أن الدولة الدينية يجب أن تحصل على شرعيتها من خلال إرادة الناس وهم وكلاء الله على الأرض[65] بغلبة الآراء والتوجهات وأنماط الحياة. ورأوا أن الفصل بين الدين والدولة هو شرط مسبق لقيام جمهورية دينية مثالية[66]. وكبداية للقيام بعملية تقويم في النظام، أيدوا فكرة أن يتم اختيار المرشد الأعلى، الذي سيعمل كقائد روحي لا سياسي، لفترة محدودة بالتصويت الشعبي المباشر[67]. وبهذه الطريقة ستصبح الجمهورية الإسلامية ديمقراطية مثلها مثل الديمقراطية الملكية البريطانية. دعت السياسة ما بعد الإسلاموية إلى العلمنة (بمفهوم الفصل المؤسسي بين الدين والدولة) ولم تدعُ إلى العلمانية (بمفهوم تقليص حضور الدين في المجتمع). عبّر مفهوم خاتمي “الديمقراطية الدينية” “مردم سالاري ديني” عن هذه الأفكار، وكان مرشدًا للسياسات الثقافية والاقتصادية وعلى مستوى العلاقات الدولية. ومثل مفهوم خاتمي عن “حوار الحضارات” وما تبعه من تحسين لعلاقات إيران بالدول العربية والآسيوية والأوروبية البعد الدولي لهذا المشروع.

بغض النظر عن الحديث المطول عن “الديمقراطية الدينية” لأكثر من عقد، ظل ما يعنيه المصطلح غامضًا[68]. بشكل عام يشير المفهوم إلى السعي نحو دمقرطة النظام الإسلامي الأبوي، دون فقد الجوانب الدينية الأخلاقية. ذلك لأن الحساسيات الدينية لا بد من احترامها، بالإضافة إلى كونها قيمًا لصيقة بالمجتمعات الإسلامية؛ بحيث من الممكن أن تلاقي الديمقراطية والحداثة نجاحًا في المجتمعات الإسلامية مثل إيران[69]. ولكن يبقى أن مكان الدين في هذا المشروع ما بعد الإسلاموي غير متفق عليه؛ خاصة مع تطور الرؤى والظروف السياسية المتغيرة. وفيما يرى بعض من هؤلاء المفكرين أنه من الكافي جدًا أن يكون نموذجهم المثالي للدولة الديمقراطية غير معادٍ للدين، فإن البعض الآخر مثل عبد الكريم سروش يرى أن الدولة الدينية هي التي تستجيب لحساسيات ومصالح الفئات المتدينة. ويرى رجل الدين، مجتهد شبستري، أن القوانين الدينية تنظم العلاقة بين الفرد والرب، غير أن الديمقراطية المرتكزة على حقوق الإنسان ستكون كافية لتنظيم العلاقات بين الأفراد والمجتمع الإسلامي، لاحقًا، أراد معظم هؤلاء المفكرين حذف صفة الديني من المفهوم، ليس فقط لأن الديمقراطية وحدها من شأنها تحقيق مطالب المجتمع المتدين، ولكن خوفًا من أن يستطيع الإسلاميون المحافظون أن يكيفوا المفهوم ويفرغوه من معناه[70]. وأخيرًا أكد هؤلاء المفكرون أن هذه الرؤية ستتحقق عبر استراتيجية غير عنيفة أي من خلال “التعبئة من أسفل والتفاوض من أعلى” كانت التعبئة من أسفل تسير على قدم وساق، فيما كان على التفاوض من أعلى أن يصارع عناصر من سلطة الدولة. لهذه الغاية، ترشح المثقف ما بعد الإسلاموي محمد خاتمي للانتخابات الرئاسية عام 1997، وقاد سعيد حجاريان حملته الانتخابية ليحقق فوزًا مؤزرًا.

تفسير النقلة ما بعد الإسلاموية

لماذا ظهرت ما بعد الإسلاموية، كحالة، وكمشروع وكحركة في إيران؟ على الأقل هناك ثلاثة عوامل عامة ساهمت في إحداث هذه النقلة؛ الأول، فشل وتناقضات المشروع الإسلامي التي حتمت إعادة التفكير في الإسلاموية من داخلها. والثاني؛ التغيرات الاجتماعية وتمثلت في (التعليم المتزايد، التمدين، والتحول الاقتصادي) وخلقت فاعلين (طبقة وسطى متعلمة، الشباب، النساء المتعلمات بازدياد، والوعي الحضري العام) الذين دفعوا بإحداث تغيرات سياسية واجتماعية. أما العامل الثالث فيتمثل في السياق العالمي لما بعد الحرب الباردة الذي وقعت خلاله هذه التغيرات.

كان من الحتمي أن يولد المشروع الإسلامي الذي أطلقه تأسيس الدولة الإسلامية المعارضة. لقد عورض نظام ولاية الفقيه منذ البداية من قبل غالبية آيات الله العظام[71]. وعلى الرغم من أن الولي الفقيه يحكم إلى جانب برلمان منتخب، فهناك العديد من القيود على تكوين الأحزاب السياسية، وهمش حق الفيتو الذي يمتلكه مجلس تشخيص مصلحة النظام الاتجاهات السياسية المختلفة. وبالتبعية ازداد استياء مناصري النظام المتحمسين من الهيمنة المتسعة للحكومة والصراع الداخلي بين أجنحتها، وأصبح الحلفاء السابقون خصومًا، فيما تم قمع المجموعات اليسارية العلمانية والتنظيمات السياسية العرقية.

في هذه الأثناء، لم ينجح النظام الاقتصادي، واستمر “الاقتصاد الإسلامي” كيوتوبيا متنازع عليها[72]، وفي النهاية تم حل هذا النزاع بوجود اقتصاد رأسمالي مشوه وغير ناجع. لقد تحسن توزيع الدخل مقارنة بما كان قبل الثورة، غير أن الدخل الفردي في نفس الفترة انخفض للنصف. ولعب الحصار الاقتصادي وتكاليف الحرب المدمرة مع العراق (90 مليار دولار أمريكي) وسوء الإدارة وغياب ضمانات تراكم رأس المال كعوامل لإضعاف الاقتصاد. أدت هذه الأوضاع إلى دفع المحاربين القدامى، المتذمرين من الخطاب الشعبوي للدولة الإسلامية، إلى أعمال الشغب في إسلامشهر، وشيراز، ومشهد وآراك، وخرامآباد[73]. وبالكاد استطاع العمال العمل وسط الإضرابات المستمرة للإبقاء على قوتهم الشرائية، فيما عانت الطبقة الوسطى مدفوعة الأجور والموظفون والفئات المميزة من قبل الثورة، من التضخم والركود. وأدت هيمنة الدولة على سلوك الأفراد ورفاهيتهم وتنظيمها الأخلاقي لحياة المرأة على نحو خاص إلى إحباط نساء وشباب الطبقة الوسطى الحضرية. وفي الجامعات، طردت الثورة الثقافية 180.000طالب من الدراسة، واثنين من كل ثلاثة في الكليات[74]. وقدر عدد الإيرانيين الذين غادروا البلاد بثلاثة ملايين[75]. كما تركت ملايين الدولارات العاملة والمستثمرة البلاد أيضًا.

في بداية التسعينيات، واجه الإيرانيون سؤالاً واقعيًّا أثارته الأزمات الاجتماعية المتفاقمة المرتبطة بالجريمة والطلاق والانحراف والإقصاء واللامبالاة وعدد السكان المتزايد والصراعات اليومية بين النساء وشرطة الأخلاق. كان هذا السؤال “هل هذا هو المجتمع الإسلامي الذي نبنيه؟” وشعر من في مواقع السلطة بهذا المزاج السيئ. اعترف آية الله البارز موسوي أردبيلي أنه “أخطاؤنا.. لقد استبعدنا ثلاثة أرباع الشعب.. إننا مسئولون عن هذه الصورة العنيفة والمخيفة والمقيتة والمتزمتة وغير العقلانية المعادية للعلم وغير الأخلاقية وغير الإنسانية للإسلام”[76]. أوضح استطلاع قامت به بلدية طهران وضع التدين الفردي المزري تحت حكم الدولة الإسلامية حيث وجد أن 73% من سكان طهران لا يتلون صلواتهم اليومية، و17% يقومون بهذا بشكل متقطع في مناسبات معينة، وارتفعت نسبة الطلاق وتناول المخدرات بشكل حاد، فيما ارتفعت ممارسة الرذائل بنسبة 635% عام 1999[77]. وورد أن هناك مليونيْ إيراني مدمنون للمخدرات. في العام 1996، سجل أكثر من 3 ملايين حالة جنائية غير قانونية في أمة كانت تعد بالسلام والانسجام الاجتماعي[78]. فلم يكن التضامن الإسلامي إلا خرافة.

كان الشباب، وهم أطفال الثورة السابقون، أكثر من يعنيهم الأمر. لقد أدى تحكم الدولة في رفاهية الشباب وكبتها لرغباتهم الشابة إلى خلق حالة من الاغتراب بين صفوفهم. لقد فزع المسئولون الرسميون عندما كشفت الإحصاءات لا مبالاة الشباب وعدائهم المتزايد تجاه الدين، رجال الدين، والدولة الدينية. فكيف كان للدولة أن تستوعب الشباب في السياسات الدينية التي هربوا منها؟ وأي بديلا أيديولوجي يمكن تقديمه لهؤلاء الذي طلقوا الإسلاموية؟

هنا، برزت ما بعد الإسلاموية كحل. أعلنت افتتاحية مجلة كيان عام 1993 أن “تحتاج الثورة الإسلامية اليوم أكثر من أي وقت إلى صياغة رؤية جديدة من شأنها أن تنقذ أجيالنا الحالية من الاضطراب العقلي، والعدمية والانحلال”[79]. لقد سهلت تعقيدات الدولة الإسلامية ظهور الرؤية الجديدة. أدت أسلمة الدولة المتزايدة إلى تزايد علمنة الشريعة، إذ أن الأخيرة لم تنجح في الاستجابة لمتطلبات الحياة العصرية المعقدة. أدى قرار الخميني لعام 1987، بجعل حكم ولاية الفقيه مطلقًا، بحيث يستطيع الفقيه أن يغير أو أن يتجاهل أي قانون أو أي قاعدة أو أي قرار قضائي ديني إذا ما ارتأى أن في قراره مصلحة للدولة إلى جعل الدين تابعًا للمصالح الزمنية وإلى استيلاء الفقيه على صلاحيات العلماء في التفسير المستقل للشريعة. ومما أفزع العلماء، أن فتاويهم وأحكامهم المتعلقة بالشأن العام أصبحت خاضعة لموافقة الولي الفقيه، وأن حصتهم من “حق إي إمام” أي تبرعات المؤمنين أصبحت مرهونة بإذن الولي الفقيه. وذلك لأن الدولة متمثلة في مجلس الخبراء أخذت على عاتقها مسئولية توزيع “الخمس” و”الزكاة” وفقد المجتهدون سلطتهم في توزيع رواتب تلاميذهم وأتباعهم. وأدت المحاكم الدينية الخاصة التي يحاكم فيها رجال الدين لتعبيرهم عن آراء شاذة إلى انتهاك حصانة العلماء الفكرية. حدث كل هذا في ظل ظروف وصم فيها الدمج بين الدين والدولة الشرعية الروحية والاجتماعية لرجال الدين، حيث ساوى الكثير من الإيرانيين بين إخفاقات الدولة والعلماء.

للمرة الأولى في التاريخ الحديث، يفقد الجزء الأكبر من العلماء الشيعة استقلالهم وكثيرًا من قوتهم التقليدية. وللمفارقة حدث هذا تحت سلطة دولة تعرف نفسها بأنها إسلامية. أدى الاعتماد المتزايد للعلماء على الدولة، التي تحكمها سلة من رجال الدين الأقوياء إلى قلق العلماء الشباب على مستقبلهم ومستقبل مؤسسة العلماء ككل. وعبر الكثير منهم عن هذه المخاوف علنًا؛ فقال أحدهم “إذا ما ربط الدين بالسياسية، فسيصبح كل أمر دنيوي وكل مشاكل الحياة اليومية معرفة بالدين، بما سيؤدي إلى انحطاطه وإنزاله من مكانته الروحية المقدسة إلى ألاعيب السياسة اليومية، يجب أن يصان الدين ويدخر إلى اليوم الذي تسقط فيه السياسة”[80].

على الرغم من أن لما بعد الإسلاموية جذورًا أهلية، غير أنها تطورت في ظل سياق عالمي خاص تمثل في انهيار الاتحاد السوفياتي وحلفائه، وانتصار الليبرالية، وعولمة لغة المجتمع المدني، والتعددية وحقوق الإنسان. لقد تبنى نشطاء ما بعد الإسلاموية العديد من هذه المفاهيم العصرية (المجتمع المدني وحكم القانون والشفافية والديمقراطية والمحاسبية) ودمجوها بالأخلاقيات الدينية ليخلقوا بديلهم الهجين لمجتمع كان يضطرب توقًا للتغيير[81].

ولكن، كيف تم بناء الحركة اجتماعيًّا؟ لقد أنتجت التغيرات الاجتماعية الكبرى التي حدثت منذ الثمانينيات الفاعلين الاجتماعيين، ولا سيما من الطبقة الوسطى المتعلمة والمزدادة فقرًا، والشباب الحضري والنساء الذين تطلعوا لإحداث تحولات سياسية واجتماعية. أولاً: أدت نسبة الخصوبة العالية التي تتمتع بها إيران 3.2% في الثمانينيات إلى جعلها واحدة من أكثر الأمم شبابًا في العالم[82]. وفي الوقت نفسه، انتقلت البلاد من كونها بلدًا شبه متعلم (48% عام 1976) لتصبح مجتمعًا متعلمًا. ففي غضون الأعوام الـ21  نفسها، ازداد عدد الطلاب بنسبة 266% بحوالي 20 مليون، أي حوالي ثلث عدد السكان. لقد تضاعف عدد طلبة الجامعة ثلاثة مرات، لقد أصبح في كل واحد من خمسة بيوت به طالبًا جامعيًّا أو خريجًا، بما في ذلك فتيات وسكان الريف[83].

وثانيًّا: أصبحت إيران سريعًا مجتمعًا حضريًّا؛ في العام 1996، كان 60% من السكان يعيشون في المدن مقارنة ب47% قبل عشرين عامًا من هذا التاريخ. لقد أدى التمدين الجماهيري إلى تفشي الفردانية الحضرية والتعبير عن الذات، وأنماط الحياة المتعددة والانفتاح على وسائل الإعلام ومطالب المواطنة الحضرية. وفي الوقت نفسه، زحفت الحضرية إلى المناطق الريفية، وغيرت من هياكلها المهنية، وتقسيم العمل ومعدلات التعليم وأنماط الاستهلاك فيها، فيما تمددت وسائل الاتصالات الجديدة ونشرت من الوسائط الإعلامية المطبوعة الإليكترونية، وسحب التعليم الجامعي الريف إلى مسار المدينة.

كانت النتيجة الرئيسة لكل هذا، انهيار مصادر السلطة التقليدية وظهور مصادر جديدة. فلم يعد ملالي الريف هم الرموز المسيطرة عليه، وبدا أن الأقدمية العمرية قد أفسحت الطريق إلى تقدير المنافسة. لقد انعكس هذا على المستوى الوطني في انهيار سلطة الأباء على الأبناء والمعلمين على التلاميذ، والخبراء الدينين على العوام، والأزواج على الزوجات[84]. وانقلبت الثنائيات الهيراركية رأسًا على عقب، بما دفع نحو بروز انقسامات وصراعات اجتماعية جديدة، وأخذت بنية الأسرة على المستوى الوطني في التحول. ومقارنة بشباب الشرق الأوسط الإسلامي، شهدت إيران ظهور تيار فردانية بارز[85]. وعكس تمدد أنماط الحياة الحضرية ومساكن الشقق هذه الفردانية، وعمقتها في الوقت نفسه.

في النهاية، شهدت البنية الطبقية تحولاً عميقًا تمثل في الانخفاض النسبي لأعمال البروليتاريا والأعمال المرتبطة بالدولة وشيوع وظائف الطبقة الوسطى[86]، ففي الفترة بين عامي 1976 و1996، التي زادت نسبة إجمالي قوة العمل الخاصة بمعدل 37% فقط، تضاعفت نسبة مديري الأعمال الخاصة ثلاث مرات، وازداد حجم موظفي القطاع العام بنسبة مذهلة 254%. في الوقت نفسه، فيما استقرت نسبة متقاضي الأجور الخاصة 6.5%، فإن نسبة العمال الذين يعملون لحسابهم في القطاع غير الرسمي ازدادت بمعدل 190%. أي أنه بشكل عام، كان هناك عدد متزايد ممن يعملون في ظروف عمل أكثر مرونة وفي وظائف طبقة وسطى، بما يعكس مدى متسع من خيارات الاستهلاك. غير أن إخفاق النظام الاقتصادي وانخفاض الدخل القومي أحبط تحقيق أنماط حياة الطبقة الوسطى[87].

من هنا، وفي منتصف عقد التسعينيات، كان يتم تكوين طبقة وسطى جديدة تتسم بالحجم الكبير، ورأس المال التعليمي والتطلعات المعولمة ووجود ظرف اقتصادي أقل بكثير مما كان عليه قبل الثورة من وفرة. شكلت الطبقة الوسطى الجديدة، المحبطة والمستاءة معنويًّا، للحركات ما بعد الإسلاموية التي دفعت بالمرشح الإصلاحي محمد خاتمي إلى سدة الرئاسة. لقد حازت ما بعد الإسلاموية إلى سلطة الدولة، فهل لها أن تكون بداية تحول ديمقراطي؟

هل كانت ما بعد الإسلاموية في موقع السلطة؟                        

كان الانتصار الانتخابي لمحمد خاتمي في 23 مايو ، والذي وصف بأنه الثورة الثانية، بداية لتنفيذ الأفكار الأساسية للسياسة ما بعد الإسلاموية، تلك التي شكلت التكوين الأيديولوجي لما أصبح يعرف بالحركة الإصلاحية. بمجرد تقلده منصبه، أتى خاتمي بالعديد من المفكرين ما بعد الإسلامويين في حكومته الجديدة ليصبحوا وزراء ووكلاء وزارات ومستشارين ونواب برلمانيين. هدفت استراتيجية حكومة خاتمي أن تمكن المجتمع المدني من الاسفل، وتتفاوض على تحقيق تحولات مؤسسية وقانونية من أعلى، حيث لا زال الإسلاميون المحافظون مسيطرين على السلطة الحقيقية، ويسيطرون على القضاء وعلى أجهزة الدولة غير المنتخبة ولكنها الأقوى، مثل (التليفزيون الحكومي، وأجهزة الأمن، ومجلس صيانة الدستور، ومجمع تشخيص مصلحة النظام، وخطباء الجمعة المتنفذين). وضع خاتمي على عاتق العديد من الوزارات مثل الداخلية والخارجية والمخابرات والتعليم العالي والثقافة، مهمة تسهيل استراتيجيات الإصلاح من أعلى، فيما شكل قادة الشبكات القاعدية التي ساعته في حملته الانتخابية، الجزء الأكبر من المحافظين والعمد والموظفين المحليين الجدد.

في هذه الأثناء، وعلى مستوى القاعدة، تمدد عمل مؤسسات المجتمع المدني والصحافة الحرة ونشاط الحركات الاجتماعية بين الطلاب والشباب والنساء وفي المنظمات غير الحكومية مكتسبًا طاقة جديدة. لقد اختفى جو الكبت والكأبة في الشوارع والمؤسسات الحكومية. لقد تمكن ما بعد الإسلامويين وهم في السلطة في التأسيس لخطاب للإصلاح ولضرورة التلاقي بين الإسلام والمثل الديمقراطية. لم يحدث من ذي قبل في التاريخ الإيراني الحديث أن أصبحت مفاهيم التعددية والديمقراطية والمحاسبية وحكم القانون والتسامح على هذا النحو من الذيوع والانتشار في ثقافة سياسية تحض على الأبوية والرعاية. كان هذا لحظة غير اعتيادية لمجتمع يولد من جديد حيث حرك الشعور بالحيوية والطاقة كل قطاع في المجتمع كي يقف على قدميه ويعبر عن نفسه.

بعد سنوات من الاستبعاد والتخويف الذي مارسه أنصار حزب الله، استعاد الشباب حضورهم في المجال العام؛ في الشوارع وفي الحدائق والمقاهي ومحال التسوق والمراكز الثقافية والحفلات والاستادات. كان معظم هؤلاء الشباب طلبة ومن ثم مزجوا التنظيمات الشبابية بالتطلعات الطلابية نحو تكوين حركة طلابية لها هوية وروح جديدة. ومع بقاء المنظمة الطلابية الرسمية في موقعها، ووجود دعم جديد من الحكومة الإصلاحية، نمت الحركة الطلابية سريعًا، وانتشرت عبر شبكات على امتداد البلاد، ونشرت مجلة طلابية في عمومها هي (آزار) و700 مجلة طلابية محلية وأسست 1437 جمعية ثقافية وعلمية واجتماعية[88]. والآن، مع وجود جيل جديد من الطلاب بقيادة جديدة ، شهدت الحركة نقلة أيديولوجية مدوية من السياسة الطوباوية الثورية الإسلامية العالمثالثية نحو نموذج ما بعد إسلاموي براجماتي قائم على الديمقراطية والحريات المدنية. وفي الوقت نفسه، اتحدت الطالبات عبر الحلقات النسوية النامية، وساهمن في حركة المرأة الإسلامية المزدهرة بالفعل[89]. لقد وسعت النساء من شبكاتهن، وأنشئن منظمات وإصدارات معبرات عن التطلعات النسوية والسياسية معًا.  لقد وصل عدد المنظمات النسائية إلى 230 عام 2000، و330 عام 2003[90]. وفي هذه الأثناء أيضًا عادت الجماعات المهمشة في المنفى وفي الداخل إلى المشهد السياسي. وفي العام 2000، تم تسجيل 95 منظمة وحزب سياسي جديد، ويشمل هذا 18 مجموعة إصلاحية، مقارنة بالعام 1997، حيث سجلت 35منظمة فقط[91]. وفي العام 2001، تم تأسيس 110 نقابة لأصحاب الأعمال، و120 جمعية عمالية[92]. فيما ظل واحد من كل ثلاثة عمال منتميًّا إلى بيت العمل، وهو المنظمة العمالية الأساسية[93].

كان أكثر الأشياء وضوحًا الطاقة التي خلقتها الصحف الجديدة. لقد أطلق الإصلاح فورة من الصحافة المطبوعة المستقلة والحرة نسبيًّا بشكل غير مسبوق في القرن الماضي. ظهر في عهد الإصلاح 2228 اسمًا صحفيًّا جديدًا، شمل هذا العدد 174 جريدة يومية[94]. وكان للطلبة والنساء صحفهم المتخصصة. ووصل عدد مطبوعات المرأة إلى 40 مطبوعة عام 2002، ومطبوعات الطلبة إلى 286 مطبوعة عام 2000[95]. وبدورها، أطلقت هذه الدوريات نقاشات حول الموضوعات المحظورة “التابوهات” ومنحت الإصلاح السياسي دفعة، ذلك الذي لم يجسد فقط النضالات الاجتماعية، لكنه أيضًا جعل الشعب واعيًّا بصراعات الأجنحة داخل الدولة.

ومن خلال هذا المجال العام النابض بالحياة، دفعت الجماهير المعبئة الانتصارات الانتخابية المدوية إلى الإصلاحيين على رأس النظام. ففي أول اقتراع عام على مجالس القرى والمدن في فبراير 1999، فاز المرشحون الإصلاحيون ب90% من 200000 مقعد[96]. لقد أصبح العديد من مجالس المدن قواعد دعم للإصلاحيين ومؤسسات التنمية الاجتماعية القاعدية[97]. في يناير 2000، تحكم الإصلاحيون في البرلمان. ومع إعادة انتخاب خاتمي في العام التالي، سيطرت الحركة الإصلاحية على معظم المؤسسات الانتخابية. وكنتيجة لسياسة الانفراج، تحسنت علاقات طهران بالغرب والدول العربية في الوقت الذي أثار نجاح حركة الإصلاح النظم السلطوية العربية. لقد خرجت الصحف العربية محذرة بأن تحقيق النموذج الإيراني، سيدفع إيران هذه المرة إلى تصدير “الانتخابات الحرة بدلاً من الثورة الإسلامية”[98].

فيما انتشرت عملية الإصلاح، شهدت الحركة علامات على الاختلاف. لقد أصبحت الأفكار النقدية حول ولاية الفقيه والدولة الدينية أكثر وضوحًا، وأخذ بعض ما بعد الإسلامويين المعروفين في الانتقال نحو المثل الليبرالية والعلمانية في المجال السياسي. في أغسطس 2003، انتقل حسين خميني، حفيد آية الله الخميني، إلى المنفى في العراق وأطلق حملة سياسية لإسقاط الدولة الدينية في إيران. فقد رأى أن الدولة الدينية الإيرانية هي “أسوء ديكتاتورية في العالم”. وفيما سهل الاتجاه نحو العلمنة تحالفًا واسعًا للجمهوريين العلمانيين (مثل الجبهة الجمهورية الجديدة، التي ربطت جمهوريي المنفى بجمهوريي الداخل)، فإن الإصلاحيين ذوي التوجهات الدينية قد أصابهم الفزع من هذه التوجهات. لقد مثلت الحركة الإصلاحية بخطابها المزاوج بين الدين والديمقراطية التحدي الأكثر جدية للإسلاميين المحافظين؛ فقد هدمت شرعيتهم السياسية والأخلاقية. في نظر العديد من الإسلاميين فإن الهجوم الخطابي ما بعد الإسلاموي كان مدمرًا للغاية، “إن هذا الاعتداء المستمر منذ خاتمي على مبادئنا المقدسة، بلغ مدى أبعد مما كان عليه أثناء البهلويين”[99].

سعى الإسلاميون المحافظون الذي شعروا بالهزيمة والإرباك بسبب هزائمهم الانتخابية الصادمة، للبحث عن فرص لاستعادة ثقتهم والمنافسة مرة أخرى. وإذا كانت الحركة الإصلاحية قد سعت نحو التعبئة من أسفل والتفاوض من أعلى، فإن هجوم المحافظين المضاد سعى إلى قلب هذه المعادلة، بإضعاف التعبئة الإصلاحية في المجتمع وشل الحكومة الإصلاحية من أعلى. ولهذا الغرض، شن المحافظون حملة خطابية مصحوبة بعنف يومي، لقد حرضوا على الأزمات واستخدموا القنوات الشرعية لقمع المعارضة وشل المؤسسات التي يسيطر عليها الإصلاحيون.

في فترة مبكرة عام 1996، عقد رجال الدين المحافظون في إحدى حوزات قم مؤتمرًا حاول أن يواجه الأزمة الأيديولوجية وأن يتصدى للتحدي ما بعد الإسلاموي. لقد دعا المشاركون في المؤتمر كبار رجال الدين والمرشد الأعلى أن يوضحوا وأن يدحضوا شبهات ما بعد الإسلامويين الدينية[100]. استهدف المناوئون عناصر الخطاب ما بعد الإسلاموي مثل التعددية الدينية والعلمنة والتسامح والديمقراطية قبل أي شيء تلك التي تهدم أسس النموذج الإسلامي. لقد أصبحت أوضاع الإسلام الدينية والاجتماعية مثل (الحقيقة الدينية، والشريعة، والحرية الدينية ورجال الدين والسياسة الدينية) موضوعات للصراع اللفظي العنيف. غير أنه مع انتخاب خاتمي، أصبح رد الفعل أكثر عدائية. لقد أعلن آية الله الخزعلي من مجلس صيانة الدستور أنه “لا يوجد ما هو أقذر من القراءة التعددية للدين” وحذر خاتمي من مغبة استخدام “مثل هذه المصطلحات في العلن”[101]. ورأى رحيم صفوي قائد الحرس الثوري الباسديران أن هذه الأفكار لم تخرج إلا من “أعدائنا لزرع الشك بين المسلمين”[102]. وأكدت جمعية رجال الدين المقاتلين في طهران “لا يجب أن نسمح لأصول الإسلام المقدسة أن تكون مادة للتأويلات المتعددة لهذا الشخص أو ذاك”[103]. وأعلن آية الله مصباح يزيدي “يجب أن نخرس هؤلاء الذين يدعون لقراءة جديدة للإسلام”[104]. ثم ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن أن “ولاية الفقيه هي استمرار لحكم الله، ومن يعارض هذا فهو مرتد منكر للدين”[105]. وحذرت منظمة أنصار حزب الله أنها “ستقصف أقلام هؤلاء الذين يكتبون بغير علم ضد ولاية الفقيه، وسنسفك دماءهم إذا فعلوا هذا عن عمد”[106].

في حقيقة الأمر، أصبح استخدام العنف اليومي بالنسبة للإسلاميين المحافظين أداة فعالة لممارسة السياسة. فمن خلال القمع بالوكالة أي باستخدام الأفراد العاديين كمخالب، هدف المحافظون إلى استعادة المجال العام. ووجدت المئات من المجموعات الثقافية شبه السرية المرتبطة بأنصار حزب الله والباسيج أرضًا خصبة للنشاط بعد وصول خاتمي إلى سدة السلطة. وأفسدت منظمة أنصار حزب الله التي تذكر بالعصابات الفاشية، بعنف العديد من المسيرات والمحاضرات والفاعليات الإصلاحية والعلمانية؛ حيث هاجمت المكاتب وقاعات الجامعات واعتدت على الأفراد، بل ارتكبت القتل والاغتيال بحق العديد من الإصلاحيين والمفكرين العلمانيين والنشطاء. وفي معظم حالات الاعتداء هذه، وقفت الشرطة مكتوفة الأيدي واكتفت بالمشاهدة. ومن قبض عليهم من المعتدين أطلق سراحه لاحقًا بأمر من القضاء[107].

ولقمع الفكر المعارض، أغلق القضاء المحافظ 108 جريدة يومية كبيرة بين عاميْ 1997 و2002، وأوقف الآلاف من الكتاب والصحفيين والناشرين الإصلاحيين أو فصلهم من أعمالهم. كما حوصرت الحركة الطلابية جديًّا بسبب العنف الذي مارسه أنصار حزب الله وإقالة النشطاء. لقد استطاع المحافظون بكفاءة تحييد العديد من المؤسسات الحكومية التي سيطر عليها الإصلاحيون. وفي بعض الأحيان، عمدوا إلى إنشاء مؤسسات بديلة، مثلما قام به الباسديران بإنشائه جهاز مخابرات خاص. والأكثر أهمية من هذا، أن سلطة الفيتو “الرفض” التي يتمتع بها مجلس صيانة الدستور، التي غالبًا ما باركها المرشد الأعلى، جعلت البرلمان الذي يسيطر عليه الإصلاحيون بلا سلطة حقيقية. وحتى مع منع النواب البرلمانيين من الترشح للانتخابات القادمة، عاد البرلمان مرة أخرى تحت سيطرة الإسلاميين المحافظين.  لذا لم تتغير سيطرة المحافظين على المؤسسات إلا قليلاً، حيث ظلوا يسيطرون على المؤسسات غير المنتخبة مثل الجيش والشرطة والباسديران والباسيج وأجهزة الدعاية والعديد من مجموعات الضغط. علاوة على هذا، سمح الاستياء الشعبي من مشروع الإصلاح للمحافظين أن يستكملوا انقلابهم السلطوي وأن يقضوا على عملية الإصلاح عندما انتقل كرسي الرئاسة إلى المرشح المحافظ محمود أحمدي نجاد عام 2004. ومع إحباط القواعد الشعبية للإصلاح، أدت اللامبالاة التدريجية التي استولت على الطبقة الوسطى والشباب والنساء إلى تحجيم القوة الاجتماعية للإصلاحيين. وساهم في هذا على وجه التحديد تفتت المعسكر الإصلاحي وافتقاده استراتيجية مشتركة تتلاقي عليها التصورات المتباينة عن إيران التي يريدها الإصلاحيون.

وعلى الرغم من فشلها في إزاحة الإسلاميين، فقد تمثل النجاح الأساسي للحركة الإصلاحية أساسًا في هدمها للشرعية السياسية والأخلاقية للإسلاموية. لقد نجحت في تحقيق هيمنة لمثل الديمقراطية والتعددية السياسية، إن لم يكن الاجتماعية بشكل غير مسبوق في إيران أو في الشرق الأوسط الإسلامي، خلا تركيا. لقد أكد الإصلاحيون بوضوح على أن المرء باستطاعته أن يكون ديمقراطيًّا ومسلمًا في آن. غير أن الحكومة الإصلاحية، مع ضعف قيادتها وتركز أنصارها في الطبقة الوسطى وبتركيزها على التغيير الخطابي وترددها في تعبئة الطبقات الدنيا ولا سيما الفقراء والطبقات العاملة والمدرسون، كانت غير قادرة على التعامل مع السلطات الإكراهية والشبكات الزبونية التي حازها منافسوهم المحافظون. بدلاً من هذا، أطلق المحافظون الساعون إلى الثأر عملية ضخمة سياسية وقانونية وعنيفة بشكل واضح لتعويض ما خسروه خلال سنوات الإصلاح. جسد أحمدي نجاد وحكومته هذا السعي المحموم، خاصة بالعودة إلى ثورية عقد الثمانينيات ببناء مصادر جديدة للشرعية يمكن القول أنها تمثلت في الشعبوية والراديكالية والخطاب المهدوي. لقد صمم المحافظون على محو أي إمكانية لوجود حكومة إصلاحية مرة أخرى. وسعوا إلى ترسيخ سلطتهم بما يتماشى مع رؤية آية الله مصباح يزدي مرجع أحمدي نجاد المذهبي بتخليص الجمهورية الإسلامية من مركبها الجمهوري وتحويلها إلى حكومة إسلامية لا تعمل فيها الانتخابات كمنصة للتعبير الحر عن الآراء والمعارضة ولكن لتأكيد الولاء للولي الفقيه، باعتباره أنه جوهر “النظام الإسلامي”[108].

من هنا، وتحت حكم أحمدي نجاد، تم إغلاق العديد من المنظمات غير الحكومية، وتم اعتقال المئات من المعارضين من طلبة الجامعات والنساء ونشطاء المجتمع المدني، وقمعت العديد من احتجاجات المعلمين وسائقي الباصات وعمال آخرين. لقد تم تقليص الدعم الحكومي، ووصلت الخصخصة مستويات جديدة؛ 18 مرة أكبر من معدلاتها بين عاميْ 2001-2003، وقلص معدل التضخم الذي وصل إلى 25% القوة الشرائية لمتقاضي الأجور بشكل حاد. لقد ركزت حملة أحمدي نجاد الانتخابية على محاربة الفساد وتوفير وظائف جديدة وإعادة توزيع عادلة لأموال النفط. ولكن تحت حكومته، بلغت معدلات الفساد والمحسوبية مستويات جديدة وازداد حجم من يعيشون تحت خط الفقر بنسبة 13% حيث بلغوا 10 مليون شخص طبقًا لمجلس الأعمال الإسلامي.

في ظل هذا، أحدث الخوف من الكابوس الذي قد تحققه فترة حكم ثانية لأحمدي نجاد، حماسة غير مسبوقة للمرشحين الإصلاحيين. لقد غيرت المنافسة الانتخابية الرئاسية بين أحمدي نجاد ومير حسين موسوي وجه الأمة السياسي. قام المتحمسون للإصلاح من الطبقات الوسطى الميسورة والطبقة العاملة، الذين لم يدلوا بأصواتهم في انتخابات العام 2005 السابقة، بالانتفاع بالجداول الانتخابية والانقسام داخل النخبة الحاكمة ليحولوا سنوات استيائهم الصامت إلى تحركات رائعة. وانتقل الشباب والنساء بطاقة كبيرة ليصبحوا قواعد الحركة النشطة، فنظموا مسيرات الجماهير في الشوارع في أجواء شبه احتفالية. غير أن نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز أحمدي نجاد مرة أخرى وسط دلائل واضحة على التزوير، حطمت آمال العديد منهم بما عمق الغضب في نفوسهم فتحول إلى حركة احتجاجية واسعة النطاق لم يكن لها سوابق في تاريخ الجمهورية. أطلق على هذه الحركة اسم “الحركة الخضراء”[109][110].

جسدت هذه الحركة، التي لم تكن نضالاً من الطبقة الوسطى ضد الحكومة الداعمة للفقراء، أو حربًا علمانية ضد الدولة الدينية، حركة ديمقراطية ما بعد إسلاموية تسعى إلى المواطنة في إطار أخلاقي. لقد حملت هذه الحركة التطلعات الكبيرة نحو حياة كريمة بلا خوف ورقابة أخلاقية وفساد وحكم استبدادي. لقد مثلت، بكونها أهلية خالصة وسلمية في مبادئها، موجة خضراء للحياة والحرية[111].

انطلقت الحركة الخضراء قوية، غير أنها واجهت حملة قمعية عنيفة من قبل النظام الإسلامي. لقد أوقف العديد من المفكرين والإستراتيجيين وقادة الحملات على الفور، وأغلقت الوسائل الإعلامية الإصلاحية بالكامل وتوقفت وسائل الاتصال الحرة بين المواطنين. لقد أضعف الترويع والعنف الذي مارسته الدولة، حيث قتل على الأقل سبعون شخصًا واعتقل حوالي 4 آلاف شخص، والحملة الدعائية العصبية من قبل إعلام النظام، والمحاكمات الجماعية على النمط الستاليني المذاعة في التلفاز، والحرب النفسية، من زخم الشارع. ومع استمرار المعارضة الجماهيرية وخوف الحكومة من أن تنتقل أحداث الربيع العربي إلى إيران، قام النظام باعتقال رمزي المعارضة، مير حسين موسوي ومهدي كروبي ووضعهما تحت الإقامة الجبرية. على الرغم من قدرة النظام الإسلامي على الصمود، إلا أن أشياء كثيرة قد تغيرت؛ لقد واجهت النخبة الحاكمة أزمة شرعية حقيقة وانقسامات جدية، وأصبح المرشد الأعلى هدفًا للسخط الشعبي. لقد تجاوزت القضية مسألة التزوير نحو اختبار قدرة النظام الإسلامي على التكيف مع مطالب مواطنيه الواعين بحقوقهم. إن الحركة الخضراء على الرغم من عثراتها واختلافاتها، قد أشّرت على الأزمة العميقة للإسلاموية باعتبارها فكرة وحكومة وبشرت بصعود سياسة ما بعد إسلاموية في مستقبل إيران.


*  حي بائعات الهوى الذي عرف بـ”شهر نو/ المدينة الجديدة”، عملت به حوالي 1500 سيدة، وقامت الحكومة الإسلامية بهدمه وتسويته بالأرض ثم بنت عليه حديقة.

**  نواصي الشوارع

*  عبرت العالم-ثالثية Third-worldism  عن اتجاه بين مثقفي ومناضلي العالم الثالث نحو التضامن بين دول العالم المستقلة حديثًا وحركاتها التحررية بعد تصفية الاستعمار الأوروبي في مواجهة الهيمنة الإمبريالية الجديدة. ومن أبرز ممثلي هذا التيار في إيران الدكتور علي شريعتي.

*  كان الدكتور علي شريعتي (1933-1977) أهم منظري الثورة الإيرانية ضد شاه إيران رغم أن اغتياله قد حدث قبل اندلاعها، وقد عمل تثوير التراث الإسلامي وربته بالحركة النضالية اليسارية، وعلى الرغم من ثراء أفكاره وعميق أثرها على الإيرانيين قبل وبعد وفاته حيث أسس أهم مراكز التغيير والتثقيف الشعبي والعلمي المعروفة بحسينية إرشاد، عمد الملالي بعد هيمنتهم على الحكم إلى إغفال أثره وتراثه في دعايتهم الرسمية. أما مرتضى مطهري (1920-1979) رغم أنه قد ألقى محاضرات منتظمة في حسينية إرشاد مع شريعتي، فقد اتخذ تنظيره خطًا مغايرًا حيث جابه الأفكار الغربية المادية التي ترفع شعار الإسلام وإن أكد على التراث النضالي الإسلام، وأصبح بعد وصول الملالي للحكم المنظر الرسمي للثورة، وما لبث إلا أن اغتيل هو الآخر  في مايو 1979.

*  – فيرجينيا وولف Virginia Wolf (1882-1941): كاتبة وروائية إنجليزية شهيرة

–  شارلوت جيلمان Charlotte Perkins Gilman (1860-1935): كاتبة وعالمة اجتماع نسوية أمريكية اشتهرت بأفكارها الطوباوية التي ألهمت الحركة النسوية في القرن العشرين.

– سيمون دوبوفوار Simone de Beauvoir (1908=1986): الكاتبة والفيلسوفة الفرنسية الوجودية الشهيرة صاحب كتاب “الجنس الثاني”

– سوزان فالودي Suzan Faludi (1959_ ): صحافية وكاتبة نسوية أمريكية

*  الهرمونيطيقا Hermeneutics: التفسيرية والتأويلية هي منهج قديم في تفسير وتأويل النصوص المقدسة وكتب الحكمة القديمة حيث تحمل الكلمات على غير معانيها البسيطة البادية للقارئ، وبالتالي تقف هذه المدرسة في مواجهة المنهج الذي يتعامل مع النصوص المقدسة باعتبار أن ألفاظها مطلقة ونهائية وليست بحاجة إلى تأويل وتفسير، أي المنهج الذي يؤكد على حرفية النص المقدس. وترتبط الهرمونيطقيا بالتأكيد على تاريخية النص وعلى تعدد دلالاتها وتنوع معانيه بحسب الظروف الزمانية والمكانية التي يعمل فيها. وتعود الهرمونيطقيا بجذورها إلى الفلسفة الإغريقية وازدهرت مع انتشار الحركات الصوفية (الكابالا) في أوساط يهود أوروبا ثم ارتبطت بنقد الكتاب المقدس في عصور الإصلاح والتنوير، وانتقلت إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة على يد دلتاي وشلايرماخر ثم مارتن هايدجر. أما الحضارة الإسلامية فقد شهدت تيارات كلامية تدعو إلى تأويل القرآن وعدم أخذه بحرفيته وتمثل هذا التيار في حركة الاعتزال والذي انتقل تأثيره إلى حركات التشيع الباطني والإسماعيلي في القرن الرابع الهجري وارتبط بالفكر الشيعي الجعفري في العهد الصفوي، فيما انحسر الاعتزال كليًّا عن العالم الإسلامي السني مع تسيد المدارس الأشعرية والحنبلية التي روجت لحرفية النص الديني. وسنشير في ترجمتنا للهرمونيطقيا في بقية النص بمصطلح التأويلية.

[1] يعتمد هذا الفصل كليًّا على الفصلين الثالث والرابع من كتابي

Making Islam Democratic: Social Movements and the Post-Islamist Turn (Stanford: Stanford University Press, 2007),

وكل الاستشهادات بالفارسية هي من ترجمتي.

[2]Seyed Hossein Serajzadeh, “Non-attending Believers: Religiosity of Iranian Youth and iIts Implications forSecularization Theory” (a paper presented in at the World Congress of Sociology, Montreal, 1999); Aftab, 8 Ordibehesht 1380 (2001);
A. Kazemipur and A. Rezaei, “Religious Life under Theocracy: The Case of Iran,” Journal for the Scientific Study of Religion 42, no. 3 (September 2003): pp. 347–361.

[3] انظر

Morteza Nabawi, Resalat, October 27, 2001, p. 2.

[4] انظر

Jean-Michel Cadiot, AP Rreport, August 20, 2001, in IranMania.com, August 20, 2001.

[5]Charles Recknaged and Azam Gorgin, “Iran: New ‘Morality Police’ Units Generate Controversy,” in Radio Free Europe, Website, 200-7-July, 256, 2002, www.rferl.org/content/article/1100367.htm

[6] انظر

Ali Akbar Mahdi, “The Student Movement in the Islamic Republic of Iran,” Journal of Iranian Research and Analysis 15, no. 2 (November 1999): p. 10.

[7]Statement by Mohammad Jawad Larijani, in Resalat, 9-10-1373 (December 30October 9, 1994).

[8]Farzad Taheripour and Masoud Anjam-Sho’a, “Gostaresh-e Amoozesh-e Aali va Touse‘’e-ye Jam‘’iyyat-e Daaneshjoui” [The Eexpansion of Hhigher Eeducation and the Ggrowth of Sstudent Bbody], Barnaameh va Touse’e 2, no. 5 (Spring 1372/ [1993])

[9] للاطلاع على تحليل بارع، انظر؛

Majid Mohammadi, Daramadi bar Raftaar-Shenasi-ye Siyasi (Tehran: Intisharat-e Kavir, 1998), ibid

[10] Jawad Rahimpour, “Maziyyat-e Jonbesh-e Daneshjooi: Pratic ya Estrategic,” Iran-e Farda, no. 49, (Aban-–Azar 1377 [(1998]).

[11]                  According to student leader Heshmat Tabarzadi, see his interview in Hoviyat-e Khish, May 1, 1999, p. 8.

[12]                  See Daftar-e Tahkim va Vahdat-e Anjoman-haaye Eslami, “The Manifesto of the DTV,”on 16 Azar 1376 (1997).

[13]                  Nourooz, 11 Tir 1380 (2001), p. 10.

[14]                  See Parvin Paydar, Women and Political Process in Iran (Cambridge: Cambridge University Press, 1995).

[15]                  See Zahara Karimi, “Sahm-e Zanan dar Bazaar-e Kaar-e Iran,” Ettelaat-e Esiyassii-Eqtisadi, nos. 179–180, (Mordad-–Shahrivar 1381 [(2002]): pp. 208–219.

[16]                  Azar Tabari and Nahid Yeganeh, eds., Under the Shadow of Islam,[London: Zed Books] p. 17.

[17]                  Payam Hajar, no. 1, (19 Shahrivar 19, 1359 [(1980]): p. 2.

[18]                  Zanan, no. 42, (Farvardin-–Ordibehesht 1377 [(1998]): p. 3.

[19] مقتبس من

Zanan, no. 26p. 3.

[20]Maryam Behroozi, cited in Ettelaat, 3 Esfand 1361 (1982),: p. 6.

[21]Shahin Tabatabaii, “Understanding Islam in Its Totality Is the Only Way to Understand Women’s Role,” in Tabari and Yeganeh, eds., Under the Shadow of Islam, ed. Azar Tabari and Nahid Yeganeh.London: Zed Books, 1982,ibid., p. 174

[22]Zanan, no. 27p. 42.

[23] ملاحظات مسرات أمير إبراهيمي، في مقابلة في

“Tehran: Fragmented and Feminized,” Bad-Jens, 6th edition., (December 2002), www.badjens.com/sixthedition/i2.htmonline

[24]Abbas Abdi and Mohsen Goudarzi, Tahavvolat-e Farhangui dar Iran ([Cultural Ddevelopments in Iran)] (Tehran:, Entesharat-e Ravesh, 1999), p. 148.

[25]Zanan, no. 30[AQ: PROVIDE YEAR.1996]; see also Zanan, no. 9, (Bahman 1371 [(1991]).

[26]لاقت الناشطات ما بعد الإسلامويات تشجيعًا من قبل المنهج التعاوني لبعض النسويات العلمانيات. وللاطلاع على نقاش ومحاولات لبناء تحالف من النسويات ما بعد الإسلامويات والعلمانيات، انظر؛

Nayareh Nayereh Tohidi, Feminism, Islamgarayi va Demokrasy (Los Angeles: Ketabsara, 1996); also Nayereh Tohidi, her “Islamic Feminism: Women Negotiating Modernity and Patriarchy in Iran,” in The Blackwell Companion of to Contemporary Islamic Thought, ed. Ibrahim Abu-Rabi (Oxford: Blackwell, 2006pp. 624-643.

[27]Afsaneh Najababdi, “Feminism in an Islamic Republic: Years of Hardship, Years of Growth,” in Islam, Gender and Social Change, ed. Yvonne Haddad and John Esposito (Oxford: Oxford University Press, 1998), pp. 59–84.

[28]Gerda Lerner, The Creation of Feminist Consciousness (Oxford: Oxford University Press, 1993), pp. 138–166; Jane Bayes and Nayereh Tohidi, eds., Globalization, Gender and Religion: The Politics of Women’s Rights in Catholic and Muslim Contexts (London: Palgrave Macmillan, )2001), chap 2.

[29]تم التأكيد على الانتباه إلى الأطفال في آيات مثل “المال والبنون” (الكهف: 46) كما تجسد أقوال منسوبة إلى النبي مثل “الأطفال هم فراشات الجنة” و”لا إثم أكبر من إهمال الأطفال” أهمية رعاية الأطفال. انظر؛

Zanan, no. 38, (Aban 1376 [1997]): pp. 2–5.

[30]Zanan, no. 23, (Farvardin-–Ordibehesht 1374 [1995]): pp. 46–57.

[31] انظر على سبيل المثال،

Mehranguiz Kar, “Mosharekat-e Siyassi-e Zanan: Vaqeiyyat ya Khial,” Zanan, no. 47 (1998 pp. 12–13(

[32] رجال دين مثل آية الله بوجنوردي في حوزة قم، انظر؛

Farzaneh, no. 8.

[33]Jomhuri-ye Eslami, 12 Mehr 1376 (1997).

[34]Sobh Weekly, no. 32, (Aban 1375 [(1995]),; and Sobh Weekly, 28 Farvardin 1375 (1996).

[35] للاطلاع على القائمة، انظر؛

Zanan, no. 28, (Farvardin 1375 [(1996]): p. 3.

[36]Zanan, no. 38, (Aban 1376 [(1997]): p. 38.

[37] غير أن حصة النساء في البرلمان البالغة 6% كانت لازالت أقل بكثير من متوسط المعدل العالمي وهو 11.6%، ومع ذلك كانت أكبر من حصة النساء في العالم العربي وهي 4.3%. انظر؛

Zanan, no. 33p. 76.

[38] مقتبس من

Zanan, no. 34, (Ordibehesht 1376 ([1997]): p. 4; and Zanan no. 37, (Shahrivar-–Mehr 1376 ([1997]): p. 8; http://womenin iran.comwebsite, May 21, 2003.

[39] للاطلاع على دراسة جيدة عن الإصلاح الديني، انظر؛

Euan Cameron, The European Reformation (Oxford: Clarendon Press, 1991).

[40]Mohammad Khatami, Beem-e Mowj (Tehran: Sima-ye Javan, 1993), p. 139.

[41]Ibid., 198–205.

[42]A. Soroush, lecture on “Religion and the Contemporary World,” (lecture in Los Angeles, 1997), cited in Kiyan, no. 36 (April–May 1997): p. 56.

[43]Sadeq Zibakalam, Maa Chegooneh Maara Chenin Shodim? [How we became us?Tehran: Intisharat-e Rowzaneh, 1994].

[44] انظر؛

Hamidreza Jalaiipour, Pas az Dovvom-e Khordad,Tehran: Intisharat-e Kavir, 1999] pp. 76–78.

[45] انظر؛

Akbar Ganji, Tarik-khane-ye Ashbaah (Tehran: Tarh-e Nou, 1999), pp. 106–107; also A. Soroush, “Eideology va Din-e Donyavi,” Kiyan, no. 31, (Tir/Mordad 1375 [(1996]): pp. 2–11.

[46]Kiyan, no. 26, 1995, p. 9.

[47]see Mohsen Kadivar, Baha-ye Azadi [The price of freedom].Tehran: Nashr-e Ney, 1999], 153–154.

[48]Abdullah Nouri, Shukaran-e Eslah (Tehran: Tarh-e Nou, 1999), p. 256.

[49] طبقا لسروش في مقابلة مع روجر هاردي في خدمة BBC العالمية في برنامج عن الإسلام والديمقراطية

[50]Mohsen Kadivar, “Freedom of Thought and Religion in Islam” (paper presented in at the International Congress onf Human Rights and the Dialogue of Civilizations, Tehran, May 2001). See also his statement in Hambastegi, January 4, 2001, p. 3.

[51]A. Soroush, “Horriyat va Rouhaniyat,” in Kiyan, no. 24, (Farvardin-–Ordibehesht 1374 ([1995.pp. 2-11

[52]For instance, Soroush, ibid.; and Hashem Aghajari, “Islamic Protestantism

http://groups.yahoo.com/group/MewNews/message/8635;

Hashem Aghajari, Hokumat-e Dini va Hokumat-e Demokratik (Tehran: Moassesse-yeNashr va Tahghighat-e Zikr, 2002).

[53]Nouri, Shukaran-e Eslah, ibid., p. 242.

[54]Ibid., p. 243.

[55]A. Soroush, “Hasanat va Khadamat-e Din[AQ: CLARIFY TITLE: “Khatamat va Hasanat-e Din” Kiyan, no. 27, (Mehr-–Aban 1374 [(1995]): pp. 12–13; A. Soroush, “Tahlil-e Mafhum-e Hokumat-e Dini,” Kiyan, no. 32, (Shahrivar-–Mehr 1375 ([1996])pp. 2-13.

[56]Soroush, “Khatamat va Hasanat-e Din.,” ibid.

[57]Mojtahed Shabastari, interview by the author, Berlin, October 7, 2003.

[58]Mustafa Malekian, a teacher in the Qom Seminary, interview in Rah-e Nou 13, (Tir 1377 [(1998.pp. 18-26].

[59] على سبيل المثال، انظر؛

Richard Plantinga, ed., Christianity and Plurality (Oxford: Blackwells, 1999); Richard Wentz, The Culture of Religious Pluralism (Boulder: Westview Press, 1998).

[60]Kiyan 5, no. 26 (August–September 1995): pp. 46–49.

[61] طبقًا لما شاء الله شمس الواعظين، محرر كيان في مقابلة مع المؤلف في طهران 4 يناير 2004.

[62]Tajzadeh, interview in Payam-e Emrooz, no. 41, (Mehr 1379 [2000]): pp. 42–43. See also interview with Saiid Hajjarian, interview in Waghaye-e Ettefaghieh, 27 Tir 1383 (2004).

[63]As discussed by in Adam Przeworski, Symposium on “The Role of Theory in Comparative Politics: A Symposium,” World Politics 48, no. 1 (1996): pp. 1049.

[64]Saiid Hajjarian, interview in Baqi, Baraye Tarikh) Tehran: Nashr-e Ney, 2000( pp. 45–46.

[65]Nouri, Shoukaran-e Eslah, p. 262.

[66]Shukaran, Ibid., p. 226. Hamidreza Jalaiipour, interviewed by in David Hirst, “Modernists Take on Iran’s Mullas,” December 4, 1998, in Website,at www.walfie.guardian.co.ukwww.walfie.guardian.co. 12-4-1998.

[67]Jalaiipour, Pas az Dovvom-e Khordad, p. 191;. Akbar Ganji, in Rah-e Nou, no. 20, (14 Shahrivar 1377 [1998]).

[68] Youssefi Ashkevari, interview in Shahrvand, no. 491.

[69]Hashem Aghajari, a leader of the Organization of the Mojahedin of the Islamic RevolutionOMIR and an MP, in Iran, 5 Ordibehesht 1379 (2000).

[70] انظر؛

Hamidreza Jalaiipour, untitled article ion Internet Website “Rooydad,” 15 Mehr 1381 (2002), http://rooydadnews.blogspot.com/

[71] على سبيل المثال؛ آية الله أبو القاسم الخوئي، وآية الله شريعتمداري وآية الله محمد رضا قلبيقاني، وآية الله آراكي وآية الله منتظري (الذي رأى أن للوليّ الفقيه دور إشرافي فقط. وأيضًا أية الله شيرازي زعيم الشيعة البحرانيين والشيخ محمد حسين فضل الله (القائد الشيعي اللبناني)، في مقابلة مع المؤلف في (بيروت، ديسمبر 2005)

[72]Sohrab Behdad, “A Disputed Utopia: Islamic Economics in Revolutionary Iran,” Comparative Studies in Society and History 36, no. 4 (October 1994.pp. 775-813.

[73] الرقم مقتبس من تصريحات محسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري في

Iran-e Farda, no. 44, (Tir 1377 ([1998]): p. 16.

[74]                  For the urban riots of the 1990s, see Asef Bayat, Street Politics: Poor Peoples Movements in Iran (New York: Columbia University Press, 1997bid., pp. 106–108.

[75]                  Mohammad Maleki, “The Students and the Cultural Revolution,” Andishe-ye Jamehe, 25/26.27, (Shahrivar/Mehr/Aban 1381 ([2002]): p. 18.

[76]                  Akbar Torbat, “Farar-e Maghzha az Iran beh Amrika” [Brain drain from Iran to the United States], Aftab 32 (Dey–Bahman 1382 [2003]): 70–79.

[77]                  Ettela’at, 15 Farvardin 1377 (1998), cited in Iran-e Farda, no. 42, (Ordibehesht 1377 ([1998]): p. 34.

[78]                  Report given by Hojjat al-Eslam Muhammad Ali Zamm, head of the Cultural and Artistic Department of Tehran Municipality, cited in Bahaar, 15 Tir 1379 ([2000]),: p. 13.

[79]                  Kambiz Nowrouzi, “A Look at Judicial Figure,” Rah-e Nou, no. 1, (5 Ordibehesht 1377 [1998]): p. 15.

[80]                  Editorial, Kiyan, editorial, no. 12, volno. 3, (Khordad 1372 [(1993].p. 2.

[81]                  Kadivar, Baha-ye Azadi, ibid., p. 156.

[82] انظر على سبيل المثال،

Abdullah Nouri’s defense of such concepts during his trial, in Shoukaran-e Eslaah, ibid, pp. 265–268.

[83]                  Homa Hoodfar, “Devices and Desires: Population Policy and Gender Roles in the Islamic Republic,” Middle East Report 24, no. 190 (1994).pp. 11-17.

[84]                  Reported in Majid Mohammadi, Daramadi bar Raftar-Shenasi, ibid., p. 102 n. 21.

[85]                  Abdolali Rezaie, “Nime-ye Por-e Livan,” in Entikhab-e Nou [(New choice)], ed. A. Rezaie and A. Abdi (Tehran: Tarh-e Nou, 1376 [1997]), p. 118.

[86] اعتبر نصف الشباب الإيرانيين فقط أن هدفهم الرئيس هو “إسعاد آبائهم” مقارنة بـ80% من الشباب في مصر، و86% في الأردن.

Mansour Mo‘’addel “Religion, Gender, and Politics in Egypt, Jordan, and Iran: Findings of Comparative National Surveys”, unpublished report, 2002 p. 9.

[87]                  Sohrab Behdad and Farhad Nomani, “Workers, Peasants, and Peddlers: A Study of Labor Stratification in the Post-Rrevolutionary Iran,” International Journal of Middle East Studies 34, no. 4 (November 2002 (pp. 997-690.

[88]                  Alireza Rejaii, “Poverty and Political Developments in Iran,” in Poverty in Iran, ed. F. Raiis-dana, Z. Shadi-tala, and P. Piran (Tehran: School of Behzisti va Tavanbakhshi, 1379 [2000])

[89]                  According to Mustafa Moin, the Minister of Science and Technology Mustafa Moin, in Nourooz, 11 Tir 1380 (2001),: p. 10.

[90] للاطلاع على نقاش نظري عن إحياء الحركات الاجتماعية، انظر ورقتي؛

my “Islamism and Social Movement Theory,” Third World Quarterly 26, no. 6 (July 2005): pp. 891–908.

[91]                  Reported in the daily Iran, April 27, 2002. On women’s NGOs, see Hamidreza Jalaiipour, Jame’e Hsinasi-ye Jonbeshha-ye Ejtimaii (Tehran: Tarh-e Nou, 2003), table 4. Also see the Web site of Mohammad Ali Abtahi, 24 Esfand 1382 (2003).

[92]                  Reported in Aftab-e Yazd, December 14, 2000, p. 5.

[93]                  Hayat-e Nou, August 29, 2000.

[94]                  Hambastegi, June 23, 2001, p. 5.

[95]                  Issa Saharkhiz, lecture, in Amsterdam, June 24, 2004.

[96]                  Reported in Kiyan, November–January 1999, p. 57.

[97]                  Reported in Al-Hayat, February 19 and March 2, 1999.

[98]                  Kian Tajbakhsh, “Political Decentralization and the Creation of Local Government in Iran,” Social Research 67, no. 2 (September 2000): pp. 377–404.

[99]                  For a discussion of the influence of Iran oin the Middle East, see Asef Bayat and Bahman Baktiari, “Revolutionary Iran and Egypt: Exporting Inspirations and Anxieties,” in Iran and the Surrounding World, ed. Nikki Keddie and Rudi Matthee (Seattle: University of Washington Press, 2002), pp. 305–326.

[100]               Cited in Khordad, 7 Aban 1378 (1999).

[101]               Reported in Kiyan, no. 30 (June 1996): p. 43.

[102]               Reported in Azad, 11 Mehr 1378 (1999).

[103]               Cited in Hayat-e Nou, September 30, 2000, p. 3.

[104]               Cited in Khordad, 5 Mehr 1378 (1999).

[105]               Cited in Khordad, 27 Shahrivar 1378 (1999).

[106]               cited in Hambastegui, March 12, 2001, p. 2.

[107]               In Litharat, cited in Iran-e Farda, no. 41, (Farvardin 1377 [(1998]): p. 37.

[108]               According to Intelligence Minister, Ali Yunesi, in Ettelaat, 6 Shahrivar 1378 (1999).

[109] يعتمد هذا النقاش على

These discussions draws on my Asef Bayat, “Green Wave for Life and Liberty:, Open Democracy, 7 July 2009 in  http://www.opendemocracy.net/article/iran-a-green-wave-for-life-and-liberty

[110]           Ibid

[111] للاطلاع على تحليل مفصل عن الحركة الخضراء، انظر؛

Asef Bayat, Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East (Stanford University Press, 2013, 2nd edition), chapter 14, “The Green Revolt”.