مجلة حكمة
أفلاطون فِي الجماعية والتغلبية

كلام أفلاطون في الجماعية والتغلبية مأخوذا من المقالة الثامنة من كتاب “السياسة” / ترجمة: لطفي خير الله


كَلاَمُ أَفْلاَطُونْ(1) فِي اُلْجَمَاعِيِّةِ (2) وَ التغلبية(3) مَأْخُوذًا مِنَ اُلْمَقَالَةِ اُلثَّامِنَةِ

مِنْ كِتَابِ “السِّيَاسَةِ”(4) (555 ب- 569 س) (5)

عَنِ اُلتَّرْجَمَةِ اُلْفِرَنْسِيَّةِ(6)

(555 ب- 569 س)

1) أَفْلاَطُونْ، أَثِينِيُّ اُلْمَوْلِدِ وَاُلنَّشْأَةِ وَاُلْوَفَاةِ. وُلِدَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ 427 قَبْلَ اُلْمَسِيحِ، وَتُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ 347. تِلْمِيذُ سُقْرَاطَ، وَمُعَلِّمُ أَرُسْطُو.

2) وَمَعْنَاهَا يُشْبِهُ مِمَّا يُدَلُّ عَلَيْهِ اُلْيَوْمَ بِاُللَّفْظَةِ اُلْمُعَرَّبَةِ “الدِّيمُقْرَاطِيَّة”.

3) أَوْ إِنْ شِئْتَ “الاسْتِبْدَادِيَّةُ”.

4) اُلْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ “اُلْجُمْهُورِيَّةِ“. وَاُلْمُتَرْجِمُ يُقَدِّرُ تَأْلِيفَهُ بَيْنَ 384 و377.

5) تَرْقِيمُ صَفَحَاتِ اُلْكِتَابِ بِحَسَبِ اُلنُّسْخَةِ اُلْيُونَانِيَّةِ اُلْمُعْتَمَدَةِ.

6) تَرْجَمَةُ رُوبَارْ بَاكُّو. نَشْرُ غَارْنِيِي فَلاَمَرِّيُّونْ، بَارِيسْ:

Platon, La république; traduit par Robert Baccou. Garnier Flammarion, Paris, 1966.


بِسْمِ الله اُلرَّحْمَنِ اُلرَّحِيمِ

الأَشْخَاصُ اُلْمُحَاوِرَةُ فِي هَذَا اُلْفَصْلِ : سُقْرَاطْ، اُلْمُتَرْجِمُ عَنْ رَأْيِ أَفْلاَطُونْ، وَصَاحِبُ “قُلْتُ”. أَدِيمَانْتُوسْ، صَاحِبُ “قَالَ”.

اُلْجَمَاعِيَّةُ(1) :

   [555ب]- قُلْتُ : إِنَّهُ حَرِيٌّ الآنَ أَنْ يُطْلَبَ مَعْرِفَةُ مَا الرِّئَاسَةُ اُلْجَمَاعِيَّةُ وَكَيْفَ نَشْأَتُهَا حَتَّى يُعْلَمَ مَا خَوَاصُّ الرَّجُلِ اُلنَّظِيرِ لَهَا، فَيَصِحَّ قَضَاؤُنَا فِيهِ.

   قَالَ : نَعَمْ، وَ إِنَّا بِذَا لاَ نَخْرُجُ عَنْ نَهْجِنَا اُلْمُعْتَادِ.

   قُلْتُ : أَمَا تَرَى أَنَّ الاِنْتِقَالَ مِنْ رِئَاسَةِ اُلْيَسَارِ(2) إِلَى رِئَاسَةِ اُلْجَمَاعَةِ إِنَّمَا سَبَبُهُ شَهْوَةٌ لاَ تَرْتَوِي لِلْخَيْرِ اُلْمَطْلُوبِ، أَلاَ وَهْوَ بُلُوغُ أَعْلَى مَرَاتِبِ الثَّرَاءِ اُلْمُسْتَطَاعَةِ.

   قَالَ : وَكَيْفَ.

   قُلْتُ : إِذْ[555س] أَهْلُ الرِّئَاسَةِ فِي هَذِهِ اُلْمَدِينَةِ إِذْ يُوقِنُونَ أَنَّمَا سُلْطَانُهُمْ مَنُوطٌ بِِمَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْوَالٍِ كَثِيرَةٍ، فَلاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ سَيُحْجِمُونَ عَنْ سَنِّهِمْ حُكْمًا وَاحِدًا يَحْجِزُ الشَّبَابَ وَاُلْفِتْيَانَ عَنِ اُلْمَجَانَةِ وَاُلتَّبْذِيرِ وَإِنْفَاقِ خَيْرَاتِهِمِ اُلْمَوْرُوثَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَزَمُوا عَلَى الاِسْتِحْوَاذِ عَلَيْهَا بِالاِبْتِيَاعِ أَوْ بِالرِّبَا، لِيَزْدَادُوا ثَرَاءً إِلَى ثَرَائِهِمْ وَعَظَمَةً إِلَى عَظَمَتِهِمْ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : لَكِنْ، أَلَيْسَ مِنَ اُلْبَيِّنِ أَنَّ كُلَّ قَاطِنٍ، لاَ يَسَعُهُ أَنْ يَتَحَلَّى[555د] بِمَحْمُودِ اُلْعِفَّةِ وَقَلْبُهُ مُشْرَبٌ بِحُبِّ اُلْمَالِ. بَلْ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ مِنَ اُلُخَصْلَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا.

   قَالَ : قَوْلٌ بَيِّنٌ.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ فَإِنَّ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ فِي مَدِينَةِ اُلْيَسَارِ، بِإِهْمَالِهِمْ وَمُسَامَحَتِهِمْ عَلَى السَّرَفِ وَاُلْخَلاَعَةِ، فَقَدْ يَدْفَعُونَ بِرِجَالٍ مِنْ ذَوِي اُلْحَسَبِ إِلَى اُلْخَصَاصَةِ وَضَنَكِ اُلْعَيْشِ.

   قَالَ : بِلاَ مِرْيَةٍ.

   قُلْتُ : وَحِينَئِذٍ سَيَنْتَشِرُ فِي اُلْمَدِينَةِ أَقْوَامٌ ذَوُو حُمَاتٍ(1) مُدَجَّجِينَ بِأَنْواعِ الأَسْلِحَةِ : عَلَى مَعْنَى أَنَّ طَائِفَةً سَتَكُونُ مُثْقَلَةً بِاُلدَّيْنِ وَأُخْرَى قَدِ اِلْتَاطَ بِهَا اُلْعَارُ وَسُوءُ الأُحْدُوثَةِ وَأُخْرَى قَدْ نَالَهَا الشَّرَّانِ مَعًا. وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَعْظُمَ نِقْمَتُهُمْ مِنَ الَّذِينَ سَلَبُوهُمْ أَمْوَالَهُمْ، فَسَيَتَّخِذُونَ سَبِيلَ اُلْمُكَايَدَةِ وَالاِئْتِمَارِ بِهَؤُلاَءِ وَبِسَائِرِ أَهْلِ اُلْمَدِينَةِ وَسَيَطْلُبُونَ حَثِيثًا اِسْتِبْدَالَ الرِّئَاسَةِ.

   قَالَ : كَلاَمٌ صَوَابٌ[555 هـ].

   قُلْتُ : أَمَّا أُولاَئِكَ اُلْمُرَابُونَ فَإِذَا مَا سَعَوْا فِي اُلأَرْضِ، سَعَوْا بِرُؤُوسٍ مُنَكَّسَةٍ مُتَغَافِلِينَ عَنْ غُرَمَائِهِمْ. قَدْ آذَوْا بِخَيْرَاتِهِمْ كُلَّ الَّذِينَ أَضَرُّوهُمْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ اُلْمَدِينَةِ. بَلْ هُمْ قَدْ كَثَّرُوا فِيهَا[556أ] مِنْ جِنْسِ الزَّنَابِيرِ وَطَائِفَةِ اُلْمُتَسَوِّلِينِ وَأَصْحَابِ اُلْكُدْيَةِ، بِقَدْرِ مَا زَادُوا مِنْ فَوَائِدَ عَلَى رُؤُوسِ أَمْوَالِهِمْ.

   قَالَ : وَمَنْ يَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ بِخِلاََفِ مَا بَيَّنْتَ.

   قُلْتُ : وَمَعَ ذَاكَ الشَّرِّ اُلْمُسْتَطِيرِ، فَهُمْ لَنْ يَرُومُوا أَنْ يَحْسِمُوا مَادَّتَهُ لاَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا، بِأَنْ يُحَجَّرَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ يَفْعَلَ بِمَالِهَ كَمَا يَشَاءُ، وَلاَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وَهْيَ أَنْ يُسَنَّ حُكْمٌ يُبْطِلُ أَكْلَ اُلْمَالِ بِاُلْبَاطِلِ.

   قَالَ : وَمَا هَذَا اُلْحُكْمُ.

   قُلْتُ : إِنَّهُ حُكْمٌ قَدْ يُرَتَّبُ بَعْدَ اُلْحُكْمِ الزَّاجِرِ لِلْمُبَذِّرِينَ شَأْنُهُ أَنْ يُلْزِمَ كُلَّ قَاطِنٍ اُلْعَفَافَ وَالنَّزَاهَةَ. إِذْ لَوْ أَنَّ صَاحِبَ النَّامُوسِ كَانَ قَدْ نَهَى فِي عُمُومِ اُلْعُقُودِ الَّتِي تَتِمُّ طَوْعًا عَنْ أَنْ يَكُونَ[556ب] عَائِدُهَا اُلرِّبْحِيُّ مَضْمُونًا لِلْمُقْرِضِ، لَقَلَّ بِاُلْمَدِينَةِ الثَّرَاءُ اُلْفَاحِشُ وَلانْحَسَرَتْ الآفَاتُ اُلْمَذْكُورَةُ آنِفًا.

   قَالَ : نَعَمْ، لَقَلَّتْ كَثِيرًا.

   قُلْتُ : أَمَّا الآنَ فَإِنَّ الرُّعَاةَ بِسِيرَتِهِمْ تِلْكَ إِنَّمَا يَدْفَعُونَ الرَّعِيَّةَ إِلَى اُلْبُؤْسِ. ثُمَّ أَمَا تَرَى أَيْضًا أَنَّهُ سَيَنْبُتُ لَهُمْ أَبْنَاءٌ فِتْيَانٌ مُتَهَتِّكُونَ ذَوُو وَهَنٍ فِي اُلْجِسْمِ وَاُلْعَقْلِ خَنَاثَى لاَ يَصْبِرُونَ عَنْ لَذَّةٍ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ أَذًى[556 س].

   قَالَ : بَلَى.

   قُلْتُ : وَإِذْ هَؤُلاَءِ قَدْ عَلَّقُوا هِمَّتَهُمْ فَقَطْ فِي كَنْزِ اُلْمَالِ تَارِكِينَ كُلَّ عَمَلٍ آخَرَ، أَفَكَانَ اِجْتِهَادُهُمْ فِي كَسْبِ اُلْفَضِيلَةِ والاسْتِكْمَالِ سَيَزِيدُ عَلَى اِجْتِهَادِ الفُقَرَاءِ وَاُلْمُعْوِزِينَ.

   قَالَ : كَلاَّ، سَوْفَ لَنْ يَزِيدَ.

   قُلْتُ : إِذًا، وَلِتِلْكَ الأَشْيَاءِ، فَكُلَّمَا جَمَعَ مَقَامٌ رُعَاةً بِسُوقَةٍ، فِي سَفَرٍ أَوْ لِقَاءٍ أَوْ وِفَادَةٍ أَوْ جَيْشٍ، بَرًّا أَوْ بَحْرًا، أَوْ تَلاَحَظَ اُلْفَرِيقَانِ فِي اُلْمَهَالِكِ، فَلَنْ يَكُونَ اُلْفَقِيرُ اُلْمُزْدَرَى وَاُلْمُزْدَرِي اُلْغَنِيُّ[556د]، بَلْ كَثِيرًا مَا اُلْفَقِيرُ اُلْمَهْزُولُ اُلْمَلِيلُ، إِذَا اِتَّفَقَ فِي زَحْمَةٍ أَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِهِ مُتَنَعِّمٌ مُكْتَنِزٌ لَحْمًا قَدْ تَرَبَّى فِي بَرْدِ الظِّلاَلِ فَشَاهَدَهُ مَبْهُورًا ذَا بَلْبَالٍ، فَقَدْ يُسِرُّ فِي نَفْسِهُ : لَعَمْرِي مَا نَالَ أُولاَئِكَ الثَّرَاءَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِ جُبْنِ اُلْفُقَرَاءِ وَإِحْجَامِهِمْ. كَذَلِكَ اُلْفُقَرَاءُ كُلَّمَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَقَدْ يَتَذَامَرُونَ : “يَاقَوْمُ، هَؤُلاَءِ[556هـ] الرَّهْطُ اُلْخَالُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، أَلَمْ نَكُنْ لِنَفْعَلَ بِهِمْ مَا نَشَاءُ.”

   قَالَ : نَعَمْ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ أَنَّ هَذَا رَأْيُهُمْ وَمَا بِهِ نَجْوَاهُمْ.

   قُلْتُ : فَأَنْتَ تَرَى إذًا أَنَّ الأَمْرَ فِي بَدَنٍ ضَعِيفٍ قَدْ يَعْتَلُّ وَلَوْ لَمْ يُصِبْهُ إِلاَّ عَارِضٌ خَفِيفٌ أَوْقَدْ يَخْتَلُّ بِلاَ سَبَبٍ مُبَايِنٍ، هُوَ بِعَيْنِهِ الأَمْرُ فِي مَدِينَةٍ حَالُهَا كَحَالِ اُلْبَدَنِ اُلْمَذْكُورِ، إِذْ سَيَنَالُهَا كَذَلِكَ اُلشَّرُّ وَسَيَتَنَازَعُ أَهْلُهَا لِسَبَبٍ وَاهٍ، إِذَا اِسْتَصْرَخَ أَحَدُ اُلْحِزْبَيْنِ مَدِينَةَ اُلْيَسَارِ وَاُلثَّانِي مَدِينَةَ اُلْجَمَاعِيَّةِ، بَلْ قَدْ تَهِيجُ بِهَا اُلْفِتْنَةُ وَلَوْ لَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا هَاجِمٌ غَرِيبٌ.

[557 أ] قَالَ : نَعَمْ إِنِّي أَرَاهُ يَقِينًا.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ فَعِنْدِي إِنَّمَا تَكُونُ وِلاَدَةُ الرِّئَاسَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ حِينَمَا يَغْدُو لِلْبُؤَسَاءِ ظُهُورٌ عَلَى الأَغْنِيَاءِ، فَيُقَتِّلُونَ فَرِيقًا وَيَنْفُونَ فَرِيقًا وَيَتَقَلَّدُونَ بِاسْتِحْقَاقٍ وَاحِدٍ مَعَ مَنِ اِسْتَبْقَوْا الرِّئَاسَةَ وَاُلوِلاَيَاتِ اُلعَامَّةَ. بَلْ كَثِيرًا مَا تُعْهَدُ هَذِهِ اُلْوِلاَيَاتُ بِضَرْبِ اُلْقُرْعَةِ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّهُ لَكَذَلِكَ، إِمَّا بِقَهْرِ السِّلاَحِ أَوْ بِاُلْخَوْفِ الَّذِي يَضْطَرُّ الأَغْنِيَاءَ لِلاِنْعِزَالِ، إِنَّمَا تَسْتَتِبُّ رِئَاسَةُ اُلْجَمَاعَةِ.

   قُلْتُ : وَالآنَ فَلِنَنْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ تَدْبِيرُ[557ب] اُلْمَذْكُورِينَ لأُمُورِهِمْ وَمَا شَأْنُ النَّامُوسِ الَّذِي يَتَّبِعُونَ. وَمِنَ البَيِّنِ أَيْضًا أَنَّا قَدْ نَسْتَدِلُّ مِنَ اُلرَّجُلِ اُلْمُشَابِهِ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ اُلْجَمَاعِيِّ عَنْ خِصَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ.

   قَالَ : قَوْلٌ بَيِّنٌ.

   قُلْتُ : فَأَوَّلاً، أَمَا تَرَى أَنَّمَا هُمْ قَوْمٌ أَحْرَارٌ، وَمَدِينَتُهُمْ مُتْرَعَةٌ بِاُلْحُرِّيَةِ وَاللِّسَانِ اُلْمُطْلَقِ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخَلًّى هَوَاهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا يُحْكَى عَنْهَا.

   قُلْتُ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ كَانَتْ سُنَّتُهُمْ التَّخْلِيَةَ، جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَهْوَى مِنَ اُلْمَعِيشَةِ.

   قَالَ : نَعَمْ، إِنَّهُ مَعْلُومٌ.

   قُلْتُ : إِذًا، فَأَنْتَ مُلاَقٍ أَهْلَ اُلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ مُخْتَلِفِينَ اِخْتِلاَفًا كَثِيرًا لاَ تَلْفَاهُ أَصْلاً فِي أَيِّ مَدِينَةٍ أُخْرَى[557س].

   قَالَ : بِلاَ مِرْيَةٍ.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ هَذِهِ اُلْمَدِينَةَ هِي أَبْهَجُ اُلْمُدُنِ جَمِيعًا، إِذْ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ حُسْنَهَا تَامٌّ لِمَا يُرَى لَهَا مِنْ اِشْتِمَالٍ عَلَى جَمِيعِ اُلْخِلاَلِ، كَاُلثَّوْبِ اُلْمُوَشَّى الَّذِي يُرَى مِنْهُ أَلْوَانُ الأَصْبَاغِ. وَلاَ يَبْعُدُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ اُلنَّاسِ، أَحْلاَمُهُمْ كَالأَطْفَالِ وَعُقُولُهُمْ كَرَبَّاتِ اُلْحِجَالِ مُولَعِينَ بِاُلتَّوْشِيَةِ، سَيَجْزُمُونَ بِأَنَّهَا لَأَجْمَلُ اُلرِّئَاسَاتِ عَلَى الإِطْلاَقِ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ يَا صَاحِ، فَكُلُّ مَنْ رَامَ أَنْ يُصِيبَ صِنْفًا[557د] مِنَ النَّامُوسِ فَلِيَلْتَمِسْهُ هُنَالِكَ.

   قَالَ : وَلِمَ.

   قُلْتُ : لأَنَّهُ بِالتَّخْلِيَةِ اُلْفَاشِيَةِ فِيهَا سَوْفَ لَنْ يَعْدَمَ صُورَةً نَامُوسِيَّةً وَاحِدَةً. وَيُشْبِهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَبْنِيَ مَدِينَةً، كَمَا كُنَّا فَعَلْنَا آنِفًا، فَهُوَ مُضْطَرٌّ لأَنْ يَغْشَى مَدِينَةً جَمَاعِيَّةً تَكُونُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ دُكَّانِ اُلنَّوَامِيسِ حَتَّى يَخْتَارَ مِنْهَا أُنْمُوذَجَهُ اُلْمُؤْثَرَ، ثُمَّ هُوَ يُحِقَّقُ عَلَيْهِ مَقْصُودَهُ.

   قَالَ : ظَنِّي أَنَّهُ لَنْ يَعْدَمَ مَطْلُوبَهُ[557هـ].

  قُلْتُ : إِذْ فِي هَذِهِ اُلْمَدِينَةِ، فَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى اُلرِّئَاسَةِ لَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهَا، وَمَنْ أَنِفَ الطَّاعَةَ لَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهَا، وَمَنْ كَرِهَ اُلْحَرْبَ وَقَدَ حَارَبَ الآخَرُونَ لَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهَا، وَمَنْ أَبَى اُلسَّلْمَ وَقَدْ جَنَحَ إِلَيْهِ الآخَرُونَ لَنْ يُكْرَهَ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ لَوْ كُنْتَ غَيْرَ ذِي اِسْتِحْقَاقٍ لِلْوِلاَيَةِ أَوِ اُلْقَضَاءِ بِوَصْفِ اُلْسُّنَّةِ، فَأَنْتَ قَدْ تَتَقَلَّدَهُمَا بِمِلْكِ اُلْهَوَى. أَفَلَيْسَ ظَاهِرُ اُلْحَالِ أَنَّهَا حَالٌ رَبَّانِيَّةٌ شَيِّقَةٌ[558أ].

   قَالَ : بَلَى.

   قُلْتُ : ثُمَّ أَلَيْسَ لِينُ اُلْجَمَاعِيَّةِ مَعَ بَعْضِ اُلْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ لِينًا يُقْضَى مِنْهُ اُلْعَجَبُ. أَفَلَمْ تَرَ فِي هَذِهِ الرِّئَاسَةِ كَيْفَ أَنَّ رِجَالاً مَقْضِيًّا عَلَيْهِمْ بِاُلْمَوْتِ أَوِ النَّفْيِ لَمْ يُزَايِلُوا أَوْطَانَهُمْ، بَلْ ظَلُّوا يَطُوفُونَ بِهَا جِهَارًا، وَأَنَّ اُلْمُذْنِبَ لَيَتَنَقَّلُ كَمَا لَوْ لاَ أَحَدَ قَدْ يَرَاهُ أَوْ لاَ عَابِئَ قَدْ يَعْبَأُ بِهِ، كَأَنَّهُ بَطَلُ خَفَاءٍ.

   قَالَ : لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ كَثِيرًا.

   قُلْتُ : وَهَذِهِ الرِّئَاسَةُ[558ب] هِيَ مُتَسَاهِلَةٌ جِدًّا وَخَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ حَزْمٍ. بَلْ إِنَّ اُلْمَوَاعِظَ الَّتِي ذَكَرْنَا بِغَايَةِ الإِجْلاَلِ لِتَأْسِيسِ اُلْمَدِينَةِ اُلْمَرْجُوَّةِ هِيَ مَمْقُوتَةٌ لَدَيْهَا عَلَى النِّهَايَةِ. أَعْنِي مَا قُلْنَا إِنَّ اُلْمَرْءَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَا فِطْرَةٍ فَائِقَةٍ، فَمَا لَمْ يَتَأَدَّبْ مِنْ حَدَاثَتِهِ بِاُلْمَعَانِي اُلشَّرِيفَةِ وَيَرْتَضْ بِكُلِّ جَمِيلٍ حَسَنٍ، فَلاَ تَرْجُوَنَّ أَنْ يَكُونَ رَجُلاً صَالِحًا. بَلْ إِنَّهَا رِئَاسَةٌ خُلُقُهَا أَنْ تَنْتَهِكَ اُلْوَصَايَا اُلْمَذْكُورَةَ بِزَهْوٍ شَدِيدٍ وَأَنْ لاَ تُلْقِيَ بَالاً أَصْلاً لِلأَعْمَالِ الَّتِي تَرَبَّى عَلَيْهَا اُلْمُدَبِّرُ السِّيَاسِيُّ، إِذْ مَا تُقِرُّ لَهُ بِمَنْزِلَةٍ[558س] إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَمَلِّقًا لِلرَّعَاعِ مُتَوَدِّدًا إِلَيْهَا.

   قَالَ : حَقًّا إِنَّهُ لَخُلُقٌ يُوهِمُ اُلْكَرَامَةَ.

   قُلْتُ : لَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ خِصَالِ الرِّئَاسَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ، وَبَانَ لَنَا مِنْهَا أَنَّهَا تَسُرُّ النَّاظِرَ وَغَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ وَذَاتُ تَوْشِيَةٍ وَأَنَّهَا تَجْعَلُ لِغَيْرِ اُلْمُسَاوِي حَقًّا فِي اُلْمُسَاوَاةِ كَمَا لِلْمُسَاوِي.

   قَالَ : إِنَّ مَا قُلْتَ كُلَّهُ غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ.

   558  س- قُلْتُ : فَلِنَعْتَبِرِ الآنَ الرَّجُلَ اُلْمُضَاهِي لِهَذِهِ اُلْمَدِينَةِ. إِذْ بِاُلْوَاجِبِ، كَمَا قَدْ نَظَرْنَا فِي مَاهِيَةِ نَشْأَةِ اُلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ، أَنْ يُنْظَرَ أَيْضًا فِي مَاهِيَةِ نَشْأَةِ الرَّجُلِ اُلنَّظِيرِ لَهَا.

   قَالَ : لِنَعْتَبِرْ.

   قُلْتُ : [558د]رَأْيِي أَنَّهُ سَيَكُونُ عَلَى هَذِهِ اُلطَّرِيقَةِ : إِنَّهُ اِبْنُ رَجُلٍ خُلُقُهُ التَّقْتِيرُ وَكَأَهْلِ اُلْيَسَارِ، وَمَا تَأْدِيبُ أَبِيهِ إِيَّاهِ إِلاَّ عَلَى تِلْكَ اُلشِّيَمِ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : إِذًا فَهُوَ كَأَبِيهِ، إِذَا مَا تَحَرَّكَتْ فِيهِ شَهْوَةُ اُلإِنْفَاقِ اُلْمُنَافِي لِلْكَسْبِ، اُلْمَوْصُوفِ بِاُلْفُضُولِ، بَادَرَ إِلَى قَمْعِهَا بِقَهْرٍ وَشِدَّةٍ.

   قَالَ : حَقًّا.

   قُلْتُ : لَكِنْ أَلاَ تَرَى أَنَّا يَنْبَغِي أَوَّلاً أَنْ نُبَيِّنَ مَا اُلشَّهْوَةُ الضَّرُورِيَّةُ وَمَا فُضُولُ الشَّهْوَةِ، لِيَخْلُوَ كَلاَمُنَا مِنْ كُلِّ لَبْسٍ.

   قَالَ : بَلَى، إِنِّي لَأَرَاهُ.

   قُلْتُ : إِنَّا عَلَى صَوَابٍ لَوْ قُلْنَا إِنَّ الشَّهْوَةَ اُلضَّرُورِيَّةَ صِنْفَانِ، شَهْوَةٌ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِنْفَكَاكُ مِنْهَا أَصْلاً، وَشَهْوَةٌ فِيهَا صَلاَحُنَا[558هـ]. إِذِ اُلصِّنْفَانِ هُمَا مِنْ مُقْتَضَى اُلطَّبِيعَةِ.

   قَالَ : بِلاَ رَيْبٍ.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ صَحَّ تَسْمِيَتُهُمَا بِشَهْوَةِ[559أ] اُلضَّرُورَةِ.

   قَالَ : لَقَدْ صَحَّ.

   قُلْتُ : أَمَّا تِلْكَ الَّتِي لَنَا أَنْ نُبَايِنَهَا لَوْ رُضْنَا أَنْفُسَنَا مِنَ اُلاِبْتِدَاءِ عَلَى اُلزُّهْدِ فِيهَا وَاُلصَّبْرِ عَنْهَا، وَالَّتِي لَيْسَ يَتْبَعُهَا خَيْرٌ أَوِ الَّتِي قَدْ يَتْبَعُهَا شَرٌّ، فَالاِسْمُ اُلْمُطَابِقُ لَهَا هُوَ فُضُولُ اُلشَّهْوَةِ.

   قَالَ : نَعَمْ.

   قُلْتُ : أَلاَ لِنَأْخُذْ مِثَالاً لِكِلاَ اُلقِسْمَيْنِ نَسْتَأْنِسُ بِهِمَا لِفَهْمِ مَعْنَيَيْهِمَا اُلعَامَّيْنِ.

   قَالَ : لِنَأْخُذْ.

   قُلْتُ : فَشَهْوَةُ الطَّعَامِ إِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَى مَا لاَبُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ اُلصِّحَّةِ وَتَجْدِيدِ اُلْقُوَى، أَيِ اُلشَّهْوَةَ لِمُطْلَقِ اُلْقُوتِ وَمُطْلَقِ اُلتَّوَابِلِ، إِنَّمَا هِيَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ[559ب].

   قَالَ : هُوَ كَذَلِكَ.

   قُلْتُ : فَشَهْوَةُ اُلْقُوتِ ضَرُورِيَّةٌ لِسَبَبَيْنِ، أَوَّلاً : لِأَنَّهُ بِهِ صَلاَحُنَا، وَثَانِيًا : لِأَنَّهُ مَا لَمْ نَقْتَتْ تَعَذَّرَ عَلَيْنَا أَنْ نَحْيَ بَتَاتًا.

  قَالَ : نَعَمْ.

   قُلْتُ : كَذَلِكَ بَعْضُ اُلتَّوابِلِ الَّتِي تَنْفَعُ فِي تَجْدِيدِ قُوَانَا، فَشَهْوَتُهَا ضَرُورِيَّةٌ.

   قَالَ : عَلَى التَّمَامِ.

   قُلْتُ : أَمَّا اُلشَّهْوَةُ الَّتِي تَتَعَدَّى مَا قَدْ ذُكِرَ طَالِبَةً بِاسْتِقْصَاءٍ شَدِيدٍ أَنْوَاعَ اُلأَطْعِمَةِ اُلفَاخِرَةِ وَاُللَّذِيذَةِ جِدًّا، وَالَّتِي إِنْ زُجِرَتْ أَوَّلَ اُلْحَدَاثَةِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ جَازَ لِعَامَّةِ اُلنَّاسِ أَنْ يَتَنَزَّهُوا مِنْهَا زَمَنَ اُلْكِبَرِ، وَالَّتِي هِيَ مُؤْذِيَةٌ لِلْبَدَنِ كَإِيذَائِهَا لِلنَّفْسِ فِي صَرْفِهَا عَنِ اُلْحِكْمَةِ وَاُلْعِفَّةِ، فَالاِسْمُ اُلْحَقِيقُ بِهَا[559س] أَنْ تُسَمَّى بِفُضُولِ اُلشَّهْوَةِ.

   قَالَ : إِنَّهُ الاِسْمُ اُلْحَقِيقُ بِهَا حَقًّا.

   قُلْتُ : نَقُولُ إذًا إِنَّ اُلشَّهْوَةَ الثَّانِيَةَ هِيَ مُسْرِفَةٌ، وَالأُولَى نَافِعَةٌ لأَنَّهَا مِمَّا يُقْدِرُنَا عَلَى اُلْفِعْلِ.

   قَالَ : بِلاَ رَيْبٍ.

   قُلْتُ : وَمَا قِيلَ فِي شَهْوَةِ اُلْبَطْنِ يَسْرِي أَيْضًا فِي شَهْوَةِ اُلْفَرَجِ أَوْ فِي سَائِرِ اُلشَّهَوَاتِ.

   قَالَ : لاَ مَحَالَةَ.

   قُلْتُ : إِذًا فَالَّذِي كُنَّا قَدْ وَسَمْنَاهُ آنِفًا بِاُلزُّنْبُورِ إِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مَمْلُوٌّ مِنَ اُلأَهْوَاءِ وَالشَّرَاهَةِ قَدِ اِسْتَعْبَدَتْهُ فُضُولُ اُلشَّهَوَاتِ. أَمَّا الَّذِي لَمْ تَسْتَأْثِرْ بِهِ إِلاَّ شَهَوَاتُ[559د] اُلضَّرُورَةِ، فَذَلِكَ هُوَ الرَّجُلُ اُلْمَنْسُوبُ إِلَى اُلتَّقْتِيرِ وَاُلْمَعْنَى اُلْيَسَارِيِّ.

   قَالَ : يَقِينًا.

   قُلْتُ : وَالآنَ لِنَنْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ الاِنْتِقَالُ مِنَ اُلْمَعْنَى اُلْيَسَارِيِّ إِلَى اُلْمَعْنَى اُلْجَمَاعِيِّ. إِذْ يُقَارِبُ أَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَى ذَا اُلنَّحْوِ.

   قَالَ : وَمَا هُوَ.

   قُلْتُ : إِنَّ اُلْفَتىَ الَّذِي كَانَ قَدْ نَشَأَ كَمَا قَدْ رَأَيْنَا فِي اُلْجَهْلِ وَاُلتَّقْتِيرِ، إِذَا مَا ذَاقَ مِنْ عَسَلِ الزَّنَابِيرِ وَصَارَ قَرِينًا لِهَوَامٍّ لَسَّاعَةٍ وَمُوبِقَةٍ شَأْنُهَا أَنْ تُطْرِفَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ لَطِيفِ اللَّذَّةِ وَأَصْنَافًا لاَ مُتَنَاهِيَةً مِنَ اُلْمُتْعَةِ، فَلاَ شَكَّ أَنَّ وَازِعَهُ[559هـ] آنَئِذٍ سَيَنَالُهُ وَهَنٌ أَوَّلٌ، وَنَفْسُهُ سَتَأْخُذُ فِي اِنْحِرَافِهَا عَنِ اُلْمَعْنَى اُلْيَسَارِيِّ إِلَى اُلْمَعْنَى اُلْجَمَاعِيِّ.

   قَالَ : هَذَا وَاقِعٌ بِاُُلضَّرُورَةِ.

   قُلْتُ : وَعَلَى مِثَالِ اُلْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَتْ قَدْ حَالَتْ رِئَاسَتُهَا لَمَّا حِزْبٌ فِيهَا أَتَتْهُ نُصْرَةٌ مِنْ مُشَابِهِهِ مِنْ خَارِجٍ، كَذَلِكَ هَذَا اُلْفَتىَ إِنَّمَا يَحُولُ خُلُقُهُ حِينَمَا بَعْضُ شَهَوَاتِهِ تَأْتِيهِ نُصْرَةٌ وَمَدَدٌ مِنْ شَهَوَاتٍ أُخْرَى مُبَايِنَةٍ تُوَافِقُهُ فِي اُلْجِنْسِ وَالطَّبِيعَةِ.

   قَالَ : بِلاَ رَيْبٍ.

   قُلْتُ : وَإِذْ أَنَّ اُلْمَعَانِيَ اُلْيَسَارِيَّةَ اُلْبَاقِيَةَ سَوْفَ تَأْتِيهَا أَيْضًا نُصْرَةٌ مِنْ حَلِيفٍ، مُضَادَّةٌ لِلأُولَى[560أ]، فِي هَيْئَةِ تَحْذِيرٍ أَوْ مَلاَمَةٍ مِنْ أَبٍ أَوْ قَرِيبٍ، إِذًا فَلاَ مَنَاصَ مِنْ أَنْ تَهِيجَ اُلْفِتْنَةُ فِي نَفْسِهِ وَأَنْ يَثُورَ اُلشِّقَاقُ اُلْمُفَرِّقُ لِبَاطِنِهِ.

   قَالَ : لاَ مَنَاصَ.

   قُلْتُ : وَهُنَالِكَ فَقَدْ يَكُونُ أَحْيَانًا فِي نَفْسِ اُلْفَتىَ ظُهُورٌ أَيْضًا لِلْحِزْبِ اُلْيَسَارِيِّ عَلَى اُلْحِزْبِ اُلْجَمَاعِيِّ، حِينَئِذٍ سَيَنْتَابُهُ بَعْضُ اُلْخَجَلِ وَاُلتَّذَكُّرِ وَيَنْدَفِعُ إِلَى اُلشَّهَوَاتِ اُلْمَذْكُورَةِ مَحْوًا وَطَرْدًا حَتَّى يَرْتَجِعَ اِنْتِظَامُهُ الأَوَّلُ.

   قَالَ : ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْدُثُ.

   قُلْتُ : لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَشَهَوَاتٍ مِنْ سِنْخِ اُلشَّهَوَاتِ اُلْمَنْفِيَّةِ كَانَتْ قَدْ غُذِّيَتْ فِي كِتْمَانٍ سَوْفَ تَتَكَاثَرُ وَتَسْتَحْكِمُ قَوِيًّا[560ب]، لأَنَّ اُلأَبَ مَا كَانَ قَدْ أَحْسَنَ تَرْبِيَةَ الاِبْنِ.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا يَحْدُثُ عَادَةً.

   قُلْتُ : وَهَذِهِ اُلشَّهَوَاتُ سَتَرُدُّهُ إِلَى قُرَنَائِهِ الأُوَلِ بِعَيْنِهِمْ. وَبِمُخَالَطَتِهَا اُلْمَكْتُومَةِ لِفُؤَادِهِ سَتُوَلِّدُ فِيهِ شَهَوَاتٍ وَأَهْوَاءً أُخْرَى جَمَّةً.

   قَالَ : يَقِينًا.

   قُلْتُ : وَلاَ جَرَمَ أَنَّ أَمْرَهَا سَيُفْضِي أَخِيرًا إِلَى أَنْ تَسْتَأْثِرَ بِاُلْكُلِّيَّةِ بِاُلْحِصْنِ اُلنَّفْسِيِّ لِلْفَتىَ. إِذْ كَانَ الَّذِي قَدْ جَرَّأَهَا عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَتْهُ مِنْ خُلُوِّ اُلْفُؤَادِ مِنْ أَفْضَلِ اُلْحُرَّاسِ وَاُلذَّابِينَ عَنْ سِرِّ كُلِّ صَفِيٍّ لِلآلِهَةِ[560س]، أَعْنِي اُلْمَعْرِفَةَ وَاُلْعَادَاتِ اُلْحَسَنَةَ وَالأُصُولَ اُلْحَقَّ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّهَا لأَفْضَلُ اُلْحُرَّاسِ فَضْلاً عَظِيمًا.
قُلْتُ : إِذَنْ فَسَيَكُونُ تَقَاطُرٌ كَبِيرٌ لِلْمَعَانِي وَاُلظُّنُونِ اُلْكَاذِبَةِ وَاُلْمُمَوِّهَةِ، وَاسْتِيلاَءٌ تَامٌّ لَهَا عَلَى فُؤَادِهِ.

   قَالَ : ذَلِكَ كَائِنٌ لاَ مَحَالَةَ.

   قُلْتُ : حِينَئِذٍ سَتَرَى اُلْفَتىَ قَدْ أَنَابَ إِلَى أَكَلَةِ زَهَرِ اُلنِّسْيَانِ وَصَارَ مُقِيمًا عَلَى مُخَالَلَتِهِمْ جَهْرَةً عَلاَنِيَةً. وَلَوْ جَاءَهُ غَوْثٌ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ أَوْ رَحِمٍ لِيَعْضُدَ مِنْهُ اُلْجُزْءَ اُلنَّفْسَانِيَّ اُلْعَفِيفَ، فَإِنَّ اُلْمَعَانِيَ اُلْمُزَخْرَفَةَ سَتُوصِدُ أَبْوَابَ حَوْزَةِ قَلْبِهِ اُلشَّرِيفَةِ دُونَ كُلِّ رِفَادَةٍ أَوْ سِفَارَةٍ مِنْ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ مِمَّا قَدْ يُخَاطِبُهُ[560د] بِهَا ذَوُو الأَسْنَانِ مِنْ أَهْلِ اُلْحِلْمِ. إِذًا، فَفِي هَذِهِ اُلْمُنَازَعَةِ إِنَّمَا اُلْغَلَبَةُ لِلْمَعَانِي اُلْمَذْكُورَةِ، وَسَيَكُونُ أَمْرُهَا : أَنَّهَا سَتَعُدُّ خُلُقَ اُلْحَيَاءِ غَفْلَةً، لِذَلِكَ فَهْيَ سَتَجْهَدُ فِي نَفْيِهِ وَطَرْدِهِ شَرَّ اُلطَّرْدِ. وَسَتُسَمِّي خُلُقَ اُلْعِفَّةِ جُبْنًا، لِذَلِكَ فَهْيَ سَتَجْهَدُ فِي أَنْ تُهِينَهُ وَتُقْصِيَهِ. وَسَتَصِفُ خُلُقَ الاِقْتِصَادِ وَاُلقَصْدِ فِي اُلنَّفَقَةِ بِأَنَّهُ جَفْوَةٌ وَلُؤْمٌ، لِذَلِكَ فَهْيَ سَتَجْهَدُ فِي أَنْ تُبِينَهُ خَارِجًا. وَهَذِهِ اُلْمَعَانِي اُلْمُزَخْرَفَةُ إِنَّمَا تُعِينُهَا فِي كُلِّ ذَلِكَ أَهْوَاءٌ كَثِيرَةٌ مِنْ فُضُولِ اُلشَّهَوَاتِ.

   قَالَ : قَوْلٌ صَوَابٌ جِدًّا.

   قُلْتُ : ثُمَّ، مِنْ بَعْدِ أَنْ تَكُونَ قَدْ طَهَّرَتْ قَلْبَهُ وَنَقَّتْهُ مِنَ اُلْفَضَائِلِ اُلْمُحَلِّيَةِ إِيَّاهُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ تُعِدُّهُ لِمَعْرِفَةِ[560هـ] الأَسْرَارِ اُلْكُبْرَى، فَإِنَّهَا لاَ تَلْبَثُ أَنْ تَزُفَّ إِلَيْهِ هَذِهِ اُلْخِلاَلَ اُلبَرَّاقَةَ اُلْمَحْفُوفَةَ بِجَوْقَةٍ أَفْرَادُهَا كَثِيرٌ عَدِيدُهَا مُتَوَّجَةٌ رُؤُوسُهَا بِالأَكَالِيلِ، أَعْنِي : اُلْوَقَاحَةَ وَاُلْعَبَثَ وَالإِبَاحَةَ وَاُلْجَرَاءَةَ، اُلْمَمْدُوحَةَ وَالْمُبَهْرَجَةَ عِنْدَهَا بِأَسْمَاءٍ حَسَنَةٍ : مُسَمِّيَةً اُلْوَقَاحَةََ تَأَنُّقًا، وَاُلْعَبَثَ حُرِّيَّةً، وَاُلْفُجُورَ سَخَاءً، وَاُلْجَرَاءَةَ شَجَاعَةً[561أ]. كَذَلِكَ اُلْفَتَى الَّذِي كَانَ قَدْ تَعَوَّدَ عَلَى قَصْرِ شَهَوَاتِهِ عَلَى ضَرُورِيِّ اُلْحَاجَاتِ فَهُوَ لاَ يَلْبَثُ أَنْ يُرْخِيَ اُلْعِنَانَ لِفضُولِ الشَّهَوَاتِ وَمُوبِقَاتِهَا، وَاضِعًا عَنْهَا كُلَّ قَيْدٍ أَوْ إِصْرٍ.

   قَالَ : نَعَمْ هَذَا وَاقِعٌ بِلاَ خِلاَفٍ.

   قُلْتُ : وَأَنَا مَا أَرَى أَنَّ إِنْفَاقَهُ فِي مَعِيشَتِهِ لأَجْلِ فُضُولِ اُلشَّهَوَاتِ مَالاً وَجُهْدًا وَوَقْتًا سَيَكُونَ دُونَ مَا يُنْفِقُهُ فِي حَاجَاتِهِ اُلضَّرُورِيَّةِ. أَمَّا لَوْ عُصِمَ مِنْ أَنْ يُخْرِجَهُ اِسْتِهْتَارُهُ بِاُلْخَمْرَةِ عَنْ كُلِّ قَصْدٍ، فَإِذَا مَا اِكْتَهَلَ[561ب] وَخَبَتْ مِنْهُ سَوْرَةُ الشَّبِيبَةِ، فَقَدْ يَسْتَدْعِي بَعْضًا مِنَ اُلْمَعَانِي اُلْمَتْرُوكَةِ وَيَصِيرُ ذَا أَنَفَةٍ مِنْ أَنْ يَبْقَى مُنْقَادًا بِاُلكُلِّيَّةِ لِلْمَعَانِي اُلْمُزَاحِمَةِ الطَّارِدَةِ لِلأُولَى. بَلْ سَيُسَوِّي بَعْضَ اُلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَصْنَافِ اُلْمُتْعَةِ، وَنَفْسُهُ سَتُذْعِنُ لِلارْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ صِنْفٍ عَارِضٍ عُرُوضَ اُلْخَارِجِ بِضَرْبِ اُلْقُرْعَةِ. ثُمَّ لاَ يَلْبَثُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مُتْعَةٍ أُخْرَى، فَهَلُمَّ جَرَّا، بِلاَ اِسْتِقْذَارٍ لِوَاحِدَةٍ مِنْهَا أَلْبَتَّةَ، مُنْزِلاً لَهَا كُلِّهَا مَنْزِلَةً وَاحِدَةً.

   قَالَ : هَذَا صَحِيحٌ.

   قُلْتُ: أَيْضًا لَوْ جَاءَهُ اِمْرُؤٌ بِهَذَا اُلْكَلاَمِ اُلصَّادِقِ فَسَيَصُمُّ أُذُنَيْهِ مَانِعًا إِيَّاهُ مِنْ أَنْ يَتَسَوَّرَ قَلْعَتَهُ اُلْحَصِينَةَ، أَعْنِي اُلْقَوْلَ : اُللَّذَّةُ إِنَّمَا مِنْهَا[561س] مَا هُوَ صَادِرٌ مِنْ شَهْوَةٍ مَحْمُودَةٍ عَفِيفَةٍ، وَبَعْضُهَا صَادِرٌ مِنْ شَهْوَةٍ قَذِرَةٍ فَاسِقَةٍ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ نُعَظِّمَ الأُولَى وَنَجْعَلَهَا مَطْلُوبَنَا وَأَنْ نَرُوضَ الثَّانِيَةَ وَنَجْعَلَهَا مَقْهُورَةً مَقْمُوعَةً. بَلْ سَيُقَابِلُ كُلَّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مُنْكِرٍ، وَلَنْ يَزُولَ عَنْ دَعْوَاهُ بِأَنَّ كُلَّ اللَّذَّاتِ ذَاتُ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلاَ يَجُوزُ أَنْ نُخَسِّسَ وَاحِدَةً مِنْهَا إِطْلاَقًا.

   قَالَ : أَنَّى لِمَنْ أُوتِيَ مِثْلَ ذَاكَ اُلْخُلُقِ أَنْ يَأْتِيَ غَيْرَ هَذَا اُلْفِعْلِ.

   قُلْتُ : فَهُوَ إِذًا إِنَّمَا يَعِيشُ عَلَى غَيْرِ أَرَبٍ مُنْقَادًا لِكُلِّ هَوًى يَعِنُّ. فَيَوْمًا سَكْرَانُ مِنَ سَمَاعِ[561د] النَّايِ، وَيَوْمًا صَائِمٌ شَرَابُهُ مِنْ قَرَاحِ اُلْمَاءِ. وَتَارَةً هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى رِيَاضَةِ اُلْبَدَنِ، وَأُخْرَى بَطَّالٌ خَامِلٌ، وطَوْرًا يُرَى مُنْهَمِكًا فِي تَعَلُّمِ اُلْحِكْمَةِ. وَأَيْضًا هُوَ كَثِيرُ اُلْخَوْضِ فِي أُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَإِذَا مَا بَادَرَ إِلَى عُلُوِّهِ اُلْمِنْبَرَ، قَالَ وَفَعَلَ عَلَى مُقْتَضَى اُلْخَاطِرِ. وَكُلَّمَا غَبَطَ أَهْلَ صَنْعَةٍ اِنْتَحَلَ صَنْعَتَهُمْ. فَمَثَلاً لَوْ غَبَطَ أَصْحَابَ اُلْحَرْبِ، صَارَ مُحَارِبًا. أَوْ غَبَطَ أَصْحَابَ التِّجَارَةِ، صَارَ تَاجِرًا. فَكَذَلِكَ إِنَّمَا تَجْرِي حَيَاتُهُ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ. وَهْوَ مَعَ ذَاكَ لاَ يَبْغِي عَنْهَا حِوَلاً، بَلْ وَصْفُهُ إِيَّاهَا أَنَّهَا شَيِّقَةٌ حُرَّةٌ هَنِيَّةٌ.

   قَالَ : إِنَّهُ لَبَيَانٌ مِنْكَ مُسْتَوْفٍ لِمَا مَعِيشَةُ نَصِيرِ اُلْمُسَاوَاةِ[561هـ].

   قُلْتُ : فَاُلرَّجُلُ، عِنْدِي، إِذْ جَمَعَ كُلَّ أَصْنَافِ اُلْخِلاَلِ وَالشِّيَمِ، فَهْوَ بِعَيْنِهِ الرَّجُلُ اُلْمُوَشَّى اُلْمُضَاهِي لِلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ. وَلِتَعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، هُمْ ذَوُو تَوْقٍ إِلَى هَذِهِ اُلْمَعِيشَةِ اُلْمُشْتَمِلَةِ عَلَى عَامَّةِ اُلصُّوَرِ اُلْرِّئَاسِيَّةِ وَالأَنْمَاطِ اُلْخُلُقِيَّةِ.

   قَالَ : كَلاَمٌ مَفْهُومٌ.

   قُلْتُ : وَإِذْ صَحَّ اِسْمُ “أَخُ اُلْجَمَاعِيَّةِ” عَلَى الرَّجُلِ اُلْمَوْصُوفِ، فَقَدْ صَحَّ إِذًا تَرْتِيبُنَا إِيَّاهُ بِأَنَّهُ نَظِيرٌ لِلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ[562أ].

   قَالَ : فَلِيُرَتَّبْ.

 التغلبية :

   قُلْتُ : قَدْ بَقِيَ الآنَ أَنْ نَفْحَصَ عَنْ أَبْهَى أَنْوَاعِ اُلرِّئَاسَةِ وَأَجْمَلِ اُلضُّرُوبِ اُلْخُلُقِيَّةِ، أَعْنِي اُلتَغَلُّبَ وَاُلْمُتَغَلِّبَ.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا يَنْبَغِي عَلَى اُلتَّمَامِ.

   قُلْتُ : فَلِتَنْظُرْ مَعِي، أَيُّهَا اُلصَّدِيقُ اُلْعَزِيزُ، مَا هِيَ اُلْخِصَالُ الَّتِي بِهَا تُعْرَفُ رِئَاسَةُ اُلتَّغَلُّبِ، إِذْ هُوَ مُقَارِبٌ لِلْبَدَاهَةِ أَنَّ نَبَاتَهَا إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ اُلرِّئَاسَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ.

   قَالَ : يَقِينًا.

   قُلْتُ : فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الاِنْتِقَالَ مِنَ اُلْجَمَاعِيَّةِ إِلَى التغلبية هُوَ شَبِيهٌ بِهِ مِنَ اُليَسَارِيَّةِ[562ب] إِلَى اُلْجَمَاعِيَّةِ.

   قَالَ : وَكَيْفَ.

   قُلْتُ : أَفَلَمْ نَعْلَمْ بِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى نَشْأَةَ اُلرِّئَاسَةِ اُليَسَارِيَّةِ اِعْتِقَادُ اُلنَّاسِ فِي اُلْقُنْيَةِ أَنَّهَا هِيَ اُلْخَيْرُ اُلْمَطْلُوبُ.

   قَالَ : بَلَى، قَدْ عَلِمْنَا.

   قُلْتُ : وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي أَهْلَكَ الرِّئَاسَةَ اُلْمَذْكُورَةَ اُلْحِرْصُ اُلشَّدِيدُ عَلَى اُلْمَالِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ غَفْلَةٍ عَنْ جَمِيعِ مَا سِوَاهُ وَقِلَّةُ الاِكْتِرَاثِ.

   قَالَ : هَذَا حَقٌّ.

   قُلْتُ : كَذَلِكَ الأَمْرُ فِي اُلْجَمَاعِيَّةِ. عَلَى مَعْنَى أَنَّ اُلْحِرْصَ اُلشَّدِيدَ فِي هَذِهِ الرِّئَاسَةِ عَلَى مَا تَرَاهُ اُلْمَطْلُوبَ الأَعْظَمَ مِنَ اُلْخَيْرِ، هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخَرَابِهَا وَمُوجِبًا لِبَوَارِهَا.

   قَالَ : وَأَيُّ خَيْرٍ هُوَ.

   قُلْتُ : إِنَّهُ اُلْحُرِّيَّةُ. إِذْ فِي اُلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ[562س] لاَ يُسْمَعُ إِلاَّ قَوْلُ اُلْقَائِلِ : إِنَّ اُلْحُرِّيَّةَ هِيَ اُلْخَيْرُ الأَعْظَمُ، لِذَلِكَ فَكُلُّ رَجُلٍ مَوْلُودٍ حُرًّا، لاَ يُلاَئِمُهُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يُقِيمَ بِمَدِينَةٍ سِوَاهَا.

   قَالَ : كَلاَمٌ يُسْمَعُ كَثِيرًا، حَقًّا.

   قُلْتُ : فَهَا أَنَا الآنَ أُمْلِي مَا أَرَدْتُ أَنْ أُصَرِّحَ بِهِ آنِفًا، وَهْوَ أَنَّ حِرْصَ اُلْجَمَاعِيَّةِ اُلشَّدِيدَ عَلَى خَيْرِهَا اُلْمَذْكُورِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ غَفْلَةٍ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ هُوَ الَّذِي يَنَالُ هَذِهِ الرِّئَاسَةَ بِاُلتَّغَيُّرِ وَيَضْطَرُّهَا بِأَخَرَةٍ إِلَى أَنْ تَفْزَعَ إِلَى رِئَاسَةِ التَّغَلُّبِ.

   قَالَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ.

   قُلْتُ : إِنَّهُ فِي مَدِينَةٍ جَمَاعِيَّةٍ مُتَعَطِّشَةٍ إِلَى اُلْحُرِّيَّةِ، إِذَا كَانَ[562د] وُلاَّتُهَا سُقَاةً سَيِّئِينَ، فَإِنَّهَا سَوْفَ تَنْتَشِي مِنْ شَرَابِ اُلْحُرِّيَّةِ اُلصِّرْفِ اِنْتِشَاءً يَعْدِلُ بِهَا عَنْ كُلِّ اِعْتِدَالٍ أَوْ حِشْمَةٍ. لِذَلِكَ فَهْيَ إِنْ رَأَتْ مِنْ سَائِسِيهَا حَزْمًا قَلِيلاً أَوْ بَعْضَ الإِمْسَاكِ عَنْ إِطْلاَقِ اُلْحُرِّيَّةِ إِطْلاَقًا وَاسِعًا، أَنْزَلَتْ بِهِمْ اُلْعُقُوبَةَ وَاصِمَةً إِيَّاهُمْ بِاُلْمُجْرِمِينَ وَأَشْيَاعَ اُلْيَسَارِيَّةِ.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا فِعْلُهَا بِحَقٍّ.

   قُلْتُ : أَمَّا مَنْ كَانَتْ طَاعَتُهُمْ لِوُلاَّةِ اُلأُمُورِ شَدِيدَةً، هَزَأَتْ بِهِمْ نَاعِتَةً إِيَّاهُمُ بِاُلْعَبِيدِ وَبِذَوِي اُلْهِمَّةِ اُلنَّاقِصَةِ. بَلْ إِنَّهَا إِذَا مَدَحَتْ أَوْ وَقَّرَتْ، سِرًّا أَوْ جَهْرًا، مَدَحَتْ سَائِسًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ مَسُوسٍ، وَ مَسُوسًا ظَاهِرُهُ ظَاهِرُ سَائِسٍ. إِذًا، فَبِاُلْوَاجِبِ أَنَّهُ فِي مَدِينَةٍ كَهَذِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى اُلْحُرِّيَّةِ[562هـ] سَوْفَ يَتَوَسَّعُ وَيَعُمُّ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِأَسْرِهَا.

   قَالَ : بِلاَ خِلاَفٍ.

   قُلْتُ : وَهَذَا اُلْمَعْنَى، أَيُّهَا اُلْعَزِيزُ، سَوْفَ يَنْفُذُ فِي اُلْبُيُوتَاتِ، وَاُلْفَوْضَى سَوْفَ تَسْرِي حَتَّى تُعْدِيَ أَخِيرًا اُلْبَهَائِمَ أَيْضًا.

   قَالَ : هَلاَّ زِدْتَ بَيَانًا.

   قُلْتُ : اُلْمَقْصُودُ هَذِهِ اُلأَشْيَاءُ : أَنَّ الأَبَ سَيَعْتَادُ عَلَى مُعَامَلَةِ الاِبْنِ مُعَامَلَةَ اُلنِّدِّ وَ أَنْ يَخْشَى أَوْلاَدَهَ، وَأَنَّ الابْنَ سَيُطَاوِلُ أَبَاهُ، وَيُنْزَعُ مِنْهُ كُلُّ هَيْبَةٍ أَوْ بِرٍّ بِوَالِدَيْهِ، لأَنَّهُ[563أ] مَا يَسُرُّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حُرًّا. وَأَنَّ اُلْمُقِيمَ الأَجْنَبِيَّ سَيُطَاوِلُ اُلْقَاطِنَ الأَصْلِيَّ، وَاُلْقَاطِنَ الأَصْلِيَّ سَيَصِيرُ مُسَاوِيًا لِلْمُقِيمِ الأَجْنَبِيِّ، وَكَذَا اُلْغَرِيبُ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّ الشَّأْنَ لَكَمَا قُلْتَ.

   قُلْتُ : وَمَعَ مَا ذَكَرْنَا، نَذْكُرُ أَيْضًا مَفَاسِدَ أُخْرَى صَغِيرَةً، وَهْيَ : أَنَّ اُلْمُعَلِّمَ سَيَخْشَى تَلاَمِذَتَهُ وَيَتَمَلَّقُهُمْ، وَالتَّلاَمِيذُ سَيُحَقِّرُونَ مُعَلِّمِيهِمْ وَمُؤَدِّبِيهِمْ. بَلْ فِي اُلْجُمْلَةِ، إِنَّ اُلْفِتْيَانَ سَيُضَاهُونَ مَنْ هُمْ أَسَنُّ مِنْهُمْ وَسَيُعَانِدُونَهُمْ فِي اُلْقَوْلِ وَاُلْفِعْلِ. أَمَّا ذَوُو الأَسْنَانِ فَسَيَنْزِلُونَ[563ب] إِلَى طَرَائِقِ اُلْفِتْيَانِ وَسَيَتَشَبَّهُونَ بِاُلشَّبِيبَةِ مَرَحًا وَظُرْفًا، دَرْءًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ تُهْمَةَ أَنَّهُمْ ثُقَلاَءٌ مُتَجَهِّمُونَ.

   قَالَ : إِنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى اُلتَّمَامِ.

   قُلْتُ : ثُمَّ لِتَعْلَمْ، أَيُّهَا اُلصَّدِيقُ، أَنَّ وَفْرَةَ اُلْمَدِينَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، مِنَ اُلْحُرِّيَّةِ، إِنَّمَا تَبْلُغُ أَعْلاَهَا حِينَمَا يَصِيرُ حَظُّ الإِمَاءِ وَاُلْعَبِيدِ مِنْهَا غَيْرَ قَاصِرٍ عَنْ حَظِّ مُشْتَرِيهِمْ. وَلَنْ أُحَدِّثَكَ كَذَلِكَ عَنْ مَبْلَغِ اُلْمُسَاوَاةِ وَاُلْحُرِّيَّةِ فِي عَلاَقَةِ الرِّجَالِ بِاُلنِّسَاءِ.

   قَالَ : بَلْ “أَلاَ لاَ نَكْتُمَنَّ مَا يَرِدُ إِلَى لِسَانِنَا”[563س] عَلَى عِبَارَةِ أَيِسْكِيلُوسْ.

   قُلْتُ : صَدَقْتَ، وَهُوَ مَا أَفْعَلُهُ أَنَا أَيْضًا. إِذًا، فَإِنَّ وُفُورَ حَظِّ اُلْبَهَائِمِ اُلْمُسْتَأْنَسَةِ مِنَ اُلْحُرِّيَّةِ بِمَدِينَتِنَا عَلَى سَائِرِ بَهَائِمِ اُلْمُدُنِ اُلأُخْرَى، لَوْ حُدِّثَهُ اُلْمَرْءُ لَكَذَّبَهُ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ بِنَفْسِهِ. وَبِحَقٍّ، فَإِنَّ اُلْكِلاَبَ بِهَا لَعَلَى خُلُقِ رَبَّاتِهَا، كَقَوْلِ اُلْمَثَلِ، وَأَفْرُسَهَا وَأَحْمِرَتَهَا الَّتِي اِعْتَادَتْ أَنْ تَمْشِيَ بِزَيْفٍ، لَيْسَتْ تَرْعَوِي عَنْ صَدْمِهَا مَنْ تُلاَقِيهِ إِنْ هُوَ لَمْ يُخْلِ لَهَا اُلطَّرِيقَ. وَكَذَا فِي اُلْبَقِيَّةِ، إِذْ كُلُّ شَيْءٍ يَطْفَحُ حُرِّيَّةً[563د].

   قَالَ : إِنَّكَ لَتَصِفُ رُؤْيَايَ بِعَيْنِهَا. إِذْ قَلَّمَا قَصَدْتُ ظَهْرَ اُلْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْحَقْنِي مَا ذَكَرْتَ.

   قُلْتُ : فَهَلْ بَانَ لَكَ إِذَنْ أَيُّ ثِمَارٍ قَدْ تُثْمِرُهَا هَذِهِ اُلْمَفَاسِدُ مُجْتَمِعَةً. وَهَلْ عَلِمْتَ جَيِّدًا أَنَّهَا إِنَّمَا تُورِثُ نُفُوسَ اُلْقَاطِنِينَ طَبْعَ اُلْحِدَّةِ وَخُلُقَ اُلْغَضَبِ حَتَّى أَنَّهُمْ  لَيُسَارِعُونَ إِلَى الانْتِفَاضَةِ وَالتَّسَّخُّطِ، مَا تَوَهَّمُوا إِكْرَاهًا وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا. وَهَذِهِ اُلْحَالُ إِنَّمَا عَاقِبَتُهَا لاَ مَحَالَةَ أَنَّ هُؤُلاَءِ سَيَسْتَخِفُّونَ بِكُلِّ سُنَّةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ سُنَّةٍ عُرْفِيَّةٍ، تَنَزُّهًا مِنْ أَنْ يَنْقَادُوا لِسَيِّدٍ أَصْلاً[563هـ].

   قَالَ : نَعَمْ، إِنَّي لأَعْلَمُهُ غَايَةَ اُلْعِلْمِ.

   قُلْتُ : وَإِذْ عَلِمْتَهُ، فَلِتَعْلَمْ، أَيُّهَا اُلصَّدِيقُ، أَنَّ هَذِهِ الرِّئَاسَةَ الرَّائِقَةَ جِدًّا وَاُلْفَتِيَّةَ جِدًّا، فِيمَا أَرَاهَ، إِنَّمَا هِيَ اُلْوَالِدَةُ لِرَئَاسَةِ اُلتَّغَلُّبِ.

   قَالَ : بِحَقٍّ مَا قُلْتَ إِنَّهَا فَتِيَّةٌ. ثُمَّ مَاذَا بَعْدَهُ.

   قُلْتُ : إِذَنْ، فَعَيْنُ مَا كُنَّا رَأَيْنَا مِنْ شَرٍّ كَيْفَ أَنَّ فُشُوَّهُ فِي رِئَاسَةِ اُلْيَسَارِ قَدْ أَفْضَى إِلَى حَتْفِهَا هُوَ فَاشٍ أَيْضًا فِي هَذِهِ اُلْمَدِينَةِ فُشُوًّا أَوْسَعَ وَأَثْبَتَ، لِعُمُومِ اُلْمُسَامَحَةِ فِيهَا، وَسَائِقٌ لِلْجَمَاعِيَّةِ إِلَى اُلْعُبُودَةِ. إِذْ بِاُلْقَطْعِ أَنَّ كُلَّ إِفْرَاطٍ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ اِنْفِعَالٌ قَوِيٌّ، فِي اُلْفُصُولِ[564أ] وَفِي اُلنَّبَاتَاتِ وَفِي الأَبْدَانِ. وَهْوَ فِي الرِّئَاسَاتِ لأَشَدُّ مِنْهُ فِي سَائِرِهَا.

   قَالَ : ذَلِكُمُ حُكْمُ اُلطَّبِيعَةِ.

   قُلْتُ : كَذَلِكَ الإِسْرَافُ مِنَ اُلْحُرِّيَّةِ مُفْضٍ، حَتْمًا، إِلَى اُلْعُبُودِيَّةِ فِي اُلْفَرْدِ اُلْوَاحِدِ كَمَا فِي اُلْمَدِينَةِ.

   قَالَ : كَلاَمٌ مَقْبُولٌ.

   قُلْتُ : فَتَبَيَّنَ إِذًا أَنَّ رِئَاسَةَ التَّغَلُّبِ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ إِلاَّ رِئَاسَةُ اُلْجَمَاعِيَّةِ، إِذِ اُلْحُرِّيَّةُ إِذَا أَفْرَطَتْ لَزِمَهَا رِقٌّ أَعْظَمُ وَعُبُودَةٌ قَاسِيَةٌ جِدًّا.

   قَالَ : كَلاَمٌ مَعْقُولٌ.

   قُلْتُ : [564ب]لَكِنْ، لَعَلَّكَ مَا أَرَدْتَ مِنِّي مَعْرِفَتَهُ أَمْرٌ غَيْرُ هَذَا، بَلْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ اُلسُّوءُ اُلْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اُلْيَسَارِيَّةِ وَاُلْجَمَاعِيَّةِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَدْفَعَ الأَخِيرَةَ إِلَى أَنْ تُسْتَرَقَّ.

   قَالَ : صَحِيحٌ.

   قُلْتُ : أَلاَ فَاسْمَعْ : فَأَنَا إِنَّمَا أَعْنِي بِهِ ذَلِكَ اُلصِّنْفَ مِنَ اُلنَّاسِ اُلبَطَّالَ اُلْمُسْرِفَ الَّذِي بَعْضُهُ، لِفَضْلِ جَسَارَتِهِ، كَانَ رَأْسًا، وَسَائِرُهُ، لِنُقْصَانِ هِمَّتِهِ، كَانَ ذَيْلاً. وَكُنَّا قَدْ شَبَّهْنَاهُ بِاُلزَّنَابِيرِ، إِذْ جَعَلْنَا لِلطَّائِفَةِ اُلأُولَى حُمَةً، وَخَلَتْ مِنْهَا اُلطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ.

   قَالَ : وَبِحَقٍّ مَا فَعَلْنَا.

   قُلْتُ : فَتَعَلَّمْ أَنَّ تَيْنِكَ اُلطَّائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ كُلَّمَا ظَهَرَتَا بِمَدِينَةٍ اِخْتَلَّتْ بِأَسْرِهَا كَمَا يَخْتَلُّ[564س] بَدَنُ إِنْسَانٍ إِذَا أَصَابَتْهُ اُلْمِرَّتَانِ اُلْمِرَّةُ اُلصَّفْرَاءُ وَاُلْمِرَّةُ اُلسَّوْدَاءُ. لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى اُلطَّبِيبِ اُلْحَاذِقِ وَصَاحِبِ اُلتَّشْرِيعِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالاحْتِيَاطِ، كَمَا يَفْعَلُ دَائِمًا كُلُّ مُرَبٍّ مَاهِرٍ لِلنَّحْلِ بِأَنْ يَسْبِقَ مُجْتَهِدًا لِأَنْ يَمْنَعَ أَصْلاً وِلاَدَةَ زُنْبُورٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ، بَادَرَ بِإِزَالَتِهَا وَإِنْ أَزَالَ مَعَهَا اُلنَّخَارِيبَ.

   قَالَ (صَائِحًا) : نَعَمْ، وَحَقِّ زِيُوسْ، ذَلِكَ مَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ.

   قُلْتُ : وَالآنَ، فَلِنَتَّخِذْ هَذِهِ اُلطَّرِيقَةَ حَتَّى نَتَبَيَّنَ مَلِيًّا مُلْتَمَسَنَا.

   قَالَ : أَيُّهَا.

   قُلْتُ : إِنَّهَا قِسْمَتُنَا بِاُلْعَقْلِ اُلْمَدِينَةَ اُلْجَمَاعِيَّةَ عَلَى ثَلاَثِ طَبَقَاتٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَيْهَا حَقًّا. اُلطَّبَقَةُ الأُولَى هِيَ طَبَقَةُ هَؤُلاَءِ الأَوْغَادِ الَّتِي اِنْتِشَارُهَا هَاهُنَا وَنُمُوُّهَا بِسَبَبِ إِطْلاَقِ اُلتَّخْلِيَةِ[564د] لاَ يَقِلُّ عَنْهُ فِي رِئَاسَةِ اُلْيَسَارِ.

   قَالَ : صَدَقْتَ.

   قُلْتُ : لَكِنَّهَا فِي هَذِهِ اُلرِّئَاسَةِ إِنَّمَا تَكُونُ أَفْتَكَ وَأَحَدَّ.

   قَالَ : وَلأَيِّ عِلَّةٍ.

   قُلْتُ : مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ فِي رِئَاسَةِ اُلْيَسَارِ تَكُونُ مُنْكَرَةَ اُلْعَدَالَةِ مَنْفِيَّةً عَنْ كُلِّ حُكُومَةٍ. لِذَلِكَ فَهْيَ تَبْقَى عَاطِلَةً مَسْلُوبَةَ اُلْقُدْرَةِ أَلْبَتَّةَ. أَمَّا فِي رِئَاسَةِ اُلْجَمَاعَةِ فَتَكَادُ تَكُونُ اُلْحُكُومَةُ كُلُّهَا بِيَدَيْهَا. وَحِينَئِذٍ فَإِنَّهَا تَغْدُو عَلَى فِرْقَتَيْنِ : فِرْقَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى مَنْ فِي اُلْعِصَابَةِ أَعْنَفُهَا وَأَحَدُّهَا، وَهَذِهِ صَاحِبَةُ اُلْقَوْلِ وَاُلْفِعْلِ. وَفِرْقَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى بَقِيَّةِ اُلْعِصَابَةِ دَيْدَنُهَا اُلْقِيَامُ بِقُرْبِ اُلْمَنَابِرِ وَالانْطِلاَقُ بِاُلدَّنْدَنَةِ وَاُلسَّعْيُ لاسْكَاتِ[564هـ] اُلْمُنَاقِضِينَ. لِذَلِكَ مَا كَانَتْ أَعْمَالُ هَذِهِ اُلرِّئَاسَةِ جَمِيعًا، إِلاَّ اُلنَّزْرَ اُلْقَلِيلَ، إِنَّمَا يُقْضَى فِيهَا بِأَمْرِ هَؤُلاَءِ.

   قَالَ : قَوْلٌ صَوَابٌ.

   قُلْتُ : هُنَاكَ كَذَلِكَ طَبَقَةٌ أُخْرَى مُنْحَازَةٌ دَائِمًا عَنِ اُلْعَامَّةِ.

   قَالَ : مَنْ هِيَ.

   قُلْتُ : لَمَّا كَانَ كُلُّ النَّاسِ يَلْتَمِسُونَ اُلثَّرَاءَ، كَانَ بِاُلْغَالِبِ، أَجْرَاهُمْ عَلَى الاِسْتِقَامَةِ وَحُسْنِ اُلتَّرْتِيبِ أَوْفَرَهُمْ مَالاً وَقُنْيَةً.

   قَالَ : غَالِبًا.

   قُلْتُ : إِذَنْ فَاُلزَّنَابِيرُ إِنَّمَا عِنْدَ هَؤُلاَءِ إِنَّمَا تُصِيبُ مُبْتَغَاهَا مِنَ اُلْعَسَلِ وَافِرًا مَيْسُورًا.

   قَالَ : إِذْ كَيْفَ لَهَا أَنْ تَسْتَفِيدَهُ مِنْ ذِي عُسْرَةٍ.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ مَا كَانَ لِهَؤُلاَءِ قَدْ اُسْتُعِيرَ هَذَا الاسْمُ: مَرْعَى اُلزَّنَابِيرِ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّهُ لاسْمٌ مِنْ ذَاكَ اُلْجِنْسِ.

   قُلْتُ : [565أ]أَمَّا اُلطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ فَهْيَ طَبَقَةُ اُلْعَامَّةِ، وَهْيَ كُلُّ الَّذِينَ كَسْبُ مَعَاشِهِمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَلاَ اِلْتَبَاسَ لَهُمْ بِعَمَلٍ أَصْلاً وَالَّذِينَ هُمْ لاَ يَكَادُونَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا. وَهَذِهِ اُلطَّبَقَةُ فِي اُلْمَدِينَةِ اُلْجَمَاعِيَّةِ، كُلَّمَا اِجْتَمَعَتْ وَاحْتَفَلَتْ كَانَتْ الأَكْثَرَ عَدَدًا وَالأَقْوَى بَطْشًا.

   قَالَ : صَدَقْتَ، لَكِنَّهَا لاَ تَجْتَمِعُ إِلاَّ مَتَى وَثِقَتْ مِنْ أَنَّ لَهَا أَيْضًا سَهْمًا مِنَ اُلْعَسَلِ.

   قُلْتُ : بَلْ لَهَا مِنْهُ سَهْمٌ دَائِمًا. إِذْ أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ عَلَى رَأْسِ اُلْمَدِينَةِ هُمْ لَذُو قُدْرَةٍ حِينَئِذٍ عَلَى أَنْ يَقْهَرُوا اُلْمَالِكِينَ عَلَى أَمْوَالِهُمْ وَيُفَرِّقُوهَا عَلَى اُلْعَامَّةِ مِنْ بَعْدِ أَنْ يُبْقُوا مِنْهَا لأَنْفُسِهِمْ النَّصِيبَ الأَعْظَمَ.

   قَالَ : نَعَمْ، [565ب]كَذَلِكَ هِيَ تَظْفَرُ بِبَعْضِ اُلْخَيْرِ.

   قُلْتُ : لَكِنْ، لاَ شَكَّ أَنَّ الأَغْنِيَاءَ اُلْمَنْهُوبَةَ أَمْوَالُهُمْ سَيَكُونُونَ مُضْطَرِّينَ إِذًا لِدَفْعِ اُلتُّهْمَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، بِكُلِّ وَسِيلَةٍ قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَبِوُقُوفِهِمْ أَمَامَ اُلْعَامَّةِ مُخَاطِبِينَ إِيَّاهُمْ.

   قَالَ : يَقِينًا.

   قُلْتُ : لَكِنَّ الآخَرِينَ، وَإِنْ كَانُوا لاَ يَرُومُونَ خُرُوجًا، فَإِنَّهُمْ سَيَرْمُونَ هَؤُلاَءِ بِاُلْيَسَارِيَّةِ وَبِأَنَّهُمْ لَذُو كَيْدٍ لِلْجُمْهُورِ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : وَبِأَخَرَةٍ، فَحِينَمَا يَرَى أُولاَئِكَ الأَغْنِيَاءُ أَنَّ اُلْعَامَّةَ قَدْ نَوَتْ بِهِمْ شَرًّا، لاَ بِسُوءِ قَصْدٍ مِنْهَا، بَلْ غَرَارَةً وَضَلاَلاً[565س] أَوْقَعَهَا بِهِ هَؤُلاَءُ اُلسُّعَاةُ، فَحِينَئِذٍ، هُمْ سَيَتَلَبَّسُونَ حَقًّا بِاُلْمَعْنَى اُلْيَسَارِيِّ، شَاؤُوهُ أَمْ أَبَوْهُ. وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِرَادَتِهِمْ أَبَدًا، بَلْ بِسَبَبِ مَا نَالَهُمْ مِنْ لَسْعِ اُلزُّنْبُورِ.

   قَالَ : حَتْمًا.

   قُلْتُ : وَهُنَالِكَ، لَعَمْرِي، سَيُرَى طَلَبٌ وَرَاءَ طَلَبٍ وَشَكْوَى بَعْدَ شَكْوَى وَمُصَاوَلَةٌ مِنْ هَذَا اُلْفَرِيقِ وَذَاكَ.

   قَالَ : يَقِينًا.

   قُلْتُ : حِينَئِذٍ، أَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ لِلْعَامَّةِ عَادَةً ثَابِتَةً أَنَّهُ يَسُرُّهَا دَائِمًا أَنْ تُرَئِّسَ عَلَيْهَا رَجُلاً تُغَذِّيهِ وَتَمُدُّهُ قُوَّةً.

   قَالَ : نَعَمْ ذَلِكَ دَأْبُ اُلعَامَّةِ.

   قُلْتُ : [565د]فَلاَ نِزَاعَ إِذًا فِي أَنَّ اُلْمُتَغَلِّبَ إِنْ كَانَ لِنَبَاتِهِ أَصْلٌ، فَذَاكَ بِعَيْنِهِ اُلْمُسَمَّى بِاُلْحَامِي، لَيْسَ غَيْرُ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : إِنْ سُئِلْنَا : لَيْتَ شِعْرِي فَمَتَى يَنْقَلِبُ اُلْمَوْصُوفُ بِاُلْحَامِي مَوْصُوفًا بِاُلْمُتَغَلِّبِ. أَلَيْسَ، ضَرُورَةً، حِينَمَا يَشْرَعُ فِي فِعْلِهِ كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ فِي الأُسْطُورَةِ اُلْمَعْرُوفَةِ بِأُسْطُورَةِ هَيْكَلِ زِيُوسْ اللُّقْيُونِيِّ بِأَرْكَادِيَا.

   قَالَ : وَمَا حَدِيثُ الأُسْطُورَةِ.

   قُلْتُ : حَدِيثُهَا أَنَّ كُلَّ مَنْ طَعِمَ مِنْ أَحْشَاءِ آدَمِيٍّ مُقَدَّدَةً مَخْلُوطَةً بِأَحْشَاءِ غَيْرِهِ مِنَ اُلْقَرَابِينِ مُسِخَ، حَتْمًا، ذِئْبًا. أَوَ مَا كَانَ قَدْ أَتَاكَ[565هـ] خَبَرُهَا مِنْ قَبْلُ.

   قَالَ : بَلَى، قَدْ أَتَانِي.

   قُلْتُ : كَذَلِكَ شَأْنُ مَرْؤُوسِ اُلْعَامَّةِ، بَعْدَ وُثُوقِهِ مِنْ طَاعَتِهَا إِيَّاهُ اُلطَّاعَةَ اُلْعَمْيَاءَ. إِذْ لَمَّا كَانَ لاَ يَرْعَوِي أَصْلاً عَنْ سَفْكِهِ دِمَاءَ رِجَالٍ هُمْ مِنْ عَشِيرَتِهِ بَلْ يَفْتَرِي عَلَيْهَا ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَيُجَرِّرُهَا أَمَامَ اُلْقُضَاةِ، سَيْرًا عَلَى اُلطَّرِيقَةِ بِعَيْنِهَا اُلْمُؤْثَرَةِ لَدَى أَشْبَاهِهِ، فَهْوَ سَوْفَ يَزْهَقُ أَرْوَاحَهَا مُتَلَطِّخًا بِدَنَسِ اُلْجَرِيمَةِ. وَلَمَّا كَانَ قَدْ ذَاقَ بِلِسَانِهِ اُلآثِمِ وَاحْتَسَى بِفَمِهِ اُلْفَاجِرِ مِنْ دَمِ بَنِي جِنْسِهِ، فَهْوَ سَيَعْمَلُ فِيهِمْ أَيْضًا نَفْيًا وَقَتْلاً، مُلْمِعًا لِلْعَامَّةِ وَمُمَنِّيًا إِيَّاهَا بِإِسْقَاطِ اُلدَّيْنِ وَبِقِسْمَةِ الأَرْضِ [566أ]قِسْمَةً مُسْتَأْنَفَةً. إذًا، فَرَجُلٌ كَهَذَا، أَلَيْسَ بِاُلْوَاجِبِ كَإِيجَابِ اُلْقَضَاءِ وَاُلْقَدَرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ هَلاَكُهُ عَلَى يَدِ عَدُوٍّ لَهُ، أَوْ أَنْ يُصْبِحَ مُتَغَلِّبًا وَأَنْ يَنْقَلِبَ ذِئْبًا بَعْدَ أَنْ كَانَ إِنْسَانًا.

   قَالَ : بَلَى إِنَّهُ لَوَاجِبٌ وُجُوبًا عَظِيمًا.

   قُلْتُ : فَذَاكَ إِذَنْ مَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي دَأْبُهُ أَنْ يُؤَلِّبَ الأَمْرَ عَلَى الأَغْنِيَاءِ.

   قَالَ : نَعَمْ.

   قُلْتُ : وَإِنْ كَانَ قَدْ طُرِدَ أَوَّلاً، ثُمَّ عَادَ بِكُرْهٍ مِنْ أَعْدَائِهِ، فَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ سَيَؤُوبُ وَهْوَ جَبَّارٌ عَاتٍ.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : أَمَّا الأَغْنِيَاءُ، فَإِنْ هُمُ عَجَزُوا عَنْ طَرْدِهِ أَوْ إِسْخَاطِ اُلعَامَّةِ[566ب] وَتَسْلِيطِهَا عَلَيْهِ فَقَدْ يُدَبِّرُونَ سِرًّا أَمْرَ قَتْلِهِ غِيلَةً.

   قَالَ : ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَقَعُ جِدًّا.

   قُلْتُ : وَ عِنْدَذَاكَ إِنَّمَا يَبْتَدِعُ كُلُّ مُتَشَوِّفٍ لِلْحُكْمِ بَلَغَ تِلْكُمُ اُلْحَالَ ذَلِكَ الالْتِمَاسَ اُلْمَشْهُورَ اُلْمَنْسُوبَ لِلْمُتَغَلِّبِ، أَلاَ وَهْوَ أَنْ يُطْلَبَ مِنَ اُلْجُمْهُورِ أَنْ يُهَيِّءَ حُرَّاسًا مَوْقُوفِينِ عَلَيْهِ، حِفْظًا لِلْحَافِظِ وَصَوْنًا لِلْمُحَامِي عَنْهُمْ.

   قَالَ : وَاُلْجُمْهُورُ إِذْ يَخْشَى عَلَى حَافِظِهِ سَوْفَ يُجِيبُ مَطْلُوبَهُ بِكُلِّ غَرَارَةٍ.

   قُلْتُ : [566س]حَقًّا.

   قَالَ : بِلاَ رَيْبٍ.

   قُلْتُ : فَإِنْ مَا رَجُلٌ غَنِيٌّ، أَعْنِي مَنْعُوتًا بِعَدُوِّ اُلْجُمْهُورِ رَأَى كُلَّ هَذِهِ الأَشْيَاءَ، قَطْعًا، أَلاَ أَيُّهَا اُلصَّدِيقُ، لَسَوْفَ يَعْمَلُ بِوَصِيَّةِ اُلْكَاهِنِ إِلَى كُرُسِيُوسْ  “طَاوِيًا أَرْضَ اُلْهَرْمُوسْ اُلْمَعْزَاءَ(1)، نَاجِيًا بِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُتَوَرِّعٍ أَصْلاً مِنْ مَعَرَّةِ اُلْجُبْنِ.”

   قَالَ : نَعَمْ، وَ مَا كَانَ لِيَخْشَى تِلْكُمُ اُلْمَذَمَّةَ مَرَّتَيْنِ.

   قُلْتُ : وَإِنْ قُبِضَ عَلَيْهِ هَارِبًا، فَقَدْ لاَقَى حَتْفَهُ حَتْمًا.

   قَالَ : حَتْمًا.

   قُلْتُ : أَمَّا اُلْمُسَمَّى بِحَامِي اُلْجُمْهُورِ، فَبَيِّنٌ أَنَّهُ سَوْفَ[566د] لَنْ يَبْقَى مُفْتَرِشًا الأَرْضَ “مُغَطِّيًا مِنْهَا قِطْعَةً كَبِيرَةً بِجُثْمَانِهِ اُلضَّخْمِ” بَلْ هُوَ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبَارَ خُصُومًا لَهُ كَثِيرِينَ، سَوْفَ يَنْتَصِبُ فَوْقَ عَرَبَةِ اُلْمَدِينَةِ وَيُصْبِحُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ حَامِي اُلْجُمْهُورِ، جَبَّارًا عَاتِيًا.

   قَالَ: وَمَنْ عَسَاهُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ اُلْمَآلَ قَدْ يَكُونُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.

   قُلْتُ : وَالآنَ، فَلِتَنْظُرْ مَعِي إِلَى ذَا الرَّجُلِ وَ إِلَى مَدِينَةٍ نَشَأَ بِهَا مَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِ، كَيْفَ سَتَكُونُ سَعَادَتُهُمَا.

   قَالَ : نَعَمْ، فَلِنَنْظُرْ.

   قُلْتُ : إِنَّهُ فِي بَادِئِ الأَمْرِ سَوْفَ يُظْهِرُ اُلْبِشْرَ وَاُلْحَفَاوَةَ[566هـ] بِكُلِّ مَنْ لاَقَاهُ وَسَوْفَ يَصْدَعُ عَالِيًا بِنَقَاوَةِ نِِِيَّتِهِ مِنْ أَنْ يُصْبِحَ مُتَغَلِّبًا وَسَوْفَ يَعِدُ لِلْخَاصِّ وَاُلْعَامِّ وُعُودًا كَثِيرَةً، كَإِسْقَاطِ اُلدَّيْنِ وَقِسْمَةِ الأَرْضِ بَيْنَ اُلْعَامَّةِ وَخَاصَّتِهِ، وَسَوْفَ يَتَكَلَّفُ الرِّفْقَ وَدَمَاثَةَ اُلْخُلُقِ مَعَ اُلنَّاسِ جَمِيعًا.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا سَيَقَعُ قَطْعًا.

   قُلْتُ : ثُمَّ إِنَّهَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَخَلَّصَ مِنْ أَعْدَائِهِ اُلْمُبَايِنِينَ بِمُصَالَحَةِ بَعْضِهِمْ وَإِهْلاَكِ الآخَرِ وَبَعْدَ أَنْ يَطْمَئِنَّ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَتِهِمْ، لاَ يَلْبَثُ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَهْيِيجَ اُلْحُرُوبِ اُلدَّائِمَةِ حَتَّى يُبْقِيَ اُلْعَامَّةَ أَبَدًا ذَاتَ فَاقَةٍ إِلَى رَئِيسٍ.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ طَبِيعَةِ الأَشْيَاءِ.

   قُلْتُ : وَهُنَاكَ غَرَضٌ ثَانٍ وَهْوَ أَنَّ الَّذِينَ مِنْ أَهْلِ اُلْمَدِينَةِ قَدْ أُفْقِرُوا بِسَبَبِ اُلْخَرَاجِ وَكَثْرَةِ اُلضَّرَائِبِ، سَوْفَ[567أ] لَنْ يَبْقَى لَهُمْ وُسْعُ الاِهْتِمَامِ إِلاَّ بِمَعَاشِهِمْ وَمَعِيشَتِهِمْ وَسَوْفَ يَقِلُّ مِنْهُمُ اُلْمَكِيدَةُ وَالائْتِمَارُ بِاُلْمُتَغَلِّبِ.

   قَالَ : ضَرُورَةً.

   قُلْتُ : وَغَرَضٌ ثَالِثٌ، وَهْوَ إِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ رِجَالٌ أَحْرَارٌ يَأْنَفُونَ جِدًّا مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ وِلاَيَتِهِ، فَلَنْ يُصِيبَ ذَرِيعَةً أَنْجَعَ مِنَ اُلْحَرْبِ بِهَا إِنَّمَا يُسْلِمُهُمْ لِلْهَلاَكِ تَحْتَ ضَرَبَاتِ الأَعْدَاءِ. فَلِهَذِهِ الأَغْرَاضِ مُجْتَمِعَةً، لاَ حِيلَةَ لِلْمُتَغَلِّبِ إِلاَّ أَنْ يَظَلَّ طَوَالَ اُلْوَقْتِ يُسَعِّرُ حَرْبًا بَعْدَ حَرْبٍ.

   قَالَ : قَطْعًا

   قُلْتُ : لَكِنَّهُ بِهَذِهِ الأَعْمَالِ إِنَّمَا يَزِيدُ نِقْمَةَ[567ب] أَهْلِ اُلْمَدِينَةِ عَلَيْهِ.

   قَالَ : بِلاَ خِلاَفٍ.

   قُلْتُ : وَمِمَّا قَدْ يَقَعُ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنَ كَانَ لَهُمْ عَلَيْهِ فَضْلُ اِرْتِفَاعِهِ وَلَهُمْ عَلَيْهِ دَالَّةٌ، لاَ سِيَّمَا ذَوِي اُلْجَسَارَةِ وَاُلْجَرَاءَةِ، سَوْفَ يُطْلِقُونََ أَلْسِنَتَهُمْ بِاُلذَّمِّ وَالتَّعْيِيبِ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ أَفْعَالٍِ، فِي شُهُودِ اُلْمُتَغَلِّبِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ.

   قَالَ : هَذَا مِمَّا قَدْ يَقَعُ حَقًّا.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْمُتَغَلِّبِ اُلْمُتَشَبِّثِ بِرَئَاسَةِ اُلْمَدِينَةِ، مِنْ أَنَ يَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ مُتَدَرِّجًا إِلَى أَنْ لاَ يُبْقِيَ بِهَا فَاضِلاً وَاحِدًا حَيًّا، صَدِيقًا كَانَ أَمْ عَدُوًّا.

   قَالَ : قَطْعًا.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ فَهْوَ سَيُعْمِلُ نَظَرَهُ فِي اُلنَّاسِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مِنَ اُلرِّجَالِ، اُلْمَعْرُوفَ بِاُلشَّجَاعَةِ وَعِظَمِ اُلْهِمَّةِ، وَاُلْمَعْرُوفَ بِاُلْحِلْمِ وَاُلْكِيَاسَةِ، وَاُلْمَعْرُوفَ[567س] بِِاُلثَّرْوَةِ. فَبِئْسَتْ سَعَادَةُ هَذَا الرَّجُلِ، إِنْ كَانَتْ تُلْجِئُهُ لِأَنْ يُطَهِّرَ اُلْمَدِينَةَ مِنْ مِثْلَ هَؤُلاَءِ اُلرِّجَالِ، بِاُلْحَرْبِ أَوِاُلْمَكِيدَةِ.

   قَالَ : وَنِعْمَ اُلتَّطْهِيرُ.

  قُلْتُ : حُقَّ لَكَ أَنْ تَتَهَكَّمَ، إِذْ هُوَ تَطْهِيرٌ مُخَالِفٌ بِاُلْمُضَادَّةِ لِمَا يَفْعَلُهُ الأَطِبَّاءُ لِتَنْقِيَةِ اُلْبَدَنِ : فَهُمْ إِنَّمَا يَنْفُونَ مِنْهُ اُلْفَاسِدَ وَيَتْرُكُونَ اُلصَّحِيحَ. أَمَّا اُلْمُتَغَلِّبُ، فَصُنْعُهُ بِاُلْعَكْسِ.

   قَالَ : إِنَّهُ لَمُضْطَرٌّ إِلَى ذَاكَ مَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى بَقَاءِ مُلْكِهِ.

   قُلْتُ : إِذًا، فَنِعْمَتِ اُلضَّرُورَةُ اُلْمُقَيِّدَةُ هَذِهِ اُلضَّرُورَةُ اُلْمُلْجِئَةُ[567د] إِلَى أَنْ يُخَالِطَ أَقْوَامًا مِنْ سَقَطِ اُلْمَتَاعِ أَوْغَادًا، أَوْ لاَقَى حَتْفَهُ.

   قَالَ : تِلْكَ مَا هِيَ حَالُهُ.

   قُلْتُ : لَكِنْ، أَلَيْسَ مَعْلُومًا أَنَّهُ بِقَدْرِ مَا يَزِيدُ بُغْضُ اُلنَّاسِ لَهُ، لِسُوءِ سِيرَتِهِ، تَزِيدُ ضَرُورَةً، حَاجَتُهُ إِلَى حُرَّاسٍ أَوْفِيَاءٍ كَثِيرِيِّ اُلْعَدَدِ.

   قَالَ : لاَ مَحَالَةَ.

   قُلْتُ : فَأَخْبِرْنِي، كَيْفَ سَتَكُونُ صِفَةُ هَؤُلاَءِ اُلْحُرَّاسِ اُلأَوْفِيَاءِ وَمَنْ أَيْنَ عَسَاهُ أَنْ يَسْتَجْلِبَهُمْ.

    قَالَ : بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ لَوْ طَمِعُوا مِنْهُ بِالأُجْرَةِ.

   قُلْتُ : مَرْحَى مَرْحَى، إِنَّكَ تُرِيدُ بِهِمْ تِلْكُمُ[567هـ] اُلزَّنَابِيرَ اُلْغَرِيبَةَ اُلْمُخْتَلِفَةَ أَصْنَافُهَا.

  قَالَ : ظَنٌّ صَوَابٌ.

   قُلْتُ : لَكِنَّهُ مَنْ مِنَ اُلْمَدِينَةِ نَفْسِهَا هُوَ سَيَتَّخِذُ حُرَّاسًا. أَتُرَاهُ إِنَّمَا سَيَعْمِدُ إِلَى …

   قَالَ : إِلَى مَاذَا.

   قُلْتُ : إِلَى أَنْ يَغْصِبَ أَهْلَ اُلْمَدِينَةِ عَبِيدًا لَهُمْ ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ فِي حِرَاسَتِهِ، بَعْدَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِعِتْقِ رِقَابِهِمْ.

   قَالَ : يَقِينًا. وَسَيَكُونُونَ لَهُ أَخْلَصَ الحُرَّاسِ وَأَوْفَاهُمْ.

   قُلْتُ : فَيَلْزَمُ مِمَّا قُلْتَ أَنَّ حَيَاةَ اُلْمُتَغَلِّبِ، بِحَقٍّ، هِيَ حَيَاةُ غِبْطَةٍ وَحُبُورٍ[568أ]، إِذْ صَارَ أَشْبَاهُ هَؤُلاَءِ اُلرَّهْطِ هُمْ أَصْحَابَهُ وَهُمْ خِلاَّنَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ أَبَارَ اُلْمَذْكُورِينَ أَوَّلاً.

   قَالَ : إِذْ مِنَ اُلْمُتَعَذِّرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَخْدَانٌ غَيْرُهُمْ.

   قُلْتُ : إِذًا، فَأُولاَكَ الأَصْحَابُ سَيُطْرُونَهُ وَاُلْمُنْتَسِبُونَ اُلْجُدُدُ لِأَهْلِ اُلْمَدِينَةِ هُمْ مَنْ سَيَكُونُ مُعَاشِرِيهِ. أَمَّا فُضَلاَءُ اُلنَّاسِ فَسَيُبْغِضُونَهُ جِدًّا وَسَوْفَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعُوا.

   قَالَ : وَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ حِيلَةٍ سِوَاهَا.

   قُلْتُ : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَجِيبًا أَنْ يَكُونَ اُلْمَشْهُورُ مِنْ أَدَبِ اُلْمَحْزَنَةِ(1) أَنَّهُ صِنَاعَةٌ حِكْمِيَّةٌ وَأَنَّ اُلْمُعَلِّمَ الأَعْظَمَ فِيهِ أُورِيبِيدَسْ.

   قَالَ : وَلِمَ.

   قُلْتُ : لِنُطْقِهِ بِهَذِهِ اُلْحِكْمَةِ اُلْبَالِغَةِ[568ب] “إِنَّ اُلْمُتَغَلِّبَ يَصِيرُ كَيِّسًا بِمُعَاشَرَةِ الأَكْيَاسِ” مُرِيدًا بِالأَكْيَاسِ، قَطْعًا، بِطَانَةَ اُلْمُتَغَلِّبِ.

   قَالَ : نَعَمْ، وَكَانَ قَدْ زَكَّى أَيْضًا التغلبية قَائِلاً إِنَّهَا لَشَأْنٌ رَبَّانِيٌّ مُغْدِقًا عَلَيْهَا مَدَائِحَ أُخْرَى، أُسْوَةً بِغَيْرِهِ مِنَ اُلشُّعَرَاءِ.

   قُلْتُ : لِذَلِكَ فَرَجَاؤُنَا مِنْ شُعَرَاءِ اُلْمَحْزَنَةِ اُلْمَعْدُودِينَ فِي ذَوِي اُلنَّبَاهَةِ أَنْ يَعْذِرُونَا وَأَنْ يَعْذِرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ نَوْعُ رِئَاسَتِهِ قَرِيبًا مِنْ رِئَاسَتِنَا، إِنْ حَجَرْنَا عَلَيْهِمْ بَتَاتًا أَنْ يَلِجُوا فِي مَدِينَتِنَا، لأَنَّهُمْ أَصْوَاتٌ لاَهِجَةٌ بِحَمْدِ التغلبية .

   قَالَ : مَا أَظُنُّ أَنَّهُمْ سَيَنْقِمُونَ مِنَّا، لاَ سِيَّمَا ذَوِي اُلْفَهْمِ وَسَعَةِ اُلصَّدْرِ[568س].

   قُلْتُ : وَإِذَا مَا أَحَبُّوا أَنْ يَجُوبُوا سَائِرَ اُلْمُدُنِ وَأَنْ يَجْمَعُوا بِهَا اُلْسُّوقَةَ وَأَنْ يَسُوقُوا رِئَاسَاتٍ إِلَى اُلْجَمَاعِيَّةِ أَوِ التغلبية مُتَّخِذِينَ بِجُعْلٍ أَصْوَاتًا طَيِّبَةً قَوِيَّةً نَاعِمَةً، فَشَأْنَهُمْ، ومَا لَنَا عَلَيْهِمْ مِنْ حُكْمٍ.

   قَالَ : صَحِيحٌ.

   قُلْتُ : ثُمَّ، فَاعْلَمْ أَنَّ أُولاَئِكَ الشُّعَرَاءَ إِنَّمَا يَسْبِقُ بِإِكْرَامِهِمُ اُلْمُتَغَلِّبُونَ وَيَلُونَهُمُ أَشْيَاعُ اُلْجَمَاعِيَّةِ. لَكِنَّهُمْ كُلَّمَا رَقُوا فِي مَقَامَاتِ اُلنَّامُوسِيَّةِ اِنْخَفَضَ ذِكْرُهُمْ، كَمَا[568د] لَوْ أَنَّ اِنْقِطَاعَ اُلنَّفَسِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَمُرُّوا إِلَى مَقَامَاتٍ أَعْلَى.

   قَالَ : صَدَقْتَ.

   قُلْتُ : لَقَدْ سُقْتُ اُلْكَلاَمَ بَعِيدًا. بَلْ لِنَنْظُرِ الآنَ إِلَى جَيْشِ اُلْمُتَغَلِّبِ، ذَلِكَ اُلْحَشْدِ اُلْبَهِيِّ اُلْكَثِيرِ عَدَدُهُ اُلْمُخْتَلِفِ أَرْكَانُهُ اُلْمُتَجَدِّدِ دَائِمًا، كَيْفَ يُتَعَهَّدُ وَمِنْ أَيْنَ يُنْفَقُ عَلَيْهِ.

   قَالَ : لاَ شَكَّ أَنَّ اُلْمَدِينَةَ إِنْ كَانَ لَهَا خَيْرَاتٌ وَقْفٌ عَلَى اُلْمَعَابِدِ، فَلَنْ يَتَوَرَّعَ اُلْمُتَغَلِّبُ مِنْ مَدِّهِ يَدَهُ إِلَيْهَا. وَمَا أَجْزَاهُ مَا اسْتَفَادَهُ مِنْ بَيْعِهَا أَمْسَكَ عَنْ إِيقَارِ كَاهِلِ اُلنَّاسِ بِالإِتَاوَةِ اُلْمُجْحِفَةِ وَاُلضَّرَائِبِ اُلثَّقِيلَةِ.

   قُلْتُ : فَإِنْ لَمْ تَعُدْ هَذِهِ الأَمْوَالُ وَافِيَةً[568هـ] بِاُلْحَاجَةِ.

   قَالَ : حِينَئِذٍ هُوَ سَيَنْصَرِفُ حَتْمًا إِلَى مَالِ أَبِيهِ لِيُنْفِقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمُوَاكِلِيهِ وَنَدَامَاهُ وَعَلَى جَوَارِيهِ.

   قُلْتُ : لَعَمْرِي أَإِنَّكَ لَتُكَنِّي بِذَا عَنْ أَنَّ اُلْجُمْهُورَ الَّذِي وَلَدَ اُلْمُتَغَلِّبَ هُوَ مُضْطَرٌّ لأَنْ يَغْذُوهُ وَمَعَهُ حَاشِيَتَهُ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّهُ مُضْطَرٌّ جِدًّا.

   قُلْتُ : أَلاَ خَبِّرْنِي مَاذَا عَسَى أَنْ يَقَعَ لَوْ أَنَّ اُلْجُمْهُورَ، هُنَالِكَ، كَشَفَ عَنْ سُخْطِهِ وَجَهِدَ فِي أَنْ يُذَكِّرَ بِأَنَّ الابْنَ إِذَا كَانَ فِي رَيْعَانِ اُلشَّبَابِ لَمْ يَجُزْ إِطْلاَقًا أَنْ يَعِيشَ عَلَى نَفَقَةِ أَبِيهِ، بَلِ اُلْوَاجِبُ أَنْ يَعُولَ الابْنُ أَبَاهُ[569أ]. وَأَنَّ الأَبَ حِينَمَا وَلَدَهُ وَرَبَّاهُ، مَا كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَصْلاً أَنَّهُ إِذَا نَمَا وَبَلَغَ أَشُدَّهُ صَارَ هُوَ نَفْسُهُ عَبْدًا لِرَقِيقِهِ مَجْعُولاً لِيَغْذُوَ هَؤُلاَءِ اُلْعَبِيدَ وَمَعَهُمْ كُلَّ الَّذِينَ قَدْ أَطَافَ بِهِ مِنْ سَقَطِ اُلْمَتَاعِ وَشُذَّاذِ الآفَاقِ. بَلْ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّهُ إِذَا لاَذَ بِرِئَاسَةِ اُلْمُتَغَلِّبِ أَدْرَكَ خَلاَصَهُ مِنْ سُلْطَانَيْنِ فِي اُلْمَدِينَةِ : سُلْطَانِ أَهْلِ اُلْيَسَارِ، وَسُلْطَانِ مَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ اُلْكَرَامَةِ. وَهْوَ، أَعْنِي اُلْجُمْهُورَ، لَيَأْمُرُهُ الآنَ أَمْرًا جَزْمًا بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا هُوَ وَأَقْرَانُهُ، أُسْوَةً بِأَبٍ يَطْرُدُ مِنْ بَيْتِهِ اِبْنًا لَهُ مَعَ أَضْيَافِهِ اُلثُّقَلاَءِ.

   قَالَ : هَيْهَاتَ[569ب]، وَحَقِّ زِيُوسْ، بَلْ لَيَعْلَمَنَّ حِينَئِذٍ مَا كَانَ يُرْصِدُ لِنَفْسِهِ حِينَمَا وَلَدَ مِثْلَ ذَاكَ اُلْغُلاَمِ وَكَانَ يَرْأَمُهُ وَيَرْعَاهُ. وَلَيَعْلَمَنَّ أَيْضًا أَنَّ الَّذِينَ يُرِيدُ طَرْدَهُمْ الآنَ، هُمْ لَأَشَدُّ مِنْهُ بَأْسًا وَقُوَّةً.

   قُلْتُ (صَائِحًا) : وَسَوْأَتَاهُ، أَوَتَدَّعِي أَنَّ اُلْمُتَغَلِّبَ قَدْ يَجْسُرُ عَلَى أَنْ يَنْهَرَ أَبَاهُ وَأَنَّهُ لاَ يُبَالِي إِنْ ضَرَبَهُ، لَوْ عَانَدَ أَوْ قَاوَمَ.

   قَالَ : نَعَمْ سَيَجْسُرُ بَعْدَمَا قَدْ جَرَّدَهُ مِنْ سِلاَحِهِ.

   قُلْتُ : فَيَلْزَمُ أَنَّ اُلْمُتَغَلِّبَ إِنَّمَا هُوَ قَاتِلٌ لِأَبِيهِ، وَبِئْسَ اُلسَّنَدُ هُوَ لِلْكِبَارِ وَذَوِي الأَسْنَانِ. هَاهُنَا، تَمَّ اُلْقَوْلُ فِي اُلْمَعْنَى اُلْمَشْهُورِ بَيْنَ اُلنَّاسِ بِرِئَاسَةِ اُلْمُتَغَلِّبِ. وَتَلْخِيصُ اُلْبَحْثِ أَنَّ اُلْجُمْهُورَ، كَمَا يَقُولُ اُلْمَثَلُ، قَدْ فَرَّ مِنْ دُخَانِ الاِنْقِيَادِ[569س] لِأَحْرَارِ اُلرِّجَالِ وَكُرَمَائِهَا، فَهَوَى فِي نَارِ تَجَبُّرِ اُلْعَبِيدِ وَطُغْيَانِ اُلسِّفْلَةِ. وَقَدِ اِسْتَبْدَلَ بِحُرِّيَّةٍ مُفْرِطَةٍ ضَارَّةٍ، خِلْعَةَ اُلْعُبُودَةِ وَكِسْوَةَ اُلرِقِّ، وَلَيْسَا كُلَّ رِقٍّ أَوْ عُبُودَةٍ، بَلْ أَقْسَاهُمَا وَطْأَةً وَأَمَرُّهُمَا مَذَاقًا.

   قَالَ : ذَلِكَ مَا هُوَ وَاقِعٌ لاَ مَحَالَةَ.

   قُلْتُ : إِذًا، فَأَنْتَ لاَ تَرَى بَأْسًا لَوْ جَزَمْنَا الآنَ بِأَنَّ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي بَيَانِ الانْتِقَالِ مِنْ رِئَاسَةِ اُلْجَمَاعَةِ إِلَى رِئَاسَةِ اُلْمُتَغَلِّبِ وَمَا حَقِيقَةُ هَذِهِ اُلرِّئَاسَةِ بَعْدَ نَشْأَتِهَا، إِنَّمَا هُوَ مُطَابِقٌ وَشَافٍ.

   قَالَ : نَعَمْ إِنَّهُ مُطَابِقٌ وَشَافٍ عَلَى اُلتَّمَامِ.