المحاور | عبد الله المؤمن |
أجرى الحوار | جريدة طوكيو |
ترجمة | طارق السيد |
إن التعامل مع كوفيد الجديد -ذلك الوباء الذي طاف حول العالم- كشف لنا مزيّة كل دولة على حدى. وقد سألنا البروفيسور عبد الله المؤمن (أستاذ اللسانيات المقارنة والترجمة) الذي عاش مدة طويلة في اليابان، والخبير في شؤون الدول الأخرى، عن المزيّة التي كانت لليابان أثناء تعاملها مع هذا الوباء. لقد أزال لنا هذا الاضطراب الذي سبّبه كوفيد اللثام عن الحقيقة الخفية للمجتمع الياباني.
يعود أصل كلمة خطر Risk (بالكاتاكانا リスク) إلى الكلمة الإيطالية Risicare وهي تعني: تحلَّ بالشجاعة وحاول، ونحن بسماعنا لهذا المعنى يذهب الخيال بنا إلى ملّاحٍ أبحر باحثًا عن ثروة ضخمة في البحر المتوسط (المطلّ على إيطاليا[i]). إن تعاريف الخطر لدى وزارة الاقتصاد اليابانية كثيرة. وكما يُطلق لفظ عدم اليقين على الشيء الذي يحمل وجهين أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فإنه غالبًا يقتصر إطلاقه على وجهه السلبي. وعدم اليقين هذا هو أحد الكلمات التي تستعمل كثيرًا في عالم المال كالتباين (وهو أحد مقاييس التشتت لدى علماء الإحصاء[ii]).
1- يوشيدا: ماهي الظاهرة التي لفتت انتباه الدول الأخرى إلى اليابان أثناء وباء كوفيد الجديد؟
عبد الله المؤمن: دعني أذكر في البداية مفهوم “الترك الطَّوعي” [1] الذي كان سببًا رئيسيًا للفت انتباه الدول الأخرى، فهو مفهوم ليس له نظيرٌ -على ما أذكر- في مفاهيم اللغات الأخرى، وقد تلقيت أسئلة عن معنى هذا اللفظ من الأجانب غير اليابانيين، لكن الجواب المختصر غير ممكن؛ لأن جذور هذا المفهوم عميقة في القيم اليابانية، ولم يكن نتيجة فرض قانوني أو إجبار خارجي.
تقول روث بندكت عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية عن معيار الأحكام والأفعال عند اليابانيين:
” لا يريدون أن يصبحوا أحرارًا، بل أن يكونوا عند حسن الظن. وهم لا يطالبون بالمساواة بقدر مطالبتهم بإنجاز الواجب“.
إن المراقبة الشديدة للنفس والاحتياط في إطلاق الأحكام أمران مهمان جدًا لدى اليابانيين؛ وذلك لتجنب النقد الذي يأتي من المحيط الخارجي للفرد، إنهم يتخذون سلوك “الترك الطوعي” مباشرةً خوفًا من ترك أي انطباع سيء، بل ويلتزمون الحيطة في تطبيقه بغض النظر عن قناعاتهم. وهذه الحيطة ليست عادية أو هامشية، بل قد تصل إلى قياس أبعاد العلاقات التي تربطهم مع من حولهم من الأفراد، وإلى فعل الأشياء باحتراس شديد.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المنظمات التي لا تستجيب “للترك الطوعي” ستتعرض أسماؤها للتشهير. وهذه العقوبة على الرغم من عدم وجودها في الدول الأجنبية، إلا أنها ترتبط بشدة مع مبدأ الثقة عند اليابانيين؛ فتجاهل هذا السلوك ستكون عواقبه التحذير والتهديد من ”شرطة الترك الطوعي[2]“(自粛警察) التي ظهرت تعبيرًا عن هذا المفهوم.
2- يوشيدا: هل تعاملت الحكومة اليابانية بطريقة مميزة مع هذا الوباء؟
عبد الله المؤمن: التقييم ليس سهلًا، لكن الحكومة اليابانية لم تستدعِ المواطنين، على خلاف ما فعلت الحكومة الفرنسية والألمانية اللذان فرضا قوانين صارمة على المخالفين، حيث كانت هناك استدعاءات رسمية من الحكومة للمواطنين. الحكومة اليابانية لم تتصرف بهذه الطريقة؛ لأنها لم تكن دولة ذات سيادة فردية. لقد كتب ريوتارو شيبا[3] عن القائد العسكري تويوتومي هيده يوشي[4] بأنه ”عبقري في بثّ المحبة فيمن حوله” (人たらしの天才)، وهذه سمة معروفة في القادة اليابانيين الأقوياء، وهي مازالت باقية حتى بعد رحيلهم.
3- يوشيدا: من صفات اليابانيين: صعوبة التعبير عن المشاعر الحقيقية، وتجنب الأحاديث المباشرة، وعدم الجرأة على الأخطار والتشاؤم بشأنها، وهي اليوم باتت معروفة عنهم؛ فما هي الأسباب التي أدت إلى ذلك؟
عبد الله المؤمن: أعتقد أن اليابانيين لا يريدون أن يكرههم من حولهم أو أن يصطدم بهم، وهذا الذي أدى إلى امتناعهم عن الحديث مع أن لديهم آراءً خاصة؛ فالطلاب في مراكز التعليم يتأملون ويفكرون حول مختلف الأمور، ولديهم آراءٌ مختلفة، لكن المعيار الاستراتيجي لدى اليابانيين هو التدفق مع الأحوال المختلفة.
إن عموم الناس لا يبثون آراؤهم السياسية، ويستعملون مبدأ الأغلبية الصامتة[5]، فيتحركون بطريقة سلبية، وهذه أمور أدّت إلى كثير من المشكلات.
لا بد أن يعلم الناس بأن عدم التعبير عما في النفس سيؤدي إلى مشاكل كبيرة، فالذي لا يطيع إرادته سينجرف مع إرادة غيره كما يُقال؛ لذلك لا بد من التغلب على هذه المشكلة بالتعلم والتفكّر.
إن لمفهوم “الخطر” لفظين، اللفظ الأول: لفظ إنجليزي Risk ويُكتب بالكاتاكانا[6]リスク، واللفظ الثاني: لفظ ياباني يُكتبُ بالكانجي[7] (危険きけん)، وكلاهما يُستعمل على سبيل الترادف في اللغة اليابانية، مع أن اللفظ الإنجليزي الذي كُتب بالكاتاكانا له معنى آخر لا يحمله اللفظ الياباني الذي كُتِب بالكانجي، وهو معنى “الاحتمال الضئيل”، والذي نستطيع أن نرى من خلاله بأن الخطر ليس انعدام للفرص تمامًا، بل هو فرصة محتملة، وهو ما لا يعبر عنه اللفظ الثاني.
4- يوشيدا: لقد شنّت اليابان الحرب على دول كبرى كروسيا والولايات المتحدة في عصر ميجي (1868م) إلى شُووَا (1926م)؛ وهي بذلك قد أقدمت على أخطار جمّة، هل هذا يعني بأن اليابان قد تغيرت منذ بداية عصر هيسي[8] (1989م) إلى العصر الحالي؟
عبد الله المؤمن: ليس بالضرورة، هل قرار اشعال الحروب يُتّخذ من المواطنين، أم من بعض القوى فقط؟ لا أعتقد أن هذه القرارات قد نتجت من تفكير ينزع إلى المخاطرة.
لقد أصبح المجتمع الياباني مجتمعًا صارمًا، وضعفت فيه المرونة والحيوية بعد عصر هيسي، فهم يعيشون غالبًا في ضغوط نفسية، مع أن التحديات ليست كبيرة. إنهم يعيشون في خوف من الخطأ؛ لأن فرصة استعادة السمعة بعده غير ممكنة. لم تكن المشكلة مرتبطة بنقص الثروة، فهي مع توفرها إلا أنها لم تجلب لهم الراحة.
لقد أصبح كل إنسان ينظر تجاه الآخر بصرامة؛ وهم لم يتجنبوا الأخطار إلا لأنهم اضطروا إلى ذلك اضطرارًا، لقد فُرِضَ عليهم هذا من البيئة الاجتماعية كما يبدو، وقد اشتدّت هذه الضغوط بعد انفجار الفقاعة الاقتصادية[9].
إن الدول العربية وأوروبا تعطي فرصة وأكثر لمن يُخطئ.
لقد توقف الشباب اليابانيون عن السفر إلى الخارج. لا أدري، قد يكون السبب أن اليابان مريحة أكثر.
أتذكر أني عندما أتيت إلى اليابان لأول مرة، لم يكن لدي سوى تذكرة ذهاب بلا عودة، ومائة دولار فقط، ولم يخطر في بالي خطورة هذا الفعل أبدًا.
5- يوشيدا: كيف تتابع اليابان نهوضها في عصر البلدين الكبيرين الولايات المتحدة والصين؟
عبد الله المؤمن: لقد كانت مسألة التأخر في صنع اللقاح نموذج تظهر فيه صفة الخوف من الأخطار بشكل واضح. لم يقدروا على الاستثمار بالشكل المطلوب بسبب هذا الخوف، ونتيجةً لذلك، لم يقدروا على إنتاج لقاح محلي في الوقت المناسب. لم تستطع الحكومة الأمريكية صنع اللقاح إلا بسبب استثمارها بالشكل المطلوب في الوقت المناسب. إن الأسباب التي منعت هذا الإنتاج لا تعود إلى نقص في الأموال والمهارات، بل السبب يعود إلى عدم قدرتهم على إظهار ما لديهم.
اليابان تعمل بكامل قواها، لكن حركتها ليست سريعة؛ وتطور الدول يعتمد على سرعة الأفراد. فإن قرر مئة مليون فرد بالتوقف عن المحاولة وتجنب المخاطرة، فإن إجمالي الخسائر لا يُقاس. لابد أن يعرف الناس بأن الخطر فرصة.
على الرغم من أن النموذج الياباني رائع إلا أن الصقل مهم أيضًا. لهذا السبب لابدّ لليابان من التواصل مع الدول الأجنبية. إنه عصر الانفتاح. باب قبول المهاجرين أيضًا لابد أن يُفتح. لا يمكن لليابان أن تُغلق هذا الباب وحدها من بين بقية البلدان. إن المجتمعات في العصر الحديث بدأت تتحول إلى مجتمعات ذات ثقافات متعددة، حيث تضم جنسيات وثقافات مختلفة؛ فالتواصل مع ذوي الثقافات الأخرى لم يعد حدثًا نادرًا كما كان، بل أصبح مظهرًا عاديًا من مظاهر الحياة اليومية.
إن سبب النزاعات الواقعة بين المجتمعات العالمية في رأيي، هو التصور النمطي، وهو سبب النظرة المتحيزة وسوء الفهم أيضًا.
أظن أن الهدف ينبغي أن يكون هو الوصول إلى معرفة نابعة من التفهم الصحيح للثقافات والقيم المختلفة.
لقد ترك فوكوزاوا يوكيتشي[10] لنا عبارة قال فيها: ”استقلال الدول مشروط باستقلال الأفراد“.
إن أهم الأمور التي ينبغي فعلها وأريدها أن تتحقق هي: التعبير عن المشاعر، وتوجيه الأنظار إلى الدول الأجنبية، وتقبّل المخاطرة، ثم قبول المجتمع لهذه التغييرات.
1 لهذه الكلمة عدة معان: منها (الورع): وهو الامتناع التطوّعي عن الشيء دفعًا للأضرار، لكني فضلت أن أبقيها غريبة لكي لا تفقد مدلولاتها اليابانية. وقد اقترح الدكتور المؤمن مشكورًا أن أترجمها بـ”الإقلاع الطوعي” لكني رأيت بأن الكلمة لن تكون يسيرة الفهم على القارئ العادي، فانتخبت “الترك الطوعي” في نهاية المطاف.
2 كلمة عامية تشير إلى فئة من اليابانيين شعروا بعدم العدالة والغيرة عندما رأوا من خالف القانون من المنظمات فنبهوهم وحذروهم، بل قد وصل الأمر إلى الأذى -في بعض الحالات- بإلصاق الأوراق المسيئة على جدران هذه المنظمات؛ وقد انتشر هذا السلوك مع بداية وباء كوفيد.
[3] ريوتارو شيبا 司馬 遼太郎: هو روائي ياباني، معروف برواياته التاريخية عن اليابان، رواياته لم تُترجم إلى العربية بعد فيما أعلم، توفي 1996م.
[4] تويوتومي هيده يوشي 豊臣秀吉: هو من أكبر القادة العسكريين في تاريخ اليابان على الإطلاق، وممن ساهموا في توحيد اليابان بعد فترة الانقسامات، توفي 1598م.
[5] مبدأ الأغلبية الصامتة: مفهوم اجتماعي يطلق على الفئة التي لا تشارك في القرارات السياسية، وتكتفي بالمشاهدة.
[6] الكاتاكانا カタカナ: النوع الثاني من الأحرف الصوتية لليابانية، وهي تستعمل غالبًا لكتابة الكلمات التي أُخذِت من الثقافات الأخرى، ككلمة “ريسك” أو خطر المذكورة.
7 الكانجي 漢字 : هي الرموز التصويرية الصينية التي استعارها اليابانيون من الصينيين في القرن الأول للميلاد. انظر قاموس ريوكاي.
[8] عصر هيسي: ابتدأ هذا العصر في ثمانية يناير 1989م، وهو اليوم الأول بعد وفاة الإمبراطور هيروهيتو واستلام ابنه أكيهيتو العرش.
[9] الفقاعة الاقتصادية: حالة تصف وضع الاقتصاد بعد ارتفاع سعر أحد السلع ارتفاعًا جنونيًا؛ نتيجة زيادة المضاربة عليه، فتنهار بعدها الأسعار سريعًا. وهي حالة تشبه انتفاخ الفقاعة التي ما تلبث أن تنفجر؛ وقد حدثت في اليابان في عام 1990م.
[10] فوكوزاوا يوكيتشي 福澤 諭吉: كاتب ومترجم، وأحد مؤسسي نهضة اليابان الحديثة، وهو مؤسس أشهر وأقدم جامعة في اليابان، جامعة كيئو Keio University، توفي 1901م.
[i] هذا التوضيح إضافة من المترجم
[ii] هذا التوضيح إضافة من المترجم