الكاتب | كريم عبد الحميد محمد |
ضرب صفحآ عن سوره المُشيد في “الوركاء” ، فأدار له ظهره و توارى خلف شجرة ، أغمض عينيه في تأمل لطبقاته الثلاث ، ففي الأولى كان كالحيوانات الضارية مُغرق في ملذاته ، يُجبر شعبه على العمل بالسخرة، و يستبيح العذارى ، و يسفك دماء الذكور ، أما في الطبقة الوسطى الإنسانية ، إنغمس في المُغامرات ليُخلد ذكراه مع الأبطال و الآلهة فقتل خومبابا و الثور المُقدس ، و أنقذ شجرة “إنانا” من انزو ، و ليليث ،و الحية، و حين بلغ الأفق الروحى ، تحدى الموت فخاض بحاره و تصدى لأهواله ليصل إلى “اوتو – نبشتم” في “شروباك” ، فخبر أسرار الخلود ، هنالك ذرفت عينه الدمع ، و أخذ جسده يرتعد من برودة الخوف ، كطفل وحيد عاري في صحراء جدباء.
هب واقفاً عندما تذكر أنه ” كلكامش”!، و أخذ يدور بداخل عاصفة أفكاره ، كضرغام يود الفرار من حلقة نار تضيق عليه و تتصاعد ، تذكر روح “أنكيدو” و هى تُحدثه عن جسده الذى تلاشى أمامها في ظلام دامس ، و تُخبره عن أرواح فى هيئة طيور طعامهم من طين ، في العالم السفلى كل الأنفس سواء تحيا في كآبة ، ذكرى ” انكيدو” لم تُفارقه منذ أن أرسل إليه بمومس في البرية لتستدرجه إلى المدينة حتى تحضر!، و ما لم ينساه أيضآ أن بموته تبصر بعالم النومينون بدلآ من العالم الظاهرى حتى زهد !، توقف عن ويلاته هنيهة بعدما سمع زئير يدمدم و كأنه ينبثق من أعماقه ، فدخل معه في جدال مصيرى.
_أولم تفتك بالأسود ليلآ و ترتدى فرائهم ؟، أولم تعبر من نفق لما يطأه بشرٍ من قبلك و سرت فيه زمنآ ، و أوغلت ؟، أولم تحاول ” سيدورى” إغوائك و زينت لك الدنيا ، و لم تتزعزع ؟ ، أولم تركب مع “أورشنابى” بحر الموت ، و لم تخف ؟ ، لما أقدمت على ذلك؟.
_من المُتكلم؟!.
_أولم يتحداك ” اوتو – نبشتم” أن تظل مُستيقظ ستة أيام و سبع ليال ، و أخفقت؟، أولم تلقى بنفسك في قاع البحر من أجل الحصول على نبتة الحياة الأبدية ،و سرقتها الأفعى ؟.
_من أنت؟!.
_أنا العنصر المُفارق بك !.
_عنصرى المُفارق!.
_ نعم ، أرأيت كيف تعددت سُبل الخلود ؟!.
_ و لكني فشلت.
_ أرضيت بالإرتداد إلى سيرتك السفلى ؟..أيرتدى الأفعوان ما نزعه عنه بالألم و الكبرياء؟!…أولم يمنح الإله الخلود لإتراحسيس في حلمه ، و هو بشر ؟!.
_ليس بوسعى شيء لأفعله؟.
_ أوليس أنت الذى رأى كل شيء؟.. استيقظ يا “كلكامش” ، و عُد مُجددآ إلى المُفرط في الحكمة!.
_لكن إسمع يا كلكامش ، تلك المرة لا تتفوه بكلمة عما ستصل إليه!.
بالفعل عاود من جديد و ملؤه العزم و التصميم، على الرغم من أن في تلك المرة كان الذهاب إلى ” اوتو – نبشتم” أكثر وعورة، و كأن السُبل إليه تبدلت ، لقد عبر من “بوابات نجمية” جعلته يضل الطريق ، واجه فيها مخاوفه مُتجسدة أمامه على هيئة كائنات مُعتمة، ثم خرج منها ليواجه أقوام حسبهم من بعيد بشرآ ، و لكنهم برؤوس شياطين ، حتى بحر الموت الذى عبره بمفرده تلك المرة ، بدا له مُغاير، ولكن في النهاية وصل ، و وجد ” اوتو – نبشتم” على الشاطئ ، و كأنه يعلم بمجيئه .
_كنت في إنتظار عودتك!.
يبدو أن “كلكامش” بلغ مأربه في الختام ، و لكن سكت عنه كما أشار عليه النذير، فإن كان في “ثبت ملوك سومر” ذُكر كملك على أرض “أوروك” ، فما معنى أنه صار ملكآ و قاضيآ في العالم السفلى فيما بعد في كتابات الملك ” أور نمو ” ؟!، و ما معنى أن تسبق علامة الألُوهة أسمه ؟! ، حتى ذكر بالإله “كلكامش” في تعويذة دينية، و لما توجه إليه ملوك سومر بصلواتهم و تراتيلهم ؟!.