مجلة حكمة
أخلاقيات الاحترام اخلاقيات الاحترام

أخلاقيات الاحترام كمصدر محتمل للسعادة في الديمقراطية – كاترين مارشال / ترجمة: محمد ڭزّو

      ماهي أخلاقيات الاحترام؟

منذ ما يقرب من سبع سنوات، وأنا أعمل على مفهوم الاحترام، من أجل كتابة دراسة عن العلاقة بين الاحترام السّياسيّ والدّستور الأنجلو-بريطاني(1). ويمكن تعريف هذه الدّراسة كقصّة من قصص الاحترام السّياسيّ الإنجليزيّ، من القرن الثّامن عشر حتّى البريكسيت. فإذا كانت هذه المقالة تتناول أخلاقيات الاحترام كمصدر محتمل للّسعادة في الدّيمقراطيّة، فهي نتيجة لاستجواب حول إمكانيّة توسيع نطاق استخدام الاحترام السّياسيّ الإنكليزيّ ليشمل ديمقراطيّات أخرى. بيد أنّني، سأقتصر هنا على الدّيمقراطيّات الغربيّة المعاصرة.

      فما هو الاحترام؟ على وجه التّحديد: الاحترام السّياسيّ؟ وعلى الصّعيد التّحليليّ، فإنّ الاحترام مفهوم يصعب فهمه بشكل خاصّ، وقد ترك مؤرّخي الأفكار متحيّرين ومتردّدين في استخدامه، ولهذا السّبب تحديدًا اخترتُ الاهتمام به اهتمامًا أوثقًا.

     كانت الطّريقة التي غطّت بها الصّحافة البريطانيّة اليوبيل الماسي للملِكة إليزابيث الثّانية سنة 2012م، واصفة “البريطانيّين” بأنّهم “أمّة محترمة”، هي الدّافع لعملي على مفهوم الاحترام. والإشارة إلى “البريطانيّين” كأمّة موحّدة كان في حدّ ذاته إشكاليًّا، ولكن استخدام كلمة احترام لوصف العلاقة بين صاحبة السّيادة ورعاياها كان أكثر إشكاليّة. هذا الاستخدام في وسائل الإعلام قصد كلّ شيء ولم يقل شيئًا، بدا وكأنّه تبرير ذاتيّ للنّظام المَلَكيّ البريطانيّ الذي لا معنى له.

     وما يزعجني بشكل خاصّ، وجود تعريف سياسيّ، صالح تمامًا للمَلَكيّة وعلاقتها بالاحترام، كَتَبه والتر باجيهوت (1826-1877م)، صحفيّ متخصّص في الدّستور، إبّان النّصف الثّانيّ للقرن التّاسع عشر. وكثيرًا ما تقتبس الصّحافة تحليله بعيدًا عن المَلكيّة، إلّا أنّها تشير بشكل أقلّ إلى بقيّة عمله، وخاصّة استخدامه لمفهوم الاحترام في إنجلترا. (هنا مثل باجيهوت، أشير إلى إنجلترا وليس بريطانيا، أو حتّى المملكة المتّحدة)(2).

     فالتّعريف الأكثر شيوعًا لـ “الاحترام” يعود إلى فعل “امتثل”، الذي استُخدم في فرنسا منذ القرن الرّابع عشر، ويعني “التّنازل أو التّطابق” مع وجهة نظر شخص آخر، وإظهار الاحترام الواجب له(3). ومع ذلك، ابتعد باجيهوت عن هذا المعنى الأساسيّ، للتّأكيد على أنّ احترام شخص ما، لا يعني بالضّرورة أنّه أعلى رتبة ويجب التّنازل أو الاستسلام له. ويرى باجيهوت، أنّ الاحترام قد يكون عملًا من أعمال السّيطرة على الذّات لأجل الصّالح العامّ، لتجنّب الصّراع المفتوح. والأهمّ إنّ مفهوم الاحترام هذا جزء من هيكل اجتماعيّ يشجّع على وضع مدوّنة سلوك أخلاقيّة. وفي إطار سياسيّ، يؤدّي الاحترام إلى نشوء التزامات بالسّلوك والتّوقّعات في نظام ديمقراطيّ. لذلك، فإنّ تقليل الاحترام لعمل من أعمال الطّاعة يلغي القيمة السّياسيّة للمفهوم.

     وكعمل من هذا القبيل، يتّبع الاحترام قاعدة طقوسيّة للسّلوك الاجتماعيّ، لا يمكن بدونها لهيكل الُحكم أن يعمل بشكل طبيعيّ. ويشير باجيهوت إلى العادات السّياسيّة (الأخلاق) في مجتمع معيّن، ووفقًا لتحليله، إلى الصّلة العضويّة التي وحّدت الإنجليز بدستورهم غير المقنّن وتطوّره التّاريخيّ. وباختصار، قبل ثلاثين عامًا من تعريف الباحث الدّستوريّ أ.ف.دايسي، أواخر العصر الفيكتوري، للمبادئ الأساسيّة الثّلاثة للدّستور البريطانيّ، مثل سيادة البرلمان، وسيادة القانون، والاتّفاقيات الدّستوريّة(4)؛ أشار باجيهوت بالفعل، إلى أنّ هذا الهيكل الدّستوريّ، لا يمكنه العمل إلّا إذا استند على الاحترام السّياسيّ لشعبه.

     وعليه، يتعيّن علينا أوّلًا العودة إلى تعريف باجيهوت، ثمّ تحليل مدى توافق هذا التّعريف مع عمل الأنظمة الدّيمقراطيّة، وأخيرًا فائدة الاحترام السّياسيّ في الوقت الحاضر، الذي تمّ تهميشه في المجتمعات الدّيمقراطيّة الغربيّة الحديثة. وفي الختام، آمل أن أقنع القارئ، بأنّ أخلاقيات الاحترام يمكن أن تكون ردًّا على بعض الشّرور الموجودة داخل النّظم السّياسيّة الحاليّة.

أوّلًا: أخلاقيات الاحترام السّياسيّ حسب تعريف والتر باجيهوت

     يُعرَف باجيهوت، خصوصًا، أنّه مؤلِّف كتاب الدّستور الإنجليزي (1867م)، ورئيس تحرير مجلّة الإيكونومسيت منذ 1861م حتّى وفاته سنة 1877م، (ما يفسّر لماذا ما يزال عمودًا يحمل اسمه). درس القانون قبل أن يصبح مصرفيًّا ثمّ خبيرًا اقتصاديًّا، وكاتب مقالات وصحفيًّا وخبيرًا دستوريًّا، باختصار كان شخصيّة رائعة عمل بجدّ ومات شابًّا.

     ولفهم الاستعمال الذي استخدمه للاحترام، يجب بدون شكّ البدء بعمله “الفيزياء والسّياسة، أو الأفكار المتعلّقة بتطبيق مبادئ “الانتقاء الطّبيعيّ” و”الإرث” على المجتمع السّياسيّ”(5)، كتاب بعنوان غير محتمل تمّ تجاهله بشكل غير عادل. حاول فيه باجيهوت تتبّع تطوّر الأمم الحديثة. ومن المقنع استشهاد داروين به عدّة مرّات في حواشي “نسب الإنسان والانتقاء فيما يتّصل بالجنس” (1871م)، فقد أثبت أنّ المجتمعات السّياسيّة تشهد عدّة مراحل من التّـقدّم، تنمو من خليّة الأسرة إلى غاية سِنّ الحوار، مرورًا عبر المراحل العسكريّة. فيقول باجيهوت: «وحتّى ذلك الحين [سِنّ الحوار] ليست المساواة أمام القانون ضروريّة، بل المحاباة هي المطلوبة؛ فقبل كلّ شيء نحن بحاجة لنخبة عليا تعرف القانون. إنّ المبتغى ليس حكومة جيّدة تسعى إلى سعادة رعاياها؛ بل حكومة محترَمَة ومَهَابة تعرف كيف تحصل على طاعة رعاياها: إنّه ليس قانونًا بلا عيوب، بل قانونًا لا يهرب منه شيء، ويربط الحياة كلّها بالرّوتين نفسه. إنّ قرون الحرّيّة هي الأخيرة، قبل مجيء قرون العبوديّة»(6).

     فالنّظام والاستقرار منشودان قبل المراحل الختاميّة من “الحوار”، ولابدّ أن يكون الاحترام قد عرف أيضًا مراحل مختلفة في تطوّره: وانطلاقًا من مفهوم شديد الصّرامة والتّسلسل الهرميّ (القائم على الإكراه والاستبداد بالضّرورة)، سيستند فيما بعد إلى الإرادة والخيارات المستقلّة. والملاحظ أنّ تفسير تطوّر المجتمعات السّياسيّة، ظهر سنوات قليلة بعد نشر العمل الرّئيسيّ الذي قام به باجيهوت، وهو “الدّستور الإنجليزيّ”(7). وشرح بالفعل كيف ولماذا تمّ الرّبط بين الدّستور الإنكليزيّ والاحترام، قائلًا:

«لا يقوم على المساواة، ولا على تعديل معترف به وتدريجيّ للذّكاء والممتلكات؛ ولكن على بعض المشاعر القديمة للاحترام، وعلى طريقة تقريبيّة غريبة لتمثيل الحسّ السّليم والذّكاء؛ ولا ينبغي إساءة معاملة أيّ منهما، لأنّه إذا فسدت مرّة واحدة لا يمكن إعادة بنائها، ولأنهما الدّاعمان الوحيدان الممكنان لدستور مثل دستورنا في شعب مثل شعبنا»(8).

     ولذلك، فما يبدو محبّة غير عقلانيّة للمَلكيّة، أو ميلًا إلى الخصائص السّياسيّة الإنكليزيّة، يرتبط في الواقع بعلاقة الأمّة باحترام عاداتها وتقاليدها القديمة، أي نحو دستورها (المفهوم بالمعنى الصّحيح، كما الحال في المعنى المجازي)، وأشار باجيهوت هنا إلى الطّبيعة السّياسيّة والمادّيّة للأمّة الإنجليزيّة.

     دعونا لا ننسى، إنّ باجيهوت كان رجل عصر لا يخلو من مشاكل. وكان حذرًا من تمديد التّصويت الذي أُدخل سنة 1867م، وقت تشكيل قانون الإصلاح البرلمانيّ الثّانيّ، ما يسمّى “قانون الإصلاح الثّاني”. كما بدا متردّدًا في الثّقة بالنّاخبين الجدد الإنجليز (خاصة رجال الطّبقة العاملة)، وكأنّ النّظام هشّ للغاية ولابدّ من حمايته ضدّ أولئك الذين أطلق عليهم “الكتلة”. ومثله، كان مُفكِّرون آخرون مثل الفيلسوف “جون ستيوارت ميل“، قلقين بشأن آثار الدّيمقراطيّة في نظام أرستقراطيّ. ومن ناحية أخرى، كان باجيهوت يخشى أن تؤدّي الرّغبة في الدّيمقراطيّة الحقيقيّة إلى الإضرار بالاحترام، وأنّ النّظام البرلمانيّ البريطانيّ القائم على الدّستور غير المنظّم، لن يعمل بدونه كما ينبغي. إذ الحرّيّة، وهي أعظم خير للإنجليز، سوف تتعرّض للخطر بعد ذلك. فيحذّر باجيهوت قائلًا:

«ومن ثمّ، فالبلد المتحيّز، الذي تُجهل فيه كتلة الشّعب، في حالة تسمّى ميكانيكيًّا بالتّوازن غير المستقرّ. فإذا كان هذا التّوازن مضطربًا فلا شيء يميل لاستعادته، على العكس فكلّ شيء سيحرّكه بعيدا (...)، الأمر نفسه في الدّول التي تكون فيها الجماهير جاهلة، ولكنّها محترمة؛ فإذا سمحتم مرّة للطّبقة الجاهلة أن تأخذ السّلطة في متناول اليد، يمكننا أن نقول وداعًا للاحترام إلى الأبد (...). فلن توافق الدّيمقراطيّة أبدًا على إعادة ما مُنح لها، ما لم تحدث كوارث مروّعة، لأنّ القيام بذلك يعني اعترافها بالعجز عن العمل، ولكن هذه حقيقة لا تملك أثقل الكوارث فيها إلّا القدرة على الإقناع»(9).

     وبطبيعة الحال، كان باجيهوت مخطئًا –فظهور الديّمقراطيّة التي تأسّست بالكامل في المملكة المتّحدة بعد الحرب العالميّة الأولى، لم ينهِ النّظام البرلمانيّ والنظّام المَلكيّ-، على الرّغم من إشارته، بصدق، إلى ضرورة بقاء بعض جوانب الاحترام الرّاعيّة لهذا النّظام. وحذّر أيضًا في حالة فقدان الاحترام، يمكن نشوء نوع من القدْر الوسطيّ للهياكل الدّيمقراطيّة. وفي مقدّمته سنة 1948م لكتاب “الفيزياء والسّياسة”، أوضح المؤرّخ جاك بارزون أنّ [باجيهوت تصوّر الدّيمقراطيّة، رغم اعتمادها على التّنميّة، مانعة الأفراد تدريجيًّا من ذكائهم]. كان هذا الخوف الذي حرّك المؤلّف الفيكتوري(10).

     ومن خلال فهمه النّخبويّ للحياة السّياسيّة الإنجليزيّة، يمكننا التّساؤل عمّا إذا كان الاحترام يشكّل واجبًا بلا حقّ، ولا يتفقّ مع قيم الأنظمة الدّيمقراطيّة الغربيّة الحديثة.

ثانيًّا: “الاحترام، واجب بلا حقوق؟”(11) الاحترام الاجتماعيّ؟

     قبل ما يقرب من عشرين عامًا نُشر عمل جماعيّ بشأن الاحترام في فرنسا. ومن المتوقّع أنّ تعريف الاحترام السّياسيّ وفقًا لباجيهوت لم يُذكر للأسف، في حين كان تعريف عالِم الاجتماع الأمريكيّ “إدوارد شيلز”، في صميم المقالات الثّلاث عشرة التي تمّ جمعها في هذا المجلّد(12). وقد اكتسب الاحترام الذي صاغه شيلز سنة 1968م، بمعناه الاجتماعيّ، مَركزًا شبه أسطوريّ، لأنّه نجح في تحديد العناصر الأساسيّة للمفهوم ضمن مادّة واحدة. وهو يثبت أنّ الاحترام الاجتماعيّ ليس منحطًّا ولا متدهورًا، بل ضروريًّا: فــ «الاحترام، الذي أساسه ردّ فعل على النّزعة الكاريزميّة، ليس سوى مسألة رأي، ولكنّه رأي ذي دوافع عميقة، وردّ فعل على احتياجاتها سواء لمن يُظهرها، أو يرون أنفسهم شاهدين عليها»(13). لِننظر فقط إلى اجتماع الرّئيس دونالد ترامب مع الملِكة إليزابيث الثّانية في يونيو 2019م، وردّ فعله على جمال وروعة قصر بكنغهام لفهْم ما كان يعني شيلز.

     لم يُنكر عالِم الاجتماع، تخفيف الاحترام في المجتمعات الدّيمقراطيّة الغربيّة المعاصرة بسبب الطّبيعة المتساويّة لهذا النّظام، ولكن أوضح أيضًا أنّه لا يمكن الاستغناء عن الاحترام، في ظلّ وجود نظام طبقيّ قائم، حتّى في أكثر الدّيمقراطيّات مساواة (النّرويج ومَلَكيّتها هما مثال جيّد في هذا المقام). ويعتقد شيلز أيضًا صعوبة وُجود مساواة حقيقيّة، وأنّ الاحترام يشكّل حاجة لأنْ يُعجب الأفراد بشيء يتفوّق عليهم ويُلهمهم. فقد فَهم باجيهوت هذا بالفعل عندما أعاد الاحترام للعادات والآداب القديمة للإنجليز، وبالتّالي الاحترام والسّياسة المرتبطين. وَوِفقًا لشيلز، فالاحترام أحد شروط الحياة البشريّة.

     بينما، قد يعتقد المرء أنّ ظهور الدّيمقراطيّات جعل ممكنًا إلغاء جميع أنواع الاحتفالات، والعناوين، والألقاب، والأعمال الرّسميّة التي توطّد هيكلًا طبقيًّا شعائريًّا؛ ولكن أظهر شيلز بوضوح، أنّ “طقوس الاحترام”(14) لا تتعلّق بنظام سياسيّ بل بالأفراد واحتياجاتهم. وسيكون من الخطأ رفض الاحترام باعتباره يتعارض مع عمليّة المساواة في المجتمعات الدّيمقراطيّة. وهذا لسببين: أوّلًا، إذا كان يجب، كما يبيّن شيلز، أن يكون الدّافع وراء الشّخص هو “الاعتراف أو التّحقير”(15)، عندئذ يجب التّعبير عن ذاك الدّافع بطريقة أو بأخرى، بما في ذلك مجتمعات المساواة؛ وثانيًّا، ميل إنسانيّ يتصرّف بتأثير انعكاسيّ: فبكلمة واحدة، نقيس القيمة التي تعطى لنا، وهذا يسمح بالعمل أو الرّدّ وفقًا لذلك. وقد رفض عديد الأكاديميّين الأنجلو-أمريكيّين هذا التّعريف أواخر السّتّينات، بدءًا بالعلماء السّياسيّين الذين كانوا يعتقدون أنّه إذا كان مستحيلًا قياس الاحترام، فليس له قيمة تحليليّة. وقد تخلّى الباحثون عن هذا المفهوم تدريجيًّا في السّبعينات والثّمانينات –باستثناء علماء الاجتماع- ولكنّ الصّحافيّين استعملوه لوصف المَلكيّة البريطانيّة، وذلك من باب السّهولة، ودون أن يشرحوا تعريفه إطلاقًا.

     وفي فرنسا، نادرًا ما يُستخدَم هذا المصطلح، وعندما يكون كذلك، يبدو الاحترام على الفور مشكوكًا فيه، لأنّه سيعزّز شكلًا غير مرئيّ من أشكال الخضوع أو شعورًا بالهيمنة يمنع “الرّابط المدنيّ، والاجتماعيّ”(16). وسيخلق أساسًا عقبة أمام مبادئ الجمهوريّة الفرنسيّة القائمة على المساواة. وسيكون هناك “واجب” بالرّجوع إلى سلطة، دون حقّها في طعن نفسها. وهذا الرّأي المحدود لا يَأخذ في الاعتبار حجّة “شيلز” القائلة: بأنّ الاحترام ضرورة إنسانيّة، حتّى في شكله المخفّف جدًّا.

     وهكذا أصبح ممكنًا توسيع نطاق الاحترام السّياسيّ للدّستور الإنجليزيّ، كما فهِمه باجيهوت، ليشمل جميع الدّيمقراطيّات الغربيّة. ففي عملي كان سهلًا، نسبيًّا، إظهار كيف تطوّر الاحترام السّياسيّ عبر القرون في مجتمع هرميّ، مثل مجتمع إنجلترا الذي شهد عدّة ثورات، وانتفاضات في القرن السّابع عشر. فنشأت مملكة ديمقراطيّة من هذا الهيكل الأرستقراطيّ، خلال القرنين التّاسع عشر والعشرين إلى اليوم، تشكّك في وجود دستور غير منقّح(17). وخطرُ هذا الوصف للدّستور الأنجلو-بريطاني، هو العودة إلى تفسير “ويغ” للتّاريخ، أي تقليص حركة تاريخ إنجلترا إلى تطوّر بدون ثورة، واكتساب حرّيّة أكثر تدريجيًّا(18). ففي دراستي حول هذا الموضوع، حاولت توضيح أنّ العلماء والمفكّرين السّياسيّين، في القرن العشرين خاصّة بعد السّبعينات، اعتبروا الاحترام بقايا الماضي الأرستقراطيّ، وربّما رفضوا المفهوم دون فَهم قوّته. وكما تصوّر باجيهوت، وجود صلة عضويّة قائمة بين الدّستور الأنجلو-بريطاني، وأولئك الذين يعيشون فيه يوميًّا: إذ التّشكيك في ذلك كان لهزيمة النّظام بالكامل.

 ويصبح فَهْم الاحترام، على هذا النّحو، ميلًا ضروريًّا ومفيدًا في المجتمعات السّياسيّة، بما في ذلك أكثرها مساواة. ورفض هذا التّأكيد لا يعني إساءة استيعاب مفهوم المساواة فحسب، بل أيضًا يفتح الطّريق أمام المواقف المتضاربة والعدائيّة إزاء السّلام الاجتماعيّ في المجتمعات الدّيمقراطيّة.

ثالثًا: أخلاقيات الاحترام السّياسيّ باعتباره جاذبيّة في المجتمعات الدّيمقراطيّة الغربيّة

     قد يكون تعريف الدّيمقراطيّة، وما تمثّله في حدّ ذاتها نقطة بداية المشكلة. ولتبسيط الأمور، يمكن القول إنّ الرّغبة في المساواة، من وجهة نظر فرنسيّة منذ سنة 1789م، هي الأساسيّة قبل كلّ شيء على الأقلّ من وجهة نظر فكريّة. وعلى الجانب الأنجلو-بريطاني، فإنّ المُثل العليا للحرّيّة هي الغالبة، والحكّام مسؤولون أمام مَن سمحوا لهم باتّخاذ مثل هذه المواقف. وفي إحدى الحالات، نطمح إلى ديمقراطيّة مباشرة مستحيلة، وفي الحالة الأخرى، إلى ديمقراطيّة تمثيليّة لا تكون مثاليّة أبدًا. فمنذ ستّينيات القرن العشرين، شقّت فكرة الدّيمقراطيّات التّعدّديّة –التي تناضل فيها الدّوائر المتنافسة (عادة من النّخب)- طريقها للحصول على السّلطة من خلال جماعات الضّغط المختلفة (شومبيتر، داهل)، ولكنّي وضعتُ قضيّة الدّيمقراطيّات التّعدّديّة جانبًا، للتّركيز على وجهات النّظر المختلفة فيما يتّصل بما يفترض للدّيمقراطيّات الغربيّة فعله وتوليده. ولاستخدام عنوان كتاب توماس سويل لسنة 1987م، هناك أوّلًا، وقبل كلّ شيء، صراع في الرّؤى –”تضارب في الآراء”(19).

     وبالنّسبة لسويل، ترجع المشاكل الأخلاقيّة والسّياسيّة إلى الاختلافات الأساسيّة في وجهات النّظر بين النّاس. ويحدّد منظورين محتملين: إمّا من وجهة نظر “مقيّدة”، أو وجهة نظر “غير مقيّدة”؛ بحيث يرى أصحاب وجهة النّظر “المقيّدة” إلى الطّبيعة البشريّة على أنّها مسألة يصعب تغييرها، استنادًا لمصالح خاصّة؛ لذلك فنظرتهم إلى الحياة والسّياسة تحبذّ “الحلّ الوسط”. فمثلًا، يوافق الفرد على إعطاء نصيبه من السّيادة للدّولة عندما تضمن له، مقابل ذلك، التّمتّع بــ “حياته وحرّياته وممتلكاته” كما أكّد جون لوك(20). وعلى العكس، فأصحاب وجهة النّظر “غير المقيّدة” ينظرون إلى الطّبيعة البشريّة أنّها “قابلة للكمال”(21)، ويركّزون على “أعلى المُثل العليا وأفضل الحلول فيها”(22)، مثل جان جاك روسو ورغبته المثاليّة في إرادة عامّة في السّياسة. بحيث يركّز الرّأي “المقيّد”، في المقام الأوّل، على التّطوّر والحلول العمليّة القائمة على “الخيارات المتاحة والمحدودة والمؤسفة”؛ ويركّز الرّأي “غير المقيّد” على المُثل العليا القائمة على أساس “الاقتناع بأنّ الخيارات اللّاأخلاقيّة والغبيّة، تفسّر شرور العالَم، ويكمن الحلّ في سياسات اجتماعيّة أكثر ذكاء وإنسانيّة”(23). والفرق بين هذين المنظورين –أحدهما واقعيّ والآخر مثاليّ- يؤدّي إلى نظرتين متضادّتين تمامًا لِما ينبغي أن تكون عليه الدّيمقراطيّة، وتسعى له. ولهذا السّبب تؤكّد زميلتي “جونفييف كوبي”، أخصّائيّة القانون العامّ، من خلال ربط الاحترام بماضينا الأرستقراطيّ(24)، أنّه غير مقبول، بأيّ شكل من الأشكال، في ديمقراطيّة فرنسا المعاصرة. ووجهة نظر “كوبي” تتّبع نموذج وجهة النّظر غير المقيّدة. بل على خلاف ذلك، يرى عالِم الاجتماع “يوجين إنريكي” أنّه ينبغي وُجود “حقّ في الاحترام”(25)، على الرّغم من كون الفكرة نفسها إشكاليّة من نواح عديدة. فمنظور المُثل العليا لكلّ منهما، يجعل من المُستبعد أن يتسنّى التّوصّل إلى فَهم مشترك، بما في ذلك مثلًا، بين اثنين من الأكاديميّين الفرنسيّين، لِما يمكن توقّعه من الدّيمقراطيّات الغربيّة. ومع ذلك، فالاحترام مطلوب هنا على وجه التّحديد.

     ولأنّنا نقترب من هذه المحادثة السّياسيّة بمجموعة قِيَم مختلفة، ينبغي قبول تعريف شيلز للاحترام، باعتباره ضرورة مشتركة يجب التّعرّف عليها وعلى غيرها، بغضّ النّظر عن قيمنا. وفي سياق سياسيّ، يصبح الاحترام المتبادل لغة الكياسة والمصالحة والتّحكيم. ويعترف شيلز بقيمة التّواصل والمناقشة القويّة في حلّ الصّراعات، ولا يرضى بالحلول الجاهزة، ولكنّه يعترف بنوعيّة الخصم ومشاكله الفرديّة. وكما عبّر بيير أنسارت، عالِم اجتماع فرنسيّ آخر، فالاحترام قد فُهم على هذا النّحو، ويقول موضّحًا: «يخلق تواطؤًا مؤقّتًا ويبدّد الانزعاج من  المسافة الاجتماعيّة، وينشئ حيّزًا محدَّدًا للالتقاء، تسمح فيه المسافة المتآمرة بين الشّركاء بممارسة حرّيّة خاضعة للمراقبة وتوافق عليها بحرّيّة. ولم يعد التزامًا عامًّا يفرضه مجتمع هرميّ؛ بل على العكس، صار رابطًا نادرًا ومتحفِّظًا عن طيب خاطر، ومتمتِّعًا بسحر مجّانيّ»(26).

     وهذا التّعريف لأنسارت هو عكس الخضوع والاحترام، الذي يرتبط كثيرًا بمعنى الاحترام اليوم. وأيًّا كانت أساليبه النّخبويّة الأخرى، فقد حدّد باجيهوت في  النّظام البرلمانيّ الكلاسيكيّ الفيكتوري لإنجلترا هذا الاتّجاه الذي يحرّض الأمّة على احترام مؤسَّساتها، وذلك لمجموعة أسباب متنوّعة وقِيَم مختلفة؛ فكان كالإسمنت الذي وحّد النّظام. ونتيجة رفض الاحترام باعتباره من آثار الماضي المخزية، خاصّة بعد الحرب العالميّة الثّانيّة، فقدت البلاد رصيدًا قيّمًا وَحَّد الشّعب، على الرّغم من اختلاف وجهات النّظر حول ما يمكن أن تكون عليه الحياة داخل المجتمع. إذ يمكن النّظر للمشاكل الحاليّة المتعلّقة بالبريكسيت، والعجز عن التّوصّل لحلّ وسط مناسب، والتي كانت مصدر أزمة سياسيّة ودستوريّة منذ يونيو 2016م، على أنّها نتيجة لفقدان الاحترام السّياسيّ.

     إنّ فرنسا وغيرها من الدّيمقراطيّات الغربيّة، ترفض في أغلبيّتها الاحترام ولا تنطق بالكلمة حتّى. غير أنّه حان الوقت لتوضيح معنى هذا المفهوم، والعودة إلى تعريف باجيهوت الأصليّ؛ ليس فقط لأسباب اجتماعيّة، ولكن قبل كلّ شيء لأسباب سياسيّة وديمقراطيّة؛ فـ أخلاقيات الاحترام من شأنها جعْل إعادة التّواصل مع المزيد من العلاقات الهادئة، وإعادة تقييم لغة الكياسة ممكنًا. لماذا؟ لإعادة استخدام كلمات يوجين إنريكي، كما يلي: «يتعلّق الأمر بضرورة: النّظر المتبادل، والتّناغم، والخصال الحميدة، والكياسة التي بدونها يصبح الإنسان خصمًا للآخَرين، ولا يمكن تحمّلها إلّا تحت رعاية سلطة تربويّة تملي سلوكه وتحرمه سلطته السّياديّة»(27).

     بينما لا يتعلّق الأمر بالدّعوة إلى مناقشات لا نهاية لها، وحلول توفيقيّة غير مقبولة، بل لقياس أنّه بلا احترام سياسيّ، تموت الدّيمقراطيّة مهما كانت غير مُرضيّة، ويموت ما تحتويه من بهجة وحرّيّة ومساواة معتدلة. وهذا يعني في الممارسة العمليّة قبول الحكومات، بمجرّد انتخابها ديمقراطيًّا، أن تفعل ما في وسعها كلّه داخل عالَم مُعَوْلَم لا تملك سطلة كبيرة عليه؛ وتستخدم التّحكيم والتّوفيق فيه، حيثما أمكن، بِلُغة احترام تعترف بالآخَرين كبشر لهم قيمهم ومشاكلهم الخاصّة؛ وأنّه من الضّروريّ قبول الاضطرابات، وأوجه القصور والمظالم العديدة في الحياة الدّيمقراطيّة. ولعلّ البحث الفوضويّ والمضطرب عن السّعادة في الدّيمقراطيّات الغربيّة، أهمّ من السّعي الطّوباويّ لإرضاء الجميع. وبالتّالي فممارسة الاحترام الدّيمقراطيّ تتطلّب تجديد سلوك وأخلاقيات مجتمعاتنا الحديثة التي تؤدّي إلى أخلاقيات جديدة، وهي الاحترام السّياسيّ.

     والحجّة الأخيرة المؤيّدة لـ أخلاقيات الاحترام، هي بالإضافة إلى مجموعة المشاكل المصاحبة له، فإنّه يضمن ظروف مجتمع ديمقراطيّ ناجح يمكن فيه للأفراد الأحرار أن يزدهروا(28). إذ لتجاهله، كما شرح باجيهوت جيّدًا، لفترة طويلة الآن، قد نعرّض سعادتنا للخطر.


الإحالات والهوامش

(1) سينشر سنة 2021م بواسطة Palgrave.

(2) المثير للاهتمام، ملاحظة أنّ كتاب باجيهوت الشّهير، “الدّستور الإنجليزي” 1867م، لا يتعلّق بالدّستور البريطانيّ بل بالدّستور الإنجليزيّ.

(3) “للاحترام أو للامتثال”، وفقًا لتعريف “أكسفورد”، وهو قاموس إنجليزي.

(4) ديسي، أ.ف مقدّمة لدراسة قانون دستور 1885م، إنديانابوليس: صندوق الحرّية، 1982م، ط8/1915م، ص:148-435.

(5) نشرت سنة 1872م، وظهرت لأوّل مرّة في شكل مقالات في الاستعراض نصف السّنوي من نونبر 1867م إلى يناير 1872م.

(6) والتر باجيهوت، الفيزياء والسّياسة، نورمان سانت جون ستيفاس، الأعمال التي تمّ جمعها من والتر باجيهوت، لندن، الإيكونوميست، المجلّد 7، ص:33.

(7) نشرت لأوّل مرّة كمجموعة مختارة من المقالات في مجلّة الاستعراض نصف السّنويّة بين عامي 1865و1867م.

(8) والتر باجيهوت، الدّستور الإنكليزي، المرجع الأوّل، المجلّد 5، ص:408-409.

(9) المرجع نفسه، ص:381-382.

(10) جاك برزون، مقدمة لـ: باجيهوت، الفيزياء والسّياسة أو الأفكار حول تطبيق مبادئ “الانتقاء الطّبيعي” و”الميراث” للمجتمع السّياسي (1572م)، نيويورك، ألفريد. أ. كنوبف، ص:25.

(11) جونفييف كوبي، “الاحترام، واجب بدون حقوق؟”، البلاغات، 69، 2000، ص:201-214.

(12) حول شيلز (1910-1995م)، راجع مارتن بولمر، “إدوارد شيلز كعالم اجتماع”، مينيرفا، المجلد 34، رقم 1 (مارس1996م)، ص:7-21.

(13) إدوارد شيلز، “احترام” (1968م)، في دستور المجتمع، شيكاغو ولندن، مطبعة جامعة شيكاغو، 1982م، ص:175. ترجمة دومينيك فيرلوت.

(14) “طقوس الاحترام”، المرجع نفسه، ص:159.

(15) “التّقدير أو عدم التّقيّد”، المرجع نفسه، 143.

(16) انظر: جونفييف كوبي، “الاحترام، واجب بدون حقوق؟”، مرجع سابق، ص:213.

(17) فيرنون بوغدانور، ما بعد بريكسيت، نحو دستور بريطاني، لندن، إ.ب.توريس، 2019م.

(18) هذا هو المصطلح الذي استخدمه المؤرخ هـ.باترفيلد في كتابه “الرّجل الإنجليزي وتاريخه” (1944م).

(19) توماس سويل، صراع الرّؤى الأصول الأيديولوجية للصّراعات السّياسيّة، نيويورك: فـ.مورو، 1987م، ص:273.

(20) “الحياة والحرّيات والممتلكات”، جون لوك، أطروحتان للحكومة، بيتر لاسليت، كامبريدج، مطبعة جامعة كامبريدج، 1960م.

(21) توماس سويل، صراع الرّؤى الأصول الأيديولوجية للصّراعات السّياسيّة، مرجع سابق، ص:83.

(22) “أعلى المثل العليا وأفضل الحلول”، المرجع نفسه، ص:91.

(23) المرجع نفسه، ص:7-96.

(24) جونفييف كوبي، “الاحترام، واجب بدون حقوق؟”، مرجع سابق، ص:4-201.

(25) يوجين إنريكي، “إزالة الاحترام في المجتمعات الدّيمقراطيّة”، البلاغات، 69، 200، ص:199.

(26) بيير أنسارت، “الاحترام أو الحرمان من السّلطة”، البلاغات، 69، 2000، ص:7-266.

(27) يوجين إنريكي، “إزالة الاحترام في المجتمعات الدّيمقراطيّة”، مرجع سابق، ص:199.

(28) انظر أيضًا: فيليب سوبر، أخلاقيات الاحترام، التّعلم من آداب القانون، كامبريدج، 2002م، ص:83-168.

(29) أخلاقيات الاحترام