مقدمة: نازلة دار الأكابر
نسعى في هذه القراءة الموجزة (التحليلية التقبلية)، المراوحة بين اعتماد آليات تحليل النصوص السردية وأدوات اللسانيات من جهة والتأويل من جهة ثانية، إلى محاولة فك شفرات هذا الإله السردي الملغز القابع على غلاف الرواية واستنطاق دلالته. وبين الموضوعي والذاتي حاولنا اصطحاب القارئ في رحلة تأويلية لعتبة العنوان وتفريعاته في رواية “نازلة دار الأكابر” لما عثرنا فيها على جمالية متعددة الأبعاد حاولنا أن نضاهيها نقدا سعينا منا إلى الوصول إلى مرتبة النقد التي سماها سانت بيف “النقد المتعاطف la critique de sympathie“، ومن جهة أخرى عملا بقول أستاذي في السرديات عبد الرزاق الحيدري “اشتغلوا على نتاجنا الأدبي التونسي لما يزخر به من قيم وأولوه اهتمامكم، يكفينا الاستغراق نقدا لإبداع غيرنا” فلنا “مدرسة تونسية في الإبداع صنو النقد”. وأنبه أولا إلى أن هذا المقال مجرد قراءة متواضعة من باحث لا تزال قدماه تزل في ميدان النقد الأدبي وهي قراءة تركنا فيها الذات تبحر في ذاتيتها دون الالتزام الصارم جدا (الذي نعاف) بالمنهج العلمي في قراءة الإبداع الأدبي. وأنبه ثانيا إلى أن القارئ سيعثر على تداخل مرده صعوبة تطبيق أدوات اللسانيات الصارمة ومعاول السرديات على أرضية أدبية تحتاج تأويلا (الذاتية)، دون الوقوع في صعوبات منهجية، والدافع هو محاولة خبر فاعلية هذه الأدوات في الكشف عن بواطن النصوص السردية كي لا يبقى أثاث الكون اللساني (الأدوات والمفاهيم والمصطلحات والنظريات) معلقا، يدرس لذاته، بل نسعى لمحو الفواصل في عصر تداخلات فيه الاختصاصات وتواشجت وتظافرت.
حظي العنوان باهتمام مطرد في السرديات المعاصرة، سرديات ما بعد الحداثة التي ثارت على مبادئ التنوير وقلبت الموازين فنقلت مجال اشتغالها إلى الهامش وهمشت المركزي. وداخلها عد العنوان، باعتباره عتبة هامشية في السابق، “مؤشرا تعريفيا وتحديديا ينقذ النص من الغفلة (…) وهو الحد الفاصل بين العدم والوجود (…) هو علامة الكينونة، يموت الكائن ويبقي اسمه” [1] . وهو بؤرة معنوية مكثفة تختزل النص جهة الدلالة اعتبارا بأن الراوية هي كون لغوي سماتي يمثل العنوان مكونا لغويا ينتشر عبر معانمه Sememes وسيماته الدلالية الدنيا وهي المعينمات Semes (الأنساق الدلالية للنص) في الفضاء النصي أو هو جملة سردية Narrative Phrase تختزل كونا سرديا Narrative Universe مثخنا بالأسئلة والقضايا، فتنبع شعريته من تكثيفه شعرية النص “من حيث يقوم العنوان بدور فعال في تجسيد شعرية النص وتكثيفها أو الإحالة عليها”[2] وتنبع سيميائيته “من كونه يجسد أعلى اقتصاد لغوي ممكن يوازي أعلى فعالية تلق ممكنة”[3] . كما أنه نظام مختزل، محكم الصياغة، يختاره منشيء النص بعناية نظرا لكونه أول أشياء العالم الراوئي التي منها يلامس المتقبل النص وعبر هذا الجسر الرابط بين النص وقارئه، يرى هذا العالم النور نحو أذهان القراء وقلوبهم. فهو بالتالي يمثل أول العتبات التي ينشئون معها علاقة مما يجعله خاضعا بدرجة أولى لوظيفة إغرائية، إغوائية وأخرى تسويقية تنشآن عن طريق وظائف فرعية هي الوظيفة الاختزالية والإيحائية والإرشادية أو التنبيهية Fonction Phatique، فهو أقرب إلى الفواتحLes Amorces. وفي تقديرنا الشخصي, نعتبر العنوان أول سابقة Prolepse في النص السردي يقع إيرادها في شكل مشروع، هاجسه دفع رغبة لدى المتقبل Receiver للتكهن وبناء أفق تلق يشاكه الرواية فهو، أي الأفق الناجم عن التكهن، رواية المتقبل في الذهن، في عالم غير لغوي، تشاكه رواية الكاتب التي طالها فعل الكتابة ونقلت من عالم غير لغوي إلى آخر لغوي. ولم يشذ عنوان رواية “نازلة دار الأكابر” للروائية أميرة غنيم، وهي أستاذة جامعية مختصة في الألسنية، عن هذه القاعدة، إذ هو يزخر بدلالات ومعان كثيفة سنسعى إلى استجلائها وإخضاعها لتراتبية تخرجها من طور الكمون إلى الظهور وسنطوع أدوات الألسنية لننتج قراءة من داخل اختصاص الراوئية [علم اللغة] وخاصة ثنائيتين مركزيتين هما العلاقات السياقية والجدولية في العنوان لنكشف الدلالة المتولدة عنها الحاضرة بصريا والدلالة الغائبة بصريا والحاضرة ذهنيا وستنتجاوز ذلك إلى الحفر عن مرجعياته، تناصيته، مع جولة صغيرة بالقارئ في العناوين الفرعية.
تأويل الظاهر في العنوان: نازلة دار الأكابر
إن المتلقي لهذا العنوان وتحديدا المتقبل المتخصص، يعقد أول ما يعقد علاقة صوتميةPhonological Relation معه، تتلخص في المكونات الصوتمية Phonological Components لهذا المركب الشبه إسنادي التي تمثلها الصواتم التركيبية وفوق القطعية (التنغيم) Suprasegmental phonèmes كما جاءت بها المدرسة الأمريكية ومن ثمة تخضعه لنطق مخصوص وفق تنغيم لهجة مخصوصة بدورها هي “اللهجة التونسية” إذ تحذف حركة الزاي (الكسرة) وتعوض بسكون ويحذف الصوتم الأخير (التاء) ويعوض هاء ساكنة. كما يقع تفخيم الهاء وترقيق النون وتعوض اللام باكسترافون آخر هو اللام التونسية الخفيفة والسريعة. مما يجعلنا نؤكد على السمة التمييزية الأولى Distinctive Feature لهذا العنوان من جهته دلالته السمعية وهي سمة [+لهجة تونسية]، فيموقع القارئ بالتالي الكون الروائي كله ضمن فضاء مكاني واسع هو تونس. ثم يزيد المفعول فيه وهو “دار الأكابر” تخصيص الفضاء المكاني المفتوح [تونس] وتأصيله، ليغدو بالتحديد هذا المكان المغلق الغامض أي دار الأكابر باعتبارها خشبة المسرح الذي تدور على ركحها المكونات السردية من أعمال وفواعل وأزمنة وفق نظام مخصوص يمثل طرائق تصريف هذه المكونات وهو الخطاب، وهذه الظاهرة لافتة وطاغية فكثيرة هي الروايات التي تعنون بأسماء أمكنة أو تحيل إليها خاصة بعد رد الاعتبار لأهمية المكان مع الناقدين: جورج جان وميشيل بوتور اللذين اعتبرا المكان متجاوزا لوظيفة احتضان الأحداث وتأطيرها إلى التغلغل في نسيج النص وإثراء جماليته وكسر رتوب السيرورة الروائية.
أما من جهة ثانية فيموقع هذا المفعول فيه النص الراوئي على الخط الزمني عن طريق المضاف إليه [الأكابر] الذي يمثل لفظا تونسيا يطلق على العائلات الأصيلة: البلدية[4]، في القرن المنصرم ويميزها عن غيرها ولكن تقلص استعماله ونفوذ أصحابه لاحقا خاصة مع اضمحلال التراتبية الاجتماعية ذات البناء العرقي وحلول صفة المواطنة محلها إلى حد مع استقلال البلاد. وأنذاك (أوائل القرن إلى أوسطه) كان لهذه العائلات النبيلة في نظرهم مكانة ونفوذ ورفعة نسب فهم “أهل الحاضرة” و”البلدية” وهم أهل الفكر والمعرفة (زيتونيون) وأهل الكراسي وباختصار هم أهل الحل والعقد (بمعنى العبارة الخلدونية لا معنى العبارة الأشعرية)، يحتفى الجميع بهم ومن ذلك صورة مولود “للازبيدة” الذي سار في جنازته خلق عظيم “فوزن الميت في الحاضرة من قيمة نسبه لا من قيمة الصالح من أعماله”[5] . وبالعودة إلى علم الأثلة Etymology أو القواميس المهتمة بتاريخية الألفاظ، أمكننا موقعة الأحداث عن طريق تحديد الفترة التي شاعت فيها هذه العبارة بدقة. وهذا الرأي تدعمه ثلاث علامات: علامة سيميائية صورية غير لسانية وتتمثل في الصورة على الغلاف التي تحوى نهجا عتيقا ذا بناء تقليدي شاع في القرن المنصرم ولباس تقليدي (السفساري) [6]، الكبوس أو الشاشية[7] لإمرأتين ورجلين يمران عبر هذا النهج وهو لباس تقلص استعماله في وقتنا الحالي وشاع في أواسط القرن المنصرم إلى حدود فترة حكم بورقيبة التي شهدت فيها البلاد تغييرات على أصعدة متعددة منها ما ارتبط بالتراث الثقافي. وعلامة سيميائية لغوية سردية وهي شخصية الطاهر الحداد الذي يقودنا اسمه إلى فترة مخصوصة في القرن المنصرم أما ثالث العلامات فهي علامة سيميائية جامعة، لغوية وصورية، تتمثل في مخطط شجرة العائلة الذي افتتحت بها الرواية [8] والذي يمثل بطاقة عبور دونها يتيه القارئ في عالم الشخوص، فهي خريطة تعطى للقارئ، لتنظم, جهة الانتساب العرقي, فوضي الأسماء والدوال التي يروى بعضها ويكتفى بعضها بالحضور الباهت شخصية مسطحة Personnage Plat إلى نهاية الرواية ميسمها الثبات لاتنمو ولا تتغيير وهذه العلامة الأخيرة تقدم أسماء يستشعر فيها القارئ التونسي شيئا من العتاقة (جنينة، بية، منانة، قمر، نفيسة..) ولها وجود مرجعي حقيقي (النيفر، الرصاع) كما تقدم تواريخ الميلاد والوفاة التي تمتد أغلبها في فترات من القرن المنصرم (امحمد: 1906/ 1977).
وهذا التحديد الذي اضطلع به المفعول فيه يقابله غموض واقع في المشتق “نازلة” مرده تعدد دلالي في القاموس استلهمته الروائية في العنوان. وهو يحيل أول ما يحيل في القاموس إلى الدخول في المكان مع حضور زائدة صرفية تصريفية (ة) تحيل إلى متكلم مؤنث يقودنا مباشرة إلى منشيء النص إذا ما وضعنا نصب أعيننا أنها “كاتب مؤنث”. فهل هي رواية بضمير المتكلم المفرد Monophony وإن تعدد الراوة؟ وهل أن الكاتبة هي راو “نازلة” يقبع داخل الشخوص متقنعا بها ليقدم من خلالها عبر الأحاديث تصوراته وآراءه أم أنها قد أخذت مسافة بينها وبين شخوصها لتترك لهم الحرية في الحديث والتنقل داخل أشياء العالم الروائي؟. إن هذه الأسئلة وغيرها تطرح في ذهن القارئ الفطن فتقذف فيه من ناحية أولى شعورا يتمثل في الرغبة الجامحة في البحث عن ماهية النازلة وعن إجابات لهذه الأسئلة المتعلقة بها وهي رغبة فطرية أو هي علة توازي “العلة الأولى” التي تحدث عنها النحاة القدامى في أنها واجبة [لأن النفس لاتطيق في معناه غيره]. فتلعب دور المحفز للقراءة. وهذا التحفيز سيدفعه في طور ثان دفعا لا فكاك منه لاقتناء الرواية وسبر أغوارها فتحقق إذن وظيفيتين: وظيفية تحفيزية وأخرى تسويقية.
النوازل الدلالية والتركيبية الغائبة في العنوان: محاولة في تأويل الباطن
إذا ما وضعنا في الحسبان أن هذا العنوان ذو بعد مشكلي ناجم عن كونه مشحون بدلالات كامنة تدفع على مزيد طرح الأسئلة من جهة الغائب فيه الذي سنسعى إلى الحفر بحثا عنه، فإننا لا مناص من أن نعتمد في تحليله على مفهومي العلاقات الجدولية Syntagmatic Relations والفجوات لما لهما من قدرة على كشف الضمني Le non-dit (بعبارة Dicro) في القول والحاف به ومجموعة الخيارات الممكنة Possibles Choices أوالبدائل Alternatives.
إن قارئ هذا العنوان باعتباره متقبلا فطنا سيصطدم حتما “بفجوات” فيه لن يملأها سوى فعل التخييل أو فعل قراءة النص في حد ذاته ومن ثمة فعل التأويل المناط بالناقد نظرا لأن الأثر المفتوح Open Impact عند إيكو Umberto Eco مبني بطريقة مخصوصة فحواها إعطاء الباث المتقبل جملة الشرط وترك جملة جواب الشرط غائبة تحفيزا للقراءة وترميزا وبعثا للغموض الذي ينتج دهشة وغرابة في متقبله فيدفعه نحو مايسمى “المبادرة التأويلية”، وهكذا يفيض المعنى الزائد في العنوان بتعدد مرات تقبله ومتقبليه ومن ثمة يسهم القارئ في تشييد معانيه مما يكسب العمل صفتي التفرد والتمييز. وتنقسم هذه الفجوات إلى صنفين:
أولها فجوة بنيوية: إذا أن العنوان مثلما أسلفنا الذكر هو مركب شبه إسنادي، تغيب عنه نواته المركزية [إذا ما افترضنا أنه مقتطف من جملة فعلية] أو في جزء منه المسند إليه فقط [إذا ما اعتبرنا أنه خبر لمبتدإ هو اسم نجهله]. وهذا الافتراض النحوي الثاني يقودنا إلى تساؤل: من هو هذا الاسم؟، أ هو ضمير “الأنا المؤنث” الذي يعوضه الذهن جدوليا بما يتبادر إليه مباشرة وهو اسم الكاتبة “أميرة”؟. [أميرة نازلة دار الأكابر] ويحق لمن هو في منزل “الأميرة” أن يدخل “دار الأكابر” وفق العرف الاجتماعي مما يولد تساؤلا ثانيا: هل أن الشخصية التي ستدخل دار الأكابر هي الروائية “أميرة غنيم” في حد ذاتها لتصفها لنا وتقدم لنا هذا العالم المبهم (المنازل) عالم الأسرار والحكايات والباطن المخالف للظاهر عبر التاريخ السائر عكسيا؟. وهل ستلجه عن طريق الاضطلاع بالرواية أم ستتقنع بشخوصها ؟ أ وراء “حبيبة الطاهر الحداد” في الرواية “للازبيدة” أم وراء “هند حفيدته” أم وراء “صوت أناس القاع صوت الخادمة “الخالة لويزة” وغيرها أم وراء الصوت الذكوري، ستقبع؟ والإجابة عن هذا التساؤل تأخذ منحيين ممكنين: الأول أن الروائية أميرة غنيم لربما تجسد في الرواية حبيبته فكما قام المشتق “نازلة” مقام النواة قامت الروائية مقام شخصية “للازبيدة” خصوصا إذا علمنا أنها حبيته الفكرية في مشروعه الإصلاحي ومن المنتصرين لأرائه واجتهاداته وهذا يؤكده قول “للازبيدة” للخادمة “الخالة لويزة” احتفاء بصدور كتابه “كتاب عن المرأة يا لويزة، عن حقوقها المغتصبة بسبب تعنت العلماء وسوء فهمهم لمقاصد الإسلام” [9].
والمنحى الثاني أنها قد تجسد حفيدته الفكرية إذا ما علمنا أنها ورثت أفكاره ودعمتها ورسختها داخل أسوار الكلية. وكلا المنحيين يصبان في نفس القالب إذ هي جعلته شخصية من شخوص روايتها فانزوت داخل شخصية الحفيدة “هند” وأمسكت عروة الكائن الورقي “للازبيدة” حبيبته التي بادلها الطاهر الحداد الحب في المتخيل الروائي عبر عشقه لشخصيتها التي تقنعت منشئة النص وراءها. وقد تكون الروائية قابعة وراء كل صوت أنثوي مظلوم فانتصرت لهن عن طريق التكاثف الأنثوي سواء من جهة مدار الحدث الذي يبرز فيه الصوت النسائي طاغيا حتى في الأحاديث الرجالية وقد استفردن بحمل لواء الأفعال الثلاثة: الحوار والوصف والحدث أو من جهة اقتسام فعل الاضطلاع بالراوية مناصفة مع الصوت الذكوري فيغدو الصوت الأنثوي صنو نضيره الذكوري ولكن يأتي السرداق الأخير ليغلب الصوت النسائي حين تعود “هند” راوية “حديث البدايات” ويدخل القارئ في لعبة الرواية فيكون مرويا له ومسهما في تشكلها. وهذا ما جعل روايتها رواية الشخصية الساردة المؤنث “أنا” عكس السارد النمطي المذكر المعتاد الذي يستفرد متسلطا بوظيفة الرواية ولايترك للصوت الأنثوي إلا الهوامش. فهل وراء هذا الخرق للسائد السردي في المنجز الروائي العربي خلفيات وأبعاد تود الكاتبة إيصالها؟ وهل يتناص ومرجعية الكاتبة؟ وهل هذا الخرق منوط باختيار أسماء الشخوص والأحداث والأفكار خصوصا؟.
ثم لماذا اختارت الولوج عبر الصوت الأنثوي إلى عوالم رمالها المتحركة أكثر من رمالها الساكنة “عوالم البلدية”، إلى عوالم أبوابها محكمة الإغلاق، ومفتاحها “المكانة الاجتماعية والنسب” في نظر التونسيين؟ وهي عوالم تختلف عن عوالمنا “بيوتنا” وهذا يؤكده ماذكرناه آنفا كما يؤكده التخصيص بالمركب الإضافي التي اعتمدته الراوئية فهي قد استبعدت بطريقة انتقائية جدولية “ديار الأعيان” و”ديار البايات” و”ديار البرجوازية” و”ديار العوام” واختارت بطريقة طرازية Prototype، وفق المقولة عند Rosch، هذه الدار دون سواها لما تمتاز به عن غيرها، في نظرها، سلبا أ كان أم إيجابا. ثم لماذا طرقت أبوابا موصودة دواخلها لا تظهر للعيان وتبطن أكثر مما تظهر؟
ثانيها: نلحظ وجود فجوة دلالية أو هي بالأحرى لعب بالكلم عن طريق تعدد معانيه الأوائل والثواني فللكلمة معان متغيرة قد تتضاد وقد تترادف فتربك السياق والقارئ ويكثر هذا اللعب الكلمي في المقامات وخاصة عند الحريري ويتمظهر هاهنا في المكون اللغوي “نازلة” الذي إن حللناه سيميا Semic analysis وجدناه يحمل معنيين مختلفين رغم التقارب، الأول هو المعنى المباشر المحايد وهو النزول بمعنى الحلول في المكان وسبق أن أشرنا إليه.
أما الثاني فهو المعنى غير المباشر السلبي قاموسيا، ولكنه عند الروائية يصبح هو المعنى المباشر ويضطلع بوظيفة إيجابية في النص الروائي المنزل فيه خارج السلب القاموسي تتلخص في كونه نقطة الارتكاز والتحول في وصم الديار (من آمنة ومستقرة إلى مضطربة) فيلعب دورا هاما في تشييد أركان البيت الروائي لأن انعدام “النازلة” هو انعدام لوجود الرواية اعتبارا بأن مجمل النص يحركه هذا الفاعل اللامباشر كما يمثل علة الحيرة عند المتقبل وهذا مكمن دوره الإيجابي بالنسبة إلى الروائية والنص والمتقبل على حد سواء. وهو مراد الكاتبة الذي تشير إليه مجموعة العلامات النصية والنازلة هي المصيبة أو الشيء الغير المرغوب الذي يحل بالمكان أو هو حالة تعترى الأشخاص فهذا المعنى إذن سماته التمييزية هي [+المصائب/+ السلبية/+التغيير ] التي تجعله مائزا عن المعنى الأول داخل نفس الوعاء اللفظي. وبالتالي العلاقة بين المعنيين هي علاقة اشتراك لفظي Homonymy أقرب منها تعددا دلاليا Polysymy. وهذا المعنى الثاني يقود التأويل جهة أخرى مخالفة تقريبا وهو حلول نوازل ببيت الأكابر من ناحية دلالية. أما من ناحية نحوية فهذه الفجوة الدلالية تقلب الموازين تركيبيا وتخلق نوعا من التلاعب البنائي عند محاولة تقبله تحليلا فتجعل بناء العنوان على المستوى التركيبي مختلفا، إذ يغدو مركبا إضافيا لا شبه إسنادي كما هو الحال في المعنى الأول (المضاف فيه مركب إضافي بدوره). وقد زيدت فيه النازلة إلى دار الأكابر، فهي إذن حالة دخيلة عليهم لا عهد لهم بها وهذه النازلة كسرت تقاليد وبنيات متوارثة وكشفت ما بطن وما ثوى. ورغم هذا التباعد إلا أن العنوان قد جعل كلا المعنيين متلاحمين، بينهما علاقة إسنادية ضمنيا(النازلة= مصيبة نزلت=حلت بدار الأكابر) وقد أسند فعل الحلول إلى هذه النازلة التي قد تكون فيما تكون الكاتبة أميرة غنيم وقد حلت ضيفا ثقيل الظل، لامرغوبا، لامرئيا في حركته، متقنعا، بديارهم المجردة لا المحسوسة، أي أجسادهم وذواتهم (علاقات القرابة، مشاكلهم، أسرارهم، مخاوفهم، توجساتهم…) فكشفت عوارتهم خالعة عنهم أدباشهم للعيان.
وهنا مكمن التساؤل “لما تفعل الكاتبة هذا بالبلدية تخييلا؟. وقد تكون مثلما أسلفنا الذكر، مصائب أخرى أرادت الكاتبة حلولها بديارهم فهي في كلتي الحالتين مرهونة بالكاتبة تصدر عنها بطريقة صريحة أو تحركها بطريقة ضمنية دفع للحدث السردي ليمضي قدما. وقد صيرت هذه المصيبة الدار من حال إيجابي إلى حال سلبي، ونستشف هذا عن طريق تحليل المستلزم Implicated في العنوان اعتمادا على الدلالة الإحالية، أو ما يسميه Ogden و Richards “معنى المعنى”، إذ أن الديار كانت تبدو في حالة اطمئنان واستقرار إلى أن حلت بها النازلة التي قد تكون علة زوال الديار نهائيا، تؤكد هذا الرأي العبارة المنطقية الجاحظية “كل ثابت إلى زوال أقرب”.
فما هي النوازل الصريحة والضمنية التي حلت بديار الأكابر ؟ وهل هي شخصيات مخصوصة أم أفكار تتحدى سائدهم؟ أ هي قطعان حادت عن مساراتهم أم روائية كشفت للعيان ما أكل الدهر عليه سنونا من عمر أصحابه كي يلفه النسيان ويظل مطمورا لا يعرفه غيرهم؟ وكيف استطاعات الراوئية أن تصهر معنيين مختلفين لمكون لغوي واحد (نازلة) داخل نص أدبي نظامه الأساسي خاضع للثنائيات(نحن وهم، هي وهو، الهزل والجد، الظاهر والباطن، مغلق ومفتوح، ماضي وحاضر، فكر ونقضيه، مذكر ومؤنث، سيد وعبد…)؟.
إن مجمل هذه الأسئلة وغيرها سيتولد عنها لا محالة سؤال مركزي: هل سيكسر النص أفق انتظاراتنا وتوقعاتنا أم أنه سيسايره؟
النازلة في دار الأكابر بين الإفراد في العنوان والتعدد النصي
إن قارئ العنوان دون النص، يتبادر إلى ذهنه أول ما يتبادر أن النازلة مفرد مؤنث وهذا الانطباع طبعا مرده بناؤها الإعرابي. ولكن حينما يتجاوز عتبة العنوان ويلج النص عبر دق نواقيس القراءة تشرع عوالمه في الانكشاف أمامه، فيكتشف أننا إزاء تعدد في النوازل رغم أن الكاتبة حددت نازلة بعينها وهي الورقة التي التقطها “امحمد” من الأرضية حالما سقطت من الخادمة “الخالة لويزة” وظل ما فيها سرا انكشف في النهاية. فنجد نازلة أولى غير نصية أو هي تتعالى عن السياق وهي الروائية التي حللت بديار الأكابر لتعرى لنا حالهم وتفضح سوء أفعالهم وسلوكاتهم وهي نازلة غير مشاركة في الحدث الروائي وإنما تختفي وراء هذا الكون عبر التقنع فهي منشئته التي تحركه كما يحلو لها. أما بقية النوازل فهي نوازل نصية تنقسم إلى صريحة وضمنية أما الصريحة المباشرة فتقتصر على النازلة الثانية وهي الورقة التي ظلت حادثتها تتلاقفها الألسن وتتكرر مع أفول حديث وطلوع حديث آخر. أما بقيتها فهي نوازل نصية، وضمنية غير مباشرة: بدءا بالنازلة الثالثة التي تمثلها شخصية الطاهر الحداد الذي حل بالدار معلما وغدا عشيقا ومعشوقا لابنتهم وقد لعب دورا هاما في زعزعة أركان الديار وفي دفع الحدث السردي نحو النهاية.
أما النازلة الرابعة فهي الخادمة لويزة التي نزلت بديار النيفر على مضض منهم وبرغبة زوج ابنهم “للازبيدة” منقطعة عنهم خمس سنوات بسبب النازلة الثانية “الورقة” وقد كشفت للاجنية في معرض حديثها عن بغض وحقد دفين تكنه للخادمة فقد أسندت لها الروائية ضمير الأنا المتكلم كي تقول ما في جعبتها وعلى نفسها عهدة الرواية. النازلة الخامسة هي نازلة مجردة لا محسوسة وهي فكر الطاهر الحداد التنويري، إذ نلحظ حلول الخراب على تقاليد دار النيفر حالما سمعوا بالعلاقة الرابطة بين زوجة ابنهم وذلك “الزنديق” الذي يدعو إلى ما يخالف ما اعتاد عليه أهل دار عثمان النيفر في معاملة النساء وهو أيضا نازلة على أعضاء الحزب القديم في تصوراته للهيكلة وللتنظيم. وبناء عليه، قد أمكننا أن نطلق عليه إلى حد وبكثير من التحفظ مفهوم “المثقف” الذي يجابه القوى الاجتماعية الطبقية والذهنيات المسيطرة تنظيرا (كتابه) وممارسة (مثال ذلك دعوته الخادمة للتعلم) والقوى السياسية الاستعمارية فهو “مثقف ملتزم” يخوض معركة كسر شوكة القوى المختلفة (الكرنفال الإرهابي الرسمي) التي تنظم الصمت وتفرضه وتحفل بالرأي الواحد. إنه ملتزم بقضايا شعبه وهموم أمته التونسية التي ترزح تحت الفردانية، التسلط، الظلم والقمع والطبقية، والرأي الواحد.
إن النازلة إذن مفهوم كلي في النص وفقما جاء بذلك علم المنطق. فهي مفهوم يتبادر إلى ذهن القارئ متعدد المصداق يحيل إلى نازلة أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة يستشفها القارئ حالما يتفرغ من فعل قراءة الرواية، فعل إعمال البصر، إلى فعل التأويل، فعل إعمال البصيرة. وبانتقاله من عتبة العنوان إلى نسيج النص، تنتقل معه النازلة من كونها مفهوما دون مصداق، أو عند القارئ العارف مفهوما بمصداق واحد أي مفهوما جزئيا، إلى مفهوم بمصداق متعدد يخرجه من دائرة الجزئية إلى دائرة الكلية. وهذا ما جعلنا نعتبر النوازل إلى التعدد أقرب منها إلى الإفراد وهذا التعدد حتما يفرض وجود علاقات بينها.
العنوان متناصا مع المقدس: النازلة (الورقة) تتناص مع الخطيئة (الثمرة)
يتناص عنوان نازلة دار الأكابر مع المقدس Le sacré: قصة أدم والخطيئة، وإن يكن بصورة غير صريحة. تمثل الخطيئة التي اقترفها ونهاها الله عنها، البلية التي أودت بالأمان الجناني إلى التلاشي ونزوله خليفة في الأرض. ولعل النازلة التي حلت به هي “الشيطان” وقد تقنع في شكل ثعبان خبيث فأهوى نفسه عن طاعة أمر ربه فعصاه بأن أكل من ثمار الشجرة. وهذه الخطيئة الأولى هي التي أسست انتقالنا من عالم الخلود إلى عالم الفناء ومثلت علة إقامتنا في الوجود وحضورنا داخل سياجي الزمان والمكان أي ضمن بعد تاريخي يقول الله في سورة البقرة “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36)” [10]. كما أنها لحظة فارقة في تاريخ هذا الكائن البشري. هي لحظة الخسارة الأولى، لحظة مفارقة النعيم الأبدي، لحظة غياب العقل وحضور الشهوة (بالمعنى السلبي). جدلية عصية عن السيطرة تحكم الإنسان ولاوجود له خارج طرفيها. وهو في علاقته بها مخير ومسير. مسير من جهة خضوعه القسري لهاتين الخصلتين، خصلة البناء وخصلة الهدم وهو مخير من جهة حرية التعويل على أحدهما في إنشاء علاقاته مع أشياء الوجود والتفاعل معها.
ولا تقل نازلة دار الأكابر أو هي نوازل دار الأكابر قيمة عن الخطيئة الأولى من جهة التقاء كلاهما في فعل الخلق. أحدهما كانت علة خلق الوجود الإنساني على الأرض أما الأخرى فكانت علة خلق الكون الروائي وحضور شخصيات عديدة متفاوتة القيمة داخل بعد زماني ومكاني وإن يكن متخيلا لا واقعيا. ولسنا هاهنا نسند صفة الخلق للراوئية بمعناها الديني أو حتى بمعناها الفضفاض “الإنشاء على غير مثال” وإنما نقصد بالخلق تصيير الشيء من حالة وجود غير لغوي: مرجعي وخيالي، إلى حالة وجود لغوي. ورغم أن التناص كما أسلفنا الذكر قد حضر بصفة غير مباشرة إلا أن المطلع على قصة الخلق والمنهبر أمام سلطانها تتبادر إلى ذهنه مع نصوص أخرى وتحتل المرتبة الأولى في التعالق مع عنوان هذه الرواية ويتمظهر ذلك في مرحلة ثانية في الصفات السلبية التي تسم كلا الشخصيتين الدينيتين: الطاهر الحداد ذي البعد المرجعي الواقعي والشيطان ذي البعد المرجعي المقدس، من وجهة نظر الشخصيات الأخرى المعادية لهما التي ترى فيهما مصيبة قد حلت على عرصات الديار وقد تكون بداية الخسارة أو الأفول: انقلاب الحال من الاستقرار والاطمئنان (الجنة، دار الأكابر) إلى حال الانكسار والانحدار فشخصية الطالب الزيتوني هي صنو شخصية الشيطان عند البلدية “امحمد، جنينة”.
ومن جهة أخرى اعتمدت كلا الشخصيتين على القناع لدخول الديار الآمنة: الشيطان تقنع في شكل ثعبان ليوهم حارس الجنان ويتمكن من إغواء آدم وزوجته. ومثل ذلك فعل الطاهر الحداد. فقد تقنع وراء شخصية الطالب الزيتوني المتدين، المتعفف فأغوى بفعل الحب، سلطان الشهوة، ابنة على الرصاع “للازبيدة” بعدما أعجب أباها باقتداره على العربية. وكلاهما مثل لحظة فارقة، الأول في حياة شيوخ جامع الزيتونه الذين ثار عليهم الحداد في كتابه “إمرأتنا في الشريعة والمجتمع” من وجهة نظرهم. والثاني لحظة رفضه السجود وتكبره عن مخلوق طيني وهذا التكبر هو سبب كل الشرور من وجهة نظر قرآنية.
إن النازلة هنا والخطيئة هناك، الورقة هنا والثمرة هناك، إن هما إلا صورة من ألوف الصور عن غلبة سلطان الشهوة وترجيح المدنس على المقدس، العقل على الشهوة. ولكن رغم هذا التقارب الذي قد يوحى بالنقل الأمين لقصة الخطيئة إلا أن الروائية قد نقلت الحكاية عبر تقنيتي التحويل والتركيب، فالطاهر الحداد لم يحضر نازلة بالمعنى السلبي إلا من وجهة نظر أهل الدار وهم زيتونيون. بل جاء مدافعا عن “الخالة لويزة”، عن اللغة العربية، عن اضطهاد النساء داخل ديار البلدية وغيرها. وبالتالي يغدو نقطة تحول إيذانا بانتهاء الظلم والتكبر وحلول العدل والاستقرار من جهة أخرى.
إن الاستقرار الذي ساد في هذه الديار هو استقرار ذكوري من جهة ومن جهة أخرى عبودي. فالتحول الذي أعقب النازلة إذن هو تطور إيجابي. وهذه الصورة ليست حكرا على المقدس، فلنا في تاريخنا البشري قصص عديدة عن الرسل ( بالمعنى اللغوي لا الديني: الضيوف) الذين حلوا بالديار فغيروا ما بها وخلعوا عنها انتكاسها وخلعوا عليها نهوضها وتطورها. وإن شئنا الإغراق في التأويل قلنا إن الطاهر الحداد قد يتناص مع شخصية آدم في أن كلاهما طرد، الأول طرد من الحزب القديم، من حصن الزيتونيين، من هويته الدينية ليكون خليفة المصلحين. والثاني طرد بسبب عصيان أوامر ربه من مكان خلوده وسعادته الأبدية ليكون خليفته في الأرض.
مرجعيات تشكل العنوان الرئيسي
شكلت العنوان في نازلة دار الأكابر أربع مرجعيات كبري، بها نهض بناء رمزيا، مكثف الأدبية، وطاغي الدلالة، وعنها صدرت الكاتبة وهي تنوس بين حالتي التصريح والتضمين: أولى هذه المرجعيات هي المرجعية اللغوية وتمثلها صاحبة الرواية التي أشرنا مسبقا إلى تخصصها في علم اللغة. وقد تجلت هذه المرجعية بوضوح في اللعب الكلمي في لفظة “نازلة” عن طريق تعدد معناها. المرجعية الثانية تتمظهر في التركيب الإضافي “دار الأكابر” وهي مرجعية تاريخية . أما المرجعية الثالثة فهي المرجعية الدينية متمثلة في الصورة التي يتناص معها العنوان وهي صورة الخطيئة وما يعقبها من تغيير وتحول. وقد تشكل هذا العنوان أولا وأخيرا بفعل التخييل وصهر هذه المكونات المرجعية في قالب واحد متماسك أمر عسير على من لم تتعود قريحته الغوص في عوالم القراءة وخبر النصوص.
العنونة الداخلية: الوظيفة الأجناسية في نازلة دار الأكابر
تنهض العنونة الداخلية، ألقابا للعنونة الخارجية ومتممات لها، بوظيفة التحديد الأجناسي، بتمييز بناء الرواية داخليا، وما أشبه هذا البناء بالفصول، هي أحاديث أشبه بالرسائل تضطلع بوظيفة الإخبار، تخبرنا عما جري وعما سيجري، عود بالقارئ في الزمن واستقدام للحدث المؤجل، وفق ثنائية الراوي والمروي له ومع تغيير الحديث تتغير الرواية والرسالة، كل راو يخبر شخصية، يؤصل لحياته بعد موته، يؤرخ لسرديته من المهد إلى اللحد كي لا تدفن أمجاده في قعر بئر النسيان، الكل يخبر عما شاهده وعايشه، عن الحروب والتطاحن بين الكينونات داخل ديار الأكابر، يفضح نفسه ويعريها أمام متلقيه، وكل نفس تخبر عن النازلة، كما تراها وتجزئ منها بما كسبت وفعلت، ولا مزية للنسب في الرواية، لا أحد ينفرد بالحكي لرفعة نسبه أو لمزية جنسه، الخادمة تروى، السيدة تروى، الأنثى تروى والرجل يروى، خلاف حالهم داخل دار الأكابر التي تتماييز فيها الشخوص تبعا لتفوقها العرقي، وأصالة نسبها وعلو كعب سلطانها.
تستلهم الرواية في بنائها من الحديث قالبه دون أن تنصهر فيه، وتستقى من جنس الرسالة عناصرها، فهي رواية مطعم بناؤها بالحديث الترسلي. وهذا كله دون أن تتيه في سوق الجنس وتغفل عن أجناسيتها، هي خليط يتعالى عن الجنس والجندر، وما أشبه هذه العجينة، هذا الخليط بما يعترى الإنسان المعاصر من هشاشة في جنسه، أجناس متعددة، وتبادل للوظائف الاجتماعية، قلب للسائد، وهذا لربما قد يكون مراد الكاتبة. وبين البداية والنهاية، حديث يليه حديث، ملأ لفراغات وإجابات عن أسئلة، حديث مكمل لآخر، يتوقف القارئ مع نهاية كل فصل لاهثا، فيطرح ذهنه استفهامات، وجبال من الدهشة والعجب تعتريه، لا هادم لها إلا الحديث الموالي، حتى تفجؤك الرواية بانتهائها دون أن تجيب عن كل أسئلتك، وقد ساقتك عود على بدء إلى نقطة البداية “حديث البدايات”، متعة الغموض وغواية التأويل تستبد بالقارئ وإن يكن مبتدئا، دفع نحو الحفر، ونحو كتب التاريخ لاستجلاء الحقيقة المنقوصة أو ربما المشوهة.
لقد وقع العنوان باعتباره شيفرة رمزية مبهمة symbolical code، تعاقدا مع القارئ، فكبله بسلاسل من الأسئلة التي لا مندوح من الهروب منها دون إشباع رغبة النفس في المعرفة. إنه صندوق ملغز، إن فتحته لتلقي عليه نظرة ببصرك على الرف، ابتلعك وقادك حيثما شاء, إلى كهوف مظلمة لا تطؤها إلا بالقراءة ولذة البحث، هكذا هي غواية العنونة. فهو “أخطر البؤر النصية (…) إذ يمثل في الحقيقة العتبة التي تشهد عادة مفاوضات القبول والرفض بين القارئ والنص، إما عشق ينجبس وتقع لذة القراءة، وإما نكوص ليتسيد الجفاء مشهدية العلاقة” [11].
خاتمة: إن ما يدور داخل هذه الأسوار العالية “ديار الأكابر” المشيدة بإحكام والمملوؤة أسرارا غامضة (طبقية، استغلال، نرجسية, تكبر، تباغض… حسب الكاتبة) مما تتوق النفس لمعرفته، قد جسدته الراوئية أميرة غنيم داخل عالم سردي، عتبته المركزية محكمة الصياغة، كثيفة الدلالة، وأسواره البنيوية عالية ومتينة، ومكوناته السردية مشيدة بإحكام وفق برنامج سردي مخصوص، وأسراره الدلالية تنوس بين التصريح والتضمين، تقاطع فيها التاريخي والفكري مع الأدبي، فملأ فراغات وفجوات في تاريخ تونس، تاريخ أسلافنا، ما أمكن للمؤرخين أن يأتوا بمثلها ولا جادت قريحتهم بأفضل منها ولا هم قدروا على تكذيبها. مما أمكن لنا أن نقول بعد قراءة متواضعة في عنوان عتبات هذه الرواية التي تحصلت على الكومار الذهبي ودخلت القائمة القصيرة لجائزة “البوكر 2021”: إن أميرة غنيم نازلة بديارهم قد حولت عالما مرجعيا واقعيا غامضا، محرما دخوله taboo بطريقة إبداعية، إلى عالم سردي روائي تخييلي متاح، مفتاحه يمتلكه الجميع ولكن بعضنا فقط يباشر فتحه وهو مفتاح “القراءة وإعادة القراءة” Rereading over and over. فعبر الخيال لنا أن نرى ما يدور داخل هذه البيوت، وقادح الخيال فعل القراءة، فاقرؤوا واقرؤوا حتى انقطاع النفس.
المصادر:
1) القرآن الكريم.
2) ابن منظور (محمد): لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، نسخة إلكترونية.
3) غنيم (أميرة): “نازلة دار الأكابر” مسكيلياني للنشر والتوزيع، ط5, أفريل 2021، تونس.
المراجع:
الكتب:
1) حسين، حسين (خالد): في نظرية العنوان، (مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية)، دار التكوين، نسخة الكترونية أعدها د. حسن داخل.
2) قسومة (صادق): طرائق تحليل القصة، ج1، ج2، دار الجنوب للنشر، ط2، 2015، تونس.
3) قطوس (بسام موسى): سيمياء العنوان، وزارة الثقافة، مكتبة الإسكندرية، ربد، الأردن، ط1، 2001.
4) دروس ألقاها الأستاذ وسام العريبي في الدلالة والنظريات النحوية لطلبة السنة ثالثة بكلية منوبة، تونس، السنة الجامعية 2021/2020.
المقالات:
البرنوصي (شوقي): تهذيب بورقيبة للألقاب وترسيخ التماييز الجهوي، موقع صوت الألترا، تونس، 11 سبتمبر 2018.
الهوامش
[1] حسين حسين (خالد): في نظرية العنوان، ص5.
[2] بسام قطوس: سيمياء العنوان، ص57.
[3] المرجع السابق ص5.
[4] وهم العائلات الأصيلة أو السكان الأصليون لمدينة تونس، وهم أهل الحاضرة وتعود أصول أغلبهم إلى الأندلس التي انحدروا منها وكانوا يعيشون إلى حد في عزلة اجتماعية إضافة إلى أنهم احتكروا المناصب والخطط الوظيفيّة السامية لعدّة قرون مع امتهان التجارة، لكن مع تدفّق الأعراب أو الآفاقيّين، تمكنوا من الارتقاء إلى صفوة رجال العلم والأدب والسياسة والتجارة لكن بشيء من المعاناة. فإذا احتاج البلدي إلى خمس سنوات للارتقاء من رتبة إلى أخرى فإنّ الآفاقيّ احتاج إلى تسع سنوات، وبذلك انضاف أصحاب المجد المكتسب إلى أصحاب مجد النسب في الحصول على مراتب الوجاهة مثل إبراهيم الرياحي، والمؤرّخ والوزير أحمد بن أبي ضياف.
ومن أشهر العائلات التّي ارتقت إلى مناصب الوجاهة: الأصرم، البكوش، جلّولي، زرّوق وبن عاشور وغيرهم… لكن بقيت علاقات المصاهرة بين العائلات البلديّة فقط، عدى الأتراك والأندلسيّين، ولا حظوظ للغرباء للفوز بإحدى بنات مجد الحسب والنسب إلاّ ممن كان من أصحاب المجد المكتسب.
[5] الرواية ص 17.
[6] السفساري: هو لباس تقليدي نسائي من الحرير أو القطن أو السندس. وهو يتمثّل في قطعة كبيرة من القماش يمكنها أن تغطّي كامل جسد المرأة وتكون بيضاء اللون في الغالب .
[7] الكبوس أو الشاشية: هي قبعة رجالية تلبسها العديد من الشعوب الإسلامية. تدخل الشاشية ضمن اللباس التقليدي التونسي. هي في الأصل نوع من القلنسوة حمراء في تونس وسوداء في ليبيا. وفي تونس سوق خاص لإنتاج الشواشي “سوق الشواشين”.
[8] الرواية ص 14.
[9] الرواية ص 56
[10] القرآن الكريم، سورة البقرو، الآية 35 و36 ولمزيد التوسع، عد إلى سورة الأعراف من الآية 19 إلى الآية 25.
[11] قطوس: في نظرية العنوان ص 6.