مجلة حكمة
ضيافة الغريب

رواية الغريب : إنساني ، أكثر من إنساني !! – عبد الغني بومعزة

فقط عبقري مثل ألبير كامو يمكنه الجمع بين العبث والسّعادة، وهذا من خلال روايّة الغريب، روايّة قصيرة تعتمد ركيزتها على شخصيّة رئيسة واحدة هو ميرسو،أسلوب موجز، الحبكة محيّرة وغريبة، لغة سهلة ومفهومة، السّرد سلس وحيّ، جمل قصيرة، الكلمات قليلة وحادة ودقيقة، فوفقًا للسّرد والهيكل في هذه الرّواية، هناك ثلاثة جوانب مهمّة يمكن تسليط الضّوء عليها، السّرد طبيعي، ومن السّهل فهم وجهة نظر المؤلف مقارنة بموقف البطل، ثانيًا، توصيف الشّخصيات والبيئة أمر مثير للاهتمام، فمنذ البدايّة يقدّم كامو وصفًا دقيقا وتفصيليًا للشخصيات ممّا يسهّل فهم الموقف بالنسبة لهيكلها، فمن المسلم به أنّ القصّة تبدأ بشكل مثير للجدل، مع ذلك، فإن الأحداث التّي تتكشف هناك متماسكة ومتشابكة بطريقة ما مع كلّ من أفعال ميرسو، من خلال هذه الأدوات التّي اعتبرها الكثير من النقاد”عتيقة الطراز”نجح كامو في تلخيص شعور ما يعيشه البطل، استياء واستسلام وانسياق وهزيمة وكبت ولا مقاومة من ظاهرة الحرب(الحرب العالميّة الثانيّة )، المعضلة أنّ الأمر يتكرّر ويستمر حتّى في عصرنا هذا، بينما الشّيء العظيم هو توقيته الدّائم، كما لو أنّ العالم لم يتغيّر منذ 70 سنة، هذه هي مأساة الإنسان ومأساة الكاتب، بطل الرّواية الذّي يعرضه كامو هو إنسان عصرنا، إنسان يفتقر إلى اللحظات الجميلة والرّائعة لكنّه يرضى بما هو متوفر بين يديه، محكوم عليه بالموت الذي يجعل الحياة نفسها عبثيّة، إذا كان سيموت المرء في العشرين،أو في الثلاثين، في الأربعين، في الخمسين، فماذا يعني الوجود بالنسبة له؟، الهدف من الحياة التّي عاشها دون الرّضا عن الذّات؟، يجيب كامو على هذا السّؤال الفلسفي، البحث عن الحقيقة، رغم أنّ هذه الحقيقة تصطدم دوما بفكرة الموت، لكن، أيّ موت هذه؟، الموت السّعيد، أو الموت التّي يكون الإنسان”قربان”للعبث، على السّطح، تقدّم الرّوايّة وجهة نظر عدميّة للحياة، لكن هذه الحقيقة ليست سوى جزء من الواقع، كتب كامو أنّه حاول بشكل ما أن يمثل ميرسو في شخصيّة المسيح الوحيد الذي نستحقه اليوم، ما هو مهم أنّ ميرسو بطل رواية الغريب لا يريد الدخول في اللعبة، يرفض الكذب، الكذب ليس مجرّد قول ما هو غير صحيح، الكذب كأسلوب حياة لدى الناس، بطريقة ما، هو بطل عصره .  

 

 يمضي كامو قائلا إن حياتنا تتطوّر في أكثر الأحوال الطبيعيّة المطلقة، وأنّ الاستجابة التّي نجدها للتقلبات التّي تحدث بالكاد تغيّر مجريات حياتنا، وجودنا الهش، لهذا السّبب، فإن بدايّة هذه الرّوايّة الرّائعة مبتذلة إلى حد كبير:”ماتت أمّي اليوم”، يقرا ميرسو البطل والسّارد هذه الجملة دون أدنى أثر للعاطفة، رغم أنّ لا احد يجزم بأنّه لا يحب أمّه، كحقيقة لا رجوع عنها يجب مواجهتها دون شك وبدون إجابات واضحة، الجميع يموت، سيموت آباؤنا، سنموت، و يموت أبناؤنا وأحفادنا، ما سيحدث من هذه اللحظة سيتبع تطوّرًا، إن لم يكن متوقعًا، لكنّه يتكيف مع تجارب الإنسان العادي، سوف يزور الملجأ حيث كانت والدته ولأنه وضعها هناك ليس لأنّه لا يحبّها، أو ما شابه ذلك، ولكن لأنّ ليس لديه ما يقدّمه لها من الناحيّة الماديّة والعائلية، هناك في الملجأ على أمل أن تكون أفضل بين الناس في سنّها، صحيح أنه لم يزرها منذ شهور، لا يتذكّر حتّى سنّها، يجهل كذلك من كان قريبًا منها في دار الرّعاية، في الحقيقة، بالكاد يعرف والدته مؤخرًا، لكن ما هو جليّ الحياة تسير بهذا الشّكل وعلى هذا النحو، حتّى الأحباء يمكن أن يعانوا من اللاّمبالاة، ميرسو يدخن، يطلب فنجان قهوة ممزوج بالحليب، يرغب في النوم لكنّه لا يستطيع،يقضي بعض الوقت مع الحارس يثرثران في أمور عدّة، هناك ملاحظة مهمّة في تصرّفات ميرسو وهي انه لا يبكي، لا يستطيع البكاء، يصعب عليه هذا، لماذا؟، في اليوم التّالي للجنازة بعد عودته للعاصمة يلتقي بزميلة سابقة، يذهبان للبحر، للسينما ويشاهدان فيلم لفرنانديل بطل الكوميديا الفرنسيّة، يمارسان الحب، البعض يعتبر الكثير تصرّفات ميرسو غير طبيعيّة وغير أخلاقيّة لأنّه في الظرف الذّي وجد نفسه فيه(موت أمّه)فهو مطالب بالتزام طقوس معيّنة يقبل بها المجتمع، ما أراد الكاتب التأكيد عليه هو أنّ الإنسان الذي يدافع عن الحقيقة، حقيقته الشّخصيّة، ليس بالضّرورة أن تكون هذه الحقيقة معنويّة، بقدر ما هي حقيقة ماديّة،كأسلوب عيش،وجهة رأي، طريقة تفكير مختلفة عن الغير، سيبقى غريبا ووحيدا في مجتمعه لأنّ هناك قواعد ثابتة وجماعيّة لا يمكن التحايل عليها، كقول الحقيقة (في عصر الخداع، فإن قول الحقيقة هو عمل ثوري ـ جورج أورويل ) .  

 

سيتحدث بطل الرّوايّة بوضوح عن عواطفه وأفكاره، على الرغم من أنه من الواضح أنّه يقع ضحيّة سوء فهمه للواقع، ممّا يدلّ أيضًا على جوّ معيّن من الارتباك، لسبب يعزل نفسه عن الأحداث التّي تحيط بحياته من خلال اللاّمبالاة، بمثل هذا لا يخضع لتأثير أكبر، أتفهم النقد الذي يريد كامو أن يوجهه للرجل المتكون على المستوى الاجتماعي والذي يفتقر إلى القيم و الحساسيّة، لكن بالنسبة لعام 1942 كان الواقع يفرض على المرء هذا النوع من طريقة العيش، بحيث أنّ كامو لاحظ أنّ هناك كثير من النّاس لديهم هذا النوع من السّلوكات والتصرّفات مرتبطة بموقف ميرسو، الأمر أشبه بطاعون غير مرئي كامن بداخل النّاس دون أن يشعروا به، بالنسبة لهم الأمر عادي وطبيعي ولا يدعو للخوف والخجل، بينما هي معاناة إنسانيّة غريبة تمامًا، إنّها قصّة بسيطة تحمل عبء إنساني كبير،لديها خلفيّة وجوديّة مثيرة للاهتمام، لا يجد ميرسو أي معنى في حياته حتّى يفقد حريّته والحقّ في اختيار كيف يقضي أيّامه،بطريقة ما تصبح الموت وسيلة للبحث عن الخلاص والطمأنينة المفقودة ، فقط لاكتساب شعور بعدم لامبالاة بحياته الحاليّة، روايّة الغريب نص غنيّ بمحتواه والذي يمكن أن يكون رتيبًا بعض الشّيء في البدايّة،لكنّني أعتقد أنه أمر جيّد بمجرّد أن تكون لديك الإرادة لفهم دوافع كامو لكتابة هذا الكتاب، مع ذلك فهي إحدى القراءات المحتملة لهذه الرّوايّة، على مرّ العقود، تمّ عمل العديد من المراجعات للنص، ممّا يعني أنّه قصّة حيّة و حديثة مليئة بالجوانب التّي سيرغب القارئ في اكتشافها عند رغبته في قراءة الرّواية، أفضل جزء في الرّواية هي الخاتمة،الفقرة الأخيرة تلخص شعور البطل،وعيه باللحظة،بغربته بين النّاس،مع المجتمع الذي لا يفهمه، لا يحاول فهمه، عداء المؤسّسة للفرد المختلف، ميرسو وهو يستقبل الموت كطريقة للخلاص من عالم لم  يقدّر قيمته كانسان ولا رغبته في حياة بسيطة، غير معقدة، خاليّة من الضّوابط والالتزامات، حياة  تشبه كثيرا علاقته العابرة واللّذيذة مع ماري كوردونا، كتب كامو في الصّفحة الأخيرة من الرّواية(ترجمة د. محمد غطاس) :

 

“عندما رحل القسّ، حلّ بي الهدوء، كنت مجهدا، فألقيت بجسدي فوق سريري واعتقد إنّني قد غفوت، لأنّني عندما استيقظت كانت هناك نجوم فوق وجهي، وكانت ضوضاء الرّيف تتصاعد من الخارج لتصل إليّ، وروائح الليل والأرض والملح كانت تنعش راسي،كان السلّام الرّائع لذلك الصّيف الهادئ يتخللني، في تلك اللحظة على حدود الليل انطلقت بعض الصّفارات إيذانا بالرّحيل إلى عالم لم يعد يهمّني الآن في شيء، للمرّة الأولى منذ وقت طويل تذكرت أمّي، وبدا لي إنّني قد فهمت لماذا اتّخذت لنفسها”صديقا”في نهاية حياتها، لماذا كانت تريد أن تبدأ من جديد، فهناك، ومع اقتراب الموت، كانت أمّي مستعدّة أن تبدأ الحياة وليس لأحد قط الحق في أن يبكي عليها، وأنا أيضا أحسست إنّني مستعد أن أبدا الحياة من جديد، وكانت تلك الغضبة الكبرى قد خلصتني من الشّر وأفرغتني من الأمل، وفي ذلك الليل الذّي يفيض بالنجوم، أحسست للمرّة الأولى بعذوبة ورقة اللاّمبالاة، وأحسست إنّني كنت سعيدا في يوم من الأيّام، ولازلت حتى الآن، أتمنى أن ينتهي كلّ شيء، وأتمنى أن أكون هناك اقلّ وحدة من هنا، ولم يبق سوى أن أتمنى أن يكون هناك الكثير من المتفرّجين يوم الإعدام ، وأن يستقبلوني بصرخات الحقد والغضب ” .