حرب تشنها الآلة على الإنسان (من كتاب الطريق إلى ويغان بيير) – جورج أورويل / ترجمة: نوره الفرحان
04/11/2020
حرب الآلة
الغرض من الآلة هو توفير الجهد. في عالم تتسيده الآلة ستعتقنا الأخيرة من القيام بالأعمال الشاقة الباعثة على الكسل تاركةً لنا المساعي الأكثر تشويقاً. يبدو ذلك رائعاً عندما نصفه على هذا النحو. مما يثير استياء المرء لدى رؤيته لنصف دزينة من الرجال يتصببون عرقاً عند حفرهم خندقاً لماسورة المياه في حين استطاعة الآلة أن تجرف الأرض في ظرف دقائق. لماذا لا نجعل الآلة تقوم بالعمل ويذهب الرجال للقيام بأمر آخر؟ ولكن هنا يحضر السؤال، ما الأمر الآخر الذي سيفعلونه؟ على افتراض أنه تم إعفاءهم من “العمل” لكي يتسنى لهم القيام بما هو ليس بـ”عمل”. ولكن ما هو العمل وما هو اللاعمل؟ أهو عملٌ أن تحفر، أن تقوم بالنجارة، أن تزرع الأشجار، أن تقود، أن تصيد الأسماك، أن تذهب برحلة صيد، أن تطعم الدجاج، أن تعزف على البيانو، أن تلتقط صوراً، أن تبني منزلاً، أن تطهو، أن تخيط، أن تزكرش القبعات، أن تصلح الدراجات؟ جميع هذه الأشياء تعتبر عملاً لشخص ما، وجميعها تعتبر لهواً لآخر. هنالك في الواقع عدد ضئيل من الأنشطة التي لا يمكن تصنيفها على أنها عملاً أو لهواً وذلك يكون حسب نظرتك لها. عندما يُطلَق سراح العامل من الحفر، قد يرغب في قضاء وقت فراغه بالعزف على البيانو، بينما عازف البيانو المحترف قد يسعده جداً أن يخرج ليحفر في حقل البطاطس. وعليه، فالتناقض بين العمل باعتباره شيئاً مضجراً على نحوٍ لا يطاق، وبين اللاعمل باعتباره شيئاً مرغوباً، هو باطل. الحقيقة هي عندما لا يكون الإنسان يأكل، يشرب، ينام، يتناسل، يتحدث، يلعب، أو فقط يتسكع – وهذه الأشياء لا يمكنها أن تملأ حياة بأكملها – هو يحتاج إلى العمل وغالباً يبحث عنه، رغم أنه قد لا يسميه عملاً. فعقب مرحلة سذاجة الصف الثالث أو الرابع، يتوجب أن تعاش الحياة بجهدٍ مبذول. فالإنسان ليس معدة متحركة كما يفترض معتنقي مذهب اللذة السوقيين، بل إنه يملك أيضاً يد وعين وعقل. توقف عن استخدام يدك فتكون قد فقدت جزءاً كبيراً من وعيك. والآن لِنُعِد التفكير في نصف دزينة الرجال الذين كانوا يحفرون خندق لماسورة المياه. لنقل أن آلة ما قد أعفتهم من القيام بالحفر ليذهبوا ويلهوا بأمر آخر – النجارة مثلاً. ولكن مهما اختاروا أن يفعلوا، سيجدون أن آلة أخرى قد أعفتهم من القيام به. إذ في عالم ممكن بالكامل لن تكون حاجتنا للنجارة، للطهي، لإصلاح الدراجات، إلخ، أعظم من حاجتنا للحفر. بالكاد يوجد شيء، من صيد الحيتان إلى حفر حجر الكرز، لا تستطيع الآلة أن تقوم به. الآلة قد حتى تتطفل على الأنشطة التي نطلق عليها اليوم “فن”، بل هي تطفلت بالفعل عبر الكاميرا وأجهزة المذياع. مَكنِنْ العالم بقدر ما تمكن مكننته وأينما إلتَفَتّ ستجد آلة تقصيك من فرصة العمل – أي من العيش.
للوهلة الأولى قد لا يبدو ذلك بتلك الأهمية. لماذا لا يجدر بك المضي بـ”عملك الإبداعي” مهملاً الآلات المخصصة للقيام به عنك؟ لكن الأمر ليس بالبساطة التي يبدو عليها. ها أنذا، أعمل لثمانِ ساعات في اليوم في مكتب تأمين؛ في وقت فراغي تنتابني رغبة في عمل شيء “إبداعي”، فأقرر أن أقوم ببعض أعمال النجارة – أن أصنع طاولة مثلاً. لاحظ أن منذ البداية هنالك لمسة صناعية حول الموضوع بأكمله، إذ بإمكان المصانع أن تصنع لي طاولة أفضل بمراحل من تلك التي سأصنعها لنفسي. ولكن حتى عندما أشرع في العمل على صنع الطاولة، لا أستطيع أنأشعر حيالها كما شعر صانع الخزائن حيال طاولته قبل قرنٍ مضى، بل سأشعر كما شعر روبنسون كروزو حيال تلك الخاصة به. إذ قبيل بدئي، معظم العمل قد أنجزته الآلات لي مسبقاً. الأدوات التي أستخدمها بالكاد تتطلب مهارة لاستخدامها. أستطيع مثلاً الحصول على مقشطة لسحج العفن؛ بينما صانع الخزائن قبل قرن كان يضطر لاستخدام المبرد والإزميل لإنجاز العمل مما يتطلب مهارة يدوية وبصرية حقيقية. الألواح التي أشتريها قد تم سحجها والقوائم قد تم لفها بالمخرطة. أستطيع حتى الذهاب إلى متجر الخشب وأبتاع جميع أجزاء الطاولة جاهزة لا يلزمها إلا تركيبها ببعض، يقتصر عملي على تثبيت بضع مسامير واستخدام قطعة من ورق السنفرة. وإن كان هذا هو الوضع اليوم، ستتصاعد الأمور أكثر في المستقبل الممكن. بتوفر الأدوات والمواد حينها ستعدم أي احتمالية للخطأ؛ بمعنى، ستعدم المهارة. صنع طاولة سيكون أسهل وأبسط من تقشير حبة بطاطس. في هكذا ظروف، سيكون الحديث عن “العمل الإبداعي” ضرباً من اللامنطقية. إذ سيختفي أي نوع من أنواع الفنون اليدوية. بعض الفنون قد اختفت بالفعل بعد معركة خاسرة ضد الآلة. إلتفت لأي مقبرة كنيسة وانظر إن كنت تستطيع العثور على شاهد قبر تم تقطيعه بعد سنة 1820 على نحوٍ لائق. فن، أو بالأحرى، حرفة العمل بالحجر قد انقرضت بالكامل وسيتطلب الأمر قروناً عدة لإعادة إحياءها.
ولكن قد يتساءل البعض، لِمَ لا نحتفظ بالآلة و”العمل الإبداعي” معاً؟ تحرش العديد بهذه الفكرة؛ تبدو وكأنها حلاً يسيراً للمشكلات التي جلبتها الآلة. قيل لنا أن أحد مواطني المدينة الفاضلة يرجع إلى منزله من عمله اليومي الذي يمتد إلى ساعتان يقضيهما في تدوير مقبض في مصنع تعليب طماطم، سيرتد إلى نمط حياة أكثر بدائية ويعزي غريزته الإبداعية ببعض أعمال الحفر على الخشب، طلي الخزف بالزجاج، أو الحياكة اليدوية. لماذا تبدو هذه الصورة ضرباً من السخف – وهي كذلك طبعاً؟ بسبب مبدأ قلما يُلاحظ، ولكن دائماً ما يتم العمل بمقتضاه: طالما وجدت الآلة، نحن ملزمون باستخدامها. لن يسحب أحد دلو الماء من البئر حينما يستطيع فتح صمام المياه. لا يوجد انسان يرغب في عمل أي شيء بطريقة أكثر إجهاداً مما تقتضيه الضرورة. وهنا تكمن سخافة صورة مواطنو المدينة الفاضلة الذين ينقذون أرواحهم بأعمال الحفر على الخشب. في عالم يمكن فيه للآلة أن تقوم بكل شيء، ستقوم الآلة بكل شيء. أن ترجع عمداً إلى طرق أكثر بدائية، أن تستخدم أدوات قديمة، أن تضع عقبات صغيرة سخيفة في طريقك، سيكون نوعاً من الإعتباطية. ستكون وكأنك تجلس بوقار لتناول عشاءك بأدوات حجرية.
إذاً النزعة إلى التقدم الآلي تتمثل في إحباط حاجة الإنسان إلى بذل الجهد والإبداع. ستجعل الأنشطة البصرية واليدوية غير ضرورية بل ومستحيلة. رائد “التطور” سيعلن في بعض الأحيان عدم أهمية ذلك، ولكنك تستطيع أن تحشره في زاوية مشيراً له إلى المدى الفظيع الذي يمكن لهذه العملية أن تصل له. فعلياً، لن يكون هنالك سبب يجعل الإنسان أن يقوم بأكثر من الأكل، الشرب، النوم، التنفس، والإنجاب؛ ستتكفل الآلة بكل شيء آخر. وبذلك تكون النهاية المنطقية للتطور الآلي هي تقليص الإنسان إلى ما يشبه دماغاً في زجاجة. هذه هي الغاية التي نخطو نحوها، إلا أننا بالطبع لا ننوي الوصول إلى تلك المرحلة؛ تماماً كما لا ينوي الرجل الذي يشرب زجاجة ويسكي كل يوم أن يصاب بفشل كلوي. قد لا يكون الغرض المبطن والتام من “التطور” دماغاً في زجاجة، ولكن على أي تقدير، نصف انسان مفزوع مغلوب على أمره. لا بد أن تُقبل الآلة، ولكن من الأفضل -على الأرجح- أن يتقبلها المرء كما يتقبل المخدرات – أي ببغض وتشكك. الآلة كالمخدرات، نافعة، خطرة، ومشكِّلة للعادات. تشتد قبضتها بقدر استسلام المرء لها.