لماذا الحرب؟
ولد القرن الواحد والعشرين في بركة دم لم يولد فيها أي قرن سبقه. فقد ورث مخلفات كل حروب القرن الذي سبقه، ولا تظهر في الأفق البعيد له أية مؤشرات، ولو ضئيلة على انتهائها. بل تعجج نار الحروب في كل بقاعه، وترتكز على العالم العربي والمسلم بالخصوص. لم يعد من الممكن فهم هذا الجنون الهستيري لحب الهدم الذي تعيشه الإنسانية حاليا. تتجلى نزعة التدمير في أعلى مراتبها، وكأن الإنسانية قد بدأت بالفعل انتحارا محتوما، لأنها لم تعد قادرة على تحمل ذاتها. يشبه هذا الوضع، ما عرفته البشرية قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ساحة الحرب تخص القارة الأوروبية. وهو وضع أذكى حماس مفكريها لدق ناقوس الخطر والوقف ضد الحرب ومحاولة فهم أسبابها ونتائجها. ومن بين من التزم بهذا الأمر كان هناك الفيزيائي ألبيرت إينشطاين ومؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد. وقد وثقا التزامهما ضد الحرب في تبادل رسالتين بينهما. نشرت هذه الرسالة لأول مرة في “مراسلات” من طرف “معهد التعاون الفكري لاتحاد الأمم” عام 1933 بباريس. رسائل مفتوحة، الجزء الثاني. نقدم في هذا الجزء رسالة إينشطاين لفرويد وفي الجزء الثاني رد هذا الأخير عليه.
ألبيرت إينشطاين

“من أجل سلام نضالي”
هناك ما يكفي من المال ومن العمل ومن الأكل إذا ما وزعنا خيرات العالم بالتساوي، عوض ترك أنفسنا عبيد نظام اقتصادي صلب أو عادات بعينها. لا يحق لنا بالخصوص السماح بإيقاف أفكارنا ومحاولاتنا من أجل عمل بَنَّاء واستغلال هذا في الإستعداد لحرب جديدة. أشاطر رأي الأمريكي العظيم بينيامين فرانكلين Benjamin Franklin عندما قال بأنه لم تكن أبدا هناك حرب جيدة ولم يكن هناك أبدا سلام سيئ. لست فقط مسالم، لكن أيضا مسالم مناضل. أريد أن أناضل من أجل السلام. ليس هناك ما يمكنه القضاء على الحرب، إذا لم يرفض الناس الخدمة العسكرية. تقاوم أقلية عدوانية من أجل مثل عظيمة. أليس من الأفضل الموت من أجل قضية يؤمن بها المرء، كالسلم، عوض المعانات من أجل قضية، لا يؤمن بها، كالحرب؟ فكل حرب تظيف حلقة إلى سلسلة الشر، الذي يُعيق تقدم الإنسانية. يمكن لحفنة من الرافضين للخدمة العسكرية مضاعفة الرفض العام للحرب. لم تكن الجماهير أبدا ترغب في الحرب، طالما أنها لم تُسَمَّم عن طريق الدعاية. لابد من تلقيحها ضد هذه الأخيرة. لابد من تلقيح أبنائنا ضد التجنيد، بتربيتهم في روح السلام. يتمثل بؤس أوروبا في كون الشعوب رُبِّيت بأهداف خاطئة. تمجد كتبنا المدرسية الحرب وتغطي وحشيتها. يحشون الأطفال بالكراهية. أريد أن أُعَلِّم السلام عوض الكراهية، الحب عوض الحرب. لابد من إعادة تأليف الكتب المدرسية. فعوض تأزيل صراعات وأحكام مسبقة جد قديمة، على نظامنا التربوي تحقيق روح جديدة. تبدأ تربيتنا من المهد: لأمهات العالم بأكمله مسؤولية تربية أبنائهن من أجل المحافظة على السلم. من غير الممكن القضاء على الغرائز الحربية في جيل واحد. ما هو مأمول هو القضاء عليها (أي الحرب: إ. م) نهائيا. من اللازم على البشر الإستمرار في النضال، وما يكون ناجعا هو من أجل ماذا يناضل المرء: ليست الحدود الخيالية، الأحكام المسبقة على الأعراق أو الرغبة في الثراء هي التي تُعَلِّي راية الوطنية. إن أسلحتنا هي أسلحة فكرية وليست المضرعات وطلقات الرصاص.
كيف يمكن للعالم الذي نريد بنائه أن يكون إذا استعملنا القوى التي تحررها الحرب من أجل إعادة البناء. إن عُشر الطاقة التي استهلكتها الدول التي قادت الحرب العالمية [المقصود هنا الأولى، إ.م]، وجزء ضئيل من المال، الذي شتته بالقنابل اليدوية والغازات السامة، كان كافيا لمساعدة كل بشر العالم للعيش في كرامة والقضاء على كارثة العُطالة في العالم.
من اللازم علينا أن نهتم بقضية السلام وتقديم نفس التضحيات التي قدمناها دون مقاومة لقضية الحرب. ليس هناك شيئ آخر مهما بالنسبة لي من غير هذا الأمر، الذي يشغلني على الدوام. و كل ما أعمله أو أقوم به لا يمكنه تغيير بنية الكون. لكن قد يخدم المرء صوت القضية الكبرى: الوفاق بين الناس والسلام على الأرض”.
“كابوت، ناحية بوتسدام في 30 يوليوز 1932
العزيز السيد فرويد،
إنني سعيد بحصولي من عصبة الأمم ومعهدها العالمي للتعاون الفكري بباريس، على إمكانية فريدة لتبادل فكري حر مع شخص من اختياري حول موضوع من اختياري كذلك وأود المناقشة معكم حول الإشكالية التي يظهر لي بأنها أهم إشكالية حضارية، نظرا لوضع الأمور حاليا: هل هناك طريق يمكنه تحرير البشر من هول الحرب؟
إن وجهة النظر القائلة بأن هذه الإشكالية قد أصبحت إشكالية وجودية بالنسبة للإنسانية المتحضرة بسبب التقدم التقني قد فُرضت عموما، وعلى الرغم من ذلك فإن المحاولات الجادة لحلها لم تنجح لحد الساعة. أعتقد بأن للناس الذين يهتمون بهذا الإشكال مهنيا وتطبيقيا، وبسبب الشعور بعدم القدرة، رغبة ملحة ليطلبوا من الأشخاص التعبير عن وجهات نظرهم حول الموضوع، ويتعلق الأمر بأشخاص يتمتعون بمسافة كبيرة، نظرا لانشغالاتهم العلمية، اتجاه كل إشكاليات الحياة. فيما يتعلق بي، وبما أن التوجه المعتاد لفكري لا يمكنني من إلقاء نظرة على عمق الإرادة والمشاعر الإنسانيين، فإن ما يمكنني القيام به في تبادل أفكارنا هذا هو فقط محاولة عرض الإشكالية وإعطائكم الفرصة لإضاءة الموضوع من زاوية معرفتكم العميقة بالغرائز الإنسانية. أعتقد بأنكم ستشيرون إلى التربية، التي بإمكانها تجاوز العقبات بطرق سيكولوجية غير سياسية إلى حد ما، وهي عقبات يفترضها غير المتخصص في السيكولوجيا، لكنه غير مؤهل للحكم على علاقاتها وتغيراتها. وبما أنني إنسان متحرر من كل المشاعر ذات الطبيعة القومية، يظهر لي بأن الجانب الخارجي أو التنظيمي للإشكالية بسيط: على الدول إقامة إدارة تشريعية وقانونية لحل كل النزاعات التي تقع بينها. تتعهد هذه الدول بالإلتزام بالقوانين التي تشرعها هذه الإدارة، والرجوع إلى محكمتها في كل حالات الخصام والخضوع لقراراتها دون شروط وتطبيق كل التدابير التي ترى هذه المحكمة بأنها ضرورية لتطبيق قراراتها. وأواجه هنا أول عقبة: إن المحكمة هي إدارة بشرية، وبهذا قد تميل في اتخاذ قراراتها إلى تأثيرات من خارجها، إذا لم تكن تتوفر إلا على سلطة ضئيلة لفرض قراراتها. لابد على المرء من أخذ الواقعة التالية في الحسبان: يعتبر القانون و القوة ملازمين لبعضهما، وقد تنحاز أحكام هيئة قضائية من هذا النوع إلى مُثُلِ العدالة للدولة التي ينطق الحكم باسمها ولصالح مصالحها، طبقا لأدوات السلطة التي تظهرها هذه الدولة، لفرض احترام مثال عدالتها. إننا بعيدون كل البعد في هذا الوقت لإقامة منظمة دولية، يمكن إعطاء محكمتها سلطة غير متنازع عليها وفرض طاعة مطلقة لتطبيق قراراتها. وهذا ما يفرض علي الإستنتاج التالي: إن الطريق إلى الأمن العالمي يقود إلى التنازل الغير المشروط للدول على جزء من حرية ممارستها أو سيادتها، ومن اللازم ألا يشك المرء في وجود طريق آخر لتحقيق هذا الأمن من غير هذا الطريق.
نظرة خاطفة على عدم نجاح المحاولات الجادة للعشر سنين الأخيرة، في تحقيق هذا الهدف، تترك كل واحد يشعر، بدون داع للشك، بأن هناك قوى نفسية قوية، تعيق هذه المحاولات. بعض هذه القوى واضحة للعيان. ذلك أن الرغبة في السلطة لبعض الفئات المسيطرة في المجتمع تتناقض مع تقييد الحقوق السيادية لهذه الدولة. وتتغذى هذه الرغبة في السلطة السياسية غالبا من مساعي السلطة المادية-الإقتصادية التي تتمظهر عند فئة اجتماعية أخرى. أعني هنا بالخصوص تلك المجموعة الصغيرة المغلقة على نفسها، الموجودة في كل الشعوب، المصممة بعزم على اعتبار الحرب وصناعة الأسلحة وتسويقها إمكانية لتحقيق مصالحها وتوسيع رقعة سلطتها الشخصية. ويعتبر هذا الإستنتاج الأولي خطوة أولى لمعرفة السياقات. يطرح سؤال بإلحاح: كيف يمكن لهذه الأقلية، المشار إليها أعلاه، توظيف الجماهير الشعبية من أجل تحقيق رغباتها، وهي جماهير سوف لن تجني من الحرب إلا المعانات والخسارة. عندما أتحدث عن الجماهير الشعبية، فإنني لا أستثي كذلك الجنود من كل الدرجات، الذين يجعلون من الحرب مهنة لهم، اقتناعا منهم بأنهم يخدمون المصالح العليا لشعبهم، وبأن الهجوم هو أحسن وسيلة للدفاع في بعض الأحيان. وقد يكون أقرب جواب على هذا هو: تسيطر الأقلية الحاكمة على المدرسة والصحافة وفي غالب الأحيان على التنظيمات الدينية. بهذه الطريقة تسيطر وتدير مشاعر الجماهير العريضة وتجعل منها أداة طيعة في يدها.
لا يستجيب هذا الجواب لكل السياقات، ذلك أن سؤال آخر يفرض نفسه: كيف يمكن تحميس الجماهير عن طريق هذه الوسائل إلى حد الجنون والتضحية بالنفس؟ وقد يكون الجواب هو: تعيش داخل الإنسان الرغبة في الكراهية والتدمير.
يوجد هذا الوضع في الأوقات العادية بطريقة مضمرة ولا يظهر إلا في الأوقات الغير العادية، وبالإمكان إيقاضه وتحويله إلى ذُهان جماهيري. ويظهر لي بأن التأثير المعقد المليئ بالشؤم لعمق هذا المشكل يكمن هنا. ولا يمكن إضائة هذا الأمر إلا من طرف أكبر عارف بالغرائز الإنسانية. ويقودنا هذا إلى آخر سؤال: هل هناك إمكانية توجيه التطور النفسي للإنسان بطريقة يصبح بها قادر على مقاومة ذهان الكراهية والإبادة؟ لا أقصد هنا الغير المتعلمين فقط. طبقا لتجربتي في الحياة، فإن ما يسمى بـ “الإنتليجينسيا”، تخضع بسهولة للتأثيرات الجماهيرية الوحشية، لأنها لا تعتني بالإبداع انطلاقا من المعاش المباشر، لكنها تعكف براحة على الورق المطبوع. وفي الختام هناك شيئ آخر: لم أتحدث لحد الآن إلا عن الحرب بين الدول، يعني عما يسمى بالصراعات الدولية. إنني على وعي بأن العنف الإنساني يُنشَّط في أشكال أخرى وطبقا لظروف أخرى، مثلا عن طريق الحروب الأهلية التي كانت تقاد فيما سبق لأسباب دينية واليوم لأسباب اجتماعية واضطهاد الأقليات الوطنية. وقد ذكرت عن وعي الشكل الجامح للصراع، وهو شكل يمثل أكثر الوضع ويعتبر أكثر كاريثية بالنسبة للمجتمعات الإنسانية؛ فقد يمكن البرهنة من خلاله على الطريقة التي يمكن بها تجنب الصراعات الحربية.
أعرف بأنكم أجبتم في مؤلفاتكم مرة مباشرة وأخرى بطريقة غير مباشرة على كل الإشكاليات الملحة التي تشغلنا في هذا السياق. وقد يكون من المفيد جدا، لو أنكم عرضتم إشكالية جعل العالم يعيش في سلام على ضوء معارفكم الجديدة، فقد تنطلق من مثل هذا العرض محاولات مثمرة.
أحييكم بصداقة.
ألبيرت إينشطاين”
جواب فرويد على إينشطاين:
