الكاتب | ديفيد ميلر |
ترجمة | توفيق السيف |
لو سألني شخص ما: كيف نحكم انفسنا وندير حياتنا المشتركة ، في هذا العصر ، ما هو النظام الذي على ضوئه نعيش معا ونشكل مجتمعا؟.
افترض ان الجواب سيكون على النحو التالي: مجتمعنا يدار عن طريق حكومات تملك سلطة واسعة جدا ، بل غير مسبوقة ، تستعملها في التأثير على حياتنا. عمل الحكومة لا ينحصر في توفير الحماية الاساسية لأعضاء المجتمع ، اشخاصهم وأملاكهم ، بل هي – إضافة الى هذا – تقوم بتنظيم حياتنا وتحركاتنا في كل مجال ، وبألف طريقة وطريقة. من ذلك مثلا انها تحدد الوسائل التي يمكن لنا استعمالها في كسب عيشنا ، والنظم التي نعمل في إطارها ، وتحدد التجهيزات التي نستعملها في التواصل مع بعضنا البعض ، كما تحدد كيف نتنقل وكيف نسافر ، بل كيف نربي أطفالنا.. وهكذا.
لا تقتصر علاقة الحكومات مع مواطنيها على الالزامات التي تفرضها عليهم ، مثل التي ذكرت آنفا. فهي – إضافة لذلك – توفر لنا نطاقا ضخما من المنافع ، بدء من الرعاية الصحية الى التعليم ، وحتى المواصلات والطرق والمساكن والحدائق والمتاحف والمنشآت الرياضية ، الخ.
قد لا يكون من ضروب المبالغة ، لو قلت ان الدولة هي التي تخلق المجتمع. بطبيعة الحال ، لا يمكن الادعاء ان كافة الدول قد نجحت في القيام بهذه الوظائف والأدوار ، لكني لا اظن أحدا يرغب في غياب الدولة أو تخليها عن وظائفها ، ولا أحد يرغب في الانتماء الى دولة فاشلة.
نظام الدولة الذي نعرفه اليوم ، ظاهرة جديدة في التاريخ البشري. فيما مضى كانت المجتمعات تنظم نفسها في نطاقات اصغر بكثير مما نعرفه اليوم. في المجتمعات القبلية مثلا ، كانت السلطة في يد شيوخ القرية أو القبيلة ، الذين يجتمعون للفصل في الخلافات بين أعضاء القبيلة ، أو ربما يقومون بتفسير اعرافها.
وحتى حين ظهرت المجتمعات الكبيرة الحجم ، كما هو الحال في الصين خلال عهد عائلة هان (202 ق.م.-221م) أو في اوربا خلال العصور الوسطى ، فانه لم يكن ثمة نظام يستحق ان نطلق عليه اسم الدولة بالمفهوم المعاصر. في تلك الأزمنة ، كانت السلطة العليا في يد الملك أو الامبراطور ، لكن الشؤون العامة اليومية ، بقيت تدار من جانب الحكام المحليين وموظفيهم.
لم يكن لحكومات الدول القديمة تأثير واسع على حياة مواطنيها. فهي لم تسع – كما تفعل الدول الحديثة – للاقتراب كثيرا من تفاصيل حياتهم ، ولم تحاول تنظيمها على نحو يجعلها في حالة اتصال يومي معهم (ربما باستثناء القضايا المتعلقة بالدين). لم تحاول تلك الحكومات أيضا انشاء نظام للخدمات العامة ، أو توفير السلع والمنافع التي نعرفها اليوم.
لقد اندمجت “السلطة السياسية” في النسيج الاجتماعي ، على نحو جعل وجودها من المسلمات التي لا تحتمل الجدل. ولهذا انحصرت النقاشات يومها في سؤال “من” الذي ينبغي له ان يمارس السلطة ، ومن أين حصل على الحق في الأمر والنهي والحكم ، وهل ينبغي توزيعها بين اكثر من جهة ، بين الملوك والرهبان على سبيل المثال.
ان قيام الدول الحديثة ، في اوربا الغربية أولا ، ثم في سائر انحاء العالم ، يعني ان مشكلة السلطة السياسية كانت شغلا شاغلا للفلاسفة السياسيين ، طيلة الخمسة قرون الأخيرة. لدينا هنا هيئة تدعي ان لها حقا في إدارة حياتنا بالف طريقة وطريقة. فما الذي يبرر هذي الدعوى ، ومتى يكون تدخلها المفرط في حياتنا مشروعا ، وإلى أي حد يتوجب علينا – كمواطنين عاديين – ان نطيع القوانين التي تضعها الحكومة ، ونتبع إملاءاتها.
لا بد من الاجابة على هذه الأسئلة الأولية ، قبل ان نذهب قدما في النقاش حول الطريقة المثلى لتشكيل حكومة ، وكيف سيكون شكلها ونظامها ، وما هي الحدود المناسبة للسلطة وممارستها.
معنى السلطة
حين نقول ان الدولة تملك سلطة سياسية ، أو تمارس سلطة سياسية ، فما الذي نعنيه بهذا القول؟.
ثمة جانبان في السلطة السياسية. الجانب الأول يتمثل في قناعة الناس واعترافهم بها كولاية authority بمعنى ان لها “حق” في أن تأمرهم بان يفعلوا أفعالا بعينها أو يمتنعوا عن أخرى. عندما يطيع الناس القانون ، فان دافعهم الى الطاعة هو اعتقادهم بأن الهيئة التي وضعت القانون ، مخولة بهذا وأن لها الحق في وضعه وتنفيذ مضمونه. هذا يقتضي بطبيعة الحال ان يكون القانون مطاعا من جانب الذين يوجه اليهم (اعضاء المجتمع).
اما الجانب الثاني فهو يتمثل في دعم الالزام الاخلاقي بالعقاب. فالأشخاص الذين يأبون الانصياع لمقتضيات القانون ، سوف يجدون انفسهم عرضة للعقاب الذي قد يشمل التغريم أو السجن ، أو غيرها من العقوبات.
هذان جانبان متكاملان. يجب ان يطيع الناس القانون ايمانا بشرعيته. فان لم يفعلوا ذلك ، فلا يمكن لأي قانون ان ينجح. وفي حالة كهذه ، قد تضطر الحكومة لتوظيف آلاف الجنود والاشخاص ، لفرض القانون على عامة الناس. لكن هذا يثير سؤالا آخر ، اذا امتلك رجال الدولة أو جهاز فرض القانون ، قوة هائلة ، فمن الذي سيطبق القانون عليهم؟.
من الأمور التي تلفت النظر هنا ، ان وجود الدولة والقانون يحرر الافراد من القلق على انفسهم واملاكهم. في الحقيقة فان جانبا هاما من طاعة الناس للقانون ، مبعثه قناعتهم بأن الذين يخرقونه سوف ينالهم العقاب. انا لا أسرق من جاري ، لأني احترم ملكيته واختصاصه بما يملك. وآمل ان يفعل الشيء نفسه. لكني اعلم بطبيعة الحال ان الخوف من العقاب يلوح في الأفق أيضا ، فلو ان جاري مثلا سرق شيئا من داري ، فاني استطيع الاتصال بالشرطة لاستعادته. هذا يعني ان الأشخاص الذين يطيعون القانون باختيارهم ، يعلمون أيضا ان القانون سيحميهم من العابثين ، الذين ربما يفكرون في انتهاز الفرصة وايذاء الآخرين.
تجمع السلطة السياسية إذن بين مفهوم الولاية الحقة authority proper والامتثال القسري. انها ليست ولاية صرفة ، مثل نفوذ المعلم الحكيم الذي يتبع تلاميذه تعليماته دون أي قسر ، كما انها ليست جهة جبر بحت ، مثل الجبر الذي يمارسه رجل مسلح ، يجبرك على تسليمه محفظة نقودك. انها مزيج من الاثنين ، الولاية الحقة والجبر البحت.
لكن يبقى السؤال الأهم: لماذا نحتاج الى هيئة تفرض علينا ما نريد وما لا نريد؟.
ان السلطة السياسية ، سيما اذا مورست على يد هيئات عظيمة القوة ، مثل الدول الحديثة ، تفرض علينا الزامات ومتطلبات كثيرة جدا ، لا نرغب فيها ، بل ان بعضها – مثل الضرائب – يجعلنا أسوأ حالا من الناحية المادية ، وبعضها الآخر يلزمنا بأفعال تتعارض مع قناعاتنا الأخلاقية (من قبيل المشاركة في حروب لا نراها عادلة أو صحيحة اخلاقيا). لقد أشرت سابقا الى ان الاناركيين يعتقدون ان المجتمع قادر على حكم نفسه وتنظيم أموره ، فلا حاجة لأن يجعل نفسه أسيرا لهيئات لا ضرورة لها. بل ليس له مصلحة في الخضوع لهيئة سخرها اشخاص محددون لمصلحتهم الخاصة. ترى ما الذي سنقوله لهؤلاء كي نقنعهم بحاجة المجتمعات إلى الدولة؟
سأعود إلى البدائل الأناركية للدولة لاحقا في هذا الفصل ، لكنني سأدافع أولاً عن السلطة السياسية. سأتبع طريقة تقليدية نوعا ما ، حيث أبدأ بسؤال للقارئ عما اذا كان قادرا على تخيل الحياة في مجتمع من دون دولة ، من دون الشرطة أو الجيش ، ومن دون القضاء ودوائر الخدمة المدنية ، وبقية الأجهزة التي تتألف منها الدولة الحديثة. دعنا نتخيل ان هذه الاجهزة غابت فجأة ولم يعد لها دور أو وجود في المجتمع ، فما الذي سيحدث عندئذ؟.
الواقع ان هذه ليست بالأسئلة الجديدة. فقد كانت جزء من تجربة فكرية سجلها توماس هوبز في كتابه “لفياثان” الذي نشر عام ١٦٥١ ، مثلما أشرت في الفصل الأول.
كان هوبز قد عايش الانهيار الجزئي للسلطة السياسية ، بسبب اندلاع الحرب الأهلية الانكليزية. ولهذا فان الصورة التي رسمها لهذا الظرف كانت قاتمة الى اقصى الحدود. رأى هوبز انهيار الدولة أو تلاشي دورها شبيها لما وصفه بمجتمع الحالة الطبيعية السابق لقيام الدولة ، وهو يقارب ما نسميه حياة الغابة ، التي ابرز سماتها – وفقا لهوبز أيضا – التنافس الشرس على ضروريات الحياة ، الأمر الذي يجعل البشر في حالة خوف دائم من عدوان الآخرين على اشخاصهم أو املاكهم. الخوف الدائم على الحياة ، يولد في انفسهم ميلا مضادا ينطوي على توجه عدواني ، أو ربما فهم الآخرين كأعداء ، والتعامل معهم على هذا الأساس ، وربما يصل الأمر الى المبادرة بالعدوان على الغير ، كاجراء وقائي ، لمنع هؤلاء من الاستقواء ثم العدوان عليهم. يلخص هوبز نتيجة هذه الحالة في الفقرة التالية ، التي اقتبسها عشرات الكتاب9F[1]:
في حالة كهذه ، لامكان للعمل ، لأن ثماره لا تكون مضمونة ، ونتيجة لذلك لا زراعة للارض ، ولا ملاحة ، ولا استخدام للسلع التي قد تستورد بالبحر ، ولا بناء ضخما ، ولا أدوات لتحريك أو ازالة الاشياء التي تتطب قوة كبيرة ، ولا معرفة لسطح الأرض ، ولا حساب للزمن ، ولا فنون ولا آداب ، ولا مجتمع ، والاسوأ من هذا كله وجود خوف متواصل وخطر موت عنيف ، وكون حياة الانسان وحيدة بائسة بغيضة قاسية وقصيرة.
يقال أحيانا ان هذا الاستنتاج القاتم ، يعكس رؤية هوبز المتشائمة للطبيعة البشرية ، اي اعتقاده بان الناس بطبعهم انانيون أو جشعون ، وانهم لو تركوا دون رقيب أو حسيب ، فسوف يسعون للاستئثار بكل ما يمكنهم انتزاعه. لكني ارى في هذا التفسير اغفالا لرؤية هوبز الحقيقية ، اي اعتقاده بأن التعاون بين الناس مستحيل ، في غياب الثقة المتبادلة. ان غياب الثقة هو نتيجة مؤكدة حينما تغيب السلطة العليا المخولة بفرض القانون. الاشياء التي رآها هوبز مفقودة في ظرف “الحالة الطبيعية” هي تلك التي لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها ، بل تتطلب – بالضرورة – تعاونا بين عدة أشخاص ، على أمل بأن كلا منهم أو من غيرهم سيقوم بدوره أيضا. لكن هذا الأمل ليس واقعيا ولن يكون التعويل عليه مأمونا ، ما لم يكن ثمة سلطة سياسية تحمي التعاقدات وحقوق المتعاقدين.
دعني افترض اني تعاقدت مع شخص ما ، فما الذي يحملني على الاعتقاد بأنه سيلتزم بمقتضيات العقد ، ما لم يكن ثمة قانون يلزم المتعاقدين بالوفاء؟. لعله يكون من الاشخاص الذين يوفون بالتزاماتهم ، لكنه قد يتساءل عما إذا كان الطرف الثاني – انا – سيفعل الشيء نفسه. وفي نهاية المطاف قد يقرر أحد الاثنين ان الامر محفوف بالمخاطر ولا يستحق المجازفة.
يجادل هوبز بان الحكمة في حالة كهذه ، تقتضي افتراض اسوأ الاحتمالات ، والأخذ بأي إجراء لتأمين نفسك من خطر الموت ، وان الوسيلة الى هذا هي امتلاك اقصى ما تستطيع من قوة ، قياسا الى ما يملكه الآخرون.
من حيث المبدأ ، الخوف من الآخرين ، والناشئ بدوره من عدم الثقة بالغير ، هو الذي يحول الحياة في غياب الدولة الى ما وصفه هوبز ب “حرب دائمة من أي شخص ضد جيرانه”10F[2]
- ترى .. هل كان هذا التشاؤم في محله؟.
يقول ناقدو هوبز انه غير واقعي: حين تنظر من حولك ، فسوف ترى دليلا كافيا على ثقة الناس ببعضهم ، وعلى تعاونهم مع بعضهم ، بل ستراهم يساعدون بعضهم البعض ، دون ان يتوقعوا مكافأة على جهدهم. وهذا كله يجري دون تدخل من جانب الدولة أو اي من هيئاتها. في بعض الأحيان يقرر مجموعة من الجيران ان يتعاونوا على إصلاح ملعب مهجور ، كي يلعب فيه أطفالهم ، فيشكلون فريق عمل ، يتقاسمون المهمات فيما بينهم ، ويثق كل منهم في أن الآخرين سينجزون ما التزموا به ، من دون توقيع على اتفاقية قانونية ، أو استحضار وسيلة من وسائل الالزام.
الطبيعة البشرية ليست على النحو الذي صوره هوبز. لكن النقاش على هذا النحو سوف يذهب في الاتجاه الخطأ. ربما كان هوبز متشائما نوعا ما ازاء الطبيعة البشرية (شوهد مرة يعطي متسولا بعض المال ، وحين سئل عن ذلك ، قال انه كان منزعجا من رؤية المتسول ، فاراد فقط تخفيف انزعاجه). اقول على الرغم من علمنا بتشاؤم هوبز ، الا ان جوهر الموضوع ليس في هذا الموقف بالذات ، بل في تقريره بأن مناخ الخوف الذي يعقب انهيار السلطة ، يؤدي الى اضعاف جانب اللطف والميل الى الثقة عند البشر. هذه الفكرة ليست خطأ ، ويدعمها ما نعرفه عن سلوك البشر حين يكونوا محاصرين في حرب أهلية ، أو في موقف مماثل ، سيما حين تكون حياة الانسان على المحك.
نحن إذن في حاجة الى وجود الدولة ، لأنها تمنحنا الشعور بالأمان الذي يسمح لنا بالثقة في الآخرين. في مناخ تسوده الثقة ، يمكن للناس ان يتعاونوا في انجاز المنافع التي قال هوبز انها غير ممكنة في ظرف الحالة الطبيعية/ غياب الدولة.
- لكن كيف لنا ان نقيم حكومة ان لم تكن قائمة في الأصل؟.
تصور هوبز اولئك الناس الذين سئموا الخوف ، يلتقون ويتحدثون ، ثم يتعاهدون على اختيار شخص يمنحونه سيادة عليا ، كي يقودهم منذ ذلك اليوم فصاعدا. أو قد يتوفر بديل: يقوم اولئك الناس باعلان الولاء والطاعة لشخص يملك قوة ويرشح نفسه للحكم ، ربما يكون جنرالا قادرا على السيطرة على الجميع. الحقيقة ان هوبز لم يوجه سوى قليل من الاهتمام للشخص الذي يمسك بالسلطة ، وركز بدلا من هذا على الحاجة لأن تكون السلطة ذاتها موحدة وغير مقيدة.
في هذه النقطة قد نأخذ طريقا غير طريق هوبز. لكن قبل ان ننظر عن كثب الى كيفية تأليف السلطة ، ربما ينبغي لنا ان نتساءل ان كان ثمة طريق لتفادي ظرف “الحالة الطبيعية/غياب الدولة”.
الحجة الاناركية
لقد أبدى هوبز تشاؤما شديدا حيال ما يمكن ان يحدث في غياب السلطة السياسية. دعنا من هذا الآن ولنتساءل: هل ثمة فرصة للتعاون الاجتماعي في هذا الحال؟.
يعتقد الاناركيون Anarchists ان هذا ممكن. نعلم طبعا ان هذا التيار كان دائما أقلية صغيرة ، لكن من الضروري على أي حال ان نستمع اليهم. يتوجب على الفلاسفة السياسيين ان يضعوا الحكمة التقليدية على طاولة الاختبار. وبالتالي فليس من الصحيح ان نتعامل مع السلطة السياسية كمسلمة قطعية ، قبل استكشاف بدائلها11F[3].
وفي هذا السياق نشير الى وجود اتجاهين مختلفين يمكن ان ننظر فيهما: الاناركيون ذاتهم يصنفون الى فريقين ، أحدهما يركز على محورية المجتمع ، بينما يركز الثاني على محور السوق.
يركز الفريق الأول (الاناركي المجتمعي) على التقارب والتعارف بين أعضاء المجتمع ، كمنطلق للقول بأن المجتمعات الصغيرة ، قادرة على تأسيس مناخ تسوده الثقة والقابلية للتعاون ، من دون حاجة لتدخل أي هيئة حكومية. يتألف المجتمع الصغير (سكان عمارة واحدة مثلا) من اشخاص يعرفون بعضهم بعضا ، يميزون بين جارهم وبين الغريب ، يتفاعلون يوميا تقريبا. هذا التعارف والتفاعل يساعد في صون النظام الاجتماعي. ان هاجم احد شخصا آخر ، أو سرق املاكه ، أو رفض المساهمة بحصته في الواجبات الاجتماعية المشتركة ، فسوف يكون عرضة لجزاءات اجتماعية صريحة.
من تلك الجزاءات مثلا ، التشهير والعزل: ان خبر الخطأ ومرتكبه سيكون معروفا عند كافة أعضاء الجماعة خلال ساعات (لانهم كما سلف مجموعة صغيرة تتفاعل يوميا) وربما يسمع توبيخا من جيرانه ، وربما يرفضون التعاون معه في المستقبل. في اجتماعات الجماعة ، سوف يسمع ادانة لفعله ، وربما يطلب منه المغادرة. كل هذا يحدث دون ان يجبر الفاعل على القيام بأي شيء وبدون ان يعاقب رسميا. وهذا هو السر وراء وصفنا لهذا الاتجاه كبديل عن السلطة السياسية ، وليس كشكل من اشكالها.
تستمد هذه الطريقة مبرراتها من حقيقة ارتكازها على واحدة من أهم الدوافع الإنسانية ، أي الرغبة في ان يكون الانسان مقبولا ومحترما من جانب المحيطين به. وفي حالة المجتمعات الصغيرة ، كالتي ذكرناها ، يمكن لهذه النقطة ان تجعل التعاون بين الناس ممكنا ، مع علمنا بانهم ليسوا قديسين.
يجادل الاناركيون المجتمعيون بأنه في مجتمع سياسي مؤلف من مجتمعات صغيرة على النحو السابق ، سيكون التعاون بين الافراد ممكنا ، حتى على نطاقات أوسع بكثير مما ذكر.
نفترض من حيث الاساس ان المجتمعات الصغيرة ، سوف تتوافق على تبادل الخدمات فيما بينها. ربما يتخصص كل منهم في انتاج سلع بعينها، بحيث يستفيد كل فرد من انتاج الآخرين ، ولعلهم يتعاونون أيضا في اقامة المشاريع الأضخم حجما والتي تحتاج لطاقة أكبر ، مثل نظام النقل الجماعي وخدمة البريد. ينبغي لهذه المجتمعات أن تبرم اتفاقيات فيما بينها. وإذا خرق أحدها التزاماته ، فسوف يعتبر غير جدير بالثقة ، وسوف يحرم من تعاون الآخرين معه في المستقبل.
هذا يظهر اذن أنه لا حاجة لسلطة مركزية ، تأمر الناس بما يجب ان يفعلوه ، وما يجب ان يمتنعوا عنه ، كما انه لا حاجة لاستخدام القوة القسرية لجبر المجتمعات على التعاون ، لأنها قادرة على تنظيم نفسها وضبط سلوكها ، بما فيها منع التملص من الالتزامات المشتركة.
- اليست هذه صورة مثالية عن حياة من دون دولة؟
- فما الخطأ في ان تكون الحياة على هذا النحو؟
ان ابرز المشكلات التي تعيق هذا التصور ، هو كونه غير ممكن في الواقع. فامكانية تحقيقه مشروطة بوجود مجتمعات صغيرة ومتماسكة ، تمثل البنية التحتية للنظام الاجتماعي. نعلم ان هذا ربما كان فرضية معقولة في الماضي ، لكنه لم يعد ممكنا اليوم. نحن نعيش في مجتمعات تتحول باستمرار وتتغير بنيتها البشرية ، بمعنى ان الافراد يتحركون بين هذه المجتمعات وحواليها ، وان اناسا من خارجها ينضمون اليها ويتعاونون معها. ان الخدمات العامة لايقتصر القيام بها على اعضاء الجماعة ، ولا المجتمعات المجاورة ، بل يتشارك في انجازها اناس من مناطق بعيدة أيضا، ممن كانوا يصنفون عادة باعتبارهم غرباء.
هذا التصور الأناركي ليس هراء في حقيقة الأمر. لكنه غير واقعي ، لأن نجاحه مشروط بتحقق الفرضية التي فحواها أننا سوف نتفاعل على الدوام مع نفس الاشخاص ، بحيث تصبح سلوكياتنا والطريقة التي نتصرف بها ، عرفا مشتركا في الجماعة.
وعلى الجانب الثاني ، فان نجاحها مشروط بتحقق الفرضية القائلة بان التلويح باستبعاد عضو الجماعة واخراجه منها ، يشكل رادعا قويا للسلوكيات المعادية للمجتمع. لكنا نجد من الصعوبة بمكان ان تتحقق هذه الفرضية في مجتمع كبير وسريع التحول. ولذلك ، لا مفر من الاتكال على منظومة قانونية ، تتولى متابعة الأشخاص الذين يؤذون الآخرين ، وانزال العقاب بحقهم. ومع توفر هذه المنظومة ، سوف نتمكن من انشاء اتفاقيات ملزمة فيما بيننا ، تتضمن التلويح بعقوبات صريحة ومعرفة سلفا، لمن يتهرب من الالتزام بحصته من التعاقدات.
ثمة نقطة أخرى أغفلها اصحاب الرؤية الاناركية السابقة ، وخلاصتها ان التعاون بين المجتمعات ليس مباشرا وصريحا ، على النحو الذي افترضه الاناركيون. ذلك ان ولاء الافراد لجماعتهم المباشرة يتوازى عادة مع شعور قوي بعدم الثقة في الجماعات الاخرى. وهذا قد يؤدي الى انهيار الاتفاقات المعقودة بين جماعتين أو اكثر ، لأن أحد الفريقين متشكك في ان الفريق الآخر ، ربما لا يتحمل نصيبه الكامل من العبء الضروري لانجاز المشروع الذي تعاقدنا عليه. بل ربما نختلف – في المقام الاول – على تحديد ما يعتبر حصة منصفة لهذا الطرف وذاك.
هذا يظهر بوضوح في الاعمال التي تتطلب مشاركة واسعة ، وتنطوي في الوقت نفسه على تباين في الكلف بين المشتركين: لنفترض مثلا أننا نريد بناء شبكة للسكك الحديدية بواسطة المجتمعات المحلية ، وفي غياب سلطة سياسية مركزية. فما هي حصة كل مجتمع من الكلف التي يتطلبها انشاء المشروع؟. هل نقسم المجموع على عدد الافراد ، فيتحمل كل شخص حصة مماثلة لما يتحمله الاخرون ، أم نكلف المجتمعات الأكثر ثراء بتحمل العبء الأكبر. وإذا كان أحد المجتمعات واقعا في منطقة نائية ، وبالتالي فان وصول الشبكة اليه سيكون اعلى كلفة من البقية ، فهل يتوجب عليه تغطية الكلفة الاضافية بمفرده ، أم ينبغي للجميع اقتسام التكلفة دون تمييز بين البعيد والقريب؟.
الواقع انه لا توجد إجابات سهلة على هذه الأسئلة ، كما لا يوجد مبرر للاعتقاد بأنه سيكون من الممكن للعديد من المجتمعات المحلية ، التوصل إلى اتفاق طوعي بشأنها. في المقابل ، يمكن للدولة أن تفرض حلا على الجميع: يمكن أن تطلب من كل شخص أو من كل مجتمع المساهمة بمبلغ معين ، من خلال النظام الضريبي على سبيل المثال.
الحجة الليبرتارية
دعنا ننظر الآن في البديل الأناركي الآخر للسلطة السياسية والدولة ، البديل الذي يعتمد على السوق والاقتصاد. يتماشى هذا بالتأكيد مع اتجاه العالم الحديث ، بالقدر الذي يمكن للسوق أن تبرهن على قابليتها ، كأداة فعالة لتمكين الناس من العمل معًا بأعداد كبيرة. تزودنا السوق فعليا بمعظم السلع والخدمات التي نحتاجها أو نريدها. لكن السؤال الذي لا يمكن اغفاله ، هو : هل يمكن للسوق أن تأخذ دور الدولة أو تحل محلها؟.
يطرح الفريق الاناركي الذي يركز على محورية السوق (يسمى أيضا الليبرتاري Libertarian) حجة مضادة لما عرضناه ، فحواها انه يمكن للمواطن ان يتعاقد بشكل فردي ، مع جهات تقدم الخدمات التي هي الآن في عهدة الدولة ، بما فيها خدمات الأمن والحماية الشخصية. في غياب الدولة ، ستولد شركات متخصصة في الخدمات الأمنية ، مثل حماية العملاء وممتلكاتهم ، ويشمل ذلك استرداد الممتلكات المسروقة ، وإنفاذ العقود ، والحصول على تعويض عن الإصابة الشخصية. من هنا فاني لن أحتاج للشرطة لو تعرضت لحادثة أو اعتداء. لو سرق جاري شيئا يخصني ، فسوف أتصل بوكالة الحماية التي سبق ان تعاقدت معها ، وسيتخذون الإجراءات الضرورية ضد الجار المزعج نيابة عني.
لكن ماذا لو أنكر الجار دعواي ، وطالب وكالة الحماية التي تعاقد معها ، بحمايته من مطالبتي؟. وماذا سيحصل لو اخفقت الوكالتان في الاتفاق على حل؟. يقول الليبرتاريون ان القضية ستحال عندئذ الى محكم ، يتقاضى رسوما من الطرفين مقابل خدمة التحكيم. إحالة القضية الى المحكم ، ستوفر على الوكالتين الجهد وربما الاضرار التي قد تترتب على صراع طويل بينهما. هكذا اذن ستجد السوق حلا لمشكلة كانت في العادة حكرا على الدولة.
وفقا لهذه الرؤية ، يمكن ان نتصور سوقا أولية للخدمات الوقائية (كالحراسة مثلا) ثم سوق ثانوية لخدمات التحكيم ، للفصل في الخصومات وفض النزاعات أو ادارتها(يمكن بالطبع ان يتعاقد الجميع مع نفس الوكالة وهي تتولى المسألة كلها ، بما فيها فض النزاع مثلا). عدا خدمات الحماية والتحكيم ، يمكن افتراض ان كافة الخدمات الأخرى التي تقدمها الدولة ، سوف تذهب الى السوق أيضا: يمكن لكل فرد ان يشتري بوليصة تأمين صحي تتكفل بعلاجه ان احتاج ، ويمكن له ان يدفع أقساط تعليم اطفاله لمدرسة خاصة ، كما يدفع رسوما مقابل استخدامه للطرق.
هل يمكن لنظام كهذا ان يغنينا عن الحاجة للسلطة السياسية؟.
ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها في هذا السياق ، وهي ان وكالات الحماية لن تستطيع حل كافة المشكلات من خلال التفاوض. سوف تحتاج أحيانا الى استخدام القوة لحماية حقوق عملائها. إذا لم يسلم جاري الممتلكات التي ثبت أنها ملك لي وأنه استولى عليها دون حق ، فإن وكالة الحماية التي تعاقدت معها سوف تخلصها منه بالقوة.
لكن هذا لا ينهي المشكلة ، لأن وكالة الحماية ليست سلطة معيارية يخضع لها الجميع ، فهي – كشركة قطاع خاص – تخدم من تعاقد معها فقط. ربما لا يعترف جاري بحقها في المطالبة ، وربما يتعاقد مع وكالة منافسة ، أو ربما لا أرتاح أنا لطريقة عملها ، فأتركها وأتعاقد مع وكالة أخرى.
- هذا إذن البديل الأناركي للدولة. فهل ياترى سيكون أحسن حالا منها ، هل هو بديل جيد فعلا؟.
حسنا .. قد يبدو هذا البديل جذابا لو اتفقت جميع وكالات الحماية على تطبيق منظومة قواعد موحدة ، لضبط وحل التنازعات على الأملاك ، وكذا كل نوع من أنواع النزاع التي تحدث بين الناس. إضافة الى هذا ، سوف نطلب من جميع الوكالات الالتزام المسبق بقبول التحكيم امام محكم مستقل ، للفصل في أي خلاف محتمل بينها ، على تفسير أو تطبيق تلك القواعد.
- لكن ما الذي يدفع الوكالات لقبول هذه الشروط؟
لماذا لا نتوقع ان تقوم احداها بمحاولة الحصول على المزيد من الزبائن ، من خلال إغراءات بأنها ستقاتل بالنيابة عنهم ، حتى تحصل على ما يطلبونه ، أيا كان ، أي حتى لو كان موقف العميل خاطئا ، بمعايير الخطأ والصواب التي يقبلها غالب الناس. لو اقدمت وكالة أو بضع وكالات على مبادرة كهذه ، فسوف تلحقها بقية الوكالات في تبني خط مشابه في العدوانية والتشدد.
لو وصلنا الى هذا الحال ، وهو متوقع طبعا ، فاننا سوف نضطر شيئا فشيئا ، الى الاعتماد التام على القوة المادية للفصل في النزاعات. ولو قبلنا بهذا ، فاننا نخاطر بترك الناس العاديين في مرمى النيران بين الأطراف المتنازعة. الامر الذي يعيدنا الى هوبز ووصفه لمجتمع الحالة الطبيعية ، الذي تسوده “حرب الجميع على الجميع”. وفي حالة كهذه فان القرار الأكثر عقلانية بالنسبة لك ولي ، هو ان نتعاقد مع الوكالة الأكثر قوة ، أي الأقدر على الفوز في المعارك القادمة ، لأننا لا نريد المخاطرة بأن نكون في الطرف الضعيف والمغلوب.
اذا قبلنا بهذا الاستنتاج ، فهو يقودنا بالضرورة الى نفس النتيجة التي توصل اليها توماس هوبز: انشاء هيئة تتمتع بقوة فائقة وسلطة يعترف بها المجتمع بمجمله ، كي تفرض منظومة موحدة من القواعد على الجميع ، أي اننا سنقوم – ولو عن غير قصد – بإعادة انشاء الدولة.
سنواجه مشكلة أخرى ، لو أردنا الاعتماد على السوق في انجاز كافة الوظائف ، التي تؤديها الدولة في الوقت الراهن. احدى الوظائف الرئيسية للدولة ، تتمثل في ما نسميه المنافع أو الخدمات العامة public goods ، وهي المنافع التي يتمتع بها جميع المواطنين ، والتي لا يمكن استبعاد اي شخص من التمتع بها. وهي تأتي في أشكال عديدة ومتنوعة ، من بينها مثلا الهواء النظيف ، الماء ، الدفاع ضد العدوان الخارجي ، الطرق والحدائق العامة ، المرافق الثقافية ، وسائل الاتصال ، وما الى ذلك.
لقد اقيمت هذه الخدمات والمنافع ، عن طريق فرض قيود على تصرف الناس في أموالهم ، مثل القيود التي تفرض على المصانع ، للحد من إطلاق الغازات السامة في الغلاف الجوي ، أو عن طريق زيادة الضرائب ، واستخدام عائداتها لدفع تكاليف وسائل الاتصال كالراديو والتلفزيون ، وتكاليف أنظمة النقل وحماية البيئة وحماية مصادر المياه.. الخ.
- فهل ياترى نستطيع توفير هذه المنافع من خلال سوق اقتصادي؟.
يعمل السوق على أساس أن المشتري سيدفع مقابل السلع والخدمات ، التي يريد اقتناءها أو استخدامها. لكننا نواجه مشكلة حقيقية في حالة المنافع العامة على وجه التحديد ، وهي أنها تُقدم للجميع سواء دفعوا أم لا ، بمعنى انه لا يمكن استثناء احد منها ، ولا يمكن قصرها على شريحة من المواطنين دون غيرهم. لا يمكن – مثلا – الزام فريق بقيود منع تلويث الهواء وترك الآخرين ، ولا يمكن منع فريق من التمتع بالهواء النظيف دون الآخرين ، وكذا الحال في حماية مصادر المياه والحدائق ، وكذا في الدفاع عن المجتمع ضد العدوان الخارجي ، وهكذا وهلم جرا.
من الممكن طبعا ان يساهم الناس – اختياريا – بحصتهم في كلفة تلك المنافع ، اذا اكتشفوا قيمة ما يحصلون عليها من ورائها. لقد رأينا على سبيل المثال كيف زادت الكنائس القديمة من مداخيلها ، بعدما باتت صيانتها مكلفة. فقد وضعت صندوقا صغيرا قرب الباب ، وطلبت من الزوار ان يساهموا بما يستطيعون في تلك الكلف. ونعلم ان بعض الناس سيكون مسرورا بالمساهمة ، في مقابل الاستمتاع بمشاهدة المبنى الجميل للكنيسة.
هذا قد يحدث بطبيعة الحال. لكن علينا الاعتراف ايضا بأن امكانية الاستمتاع المجاني ، تغري عددا اكبر من الناس بعدم المساهمة. كما ان بعضنا لا يشعر أصلا بالحاجة الى ان يدفع من جيبه. دعنا نتذكر لحظة استيقاظنا من النوم ، حين نفتح النافذة فيسرنا مشهد الحديقة الجميلة والهواء النظيف. هل نتذكر في هذه اللحظة ، كم نحن محظوظون لوجود من ينفق على صيانة هذا الهواء وتلك الحديقة ، وهل نتذكر اننا احرار لأن هناك من يدافع عنا ضد الغزاة الأجانب مثلا؟. نحن نتعامل مع هذه الأشياء كمسلمات لا تثير انتباهنا حتى ، الى ان تأتي الساعة التي ينحرف فيها احد المسارات ، تنقلب شاحنة في وسط الطريق فتغلقه ، أو تنزل امطار شديدة فتجرف الحديقة الجميلة ، أو يقوم احد الاعداء بهجوم الكتروني فيعطل شبكة الاتصالات الوطنية..
هذه الامثلة وما يشابهها تؤكد اننا بحاجة الى السلطة السياسية ، اي الجهة التي لديها قوة فرض القانون وقواعد العمل على جميع الناس ، من اجل توفير المنافع التي يحتاجونها جميعا.12F[4]
ثمة حجج أخرى ، كثيرة وذكية ، قدمها الليبرتاريون ، للبرهنة على امكانية توفير المنافع العامة من خلال السوق ، أو من خلال تكاتف الناس وتعاضدهم في انتاجها ، والحق ان الفلسفة السياسية لا تتوقف عن انتاج الحجج. هناك دائما المزيد من النقاشات والحجج ، ثم الحجج المضادة ، وهكذا. لكني آمل ان اكون قد طرحت ما يكفي من الشواهد الدالة ، على انه لا المجتمع ولا السوق ، على رغم ما لهما من اهمية كبرى في حياة البشر ، قادران على الحلول محل السلطة السياسية والكيان الذي يجسدها في العصر الحاضر ، أي “الدولة”.
مشكلة الالتزام السياسي
الكثير منا يضيق بالدولة حين تفرض قواعدها وقوانينها ، وحين تلزمنا بدفع الضرائب ، وحين توظفنا في خدمتها ، وحين تدس انفها الطويل في تفاصيل حياتنا بألف طريقة وطريقة. ليس من السهل ان تحب أحدا أو هيئة تزاحمك ، أو تقيد رغباتك مثلما تفعل الحكومات. بالرغم من كل ذلك فان حياتنا لن تكون جيدة من دونها. واقع الأمر ان الخيار ليس ان يكون لدينا سلطة سياسية أو لا يكون ، بل ما هو نوع السلطة السياسية التي نريد ان نقيمها أو نعيش في ظلها ، وما هي حدود صلاحياتها.
سوف نعالج هذه الأسئلة في الفصول التالية. لأننا لم ننته بعد من موضوع السلطة السياسية نفسه. فثمة سؤال محوري لا بد من اجابته ، قبل ان نمضي قدما ، سؤال يتناول علاقة الناس بالسلطة السياسية: لماذا يتوجب علي طاعتها اذا أمرتني بفعل ما لا أحبه أو لا أوافق عليه. هذه المشكلة يطلق عليها فلاسفة السياسة اسم “مشكلة الالتزام السياسي the problem of political obligation “13F[5].
لعلك تظن ان هذا السؤال قد اجيب عليه فعليا في السطور السابقة، حين أوضحت السر في حاجتنا للسلطة السياسية. الواقع انه لا تزال هناك فجوة بين امرين مختلفين تماما: بين الإقرار بأن الحكومة البريطانية ، على سبيل المثال ، لها الحق في سن القوانين وفرض الضرائب ، وبين القول بأنني شخصياً ملزم بطاعة تلك القوانين ، وترتيب حياتي تبعا لمتطلباتها ، ودفع فواتير الضرائب التي تقررها الحكومة علي. اعلم طبعا أن عدم رغبتي في الطاعة والالتزام ، لن يؤدي إلى إسقاط الحكومة ، أو إفشال مساعيها في الحفاظ على النظام الاجتماعي.
لقد تمكنت جميع الحكومات من الحفاظ على وجودها وسلطاتها ، مع انها تعرضت لحالات كثيرة من خرق القانون والتهرب الضريبي.
حسنا… لو كان تفكيري محصورا في العواقب التي يحتمل ان تترتب على افعالي فقط ، فقد اتوصل الى استنتاج فحواه ، ان خرقي للقانون وتهربي من دفع الضريبة ، سوف تكون له آثار حميدة ، مثلا: ربما اقرر ربط نفسي على بوابة مبنى تاريخي لمنع بلدوزرات البلدية من هدمه ، ربما ادفع المال الذي اخفيته عن إدارة الضرائب ، الى جمعية اوكسفام الخيرية التي تساعد المحتاجين. لماذا إذن اطيع القانون اذا كنت سأفعل أشياء أفضل من دونه؟.
أحد الأسباب التي توجب علي طاعة السلطة السياسية ، هو – بالطبع – التوقي من العقاب. أعلم انني سوف اتعرض للعقاب ، لو خالفت القانون أو تهربت من دفع الضريبة.
لكننا نبحث هنا عن مبرر للطاعة ، قائم على مبدأ سليم. لقد استنتج بعض فلاسفة السياسة ، أن هذه المشكلة غير قابلة للحل. وهم يقولون أن طاعة القانون واجبة على المواطن ، في حالة واحدة فقط: حينما تستند الطاعة الى مبرر مستقل. مستقل بمعنى ان القانون واجب بذاته (مثل القوانين التي تمنع الجريمة) ، وليس فقط لانه صادر عن سلطة شرعية. لأن مجرد صدوره بطريقة صحيحة أو من جهة شرعية ، لا يعني ان طاعته واجبة على كل فرد. هذا امر مختلف عن ذاك.
حاول فلاسفة أخرون تقديم حلول أكثر إيجابية ، ليس لكثير منها علاقة بموضوعنا الراهن ، لكني سأنظر في اثنين منها: الحل الأول لأنه كان الأكثر شهرة من الناحية التاريخية ، والثاني لأني أظنه صحيحا الى حد كبير.
المشاركة كمؤشر على الرضا الضمني
خلاصة ما يدعيه أصحاب الحل الأول ، هو ان قبولي للعيش وسط الجماعة ، يعني موافقة ضمنية على قواعد الحياة التي توافقت عليها ، ومن ضمنها سيادة القانون العام. من السهل ملاحظة ان هذه الفكرة جذابة. دعني ابسطها في المثال التالي: نفترض أنني ذهبت يوما إلى نادي كرة القدم المحلي ، وطلبت الانضمام اليه. في عطلة نهاية الأسبوع حضرت للنادي كي أشارك في اللعب. لكن بدل اللعب وفق القواعد الخاصة ، بدأت العب بالكيفية التي تروقني.
لاشك ان أعضاء النادي الاخرين ، سيشعرون بالسخط على طريقتي في اللعب ، وسوف يقولون ان قواعد النادي لا تسمح بالفوضى والعبث. طالما انت عضو في هذا النادي ، فأنت ملزم بقواعد كرة القدم المتعارفة في هذا النادي ، حتى لو لم تصرح بالموافقة على هذه النقطة بالذات ، انها اشبه بالمقولة السائرة “المعروف عرفا كالمشروط شرطا”. لو قلت لهم ان لعب الكرة غرضه الاستمتاع ، وأنه لا ضرورة للجدية في كل أمر ، فسوف يردون علي بان ما هو مطبق هنا وما هو مقبول ، هو فقط اللعب حسب القواعد ، سواء اعتبرته متعة ام لا.
طالما كان الأمر متعلقا بكرة القدم ، فان أي عاقبة تترتب على خرق القواعد ، ستكون قابلة للتحمل. اما المشكلة الحقيقية فهي تلك التي ستراها حين ننقل مثال النادي الى الدولة. يمكن القول انه في العموم لا يختار الناس الانضمام الى الدولة ، انهم يجدون انفسهم تحت ولايتها ، مطالبين بطاعة قانونها ، احبوه ام كرهوه. فبأي معنى يصح الادعاء بانهم (اختاروا) أو (وافقوا)؟.
جادل هوبز باننا نختار ان نكون اتباعا للدولة ، لأنها افضل من ظرف الحالة الطبيعية ، حيث الحياة – كما وصفها – قاسية ، وحشية وقصيرة ، وانه ليس مهما كيف قامت الدولة. حتى لو استسلمنا للغزاة تحت تهديد السيف ، فأننا – بشكل ما – اعطينا موافقة على الخضوع لحكمهم ، ونحن على وعي تام بأننا نفعل هذا اتقاء لمصير اكثر سوء14F[6].
رؤية هوبز هذه توسع مفهوم الموافقة الى حدود تتجاوز مفهوم الاعتراف والاقرار بالدولة. وهي بالطبع تتجاوز مثال النادي ، الذي كان مقنعا تماما ، نظرا لحقيقة أني اخترت الانضمام اليه بارادتي واختياري.
في أوقات لاحقة رفض عدد من الكتاب حجة هوبز حول الالتزام والموافقة ، وحاولوا وضع تصوير للعلاقة بين الافراد والحكومة ، ولاسيما فكرة الالتزام بالقانون ، أو الرضا به ، مختلف عن الخضوع الصرف ، كما في المعنى الذي اقترحه هوبز. من بين أولئك الكتاب ، نذكر مثلا جون لوك ، الذي أشار في “الرسالة الثانية عن الحكومة” (1689) إلى أننا جميعا نقبل المنافع التي توفرها الدولة ، ويمكن التعامل مع قبولنا كشكل من أشكال الموافقة على عمل الدولة15F[7].
ذكر لوك أيضا أن إحدى الوظائف الرئيسية للدولة هي حماية ممتلكاتنا ، وعندما نحوز هذه الممتلكات عن طريق الشراء أو الميراث ، على سبيل المثال ، فإننا نوافق ضمنيا أيضا على القانون الذي سمح بانتقال هذه الاملاك ، والذي ضمن عدم الاستيلاء عليها قهرا. كما نوافق – ضمنيا – على عمل الهيئة التي تتولى تنفيذ ذلك القانون ، وتجعله فعالا وحقيقيا.
بل ذهب جون لوك خطوة أبعد ، حين رأى ان فكرة “القبول الضمني” تنطبق حتى على شخص سكن بضعة أيام في نزل ، أو سافر على الطريق بين مدينتين. المشكلة على أي حال ، هي اننا لا نملك خيارات عديدة لقبول أو رفض هذه المنافع: نحن لا نستطيع العيش دون ان نمتلك شيئا ، حتى لو كان غذاءنا أو ملابسنا ، كما لا نستطيع الفرار من الدولة – لو اردنا الفرار – من دون ان نستعمل الطريق الذي يوصلنا الى الحدود.
اعتقد ان جون لوك قد أخذ فكرة الرضا الضمني الى مدى ابعد مما تحتمل. انه لمن ضروب المبالغة الواضحة ، القول بان الانتفاع بالخدمات العامة ، يعني – بالضرورة – الموافقة على سلطة الدولة ، والالتزام بطاعة القانون دون قيد أو شرط.
في السنوات الاخيرة ، ادعى بعض الفلاسفة السياسيين أن مشاركتنا في الانتخابات العامة ، تعني على وجه التحديد وعدا بالالتزام بما تسفر عنه تلك الانتخابات ، اي الامتثال للحكومة الجديدة وما تسنه من قوانين. يبدو هذا الأدعاء أمتن تأسيسا ، فلدينا على أقل التقادير حرية الاختيار فيما إذا كنا سنصوت أم لا. طالما قبلنا بالمشاركة في التصويت فلا يعقل ان نرفض نتائجه ، إذ لا جدوى من إجراء انتخابات ما لم يعترف الناس بشرعية الحكومة التي تتمخض عنها.
هذه الحجة تقوم على أساس متين. لكني ارى فجوة بين مرحلتين مختلفتين موضوعيا : تصويتك في الانتخابات وتسجيل موافقتك.
ماذا لو كنت تعارض بشدة كلا الحزبين اللذين يتنافسان في الانتخابات ، لكنك صوتت لأنك تعتقد أن أحدهما أقل سوء من الآخر؟. وماذا لو كنت تعتقد أنه على الرغم من موافقتك إلى حد ما ، على الحزمة الشاملة من السياسات التي أعلنها الحزب الفائز في بيانه ، إلا أن فيه أيضا عناصر مثيرة للاشمئزاز ، ولم يكن من الممكن التصويت عليها بشكل فردي؟.
زبدة القول ان موافقة الناخبين قد تساعد في تفسير سبب امتلاك الحكومات للسلطة الشرعية ، ولكن ليس سبب التزام المواطنين الأفراد بطاعة القانون.
اتضح اذن ان المقاربة التي تدور حول الربط ، بين الالتزام الفردي تجاه الدولة وبين الرضا الضمني ، لا تخلو من مشكلات. لهذا اقترح تركها جانبا ، كي نذهب الى مقاربة ثانية ، لعلها تنطوي على احتمالات اقوى.
التبادل المنصف
تدور هذه المقاربة حول الانصاف والتبادل المنصف النظيف fair play. سوف اضرب مثالا لتوضيح محل النقاش: نفترض ان مجموعة منا تعيش في منزل ، فيه مطبخ مشترك. في كل أسبوع يقوم احد السكان بترتيب المطبخ وتنظيف القدور وغسل الصحون. التزم كل شخص بهذا الروتين ، حتى وصلني الدور ، حيث يتوجب علي قضاء نصف ساعة في تنظيف القدور والصحون ، ومسح الطاولة وترتيب المكان كما فعل كل الذين سبقوني.
- سالت نفسي: لماذا يتوجب علي ان افعل هذا؟
فاجبت نفسي: لقد انتفعت من جهد الآخرين الذين سبقوني ، وقد استمتعت بطبخ عشائي في مطبخ نظيف مرتب. لهذا يتوجب علي ان اتحمل نصيبي من الجهد أيضا ، أي تنظيف المطبخ وأوانيه ، مثلما فعل بقية الزملاء ، فان لم افعل هذا فسوف أكون قد قمت باستغلال زملائي ، وعشت على حسابهم من دون حق ، وهذا ظلم صريح.
لاحظ أننا لم نتحدث في هذا المثال عن فرضية الموافقة أو الرضا الضمني ، كما في المقاربة السابقة. في الحقيقة نحن لا نحتاج أصلا لافتراض انني وافقت سلفا على المشاركة في روتين التنظيف. ان التزامي منبعث مباشرة من حقيقة انني منتفع من ممارسة تعاونية ، مشروطة بالتزام كل فرد مشارك فيها بأداء دوره.
كيف تتحول هذه الفكرة إلى التزام سياسي؟
إن الالتزام بالقانون ، والامتثال للسلطة السياسية بشكل عام ، يعني ان تتنازل عن فرص ربما تكون قادرا على الاستئثار بها دون الآخرين. انه لأمر غريزي ان يحب كل منا فعل ما يشاء ، دون قيد أو حساب ، ودون تحمل عبء المحافظة على حقوق الآخرين ، أو دفع الضرائب كي يستفيدوا منها ، أو مراعاة قوانين المرور التي لا أحتاج للتسليم بها.
زد على ذلك ، ان الامتثال للقانون والسلطة السياسية ، يفيد الآخرين اكثر مما يفيدني.عندما تدفع ضرائبك ، يستفيد بقيتنا من الطرق والمدارس والمستشفيات التي تستخدم الضرائب في انشائها أو تسييرها. وعندما تتوقف عند الإشارة الحمراء ، فإنك تجعل الأمر أكثر أمانًا لسائقي السيارات الآخرين ، كي يعبروا عند الاشارة الخضراء. بناء على هذا نستطيع القول ان الشخص الذي يخالف القانون ، مع انه ينتفع من التزام الآخرين بمقتضيات هذا القانون ، هذا الشخص يتصرف على نحو يخرق قواعد الانصاف والعدالة ، تماما مثل الشخص الذي يستخدم المطبخ ، ولكنه يأبى ان يلتزم بدوره في التنظيف.
تبدو حجة التبادل المنصف fair play معقولة الى حد كبير. لكني مهتم بلفت نظر القاريء الى ان المظاهر قد تكون خداعة. ثمة نوعان من الصعوبات على الأقل ، ينبغي للقائلين بهذه الحجة ان يعالجوها ، كي تمسي حجتهم قادرة على تبرير الالتزام السياسي16F[8]:
النوع الأول من الصعوبات: يتعين علينا البرهنة على ان المنافع التي تقدمها الدولة ، مقابل طاعتي وضرائبي ، هي حقا منافع للجميع. لأن بعضنا سيقول ان قوانين الدولة تستهدف فقط حماية الملكية ، فهي تفيد فقط ملاك العقارات ، وليس كل الناس. آخرون سيحتجون بان أموال الضرائب ربما تستخدم في أمور لا تهمهم ، مثل تمويل المعارض الفنية ، مع ان كثيرا من الناس لا يهتمون بالفن.
هذه الاعتراضات معقولة أيضا. لكنها مع ذلك لا تكفي لدحض حجة التبادل المنصف ، طالما أمكن البرهنة على أن الحزمة الكاملة من المنافع التي تقدمها الدولة ، تؤدي – كمجموع – الى جعل جميع المواطنين أفضل حالا ، وطالما أمكن ايضاح أن تلك المنافع متاحة لجميع المواطنين ، كي يقتسموها بشكل معقول ، وان التزام هؤلاء المواطنين وامتثالهم للقانون ، يجعل النظام العام قائما وفعالا. قد لا أكون ممن يهوى الفنون ، ولعلي لم أزر اي معرض فني ، لكني أستخدم ملعب كرة القدم مجانًا في المتنزه القريب من بيتي. هناك أشخاص يفعلون العكس ، وهكذا يتشارك الجميع في المنافع.
النوع الثاني من الصعوبات: افترضنا في مثال المطبخ – ضمنيا على الأقل – أن كافة سكان المنزل يستخدمون المطبخ بشكل متساوٍ تقريبا ، ويتوجب عليهم بالتالي اقتسام عبء التنظيف بالتساوي. لكن ماذا لو كان استعمال بعضهم اقل على نحو ملموس. افترض ان احدهم يستعمل المطبخ مرة كل أسبوعين. فهل يتوجب عليه المشاركة في التنظيف بنفس القدر الذي يفعله بقية السكان؟.
قد نقول نعم ، لأنه يستطيع استخدام المطبخ أكثر إذا اختار ، وهو متوفر في حالة احتياجه إليه. وقد نحاول تعديل حصته من التنظيف بحيث تتلاءم مع استخدامه الفعلي. فأي الخيارين هو الأقرب للانصاف؟.
ربما نطلق على هذه التساؤلات اسم أسئلة الانصاف الموضوعي substantive fairness17F[9]. ويبدو ان حجة التبادل المنصف fair play قابلة للانطباق بشكل أفضل ، حين تكون الممارسات موضع الفحص منصفة من الناحية الموضوعية ، بمعنى ان كلف الممارسة ومنافعها ، مقسومة بشكل عادل بين المشاركين الأفراد. لكن لو نقلنا المثال البسيط عن المطبخ إلى موضوع أوسع ، يشمل – مثلا – المجتمع ككل ، فسوف نواجه صعوبات جدية.
التمرد على القانون
نعلم ان للناس احتياجات مختلفة ، كما ان قدراتهم وتفضيلاتهم متباينة جدا ، فكيف سنقيم توزيعا منصفا للتكاليف والمنافع الاجتماعية على الجميع ، توزيعا يراعي تلك الاختلافات بقدر الامكان؟.
وإذا كانت الطريقة الراهنة لتوزيع التكاليف والمنافع في غالب المجتمعات ، بعيدة جدا عن النموذج المثالي للانصاف المشار اليه آنفا ، فهل لا يزال بوسعنا دعوة الأفراد لطاعة القانون ، والالتزام بتعليمات السلطة السياسية ، باعتبارها ضرورة لصون التبادلات المنصفة؟.18F[10]
يبدو إذن ، أن الحل المفضل عندي لمشكلة الالتزام السياسي يستدعي ، قبل أي شيء ، معالجة لقضية العدالة الاجتماعية ، وهو ما سنفعله في الفصل الخامس. لكن ، أخذا بعين الاعتبار الربط السابق الذكر بين الانصاف وطاعة القانون ، دعنا نفترض الآن أن مجتمعنا منصف بما يكفي ، لتوليد الزام على أعضائه بالامتثال للقانون. فهل يترتب على هذا انه لا يمكن على الاطلاق ، تبرير أي فعل ينطوي على خرق للقانون؟ ام ان مقولة الالتزام السياسي قابلة لأن تزاح جانبا ، لصالح قيمة أرفع شأنا منها ، اذا تعارضت هذه مع تلك؟. ان القبول بالفكرة الأخيرة يعني ان هناك حالات تسمح بتبرير انتهاك القانون.
لطالما جادل الفلاسفة السياسيون ، بمن فيهم هوبز ، بأن الامتثال للقانون يجب ان يكون تاما شاملا ، لأنه من دون طاعة صارمة ، فان السلطة السياسية سوف تنهار وتتلاشى مثلما تتطاير ذرات الغبار.
هذا على المستوى النظري. اما في الواقع ، فلم نسمع عن دولة انهارت ، لأن بعض المواطنين تمرد على القانون. يؤكد تاريخ العالم المعاصر ان الدول والأشكال الأخرى للسلطة السياسية ، قادرة على مواصلة الحياة ، والعمل بنفس القدر من الفاعلية ، طالما بقيت الكثرة الكاثرة من الجمهور، وليس بالضرورة كافة الافراد ، ملتزمة بطاعة القانون.
بعبارة أخرى ، فان هذه التجربة المتكررة تجعلنا نميل الى تقبل بعض اشكال الاعتراض السلمي على القانون وسلطة الدولة ، أو ما يسمى الان بالعصيان المدني. هذه أشكال غير قانونية للاحتجاج السياسي ، محدودة الحجم ، وسلمية بشكل عام ، هدفها الضغط على الحكومة لتغيير سياساتها.
حجة العصيان المدني هي أنه إذا كان ثمة قانون غير عادل ، أو كان قمعيا على نحو يصعب تحمله ، أو إذا رفضت الدولة الاستماع إلى مخاوف الأقلية عند اتخاذ قراراتها ، فإن كلا من هذه الأسباب يعتبر مبررا معقولا لخرق القانون ، إذا ثبت أن الأشكال القانونية للاحتجاج غير فعالة . بعبارة أخرى ، لا يلزم أن يكون الالتزام السياسي مستقرا في جميع المناسبات. يمكن أن يكون لدينا التزام عام بطاعة القانون ، ولدينا في الوقت نفسه مبررات كافية للتصرف بشكل غير قانوني ، في الظروف التي تستدعي هذا.
- ما الفرق الذي تحدثه الديمقراطية هنا؟
الرأي الشائع هو أن العصيان المدني ، قد يكون طريقة مقبولة للاحتجاج على نظام استبدادي. أما في الأنظمة الديمقراطية ، حيث يتمتع الجميع بحرية التعبير والحق في الاحتجاج السلمي ، فانه من الصعب العثور على مبررات معقولة للانتقال من المعارضة المنظمة الى العصيان المدني. بعبارة أخرى فان الالتزام بالقانون سيكون اكثر صرامة في ظل النظام الديمقراطي ، لأنه – ببساطة – يوفر طريقة قانونية للإصلاح والمعارضة والتغيير من داخل النظام وفي اطار القانون. هذا يعني أن لدى السلطة السياسية الديمقراطية سمات خاصة تميزها عن أشكال الحكم الأخرى . هذه السمات ستكون موضوع الفصل التالي.
الهوامش
[1] توماس هوبز: اللفياثان ، الاصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة ، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب ، دار الفارابي (بيروت 2011) ص 134 https://www.alarabimag.com/read/19373.html
[2] توماس هوبز: المصدر السابق ، ص 251.
[3] The writer has discussed anarchism at greater length in: David Miller, Anarchism (London, Dent, 1984).
The most important work of libertarian political philosophy is Robert Nozick, Anarchy, State and Utopia (Blackwell, 1974), though note that Nozick ends up by defending the minimal state rather than anarchy.
For a good discussion see Jonathan Wolff, Robert Nozick: Property, Justice and the Minimal State. Cambridge: (Polity Press, 1991).
[4] On public goods, and the question whether political authority is needed to provide them, see David Schmidtz, The Limits of Government (Westview Press, 1991).
[5] The problem of political obligation is discussed by John Horton in Political Obligation (Macmillan, 1992).
[6] توماس هوبز: اللفياثان ، ص 135
[7] جون لوك: في الحكم المدني ، ترجمة ماجد فخري ، اللجنة الدولية لترجمة الروائع (بيروت 1959) الكتاب الثاني ، ص 188. https://books-library.net/free-515478693-download
[8] The most persuasive case for the fair-play argument is to be found in G. Klosko, The Principle of Fairness and Political Obligation (Rowman & Littlefield, 1992); it is criticized, along with the consent argument, in A. John Simmons, Moral Principles and Political Obligations (Princeton Uni. Press, 1979).
[9] يذكر الانصاف الموضوعي في العادة كمناظر للانصاف الاجرائي. يركز الثاني على توافق الإجراءات المؤدية الى الحكم ، مع معايير العدالة والانصاف ، ولا يهتم بالنتيجة. اما الانصاف الموضوعي فيشمل كل العناصر بما فيه ان تكون النتيجة مطابقة لمعايير العدالة. وثمة خلاف بين انصار الاتجاه الأول والثاني بحسب تعريفهم للانصاف. وهناك 5 تعريفات مشهورة: 1-التعريف الليبرتاري: الانصاف هو توزيع المنافع والاعباء على الافراد بقدر مساهمتهم في انتاجها. 2-التعريف النفعي: توزيع المنافع والاعباء بما يحقق اكبر رفاهية اجمالية للمجتمع. 3- مبدأ جون رولز: توزيع المنافع والاعباء بالمساواة وفي حال الحاجة للتمييز بين المنتفعين ، تكون الأولوية للأقل حظا (المريض المقعد او الشديد العوز مثلا). 4-التوزيع بالمساواة مع قبول التفاضل بحسب الأكثر حاجة (التركيز على الناتج). 5- الانصاف يتحقق حين تكون النتائج مرضية للجميع ، بمعنى انه لا احد من المستفيدين يفضل تبادل حصته مع حصة شخص آخر.
[10] The grounds for civil disobedience are discussed in Peter Singer, Democracy and Disobedience (Oxford Uni. Press, 1973).