الكاتب | تشارلز تايلور |
ترجمة | وحيد الهنودي |
تنتمي إيتيقا الأصالة الحديثة نسبيا إلى الثقافة الحديثة. لقد تطورت منذ نهاية القرن الثامن عشر عن أشكال قديمة للفردانية، مثل العقلانية الحرة لـ ديكارت والتي تفرض على كل شخص مسؤولية التفكير الذاتي، أو الفردانية السياسية لـ جون لوك J. Locke والتي تمنح للشخص ولإرادته الأولوية في علاقة بالالتزامات الاجتماعية. بيد أن الأصالة الحديثة دخلت ومن نَوَاحٍ في صراع مع هذه الأشكال القديمة. إنها تَدِين للرومنطيقية التي تُدِين العقلانية الحرة والتذرية لأنها تكسر علاقات الجماعة.
لكي نصف تطوّرها علينا أن نتتبّع منبعها في فكرة القرن الثامن عشر القائلة أن الكائنات البشرية وُهِبَت حسّا أخلاقيا، حدسا لما هو خير و ما هو شرّ. هذه النظرية توجّهت أولا إلى معارضة الأطروحة المُنَافِسَة والتي بمقتضاها تعبّر معرفة الخير والشر عن الآثار، وبخاصة الحوافز والعقوبات الإلهية. ضمن هذا المنظور لا تصدر معرفة الخير والشر عن حساب بارد بل هي مغروسة في عواطفنا، بمعنى أن الأخلاق تنبع من صوت جوّاني.
لقد تطوّر مفهوم الأصالة في هذه النظرية انطلاقا من انتقال في نبرة الأخلاق نحو الداخل. لقد حُكِم بأهمية الصوت الجوّاني إذ اعتُقِدَ أنه حدّد لنا الخير. من المهم أن نكون في اتّصال مع مشاعرنا الأخلاقية لكي نسلك بطريقة صحيحة. هذا الانتقال في النبرة الأخلاقية يتجلّى عندما يأخذ الاتصال مع المشاعر الخاصة دلالة أخلاقية مستقلّة ذاتيا وتحدد ما يجب علينا القيام به لنكون صادقين ونكتمل كليا.
لكي نفهم جِدَّة هذا المثال يجب مقارنته بالأخلاق القديمة حيث يكون الاتصال بمنبع برّاني -الله أو مثال الخير- والذي اعْتُبِر جوهريّا. من الآن فصاعدا إن المثال الذي علينا بلوغه موجود داخلنا. هذا جزء من الانعطافة الذاتية الشاملة للثقافة الحديثة: شكل جديد من الجوانية أدّى إلى فهمنا ككائنات وُهِبَت عمقا حميميّا، وفي البداية لم ترفض الفكرة القائلة أن المنبع يكمن فينا ارتباط وجودنا بالله أو بالمثل، يمكننا أن نعتبر أن هذا الطريق يوصنا إليه أو إليها. نستطيع أن نعتقد أنها تمدّ أو تشدّد على التطوّر الذي استهلّه القدّيس أوغسطين والذي يقول أن الطريق نحو الرب يمر عبر وعي انعكاسي.[1]
إن وجهة النظر هذه سمحت بصياغات ربوبية Théistes ، أو على الأقل قائلة بوحدة الوجود Panthéistes. ويُعْتَبَر جان جاك روسو J. J. Rousseau الفيلسوف الأهم الذي ساهم في هذا الانتقال. لا أعتقد أنه كان مهما لكونه كان منبع هذا التغيّر وسأقول لاحقا أن شعبيّته الهائلة تأتي في نصيب هام من صياغته لما تشكّل بغموض في الثقافة. إن مشكل الأخلاق بحسب روسو يرتكز على الإنصات الجيّد لصوت داخلنا. هذا الصوت الذي يختنق دوما بالانفعالات والتي تخلق تبعيّتنا للآخرين وأهمها الحب الخاص l’amour propre* أو الكبرياء. إن سلامنا الأخلاقي يوجد في العودة لاتصال مطابق لأنفسنا عينها. لقد أعطى روسو اسما لهذا الاتصال الحميم مع أنفسنا ذاتها، فهو أكثر جوهرية من كل وجهات النظر الأخلاقية الأخرى، وهو مصدر للبهجة والقناعة: “الشعور بالوجود. Le sentiment de l’existence [2]**
مارس روسو أيضا تأثيرا عميقا بصياغة فكرة أخرى قريبة من تلك، سأدعو هذا المفهوم حرية التحدد الذاتي: أكون حرّا إذا كنت أقرر بنفسي ما يخصّني وذلك أفضل من أن أتشكّل بمؤشّرات خارجيّة. من المؤكّد أن هذا التصور للحرية يتجاوز ما نسميه الحرية السلبية والتي بمقتضاها أكون حرّا في فعل ما يطيب لي دون تدخّل. لأن ذلك يكون ملائما لكينونتي المُشَكَّلة والمتأثّرة بالمجتمع وقواعد النمطية. إن حرية التحدد الذاتي تقتضي أن أُقْلِع عن كل العوامل الخارجية وأن أقرر لذاتي فقط.
- قراءة في كتاب سوسيولوجيا الفن
- المشكلة مع الذكاء: تاريخ قيمته المحملة ومستقبل الذكاء الصناعي
- أدب ما بعد النكبة الفلسطينية: فعل مقاومة
لن أتحدث عن هذه النظرية لأنها ستكون جوهرية بالنسبة للأصالة. يتعلّق الأمر بمُثُل متميّزة، وهذا بديهي، ولكن بالتوازي تطوّرت في مؤلّفات نفس الكتّاب أحيانا وحافظت على علاقات معقّدة إما بالتضاد أو بتقارب أحداها مع الآخريات. لقد خلطناها دوما، وهذا الخلط مصدر أشكال تحريف الأصالة كما سأبيّن ذلك.
لعبت حرية التحدّد الذاتي دورا هائلا في حياتنا السياسية وقد أعطاها روسو شكلا سياسيا في مفهوم العقد الاجتماعي القائم على الإرادة المشتركة والتي لا تحتمل تعارضا باسم الحرية تحديدا لكونها تعبّر عن حريتنا المشتركة. لقد كانت هذه الفكرة أحد المنابع الفكرية للكليانية الحديثة والتي يمكننا أن نؤكد أنها انطلقت مع اليعاقبة. وحتى إن أعاد كانط تأويل مفهوم الحرية بعبارات محض أخلاقية بوصفها استقلالا ذاتيا فقد طفت من جديد إلى السطح في المجال السياسي مع هيغل وماركس.
لكن لنعد إلى مثال الأصالة، فهو يحتل مكانة جد هامة بسبب التطوّر الذي لحقه بعد روسو وأنا أربطه بـ هردر Herder فقد صاغ فكرة تتماشى مع العصر بدل إنشائها وأكّد أن كل واحد منّا له طريقته الخاصة في أن يكون كائنا إنسانيا: فكل شخص يملك “معياره”[3] الخاص. هذه الفكرة التي نُقِشَت عميقا في الوعي الحديث، هي جديدة فقبل القرن الثامن عشر لم يكن ثمة من يعتقد أن الفروقات بين الكائنات البشريّة لها مثل هذه الدلالة الأخلاقية. توجد طريقة ما للكائن البشري هي “لي”، إذ عليّ أن أعيش حياتي بهذه الطريقة وليس بتقليد الآخرين، هذا ما أعطى أهمية جديدة كليّا للإخلاص الذي يجب أن أكنّه لنفسي، فإذا لم أكن مخلصا أخسر حياتي، أي ما يجعلني كائنا إنسانيا.
- حِكاياتُ فتحي عبد الصمد: أَقَاصِيصٌ يَابَانِيَّةٌ بعيونٍ مِصريَّةٍ
- في مديح العدسات السوسيولوجية: قراءة في كتاب “التفكير سوسيولوجيا”
- الأنماط الأفريقية في الكتابة الذاتية
هذا هو المثال الأخلاقي الجبار الذي ورثناه. إنه يعطي أهمية رئيسية لنوع من العلاقة معي أنا ذاتي، مع طبيعتي الحميمية والتي أكون مهدّدا بفقْدِها، في جانب بسبب ضغط النمطية وفي جانب آخر بتبنّينا لوجهة نظر أداتية حيال أنفسنا ذاتها. فقد أفقد القدرة على الإنصات إلى هذا الصوت الداخلي. بعد ذلك يُنَمِّى أهمية العلاقة مع الأنا بإقحام مبدأ التفرّد: فكل صوت من أصواتنا الشخصية له شيء خاص لقوله. فلا ينبغي فقط أن أُشَكِّل حياتي وفق مقتضيات النمطية الخارجية، بل أيضا لا يمكن أن أجد نموذجا لحياتي في الخارج. لا يمكنني أن أجدني إلا فيّ.
أن أكون صادقا مع نفسي ذاتها يعني أن أكون وفيّا لفرادتي وهذا ما يمكنني قوله واكتشافه وحدي. وبفعل ذلك أتحدّد في نفس اللحظة. أحقق إمكانية هي لي وحدي. هذا هو أساس المثال الحديث للأصالة، وأيضا أهداف التألق الذاتي أو تحقيق الذات والذي نصوغه دوما. هذه هي الخلفية التي تمنح قوتها الأخلاقية لثقافة الأصالة، بما في ذلك الأشكال الأكثر تفسّخا والسخيفة والتافهة وهذا ما يعطي معنى لفكرة “قام بشؤونه” أو “وجد تألقه الخاص”.
المصدر: كتاب (قلق الحداثة) لـ تشارلز تايلور، (الفصل الثالث).
هوامش
*بالفرنسية في النص الأصلي (المترجم)
** بالفرنسية في النص الأصلي (المترجم)
20 لقد حللت مطوّلا هذه النظرية التي ظهرت أولا عند فرونسيس هاتشيسون Francis Hutcheson بعد تشوفسبوريShaftesbury ومعارضته لنظرية لوك في: sources of the Self. Char V
21 » إن الشعور بالوجود وقد تجرّد من كل الانفعالات الأخرى هو عينه شعور دقيق بالرضا والأمان والذي يكفي وحده لجعل هذا الوجود ثمين وناعم لكل من جنب نفسه كل الانطباعات الحسية والمادية، التي تجيء وبلا هوادة لتعكّر صفونا هاهنا. غير أن أغلب الناس المضطربين بالعواطف الجياشة لا يعرفون هذه الحالة ولم يتذوّقوها إلا عابرا ولا يستطيعون بفعل ذلك إلا أن يحتفظوا بفكرة غامضة ومضطربة عنها‘ والذي لا يجعلهم يدركون سحرها. J.J Rousseau, Les rêveries du promeneur Solitaire. Ve « Promenade. In Œuvre Complète vol.1 (Paris Gallimard.1959) p 1047.
22 “لكل شخص مقياسه، وله مزاجه الخاص بمشاعره تجاه الآخرين” Herder, Ideen, VII , i, in Herder samtliche Werke, Vol.XIII ed Bernard Seuphan, 15 vol. (Bernard : Weidmann, 1877-1913), p 291.