الكاتب | أوكتافيا إي بتلر |
ترجمة | عبد العاطي طلبة |
ابتدأت ليلة طفولتي الأخيرة بزيارة إلى بيتنا. أعطتنا أخت تيجاتوي T’Gatoi’s بيضتين عقيمتين؛ واحدة لأمّي وأخي وأخواتي، وأصرت أن آكل الأخرى وحدي. لم تكن هناك مشكلة، إذ كان هناك ما يكفي ليشعر الجميع بالرضا إلى حد كبير. لم تُقبل أمِّي على شيءٍ من ذلك، بل جلست بعيدًا؛ تراقبنا هائمين حالمين دونها، ولقد كنت نصب عينيها معظم الوقت.
استرخيت على المنطقة التحتية لتيجاتوي، وهو جزء طويل منها ومُخمل، وجعلت أمص بيضتي بين حين وآخر، وأتساءل عن السبب الذي من أجله امتنعت أمي عن متعة كهذه؛ لا تضرّنا في شيء، بل سيكف اللون الرمادي عن شعرها إن روحت عن نفسها من وقت لآخر؛ والبيض قبل أي شيء يطيل الحياة، ويغمر بالنشاط. لم يرد أبي البيض طول حياته، لذا عاش حياته ضعفَين وأكثر مما ينبغي، وعندما دنا الموت منه، وصار يتهادى بالكاد يحمل نفسه؛ تزوج أمي وأنجب منها أولادًا أربعة.
بدت أمي متسامحة والعمر يكتنفها قبل أوانه. رأيتها تشيح بأنظارها بعيدًا عني عندما كانت أطراف تيجاتوي تضمني إليها أكثر. لقد أحبت تيجاتوي الدفء في أجسادنا، فكانت تجني فوائده كلما استطاعت. عندما كنت صغيرًا، وأمكث وقتًا أطول في البيت؛ اعتادت أمي على تكرار محاولاتها إخباري عن الطريقة المثلى في التعامل مع تيجاتوي؛ وكيف ينبغي علي أن أحترمها وأكون لها مطيعًا ما بقيت، إذ كانت ذاتَ منصب رسميّ في حكومة التلِيكيين، ومسؤولة عن المحميّة؛ ومن هنا جاءت أهميتها البالغة بين أبناء جنسها، لتعاملها المباشر مع أهل الأرض. «لقد كان شرفًا عظيمًا» كما تقول أمي أن يتفضل علينا شخص كهذا باختيارنا منضما إلى العائلة. كم كانت أمي جادة وحازمة إلى حد بعيد وهي تطلق كذبتها تلك.
لم أدر سببًا لهذا الكذب، بل لم أكن أعرف ماهيّة ما تكذب بشأنه! لقد كان شرفًا عظيمًا أن تنضمّ تيجاتوي إلى العائلة، لكن لا يكاد يكون الأمر جديدًا حقًّا، إذ كانت أمي وتيجاتوي صديقتَين حياةَ أمي كلها، وما كان الموضوع مثيرًا لاهتمام تيجاتوي؛ أن تشرفنا بانضمامها إلى بيتٍ تعبتره بيتها الثاني أصلًا. ببساطة، دخلت بيتنا يوما، وتسلّقت إحدى أرائكها الخاصّة، وقامت بمناداتي لإبقائها دافئة، وكان من المستحيل بمكانٍ أن أعاملها برسميّة بينما أستلقي فوقها وأنا أسمعها تشتكي كالعادةِ من نحافة جسدي الشديدة.
قالت هذه المرة: «أنت أفضل» وهي تتفحصني بأطرافها الستة أو السبعة. «أخيرًا، صرت تكتسب وزنًا، النحافة خطيرة»، استحال تفحصها شيئًا فشيئًا سلسلة من المداعبات المتواترة، وبحدة قالت أمي: «لا يزال نحيفًا للغاية».
استطالت تيجاتوي برأسها بعيدًا عن جسدها مترًا ربما، وظهرت على أريكتها وكأنّها جالسة. ورمقت أمّي بعينيها، فانتأت عنها بوجهها الذي بدا مجعدًا وعجوزًا.
- لين، كم أودّ لو تأخذين ما تبقى من بيضة جان؟
قالت أمّي:
- إنّ البيض للأولاد فحسب.
- إنه للعائلة، خذيه من فضلك.
وبطاعة عمياء، أخذت أمي ما تبقى من بيضتي ووضعتها في فمها. لم يكن قد تبقى منها سوى بضع قطرات في تلك القشرة المرنة المنكمشة الآن، لكنها قامت باستخراج ما بقي منها سائلًا، ومن ثم ابتلعته، وبالتدريج بدأت تجاعيد التوتر تتلاشى عن وجهها بعد دقائق قليلة.
همستْ أمي:
- لقد كان لذيذًا، أنسَى أحيانًا هذا المذاق الشهي.
قالت تيجاتوي:
- ينبغي أن تتناولي المزيد، لماذا أنت في عجلةٍ من أمركِ لتصيري عجوزًا.
لم تُحِرْ أمّي جوابًا.
قالتْ تيجاتوي:
- كم أحبّ أنني قادرة على المجيء هنا؛ هذا المكان بمثابة ملاذ لي بسببك أنت، والآن، انظري إلى نفسك، لا تعتنين بها جيدًا.
كانت تيجاتوي ملاحقة في الخارج، إذ أراد شعبها استباحة المزيد منا. لقد وقفت هي وفصيلها السياسي حدًّا فاصلًا بيننا وبين تلك الحشود التي لم تفهم السبب وراء وضعنا في محميّة، فلماذا ينعدم السبيل إلى محاكمة الأرضيّين، أو تطويعهم، أو أن يتاحوا لهم على الأقلّ بصورة من الصور، ولعلهم فهموا، لكنهم لا يلقون لهذا الفهم بالًا وهم قابعون في هذا اليأس. قامت تيجاتوي بتوزيعنا وبيعنا إلى أثرياء القوم وأصحاب النفوذ من أجل دعمهم سياسيًّا، وهكذا ألفينا أنفسنا ضرورات، ورموزًا لها مقام رفيع، وشعبًا مستقلًّا. كما قامت بالإشراف على انضمام العائلات، والقضاء على بقايا النظام السابق، إذ كانوا يسعون إلى منابذة الأرضيين وعائلاتهم؛ سعيًا في إرضاء التليكيِين. لقد عشت معها في الخارج، وعاينت هذا اليأس المطل من عيون بعضهم وهم يتلقفونني بالأبصار. ما كان يخيفني بعض الشيء؛ أن كانت هي وحدها من تقف حائلًا بيننا وبين هذا اليأس الذي يمتلك قدرة ابتلاعنا عن آخرنا. لقد كانت أمّي تنظر إليها أحيانًا وهي تقول لي: «اعتن بها جيدًا»، ولعلّي أتذكر معاينتها ما قد عاينت في الخارج.
قامت تيجاتوي لتوها باستخدام أربعة من أطرافها لتدفعني عنها بعيدًا على الأرض؛ قائلة: «اذهب يا جان، واجلس مع أخواتك، واستمتع بوقتك دون ارتباط بواجب، لقد تناولت معظم البيضة. لين، تعالي هنا، وأدفئيني». اعترى أمي تردد ما لسبب أجهله تمامًا، فمن ذكرياتي القديمة جدًّا لها أن كانت تتمدد مستلقية بجوار تيجاتوي؛ تتحدّث معها في أمور لا أفهمها بينما ترفعني عن الأرض ضاحكةً لتجلسني على أحد تقاطيعها، ومن ثم تأكل حصتها من البيض. أتساءل: متى توقفت عن ذلك، ولماذا؟
لم يمر طويل وقت إلا واستلقت أمي بجانبها بينما تجتذبها أطراف جانب تيجاتوي الأيسر؛ قابضة عليها، وممسكة بها دون إحكام، ولكن بصورة آمنة. كم كنت أجد هيئة الاستلقاء تلك مطمئنة لي للغاية، وإذا استثنينا أختي الكبرى، فإنه لم يرتح أحد لذلك غيرنا، إذ كانوا يقولون إنهم يشعرون بكونهم مأسورين في قفص وهم في هذا الحال.
قصدت تيجاتوي وضع أمي في قفصها ذلك، وبمجرّد أن أحكمت وثاقها، قالت: «لم تتناولي ما يكفي من البيض يا لين. كان ينبغي عليك أن تأخذيها عندما مُررت إليك؛ إنك في حاجة بالغة إليها الآن». تحرّك ذيل تيجاتوي مرة أخرى بصورة خاطفة كالسوطِ، درجة أنه لا يمكن أن ألاحظ ذلك ما لم أكن أمعنُ إليهما النظر. أودت لدغتها بقطرة دم واحدة من ساقِ أمي العارية.
بكت أمي؛ من هول الفجأة ربما، فاللسعة نفسها لا تؤلم. تنهدت بعد ذلك، واسترخى جسدها كما رأيت. وفي وهن، انتقلت إلى وضعية أفضل داخل القفص المصنوع بأطراف تيجاتوي، ثم تساءلت: «لماذا فعلت هذا بي؟» بصوت ناعس.
- لم أستطع أن أشاهدك تعانين في جلوسك أكثر من ذلك.
تمكنت أمي من هز كتفيها بإيماءةٍ صغيرة، وقالت:
- غدًا!
- نعم، في الغد تستأنفين معاناتك إذا كان ذلك ضروريًّا، أمّا الآن، فاسترخي هنا، وأدفئيني، ودعيني أخفف عنك بعض الشيء.
قالت أمي بغتة:
- إنّه لا يزال ملكي، وأنت تعرفين ذلك.
- لا أحد يمكنه أن يشتريه مني كائنًا من كان!
انتبهت أمّي إلى أنه ليس مسموحًا لها أنْ تتطرّق إلى مثل هذه المواضيع، لكنَّ تيجاتوي صدقت على كلامها، وقالت مداعبة إياها:
- لا أحد.
- هل تعتقدين أنني أفكر في بيعه مقابل البيض؟ طول الحياة؟ ابني أنا؟
قالت تيجاتوي وهي تربت على كتفيها، وتمسح على شعرها الطويل الذي علاه الشيب:
- لن يُباع بأي ثمن كان.
كم كنت أود أن ألمس أمي في هذه اللحظة بالذات وأن أشاركها إياها. كانت لتأخذ بيدي إذا لمستها الآن، ولربما ابتسمت وقالت كلامًا يعلق بذهني أبدًا طويلًا إذا ما تحررتْ من أسر البيض واللدغ! لكنها في الغد استعادت كل ذلك في ذاكرتها على أنه مهانة، ولا أريد أن أكون مشاركا في ذكرى هذه المهانة أبدًا. أفضل ما يمكن قوله هنا فحسب إنها أحبتني في ظلال كل هذا الواجب، والافتخار، والألم.
قالت تيجاتوي:
- شوان هوا Xuan Hoa، اخلعي حذاءَكِ، بعد قليلٍ سألدغُهَا مرةً أخرى، لتتمكّن من النوم.
أطاعتها أختي الكبرى، وهي واقفة تترنح من السكر. وعندما أنهت ما يجب عليها، جلست بجانبي آخذة بيدي؛ لقد كنا -أنا وهي- روحًا واحدة في جسدَين. ألقت أمي برأسها على تيجاتوي، واستقرت في جانبها التحتي. حاولت النّظر إلى وجهها الدائريّ العريض من تلك الزاوية المستحيلة، وقالت:
- هل ستقومين بلدغي مرة أخرى؟
- نعم، لين Lien.
- إذن سأنام حتى ظهر الغد.
- جيد، أنت تحتاجين ذلك، متى كانت آخر مرة نمت فيها؟
أطلقت أمي صوتًا غير مفهوم يشي بالانزعاج، وتمتمت:
- لقد كان ينبغي علي أن أدعسك عندما كنت صغيرة الحجم بما يكفي لذلك.
لم يكن كلامها الأخير سوى مزحة بينهما، إذ يمكن القول -بوجه من الوجوه- إنهما نشآ معًا، ولم تكن تيجاتوي مدة حياة أمي كلها صغيرة حجمًا حد الكفاية ليقوم أي أرضي بدعسها. لقد كانت أكبر من أمي ثلاث مرات وهي في عمرها الحالي، وكانت لا تزال في شبابها السنة التي تموت فيها. التقيا وتيجاتوي تمر بنوع من المراهقة التي تتغير فيها بيولوجيًّا بصورة سريعة، ولم تكن أمّي سوى طفلة آنذاك، لكن لم يمر طويل وقت إلا وتجاذبا أطراف المحبة على قدر سواء، ولم يحظ كل واحد منهما بصديق كالآخر أبدًا.
وأزيدكم من الشعر بيتًا؛ أن تيجاتوي هي التي عرفت أمي بالرجل الذي سيصبح أبي فيما بعد. في الحقيقة، عاش والداي في هناء رغم تفاوت أعمارهما. تزوجا في الوقت الذي كانت تيجاتوي فيه منشغلة بأعمال عائلتها السياسية. لم يريا بعضهما البعض في هذه الأحايين إلا قليلًا، لكنها وقبل مولد أختي الكبرى، وعدتها أمي أن تهبها واحدًا من أولادها، إذ كان لزامًا عليها أن تهب أحد أبنائها، ففضلت بالطبع أن تعطي تيجاتوي بدلا من التورط مع شخص آخر غريب.
مرت سنوات؛ ارتحلت فيها تيجاتوي وازداد نفوذها بالقدر الذي صارت فيه المحمية تحت تصرفها التام، وفي هذه الأثناء عادت إلى أمي لتجني ثمار ما رأته مكافأة لها على عملها الشاق. نالت أختي الكبرى إعجابها سريعًا وودت لو يتم اختيارها، لكن أمي توصلت معها ومعي من بعد إلى اتفاق نال استحسانها؛ وهو فكرة اختيار طفل رضيع لتتم معايشته ومشاركته في جميع مراحله وأطواره. أخبروني أنني كنت أول من احتضنته تيجاتوي في قفصها المصنوع من أطرافها العديدة مدة ثلاث دقائق فحسب بعد مولدي مباشرة. ولم تمر أيام قلائل إلا وكان الوقت قد حان لأعرف مذاق البيض للمرة الأولى. عندما كان يسألني الأرضيون عنها؛ كنت أخبرهم أنه لا يعتريني منها خوف قط، وكنت أقوم بالأمر نفسه مع أهل تليك إذا ما رشحت لهم تيجاتوي أرضيًّا يافعًا ليخبرهم بذلك، إلا أنهم كانوا يطلبون فتى بالغًا بجهل وقلق شديد بدلا مني. وحتى أخي الذي نشأ بصورة ما يعتريه خوف وتخوين تجاه أهل تليك، ربما ينتقل بسلاسة إلى حد كبير للعيش ضمن واحدة من عائلاتهم إذا ما تم اختياره في وقت مبكر كفاية؛ ما أعتبره أحيانًا أمرًا حسنًا في سبيل سعادته، إذ أنظر إليه مستلقيًا على الأرض في ناحية من أنحاء الغرفة، مفتوحة عيناه وهي تلمع حالمًا بالبيض في أوهامه، فبغض النظر عن شعوره تجاه أهل تليك إلا أنه كان لا ينفك عن طلب حصته من البيض.
قالت تيجاتوي بغتة:
- لين، قومي من فضلك!
قالت أمي مستنكرة:
- أقوم؟ ظننت أني سأغيب في النوم.
- تنامين لاحقًا، هناك ما يدعو للريبة في الخارج!
ينفك أسر القفص دون تمهيد عن أمي، وهي تقول:
- ماذا؟
- قومي يا لين!
تعرفت أمي على تلك النبرة من الصوت، فنهضت واقفة في وقت مناسب لتتجنب إلقاءها على الأرض، وهنا انسلت تيجاتوي بجسدها البالغ أمتارًا ثلاثة عن أريكتها ناحية الباب بكلّ ما تملكه من سرعة. كان لديها عظام، وضلوع، وعمود فقري متطاول، وجمجمة، وأربع مجموعات من عظام الأطراف لكل تقطيع من جسدها، لكنها عندما تحركت بهذه الصورة؛ وهي تلتوي، وتتساقط بنفسها بتحكم هبوطي بارع، لتنحط زاحفة على الأرض؛ بدت رخوة دون عظام، وكأنها كائن مائي سائل، شيء يسبح في الهواء الذي استحال معها كالماء. كم أحببت مشاهدتها وهي تمور في حركتها.
تركت أختي، وجعلت ألاحقها وهي متجهة نحو الباب، رغم أنني كنت بالكاد أستقر على قدمي. ألم يكن من الأفضل لك البقاء حالمًا، ألم يكن من الأفضل لك العثور على فتاة تشاركها أحلام اليقظة؟ وبالعودة إلى أهل تليك؛ إنهم لا ينظرون إلينا إلّا على أنّنا مجموعة من الحيوانات الكبيرة ذات الدم الدافئ، والتي تمنحهم الراحة، لذا لم يجدوا بدًّا من تكديسنا معًا، رجالًا ونساء، ليطعموننا البيض فحسب؛ وهكذا يمكنهم التأكد أن يأتي جيل آخر من هذه الحيوانات الأرضيّة، ولا تهم بعد ذلك الطريقة التي حاولنا بها الصمود. إننا محظوظون كثيرًا أنّ هذا الحال لم يدم طويلًا، إذ بعد أجيال قليلة منا ومنهم أصبحنا بالنسبة إليهم شيئًا أكثر من كوننا حيوانات كبيرة تمنح الراحة والدعة.
قالت تيجاتوي:
- جان، لا تغلق الباب، وأخبر العائلة أن تبقى بعيدًا.
تساءلت:
- ما الأمر؟
- إنه إنتليكي N Tlic.
ارتد جسدي مرتطمًا بالباب، وقلت:
- هنا؟ وحيدًا؟
- أظنه كان يحاول الوصول إلى صندوق الاتصال.
حملت الرجل من أمامي، فاقدًا وعيه، مطويًّا مثل معطف بين بعض أطرافها. بدا الرجل في مقتبل عمره، ولربما كان في عمر أخي، لكنه كان أنحف مما ينبغي؛ تلك النحافة التي تدعوها تيجاتوي بالخطيرة.
- جان Gan، اذهب إلى صندوق الاتّصال.
طرحت تيجاتوي الرجل أرضًا، وبدأت في خلع ملابسه وتعريته تمامًا، أما أنا، فبقيت ساكنًا لا أتحرك. وبعد دقيقة، لم تفعل غير أنها رمقتني بعينيها! لم يكن وجومها المفاجئ إلا علامة على انعدام الصبر ونفاده عن آخره. أخبرتها:
- أرسلي كوي Qui، سأبقى معك، لعلي أساعد هنا.
أطلقت تيجاتوي المجال لأطرافها مرة أخرى؛ فرفعت الرجل وخلعت قميصه عن رأسه. قالت:
- لا ينبغي عليك أن ترى هذا، سيكون صعبًا عليك، ولا يمكنني مساعدة هذا الرجل بالطريقة التي يستطيعها أهله التليكيون.
- أعرف هذا، ومع ذلك، عليك إرسال كوي؛ إنه لن يرغب في التعاون هنا، ولن يقدم أي مساعدة حقيقية، وعلى الأقل، أنا أرغب في المحاولة.
نظرت إلى أخي الذي كان أكبر عمرًا وحجمًا، وأقوى، وبالتأكيد كان الأقدر على تقديم المساعدة في مثل هذا الموقف، لكنة كان جالسًا يترقب، مستندًا على حائط، يأكل الرجل المُستلقي بعينيه في خوف واشمئزاز صارخ؛ ما جعلها لا تشك لحظة في كونه عديم الفائدة فعلًا، لذا أمرته بالذهاب. لم يناقش كوي الأمر، بل انتفض قائمًا يتهادى بعض الشيء، ثم استقر نهاية في خوف والتزام صارم. جعلت تيجاتوي تنظر في الطوق الذي حول معصمه بينما أتحسس طوقي بنوع من التعاطف، ثم قالت لِكوي:
- هذا الرجل اسمه برام لوماس Bram Lomas، وهو في حاجة إلى تيكوتجيف تيه T’Khotgif Teh حالًا، هل تسمعني؟
جعل أخي يردد: «برام لوماس، تيكوتجيف تيه… حسنًا، أنا ذاهب»، ثم التف من حول لوماس ليجري خارجًا من الباب.
بدأ توماس في استعادة وعيِه مرة أخرى. جعل يئن بداية ثم قبض على زوج من أطراف تيجاتوي وهو يتشنج. استيقظت أختي أخيرًا من سكرها العميق بالبيض، وجعلت تقترب لتلقي نظرة عليه، حتى انتبهت أمي إليها فقامت بسحبها إلى الوراء.
خلعت تيجاتوي عن الرجل حذاءه، ثم بنطاله، كل هذا وهي تاركة طرفَين من أطرافها يتوليان أمر السيطرة عليه. أدت أطرافها المهمة ببراعة على حد سواء إلا تلك الأطراف السفلية القليلة. قالت تيجاتوي:
- جان، دع عنك التردد كله فيما سأطلبه منك هذه المرة.
اعتدلت في قامتي وقلت:
- ما المطلوب مني؟
- اذهب إلى الخارج، واذبح حيوانًا لا يقل حجمه عن نصف حجمك.
- أذبح؟ لكني لم أقم أبدًا بـ…
دفعتني بقوة ناحية الباب، وكان ذيلها سلاحًا نافذًا سواء أظهرت إبرة اللدغ أم لم تظهرها.
تحاملت على نفسي، وشعرت بالحماقة أن تجاهلت تحذيرها الأولي لي، وانصرفت إلى المطبخ لعلي أجد ما يمكنني به قتل شيء ما؛ سكينة مثلًا أو فأسًا. كانت أمي تربي عددًا قليلًا من الحيوانات الأرضيّة من أجل لحومها أو فرائها، لكن تيجاتوي تريد حيوانًا محليًّا على الأرجح، ولربّما كان حيوانا كالآكتي Achti، فأحجام بعض هذه الحيوانات قد تكون مناسبة على الرغم من كونها تمتلك أسنانًا أكثر -ثلاثة أضعاف ما لديّ- ويعشقون تفعيلها. باستطاعة أمّي هُوا وأخي كوي أن يقتلا هذه الحيوانات باستخدام السكاكين، لكني لم أقتل أحدها أبدًا، بل لم أذبح أي حيوان على الإطلاق. لقد كنت أقضي وقتي كله مع تيجاتوي بينما كان أخي وأخواتي يتعلمون هذه الشئون وغيرها من أمور العائلة. لقد كانت تيجاتوي محقة؛ كان ينبغي علي أن أذهب إلى صندوق الاتصال، على الأقل أستطيع أن أفعل ذلك.
ذهبت إلى غرفة الخزانة عند الزاوية، حيث بيت أمي الكبير الذي حافظت عليه، وحيث أدوات الحديقة. هناك خلف الخزانة؛ أنبوب لحمل مياه صرف المطبخ، لكنه لم يعُدْ كذلك، إذ قام أبي بتحويل مسار مياه الصّرف أدنى هذا الأنبوب منذ زمن بعيد؛ قبل ولادتي حتى. وصار بالإمكان تدويره بحيث ينزلق بعضه على بعض؛ ما يتيح إخفاء بندقيّة داخله. لم تكن هذه بندقيتنا الوحيدة، لكنها كانت أيسر ما يمكننا الوصول إليها سريعًا. كان علي استخدامها إذا ما أردت إطلاق الرصاص على إحدى حيوانات الآكتي الكبيرة كفاية، لكنّ احتمال أن تصادرها تيجاتوي كبير، إذ حيازة الأسلحة الناريّة محرم في محميّة البشر. وقعت حوادث مؤسفة في المحمية فور تأسيسها، إذ أطلق الأرضيون النار على بعض التليكيين والإنتليكيين، وكان هذا قبل أن يبدأ نظام الانضمام إلى العائلات التليكية، وقبل أن يكون حفظ السّلام مطلبًا شخصيًّا للجميع هنا. لم يطلق بشري النار أبدًا على تليكي مدة حياتي أو مدة حياة أمّي، لكن قانون الحظر لا يزال ساريًا من أجل حمايتنا كما يُقال لنا، إذ تواترت قصص مروعة عن إبادة عائلات أرضيّة عن آخرها خلال عصر الاغتيالات انتقامًا وثأرًا.
خرجت ببندقيّتي إلى الأقفاص وأطلقت النار على أكبر آكتي وقعت عليه عيني. وكان ذكرًا مليحًا ولودًا. بالطبع لم تكن أمي لتحب أن يقع ناظرها عليه وأنا أسحبه إلى الداخل، لكنه كان ذا حجم مناسب جدًّا، وكنت في عجلة من أمري.
حملت الآكتي بطول جثته ودفئها فوق كتفي، وكم كنت سعيدًا أن بعض ما اكتسبت من وزن كان عبارة عن عضلاتٍ مكنتني من رفعه وأخذه إلى المطبخ حيث أعدت البندقية إلى مخبئها. وإذا لاحظت تيجاتوي آثار الرصاص في جسد الآكتي المجروح، وطالبتني بتسليم البندقيّة، سأسلمها إياها عن طيب خاطر، وإلا سأبقيها حيث أرادها أبي.
تحولت إلى الآكتي لآخذه إلى تيجاتوي، لكن التردد اعتراني لوهلة! وقفت قبالة الباب المغلق متسائلًا عن سبب الخوف الذي غمرني فجأة. كنت أعرف ما سيجري؛ لم أرَ ذلك من قبل، لكن تيجاتوي كانت حريصة على إطلاعي على بعض المخططات والرسومات بصورة تأكدت معها أنني أصبحت أعرف الحقيقة بمجرد أن أصبحت كبيرًا بما يكفي لأن أفهم.
لم أكن أرغب في ولوج غرفة الخزانة تلك، بل أضعت بعضًا من الوقت وأنا أختار سكينًا من ذلك الصندوق الخشبيّ المزخرف الذي احتفظت أمي بما في داخله، بل وقلت في نفسي لعل تيجاتوي تحتاج إلى سكين منه للتعامل مع آكتي كهذا، إذ كان ذا ثقل وقسوة وفراء متكاثر. نادت تيجاتوي بصوت لاذع ومُلح: «جان»! ابتعلت ريقي وكدت أغص، لم أكن أتخيل أبدًا أن حركة مفردة من القدم قد تكون ثقيلة هكذا كالجبال. كم شعرت حينها بالعار عندما أدركت أني أرتجف رعدة كذلك؛ هذا الإدراك دفعني أخيرًا لعبور الباب الفاصل بيني وبينها.
وضعت الآكتي على مقربة من تيجاتوي، ورأيت لوماس غائبًا عن الوعي مرة أخرى. لم يكن هناك أحد في الغرفة غيري أنا ولوماس وتيجاتوي؛ لعله أُرسلت أمي وأخواتي إلى الخارج كي لا يضطروا إلى مشاهدة ما يحدث، حقًّا، كم اعتراني الحسد تجاههم، لكن أمي عادت إلى الغرفة بينما كانت تيجاتوي تقبض على الآكتي متجاهلة تمامًا السكين الذي عرضته عليها، مستعلنة بمخالبها المتكاثرة على أطرافها، وقامت بقطعه طوليًّا من حلقه وحتى فتحة شرجه، ثم نظرت إلي بعينها الصفراء الجازمة، قائلة: «اقبض على كتفي هذا الرجل يا جان».
حدقت بذعر في وجه لوماس، وأدركت أنني لا أرغب في لمسه على الإطلاق، فضلًا عن الإمساك به كما تريد، فلن يشبه الأمر بالتأكيد إطلاق رصاص على حيوان ما، ولن يماثله بالطبع في سرعة التمام والعطف بالموت، وكم كنت أرجو بصورة ليست نهائية، لكن لم يكن هناك شيء أردته حينها أقل من أن أكون جزءًا من هذا الحدث.
أقدمت أمي علينا وهي تقول: «جان، أمسك بجانبه الأيمن، وأنا أمسك بجانبه الأيسر». أعلم أنه إذا استحكم الأمر، فإنه سيطرحها جانبًا من قبل أن يدرك حتى أنه فعل ذلك! لقد كانت أمي ضئيلة الحجم، وكم سمعتها تتساءل مرات عديدة بصوت مرتفع كيف أنها أنجبت أبناء -كما تقول- «جسيمين» في هذه الصورة من الضخامة. قلت لها وهي تحاول الإمساك بكتفَي الرجل: «لا عليك يا أمي، سأفعل ذلك وحدي». انصرفت، لكنها جعلت تحوم في الأجواء، فقلت: «أمي، لا تقلقي، لن أخذلك أبدًا، وليس عليك البقاء هنا لتشاهدي شيئًا». نظرت إلي والشك يتلبسها ولامست وجهي بملاطفة نادرة، ثم ارتدت أخيرًا عائدة إلى غرفة نومها. تدانت تيجاتوي برأسها في ارتياح بالغ وهي تقول: «شكرًا يا جان»؛ قالتها بلطف شديد يليق بأرضي أكثر من تليكي، ثم أردفت: «هذه المرأة… إنها لا تكف عن إيجاد مسالك جديدة لتكريس معاناتها الخاصة».
ابتدأ لوماس في الهمهمة بألم، مصدرًا أصواتًا غاصة؛ الحدّ الذي جعلني أرجو لو ظل مقيمًا في لاوعيِه. اقتربت تيجاتوي بوجهها كثيرًا من وجهه حتى يستطيع الانتباه إليها. قالت له:
- لقد قمت بلدغك بالقدر الذي أقدر عليه الآن، وعندما ينتهي كلّ هذا، سأقوم بلدغك مرات أخرى لأجعلك تنام نومًا لا تتأذى بعده أبدًا.
توسل الرجل قائلًا:
- لا، من فضلك، انتظري…
- برام، ليس هناك وقت لهذا، سأقوم بلدغك بمجرد انتهائنا، وعندما تصل تيكوتجيف، ستمنحك البيض ليساعدك على الشفاء سريعًا، كل شيء سينتهي عن قريب.
صرخ الرجل وهو يتلوى بين يدي:
- تيكوتجيف!
- قريبًا يا برام.
رمقتني تيجاتوي بنظرها، ثم غرست مخلبها في جوفه، وسط بطنه جهة اليمين، أدنى ضلعه الأيسر، فعلت ذلك بتأن شديد. كانت هناك حركة نابضة في جانبه الأيمن؛ بانت في نبضاتٍ خاملة تتكشف بصورة متقطعة ينتفض بها لحمه البنيّ؛ ما أدى إلى إحداث تجويف هنا، ونتوء هناك، تواترت نبضاته مرارًا وتكرارًا بصورة جعلتني أتسمع إيقاع تنغيمها، وأعرف تمامًا أين تتخلق النبضة التالية.
تخشب جسد لوماس بكامله ومخالب تيجاتوي تعتمل فيه رغم أنها لم تُعمله فيه عن آخره، كما أوثقته بإحكام عن طريق التفاف ذَنَبها الطويل حول ساقيه. لعله يُفلت من قبضتي، لكنه لا يُفلت من قبضتها أبدًا! بكى لوماس دون جدوى وهي تُصفد يديه مستخدمة بنطاله، ثم رفعت يديه فوق رأسه حتى يمكنني أن أجثو بركبتي على الملابس التي بينها وبينه، لأضع كل شيء في مكانه المطلوب. كورت تيجاتوي قميصه، وأقحمته في فمه ليعض عليه، ومن ثم ابتدأت في شقه وفتحه.
ارتج جسده مرتعدًا مع أول جرح، وكاد يمزق نفسه ويتخلص من قبضتي. هذا الصوت الذي أصدره… لم أسمع أبدًا في حياتي كلها أصواتًا كهذه تصدر عن أي إنسان! بدت تيجاتوي منهمكة، لا تعير انتباهًا لكل هذا، إذ كانت تطيل الجرح وتعمل على تعميقه، وبين الحين والآخر تتوقف بعض الوقت عن لعق الدم وبصقه. بدأت أوعيته الدموية في الانقباض، والاستجابة لكيمياء لعابها، وبدأ النزيف في التباطؤ.
شعرت أنني أساعد في تعذيبه، أساعدها في تحقيق التهامه. كنت أعرف أنني على وشك التقيؤ، ولم أعرف لماذا لم أستفرغ ما في معدتي حتى هذه اللحظة؟ حقًّا لم أستطع الاستمرار في هذا الأمر حتى تنتهي.
وجدت اليرقة[1] الأولى أخيرًا. كانت ممتلئة، ذات لون أحمر داكن يمتزج ودمه من داخلها وخارجها. كانت قد انتهت لتوها من التهام كيس بيضتها الخارجية، لكنها كما يظهر لم تبتدئ في التهام مُضيفها. إنها في هذه المرحلة لا تملك التمييز، إذ تأكل ما يقع أمامها من لحم عدا أمّها بالطبع. دعونا من كل هذا! لا بد أنها قد بدأت في إفراز سمومها عبر جسد لوماس؛ تلك التي قامت بإمراضه وتحذيره، وكانت بالتدريج ستبدأ في التهامه والتغذي عليه، وبحلول الوقت، كانت ستجد طريقها خارج جسد لوماس عن طريق التهامه من الداخل من أجل خلاصها وخروجها، وسيكون لوماس ميتًا أو في حالة احتضار؛ غير قادر على الثأر لنفسه من هذا الشيء الذي كان يقتله ويعذبه. كانت هناك دائمًا مدة من الزمن -بين مرض المُضيف والوقت الذي تبدأ فيه اليرقات بالتهامه- تسمح بأخذ الحق.
التقطت تيجاتوي اليرقة وهي تتلوى بعناية بالغة، ثم نظرت إليها متجاهلة بصورة ما تأوهات لوماس المريعة. غاب لوماس عن الوعي بغتة؛ دَنت إليه تيجاتوي بعينيها وقالت: «هذا جيد»، ثم أردفت: «كم أود أيها الأرضيون لو تملكون قدرة الغياب عن الوعي بمحض إرادتكم». إنها لا تشعر بشيءٍ من هذا الألم! وهذا الشيء الذي أخرجته؛ في مرحلته تلك، كان دون أطراف وعظم، ويبلغ طوله على الأرجح خمسة عشر سنتيمترًا، أمّا سُمكه فلربما سنتيمتران، كائنًا لزجًا ممتزجًا بالدم، يشبه دودةً من الحجم الكبير. وضعته تيجاتوي باطن معدة الآكتي، لتبدأ على الفور في الحفر والتنقيب؛ ستبقى هناك تأكل وتلتهم ما دام هناك ما يمكن أكله والتهامه من هذا الجسد.
جعلت تُفتش في جسد لوماس لتجد يرقتَين أخريَين؛ الأولى صغيرة الحجم، والثانية مفعمة بالحياة والحركة. «ذَكر»! هكذا صرخت تيجاتوي وهي مُفعمة سعادةً. ستنقضي حياة هذا الذكر قبل انقضاء حياتي عن طريق انمساخه المبكر وإفساده تمزيقًا لكل شيء قد يبقيه على قيد الحياة، سيموت حتى قبل أن تنموَ أطراف أختَيه. لقد كان الوحيد الذي يبذل جهدًا حقيقيًّا في العض والقضم والتغذي عندما وضعته تيجاتوي باطن الآكتي.
جعلت الديدان الشاحبة تبدأ في الظهور طافحة على جسد لوماس. أغلقت عيني؛ كان الأمر أشد سوءًا من أن تقع عينك على شيء هالك، مُتعفن، يمتلئ جسده باليرقات الحيوانية الصغيرة. لقد كان ما رأيت أخبث إلى حد بعيد من أي رسم واصف أو تخطيط مُمكن.
- مرحى، هناك مزيد!
قالت تيجاتوي ذلك، وهي تنتزع يرقتَين طويلتَين، بادنتَين، ثم نظرت إلي:
- ربما عليك أن تقتل حيوانًا آخر يا جان، كل شيء تعتريه الحياة وهي داخلكم أيها الأرضيون.
لقد قيل لي حياتي كلها أن الخير كله فيما وصل إليه الأرضيّون والتليكيون من اتفاق معًا؛ هذا النوع من الولادة بالطبع. آمنت بما قيل لي حتى هذه اللحظة! كنت أعرف أن الولادة ينبغي أن تكون عمليّة مؤلمة ودموية مهما كلف الأمر، لكن ما عاينت كان مختلفًا؛ أخبث مما علمت وأسوأ، ولم أكن على استعداد لرؤيته؛ ولعلي لن أكون أبدًا، ومع ذلك لم أستطع الكف عن التطلع ، فإغلاق عيني لم يعد يساعد.
وجدت تيجاتوي يرقة لا تزال تأكل كيس بيضتها. كان ما تبقى من الكيس لا يزال متصلًا بوعاء دموي عن طريق أنبوب صغير أو خُطاف أو شيء آخر ربما. كانت تلك هي الطريقة التي ترسو بها اليرقات وتتغذى من خلالها وهي في هذا الطور، ففي البداية تتغذى على الدماء فحسب حتى تشتد وتصبح قادرة على الخروج، وهنا يأكلون أكياس البيض المائعة والمطاطة، ومن ثم يبتدئون في أكل مُضيفيهم.
قامت تيجاتوي بقص كيس البيضة، ثم ارتشفت الدم الخارج عنه. هل أحبت مذاقه؟ هل تموت عادات الطفولة بصعوبة، أم أنها لا تموت على الإطلاق؟ بدت العملية كلها كالجناية، شديدة الغرابة بالنسبة إلي. قالت تيجاتوي: «طفل واحد، أو ربما طفلان يشكلان عائلة جيدة. إننا هذه الأيام نصبح في غاية السعادة إذا وجدنا يرقة أو يرقتَين على قيد الحياة في أجساد الحيوانات المُضيفة»، ثم رمقتني بعينيها وقالت: «اذهب إلى الخارج يا جان، واستفرغ ما في بطنك. اذهب الآن بينما لوماس غائب عن وعيه».
قمت أمشي متهاديًا، بالكاد استطعت القيام. تقيأت جميع ما في بطني تحت الشجرة التي خلف الباب الأمامي، تقيأت كل شيء حتى لم يعد هناك ما يمكن استفراغه. قمت وأنا أرتجف أخيرًا، تنهمر الدموع على وجهي كالوديان. لم أعرف سببًا لبكائي، لكنّي لم أستطع أن أكف نفسي عنه. انتأيت عن البيت بعيدًا فلا يراني أحد على هذا الحال، وكنت في كل مرة أغلق فيها عيني لا أرى إلا هذه الديدان الحمراء وهي تزحف على لحم بشري أشد احمرارًا منها.
رأيت سيارة تقصد بيتنا. ركوب المركبات الدائرة بالمحركات محظور على البشريين إلا فيما يخص بعض المعدات الزراعية المعينة، لذا علمت أنه يجب أن تكون تليكية لوماس في صحبة أخي، وربما معهما طبيب أرضي. مسحت الدمع عن وجهي مستخدمًا قميصي، أجاهد نفسي للسيطرة عليها.
استقرّت السيارة أخيرًا لدينا، وصرخ كوي: «جان، ماذا حدث؟»، ثم انسل من باب سيارةِ التليكية المناسب لهذه المخلوقات، والمنخفض، والدّائريّ، ومن ثمّ انسلّ أرضيّ آخرُ من الباب الآخر ودخل المنزل دون أن يحادثني في شيء. الآن بمساعدة الطبيب، وبعض البيض، يمكن للوماس أن ينجو.
قلت: «تيكوتجيف تيه؟». اندفع سائق السيارة إلى الخارج، رافعًا شطرًا من طولها قدامي فأطلت عليَّ أكثر شحوبًا ممّا ينبغي وأصغر حجمًا من تيجاتوي؛ لعل عملية ولادتها تمت في جسد حيوان غير بشري، فالتليكي المولود عن جسد أرضي يكون في العادة أكبر حجمًا، والإنتاج يكون أكثر عددًا. أخبرتها: «ست يرقات يافعة، ولعلها سبع، كلها على قيد الحياة، من بينها ذكر واحد على الأقل». قالت بحدة: «لوماس؟». كم أحببتها في سؤالها، وفي صوتها القلق عندما سألتني هذا السؤال. آخر كلام منطقي نطق به السائق كان اسمها. أخبرتها أنه على قيد الحياة، ومن ثم اندفعت تجاه البيت دون أن تقول شيئًا آخر. قال أخي وهو يراقبها في ذهابها:
- لقد كانت مريضة جدًّا، وعندما اتصلت بها، كنت أستطيع سماعهم حولها يقولون لها إنها ليست بصحة جيّدة للذهاب حتى وإن كان من أجل لوماس وأولادها.
لم أنبس ببنت شفة؛ وما كان حديثي لتيكوتجيف إلا نوعًا من المجاملة. الآن، لا أريد الكلام مع أي أحد، وكم كنت أرجو لو يذهب إلى الداخل بدافع من الفضول على الأقل، أو لأي سبب آخر.
- أخيرًا، اكتشفت اليوم أكثر مما كنت تريد، صحيح؟
نظرت إليه.
- لا ترمقني بنظرة من نظراتها، لست هي يا جان، لست إلا شيئًا من ممتلكاتها.
نظرة من نظراتِها؟ هل صرت أمتلك تلك القدرة على محاكاة تعبيراتها؟
- ماذا كنت تفعل؟ تتقيأ؟
تنفس الصعداء ثم قال:
- وأخيرًا، تعرف الآن ماهية الشيء الذي تورطت فيه.
انصرفت بعيدًا عنه. كانت علاقتنا أكثر حميمية عندما كنا أطفالًا، إذ كان يسمح لي بالتجوال معه في أنحاء البيت، وكانت تيجاتوي تدعه يرافقني أحيانًا عندما كانت تأخذني معها إلى المدينة. لكن كل شيء تغير لما راهق سن البلوغ، ولا أعرف كيف. جعل يتناءى عن طريقها أول الأمر، ثم ابتدأ في الفرار منها حرفيًّا حتى أدرك أن لا «فرار»، لا معنى للفرار هنا في هذه المحمية، ولا معنى له بالطبع خارجها. عندما أدرك هذا الإدراك؛ قام بتكثيف جهوده على أن يأخذ نصيبه من كل بيضة تدخل بيتنا، وعلى النظر إلي بطريقة جعلتني أبغضه؛ ينظر إلي نظرة تقول بوضوح: طالما كنت بخير، سيظل هو في مأمن من أهل تليك.
طلب مني أن أتابعه المشي، ثم قال:
- كيف جرى الأمر حقًّا؟
- لقد قتلت آكتي، وابتدأت اليرقات في التهامه.
- لكن، ليس هذا ما جعلك تخرج مذعورًا من البيت لتستفرغ معدتك؛ ليس بسبب أنهم يأكلون الآكتي.
- كنت… إنني لم أرَ أحدهم مُقطعًا من داخله من قبل.
نطقت بالصدق الذي كان يكفيه حقًّا، ولم أستطع الحديث عن أي شيء آخر؛ لا يمكنني الانبساط في الحديث معه. قال:
- أحقًّا؟!
نظر إلي نظرة ناطقة كأنه يريد أن يقول كلامًا كثيرًا، لكنه آثر الصمت. تماشينا دون وجهةٍ نقصدها هنا، وهناك، وتجاه الأقفاص والحقول.
تساءل كوي: «هل قال أي شيء؟ لوماس، أعني». من غيره يمكن أن يقصد؟! قال: «تيكوتجيف»! اهتز بدنه قائلًا:
- إن استخدمتني كجسد مُضيف لهذه الأشياء، لتكونن آخر من أود الاتصال به!
- ليس لك من سبيل إلا هذا السبيل، فأنت محتاج إلى لدغاتها حتى تُذهِب عنك الألم دون موت اليرقات بداخلك.
- أتظن أني أبالي بموتها؟!
بالطبع لا يبالي! لكن، ماذا عني؟!
ابتلع كوي نفسًا عميقًا ثم قال:
- اللعنة! لقد رأيت ما يفعلونه حقًّا؛ أتظن ما جرى للوماس كان سيئًا؟ إنه لا شيء!
لم أجادله، إنه لا يفهم ما يتكلم فيه. قال:
- رأيتهم يأكلون رجلًا بأم عيني.
التفت إليه مواجهًا:
- أنت كذاب!
قال: «رأيتهم يأكلون رجلًا»، ثم توقف هنيهة ليقول:
- كنت صغيرًا، عائدًا من بيت هارتموند Hartmund ، وبينما أنا في طريق العودة إلى البيت، وفي منتصف الطريق، هنا، رأيت رجلًا وتليكيًّا؛ كان الرجل إنتليكيًّا. وكانت التلال تملأ الأنحاء، فوجدت طريقي إلى الاختباء والمراقبة. لم يُجرِ التليكيون عملية استخراج اليرقات من جسد الإنتليكي، إذ لم يجدوا ما يُطعمون به يرقاتهم الصغيرة. لم يستطع الرجل الحراك أبدًا، وانعدمت البيوت من حوله. كان يتلوى من الألم، ويخبر صاحبته أن تُخلصه بالقتل؛ لقد توسل إليها أن تُنهِي ألمه بإنهاء حياته، وأخيرًا حققت مطلبه ذَبحًا؛ حَزت عنقه بضربة خاطفة وبمخلب واحد. رأيت اليرقات تخترق جسده التهامًا إلى خارجه فداخله مرات ومرات؛ وبتواتر مستمر.
أثارت كلماته صورة لوماس في عقلي؛ جسده المَطفول[2]، المُتفقع لحمه. همست:
- لماذا لم تخبرني قبل عن هذا؟
نظر إلي والرعب يأخذه كل مأخذ وكأنه قد نسي أنني أصغي إليه سمعًا.
- لا أعرف.
- بعدها ابتدأتَ في الفرار بعد وقت ليس طويلًا، صحيح؟
- نعم، وياللغباء؛ كنت أفر داخل محمية! أهرب في قفص.
هززت رأسي، وقلت ما كان ينبغي أن أقوله من وقت طويل:
- اطمئن يا كوي، لن تقوم بانتهابك، ليس عليك أن تكون قلقًا.
- بل ستفعل ذلك… إذا حدث أي مكروه لك.
- لا، ستفضل شوان هوا عليك. وهوا… تريد ذلك.
تنعدم هذه الإرادة إذا بقيت هوا في الداخل تراقب ما يحدث للوماس. قال كوي بمهانة:
- إنهم لا يأخذون الإناث.
- رمقته بنظري وقلت:
- بل يفعلون ذلك أحيانًا. وفي الحقيقة؛ إنهم يفضلون الإناث. حاول أن تتسمع أحاديثهم وهم في الأجواء يتحدثون معًا؛ يقولون إن أجساد الإناث أكثر سمنة؛ ما يحمي اليرقات أكثر ويحافظ عليها، لكنهم عادة ما يستعملون الذكران، ليتركوا مجالًا لإناثنا لإنجاب الأرضيين وتربيتهم.
قال بوجه يتنقّل بين الشعور بالمهانة والمرارة:
- لتوفير جيل تالٍ من الحيوانات المُضيفة.
رددت:
- ليس لهذا فحسب، بل لما هو أكثر من ذلك.
- تعرف؟ كم أودّ أن أعتقد ذلك إذا كانوا سيستخدمون جسدي.
«لما هو أكثر من ذلك»! شعرت أنّي طفل وأنا أقول ذلك؛ حجة غبية.
- هل تظنّ أن تيجاتوي ما زالت تلتقط الديدان من أحشاء هذا المسكين؟ لم يكن من المفترض أن تتمّ العملية على هذا النحو.
- صحيح بالطبع، إذ لم يكن من الواجب رؤية ما يحدث بالداخل؛ هذا كل ما في الأمر. وأيضًا كان ينبغي على التليكية الخاصّة به أن تُجري الأمر بنفسها، حينئذ كان لها أن تخدره سريعًا عن طريق لدغه؛ وبذلك لن تكون العملية بهذا الإيلام، وهكذا تقوم بفتحه والتنقيب داخله عن يرقاتها، وإذا فقدت واحدة، واحدة فقط، فإنها ستسمم جميع جسده، ولتأكلنه عن آخره؛ من الداخل إلى الخارج.
حقيقية، كانت أمي تطلب مني في وقت سابق أن أظهر لكوي بعض الاحترام، فهو أخي الأكبر، لكني كنت أشيح عنها بعيدًا. وكان كوي يتبجّح لذلك بطريقته الخاصة. لقد كان في مأمن، ولم أكن. كم كنت أود ضربه، لكني لم أكن أظنني أتحمل رفضه ضربي، لينظر إلي بعدها في امتهان وشفقة.
لم يسمح لي بالابتعاد عنه يومئذ. كان ممشوق القامة، يمشي أمامي متبخترًا؛ ما يُشعِر أنني كنت أتبعه. قال:
- أنا آسف، جان.
جعلت أستحث الخُطى بسقم وغضب.
- انظر، لن يكون الأمر معك بهذا السوء الذي رأيت، فتيجاتوي تحبك؛ إنها ستعتني بك.
توجّهت ناحية البيت كأني أهرب منه. سألني: «ألما تفعل هذا بك؟»، ثم تمادى: «أعني، أنت في سن مناسب جدًّا للتعشيش[3]. هل قامت بـ…». ضربته؛ لم أكن أعرف أنني سأقوم بذلك، لكني أعتقد أني قصدت قتله، ولربما لو لم يكن أكبر مني وأقوى، لأقدمت على ذلك غالبًا. حاول كوي إثنائي، لكنه في النهاية كان مضطرًّا للدفاع عن نفسه، فانهالت علي ضرباته المتتابعة، ولا أذكر أنه طرحني أرضًا، لكن عندما هممت به كان قد ارتحل عني. لقد كان التخلص منه يستحق هذا الألم.
جمعت نفسي، ومشيت الهوينى تجاه البيت، آخره مُظلم، ومطبخه خالٍ عن الكل. نامت أمي وأخواتي، أو تظاهروا بذلك. استقرت نفسي هنالك، كان بإمكاني سماع تليكي وأرضي يتجاذبان الحديث في غرفة مجاورة؛ وصلني حديثهم غائمًا، ولم أرغب السعي في تسمعه واستيضاحه. جلست على طاولة لأمي؛ أتلمس الصّمت. الطاولة مصقولة لكنها متآكلة، مُحمَّلة ومتقنة الصّنع؛ ابتدعها أبي من أجل أمي قُبيل وفاته. تداعبني الذكرى وأنا ألهو تحت قدمَيه بينما كان منهمكًا في تصنيعها دون زجري. أراني أتكئ عليها الآن يغلبني الشوق إليه. كان ينبغي أن أنعم معه بحديث. خضع أبي لهذه العمليّة ثلاث مرّات في حياته المُمتدة، احتضن بيض هؤلاء ثلاثة أحايين بجسده المفتوق والمرتوق ثلاث مرات. كيف احتملت ذلك يا أبي؟ أو كيف يحتمل ذلك أي إنسان؟
احتملت نفسي، وأخرجت البندقية من مخبئها، تناولتها وجلست مرة ثانية أحملها بيدي. كانت تحتاج إلى عناية من تنظيف وتزييت قمت به، كما قمت بتعميرها رصاصًا.
- جان؟
أصدرت تيجاتوي نَزْرًا من الطقطقات المتوالية وهي تمشي على تلك الأرض العارية؛ ينقر كل طرف من أطرافها ما يسافلها بتواتر مستمر، وكأنها موجات من النقر الخفيض. تعالت إلي حيث أجلس على الطاولة، رافعة نصف جسدها الأمامي فوق الآخر، مندفعة نحوي. إنها تتحرك أحيانًا بلطف شديد كأنها الماء نفسه في تدفقه. التفّت حول بعضها البعض في ربوة صغيرة كانت منتصف الطاولة، وأعملت في النظر وهي تقول بصوت مُنغم:
- كان ذلك خطأ كبيرًا يا جان، ما كان ينبغي أن ترى هذا، وما كان يجب أن يجري ما جرى على هذا النحو.
- أعرف.
- ستموت تيكوتجيف –تشيكوتجيف Ch’Khotgif[4] الآن- بمرضها. لن تبقى على قيد الحياة طويلًا لتربيَ أطفالها، لكنّ أختها العقيمة ستعتني بهم، وببرام لوماس.
أنثى واحدة ولود وسط جمع قاحل عقيم؛ وهي الخصيبة التي تحافظ على نسل الأسرة. هذه الأخت مدينة للوماس كثيرًا، دينًا لا يمكنها سداده أبدًا.
- هل سيعيش إذن؟
- نعم
- أتساءل إن كان مضطرًا إلى الخضوع لذلك مرة أخرى.
- لا أحد سيطلب منه فعل ذلك مرة أخرى.
نظرت مليًّا في عيونها الصفراء، مُتفكرًا في فداحة ما رأيته وفهمته هناك، والقدر الضئيل الذي كنت أتصوره في عقلي.
- لا أحد يسألنا –نحن البشر- أبدًا؛ أنت لم تسأليني أبدًا.
حركت رأسها بعض الشيء، وقالت:
- ما خطب وجهك يا جان؟
- لا شيء، لا شيء يهم.
ما كانت عيون الإنسان لتلاحظ التورم في وجهي وسط هذا الظلام، إذ كان الضوء الوحيد ضوء الأقمار النافذ عبر شباك الغرفة.
- اصدقني القول؛ هل استعملت بندقية لتقتل الآكتي؟
- نعم.
- وهل تضمر في نفسك استعمالها ضدي؟
أمعنت النظر فيها وضوء القمر يتخللها؛ جسد مُلتفّ ورشيق، ثم قلت:
- تيجاتوي، ما هو مذاق دماء الأرضيين في فمك؟
لم تحر جوابًا. همست:
- ماذا أنتم؟ ماذا نعني نحن إليكم؟
استلقت دون حراك؛ أراحت رأسها على لفائفها العلوية، وقالت بصوت دافئ:
- أنت تعرفني أكثر من أي أحد آخر، لا بد أن تتخذ قرارًا.
- هذا ما حدث لوجهي.
- ماذا؟
- حرضني كوي على اتخاذ قرار ما، لكن الأمر لم يجر على ما يُرام.
حركت البندقية بتؤدة، ووضعت ماسورتها مائلة تحت ذقني، وقلت:
- على كل، ما حدث كان قراري فعلًا.
- ولك مثل هذا.
- لا بدّ من استئذاني يا تيجاتوي.
- استئذانك في حياة أطفالي؟!
كان من المُتوقع أن تقول شيئًا كهذا؛ إنها تجيد التلاعب بمشاعر الكل، تليكيِّين كانوا أم أرضيِّين، لكني لن أسمح لها هذه المرة.
- لا أريد أن أكون حيوانًا مُضيفًا، لا لك ولا لغيرك.
استغرق الأمر منها وقتًا طويلًا حتى قالت:
- إننا لا نكاد نستخدم أيّ حيوان ليكون مُضيفًا هذه الأيام، وأنت تعرف ذلك.
- أنتم تستعملوننا.
- نعم، نفعل ذلك. ننتظر سنوات طويلة، ونعلمكم، ونضم علائلاتنا إليكم.
اختلجت بانزعاج وقالت:
- أنت تعرف أننا لا نراكم مجموعة من الحيوانات.
حدقت إليها، لكني لم أقل شيئًا. قالت برفق:
- إن الحيوانات التي كنا نستعملها قبل، بدأت في تدمير معظم بيضنا فجأة بعد زرعنا إياها داخلهم؛ حدث هذا قبل أن يصل أسلافك هنا. أنت تعرف هذه الأشياء يا جان، إذ عندما وصل قومك، كنا ما زلنا نفهم معنى أن نكون أصحاء أقوياء. فر أسلافك من وطنهم الأصلي، ومن بين بني نوعهم الذين أعملوا فيهم القتل والاستعباد؛ وإذا كان هناك من سبب لنجاتهم، فإنه نحن. لقد كنّا ننظر إليهم كأشخاص، ومنحناهم مكانًا يعيشون فيها يليق بهم، في حين أنهم استمروا في تقتيلنا كديدان لا قيمة لها.
وثبت فرقًا عندما قالت «ديدان»؛ لم أستطع كبح نفسي، ولم تلاحظ هي أن قد تكون للكلمة صدى في أعماقي. قالت بهدوء شديد:
- نعم، أرى.
- هل تفضل الموت حقًّا على أن تلد أطفالي يا جان؟
لم أحر جوابًا.
- هل علي أن أذهب إلى شوان هوا؟
- نعم، هوا ترغب في ذلك. دعيها تُحقق مرادها، كما أنه لم تواتها فرصة مشاهدة لوماس. صدقًا، ستشعر بفخر شديد، وليست مرتعبة من أي شيء.
تدفقت تيجاتوي على الأرض دون إلحاح في شيء؛ ما أدهشني كثيرًا.
- سأنام الليلة في غرفة هوا، وفي وقت ما سأقوم بإخبارها هذه الليلة أو في الصباح الباكر.
جرى الأمر بسرعة مذهلة، لكن أختي هوا كان لها دور كبير في تربيتي؛ دور يماثل ما قامت به أمي تجاهي، وكنت لا أزال قريبًا منها؛ لم تكن علاقتي بها كعلاقتي بكوا. نعم، كان لها ميل كبير تجاه تيجاتوي، لكنها بقيت تحبني.
- انتظري، تيجاتوي.
التفتت إلي، وتحاملت على نفسَها مرتفعة بما يقرب من نصف طولها عن الأرض، وتحولت إلي بجميعها مواجهة إيَّاي. قالت:
- جان، هذه أمور تخص الكبار. إنها حياتي، أتفهم؟ إنها أسرتي.
- لكنها… أختي.
- لقد حققت لك ما طلبت، واستأذنتك.
- لكن…
- سيكون الأمر سهلًا عليها، ودائمًا ما كانت تتشوف إلى حمل حيوات أخرى داخلها.
حيوات إنسانية، أطفال بشريّة تكبر قليلًا في يوم من الأيام لتشرب ماء الحياة عن ثديَيها، فلا يتعلقون بأوردتها؛ ويمصون دماءها.
هززت رأسي قائلًا:
- لا تفعلي هذا بها يا تيجاتوي.
لم أكن مثل كوا أبدًا، وإن بدا في الإمكان أن أكونه دون بذل مجهود كبير. كان بإمكاني أن أجعل هوا درعًا أحتمي به. أكان من السهل علي أن أتصور تلك الديدان الحمراء تنمو في لحمها بدلًا مني؟ أعدت الكرة:
- لا تفعلي هذا بها يا تيجاتوي.
جعلت تُحدق في وجهي دون تحول. أجلت نظري في الأنحاء، ثم عُدت إليها قائلًا:
- افعلي هذا بي، بي أنا.
أنزلت بندقيتي عن ذقني، ثم أمالت جسدها قبالتي لأخذها، فقطعتها:
- لا.
- إنه القانون.
- دعيها لعائلتي، فلربما يستخدمها أحدهم لإنقاذ حياتي يومًا ما.
قبضت تيجاتوي على ماسورة البندقية، لكني أحكمت عليها قبضتي. جَرتني تُجاهها، لأجد نفسي أستقر فوقها واقفًا، أعدت عليها القول:
- دعيها هنا ما دمنا بالنسبة إليك لسنا حيوانات، ولأننا في أمور لا تخص غير الكبار، فاقبلي المخاطر، هناك مخاطر يا تيجاتوي دائمًا ما دمت تقبلين بالشريك.
لم يكن تركها للبندقيّة سهلًا عليها كما كان واضحًا. سرت بها رعدة، وأصدرت صوت هسهسة ناطقة بالأسى؛ بدا لي أن الخوف يعتريها، إذ كانت كبيرة بما يكفي لترى ما تفعله البنادق بقومها، والآن عليها الإبقاء على هذه البندقية وأولادها في بيت واحد. لم تدر تيجاتوي شيئًا عن البنادق الأخرى، لكن، لم تكن ذات بال ونحن قائمون في هذا الخلاف. قالت بينما أضع البندقية بعيدًا:
- سأزرع البيضة الأولى داخلك الليلة. هل تسمعني يا جان؟
بالطبع ستفعل ذلك، وإلا لماذا أُمنَح بيضة عقيمة كاملة لآكلها، بينما يحظى ما تبقى من الأسرة ببيضة واحدة. ستفعل، وإلا لماذا كانت تعانقني أمي بنظراتها وكأني سأذهب عنها بعيدًا، بعيدًا بالمعنى الذي لا تستطيع معه أن تراني مرة أخرى؟ أكانت تيجاتوي تظنني أبله ولا أعرف ذلك.
- نعم، أسمع.
- الآن!
سلمت إليها قيادي خارج المطبخ، وسرت أمامها تجاه غرفة نومي. بدا صوتها مُلحًّا إلحاحًا حقيقيًّا وهي تقول: «الآن». رميتها متهمًا:
- أكنت تفعلين هذا في هوا الليلة؟!
- لا بد من ذلك هذه الليلة.
توقفت رغمًا عن إصرارها، وأقمت في طريقها قائلًا:
- ألا يعنيك من؟
انسلت من حولي إلى غرفة نومي، وألفيتها تنتظرني على الأريكة التي نتشاركها. ليس في غرفة هوا ما يمكن استخدامه لإجراء هذا الأمر. أكانت تفعلها بها وهي على الأرض؟! كم أسخطني التفكير في قيامها بعملية التعشيش داخل هوا وهي على الأرض، أسخطني على نحو خاص هذا الحين، واعتمل الغضب داخلي فجأة.
رغم كل هذا إلأ أنني خلعت عني ملابسي، واستلقيت بجانبها. كنت أعرف تمامًا ماذا ينبغي علي أن أفعل؛ لقد رُبيت حياتي كلها من أجل هذه اللحظة. شعرت بلدغتها مألوفة، مُخدِّرة، آسرة نوعًا ما. كان مَسْرَؤُهَا[5] يجسني جسًّا أعمى إلى أن دَاخَل جسدي بسهولة ودون ألم حقيقي، إذ الولوج أسهل ما في الأمر. تموجت بتؤدة علي، وابتدأتْ عضلاتها في إرغام البيض أن ينسل عن جسدها إلي. تشبثت بطرفَين من أطرافها، فداهمتني صورة لوماس وهو يفعل الشيءَ نفسَه. بعدها أسلمت جسدي إلا أنني اضطربت دون إرادة، فآلمتها، لتصرخ صرخة خافتة من الوجع، لذا حسبت أنها ستحبسني على الفور بين أطرافها، ولما لم تفعل تشبثت بها مرة أخرى، والعار يداخلني بصورة غريبة. همست:
- أنا آسف.
عركت كتفي بأربعة من أطرافها. سألتها:
- هل يعنيك الأمر؟ أعني… هل يعنيك أنك تفعلين هذا معي؟
أسر الصمت لسانها بعض الوقت، وأخيرًا قالت:
- أنت من يقرر كل شيء هذه الليلة يا جان، أما أنا فعقدت قراري منذ زمن طويل.
- هل سألت هوا ذلك من قبل؟
- نعم. قل لي كيف أضع أولادي في كنف من لا يحبهم؟
- إنها لا… تكرههم!
- أعرف ما كان، وقد كان.
- كنتُ خائفًا.
عم الصمت أرجاءنا.
- إنني ما زلت أنا.
يمكنني أن أعترف لها الآن، وهنا.
- لكنك وافقت فحسب من أجل… إنقاذ هوا، ليس إلا.
- نعم.
أرخيت جبهتي عليها. شعرت ببرودها وملمسها المخملي، ونعومتها الخداعة. قلت:
- ليس هذا فحسب، لكني أردتك لنفسي أيضًا.
لم أفهم معنى كلامي، لكنه كان صادقا وحقيقيا. همهمت برقة قانعة، وقالت:
- لم أتخيل أبدًا أنني يمكن أن أقع في هذا الشَّرَك معك أنت يا جان، لقد اخترتك لنفسي، وآمنت بك تكبر أمامي لي ولاختياري.
- اخترتك، لكن… لوماس.
- نعم.
- لم أعرف أرضيًّا قط رأى عملية ولادة وتسامح معها؛ لقد عاين كوي واحدة، صحيح؟
- نعم.
- يجب أن يُحمى الأرضيون من هذا النوع من الرؤية.
لم يقع قولها الأخير مني موقعًا حسنًا، وداخلني الشك أنه ممكن؛ قلت:
- أيّة حماية؟! رأينا هذا مرات عديدة عندما كنا صغارًا، رأيناه أكثر من مرة. تيجاتوي، حقيقي، لا يتسامح الأرضيون وهذا النوع من الولادة؛ ذلك لأنهم يرون الإنتيليكي في ألم وهلع، وربما يرونه وهو يموت. نظرت إلي أسفل منها:
- إنّه أمر خاص وسري، ولطالما بقي على هذه الصورة.
أثناني صوتها العازم عن الإصرار، لمعرفتي أنها إن غيرت رأيها، فلربما تكون ولادتي مشاعًا، وأكون المثال العمومي الأوّل. لكن، لعلي زرعت الفكرة في رأسها، والفرص تكمن حيث نموها، وفي النهاية لا بد من امتحانها. قالت:
- لن ترى هذا مرةً أخرى. لا أريدك أن تفكر بعد الآن في إطلاق النار علي.
أراحني القدر الضئيل من السوئل المُتدفقة عنها إلي وهي تنقل بيضها في جسدي، تماثل تلك الراحة التهام بيضة عقيمة كاملة. ساعدني هذا الارتياح على النظر إلى البندقية بين يدي، ومشاعري من خوف واشمئزاز وغضب ويأس على أنها ذكرى أستطيع استرجاعها دون إحيائها مرة أخرى؛ مجرد ذكرى يمكنني الحديث عنها. قلت:
- ما كنت لأطلق عليك النار، ليس عليك أنت.
لقد سكنت تيجاتوي جسد أبي واستُلَّت عن لحمه عندما كان في مثل عمري الآن.
أصرت على القول:
- كنت لتفعل هذا.
- ما كنت لأفعل هذا بك.
ما انفكت تيجاتوي تقف حائلًا منيعًا بيننا وبين قومها؛ تحمينا، وتجادل عنا.
- هل كنت لتدمر نفسك؟
تحركت بحرص، لا أشعر بالراحة، وقلت:
- نعم، كنت لأفعل أي شيء لأجلك، بل كدت أنتهي لهذا. وهذا كوي بعيدًا؛ أتساءل إن كان يعرف.
- ماذا؟
لم أُجبها.
- إنك ستعيش الآن.
- نعم.
اعتادَت أمي أن تقول: «اعتن بها يا جان»، نعم، سأفعل. قالت:
- إنني في كامل صحتي، وما زلت يافعة. لن أتتركك كما تُرِك لوماس من قبل، لن أخليك إنتليكيًّا وحيدًا. سأعتني بك ما بقيت.
[1] اليَرَقَةُ هي أوّل طول من النموّ للفرد بعد انْفِقَاعِ البيضة، وهي ذاتُ نموّ غير مباشر. يُوجَدُ هذا النوع من النموّ لدى معظم الشُّعَب (الشُّعبة في علم الأحياة مرتبة تصنيفيّة من مراتب التصنيف الحيويّ، أدنى من المملكة، وأعلى من الطائفة)، خاصّة المفصليّات، القشريّات، الرخويّات… إلخ. وعادة ما يكون لليرقة نمط حياة يختلف عن حالتها عند البلوغ، كما يتغيّر شكلُها، إذ تظهر في هذا الطّور رخويَّة، وبدون أجنحة وأرجل غالبًا. [المترجم]
[2] مصاب بالطفيليات. (المترجم)
[3] يعني غرز البيض داخل جسده، لاستيلاد اليرقات كما حدث مع لوماس. (المترجم)
[4] تغير اسمُها إلى تشيكُوتْجِيف بعد أن أصبح لها ذرية. (المترجم)
[5] المَسْرَأُ هو مَوْضِعُ البيض عند إناث الحشرات، ويُعْرَفُ بآلة البيضِ أيضًا، ولا تستخدمُ الحشراتُ المسرأَ كموضع للبيض فحسب، بل كآلة للقطع، أو للّسْع، أو للحفر. (المترجم)