مجلة حكمة
شوبرت السفونية

شوبرت: ربما يَكون النقصُ كمالاً: عن السيمفونية غير المُكتمِلة – فياض معالي


مقدمة :

يُعرف فرانز شوبرت في المقام الأول من خلال سوناتات البيانو، أغاني الليدر “lieder“، وموسيقى الحجرة التي كتبها، “الأمر الذي دفع البعض لإختزال شوبرت في هذا السياق بوصفه مؤلفاً للأُغنيات ولموسيقى الحجرة عموماً ولا يرقى لأن يكون مؤلفاً سيمفونياً”.

ومع ذلك، وعلى الرغم من غزارة انتاجه في هذا الباب إلا أن أكثر أعماله الفردية شهرةً هي عمل سيمفوني، “سيمفونيته غير المكتملة”.

إنها واحدةٌ من أَجمل القطع الموسيقية التي كُتبت خِلال العصر الرومنسي، حتى أن البعض يَنظر اليها كأول عمل سيمفوني رومنسي فعلي؛ بالنظر الى طبيعة تطورها الدرامي وألحانها الغنائية، فضلاً عن إتباعها داخل هذا النسيج العاطفي من الألحان الثيمة المميزة لموسيقى العصر الرومنسي أي الانتقال من جوٍ داكن مُظلم إلى جو مشرق برّاق.

على الرغم من كَونها عملاً غير منتهٍ إلا أنها كانت انموذجاً على عبقرية الملحن النمساوي فرانز شوبرت ، ورداً على من رأوا في شوبرت ملحناً للأُغنية الرفيعة “lieder” والاعمال الفردية والقصيرة، اما السيمفونية فهي عمل عملاق أكبر مما تستطيع موهبته أن تقدمه.

في ظل العملاق بيتهوفن :

كان شوبرت يناضل ضد استيائه المتزايد من الشكل السيمفوني الذي يكتبه “السيمفونيات الست السابقة”، فمن الواضح أنه كان يُريد كتابة شَيءٍ مُختلف عما كتبه في المرات السابقة.

وكحال الكثير من اللاحقين وَقع شوبرت تحت تأثير موسيقى العملاق بيتهوفن، لقد أعجب شوبرت طوال حياته ببيتهوفن كفنان وملحن، لكنه ومع ذلك لم يَشرع في تقليد الملحن أو تصميم موسيقاه مباشرة على موسيقى بيتهوفن. في الواقع، على الرغم من التأثيرات العرضية التي يمكن تتبعها في مؤلفات شوبرت المبكرة (مثل معظم الفنانين الشباب، كان يَدرس عددًا من المصادر المعترف بها كجزء من تدريبه المهني).

لقد شكلت النماذج الموسيقية التي أتى بها بيتهوفن وقارب بها الكمال نوعاً من العقدة الفنية التي سيرزح تحت وطأتها كل من سأتي بعد بيتهوفن؛ للمرة الاولى في التاريخ أصبح لدينا نماذج موسيقية افلاطونية، كانت بمثابة قفزة خارقة في مستوى التأليف السيمفوني، فقبل بيتهوفن “كان قالب السيمفونية ما يزال شكلًا موسيقيًا متواضعًا يُصنّع بالعشرات كتسلية أرستقراطية”.

ما فعله بيتهوفن في هذا الباب كان كافياً ليَمر كل من يحاول الكتابة السيمفونية الجادة بأزمة تأليفة، احتاج برامز على نبوغه وعبقربته الى أربعة عقود ليكتب أول عمل سيمفوني له، لقد خامر شكٌ في الذات الكثيرين، وهذا بسبب الحضور المهيب والمخيف لموسيقى بيتهوفن.

لم يكن شوبرت بالتالي استثناءًا فهو الاخر عانى كثيراً من وطأة موسيقى بيتهوفن، حتى أنه صرخ ذات مرة “مَن الذي يَستطيعُ فِعلَ أي شيءٍ من بعده”، لقد بَحث عن رده الفني الخاص على سيمفونيات بيتهوفن متحرراً من التاثيرات التي عرفتها أعماله السابقة (لاسيما من موتسارت). وهو رد من شأنه أن يضاهي بيتهوفن في طاقته الدارمية، ومع ذلك سيكون خالياً من أي تاثير أسلوبي مباشر، في النهاية صعد شوبرت الى مستوى التحدي لكنها كانت مهمة شاقة لم يتم انجاز جزء منها الا بعد محاولات عدة وبدايات خاطئة.

عن العمل :

في هذا العمل أدخل شوبرت لغةً جديدة الى عالم السيمفونية، عبر افكار لم يسبق أن استخدمت من قبل حتى من قبل مؤلفين كبيتهوفن، موتسارت، وهايدن.

وهو أمر يَظهر منذ بداية العمل مع اللحن الافتتاحي الشهير، الذي يُعزف عبر آلتي الآوبو والكلارينيت. ومن خلاله يُظهر شوبرت نوعاً من الجُرأة الفنية خاصةً مع اختياره لهذه الآلات لعزف اللحن وهو أمر نادر الاستخدام، فقلما نستمع للحن يعزف سوياً من خلال اجتماع هاتين الآلتين فذلك أمر لا يَنصح به الموزعون ولا كتب التوزيع والتأليف “ولكن حسنً فعل شوبرت باختياره لهاتين الآلتين اللتين تضيفان اجواءً خاصة”.

الحركة الاولى في سلم سي الصغير “B minor”، مكتوبة في شكل سوناتا تقليدية (A.B.A)، تفتتح عبر لحن خافت تلعبه الآلات الوترية يلي هذه المقدمة القصيرة الموضوع الاول الشهير المشترك بين الأوبو والكلارينيت في تصاعد درامي جميل باتجاه ذروة قصيرة ستتكرر طوال الحركة. يُمهد اثنين من الهورن الفرنسي الانتقال الى الموضوع الثاني في الحركة والذي يبدأ هو الآخر بلحن غنائي شهير هو من أجمل ما كتب شوبرت، يتم تقديمه أولا عبر آلة التشيلو ومن ثم ينتقل اللحن الى آلات الكمان في تناغم عاطفي لطيف.

سرعان ما تتم مقاطعة هذا الموضوع بصدمة عنيفة عبر جُمل موسيقية تتخللها لحظات توقف وتصاعد درامية تعزف بطريقة tutti sforzando  – “وهي تعليمات معينة للعب نوتة ما بطريقة مفاجئة وذات أثر قوي، تتشارك كل آلات الاوركسترا في لعبها”.

الأمر الذي يُفقد هذا اللحن انسابيته وتدفقه فيعود على شكل قِطع تفصل بينها صدمات عنيفة. بعد هذه السلسلة من الصدمات تستعيد آلات الكمان توازنها لتغني افتتاح الفكرة وتشاركها في ذلك آلات النفخ الخشبية. ومرة أخرى، تتم مقاطعة اللحن ما يبرز الاضطراب المتزايد. صراع هائل في الافكار يَخلق بيئة متناقضة بين الهياج والهدوء.

مع نهاية عرض الموضوعات يُعيد شوبرت مجدداً عرض المواضيع، وفي هذا الصدد يُشير قائد الاوركسترا الايطالي ريكاردو موتي إلى ضرورة توخي الحذر في تقديم هذا العمل لاسيما وأنه قائم على تكرار عرض الموضوعات :

“بمجرد أَن تُحقق البداية الضبابية للسيمفونية تأثيرها، تواجه الأوركسترا عَقبة حقيقية هنا، وهي الموضوع الأول. فمن أجل عدم الانزلاق إلى نمط روتيني ممل يتمثل بإعادة إنتاج وتكرار ما تم سماعه عدة مرات، من المهم، لا سيما مع مثل هذا التسلسل النغمي المعروف جيدًا، النظر بعناية شديدة في النص الموسيقي، وكما يوضح ريكاردو موتي : “تتمثل إحدى المشكلات في أنه يبدو ميكانيكيًا للغاية، لذى من الضروري أن يبدو وكأنه خط / نسق واحد “.”

ينتهي قسم العرض فتَظهر مادة انتقالية تقود الى قسم التطوير الذي يبدأ من آلات الكونترباص ومن ثم يبدأ التطوير والانماء بتصاعد لحني مطول باتجاه الذروة في نفس السلم الموسيقي، بدءًا من اشتقاق درامي للحن الافتتاحي تلعبه الأوركسترا الكاملة مع سيطرة بارزة لآلات النفخ النحاسية. ومن ثم تستأنف آلات النفخ الخشبية “الفلوت والباسون والأوبو” دورها اللحني في نهاية هذا الانفجار الدرامي، تمهيدا لقسم التلخيص.

والذي يتم فيه عادةً تكرار تقديم الافكار التي تم عرضها في قسم العرض من الحركه في محاولة التوفيق بين متناقضات القصة “الموضوع الاول والثاني”. ينتهي ختام قسم التلخيص بالعودة الى سلم سي الكبير مؤديا إلى كودا – “تقوم الكودا، كقاعدة عامة، على امتدادات أو إعادة تشكيل مادة موضوعية سمعت سابقًا” – يعود فيها شوبرت الى استحضار الموضع الاستهلالي للحركه الممهد لقسم العرض، حيث يبين لنا جوانب جديدة ومختلفة لم تعرض قبل من هذا اللحن.

استناداً إلى تقاليد الكتابة الموسيقية في العصر الكلاسيكي فالحركة الثانية لابد وأن تكون على النقيض من الطابع الدرامي للحركة الاولى في محاولةٍ لخلق نوع من التوازن، هنا لا توجد حدود لخيال الفنان الرومنسي؛ ‏تُمثل حركة “الأندانتي” نوعاً الإنفراج والخروج من العاصفة، انها حَركة غنائية تتدفق بعذوبة، ذات طابع رومنسي ‏فيه من والرقة والصفاء والعذوبة الكثير.

تتناوب الحركة الثانية بين موضوعين متناقضين في شكل سوناتينا “Sonatina“، – وهي نمط أقل تعقيداً من شكل السوناتا التقليدي، فهي أقصر وأخف في طبيعتها، أو من الناحية الفنية أكثر أولية، حيث تفتقر الى قسم التطوير، مع كودا ممتدة بهدوء، ذات سمة رثائية، يمكن وصفها بأنها قسم تطوير ختامي”.

عمل غير مكتمل : السر وراء عدم اكتماله :

في العام 1823م حصل شوبرت على شهادة فخرية من جمعية “غراتس” الموسيقية. وكتعبير عن شكره وإمتنانه أرسل شوبرت المخطط السيمفوني الذي كتبه في العام السابق لصديقه أنسيلم هوتنبرنر “Anselm Huttenbrenner“، مكرساً ايها للجمعية.

لكن الغريب أن هوتنبرنر لم يُعلم أحداً أنه يمتلك هذه القطعة الجديدة الرائعة ! ولم يحاول عرضها حتى.

لماذا ؟ أعتقد أنه اعتقد أن القطعة لم تنته بعد (والتي لم تكن كذلك بالفعل)، وكان في انتظار بقية القطعة. لكن الأجزاء الأخرى من السيمفونية لن تأت أبداً – مرت خمس سنوات، ثم توفي شوبرت في ذروة شبابه بشكل مأساوي. لكنه حتى بعد وفاة الملحن، لم يخبر أي شخص عن هذا العمل.

على أية حال، قدم هوتنبرنر العمل في النهاية لجمعية فيينا للموسيقى في عام 1865م (بعد 42 عامًا من منحها له !). قُدمت السيمفونية للمرة الأولى في ذلك العام في فيينا – لقد رأى العالم الآن ما كان شوبرت قادرًا عليه.

ومع ذلك فإن السؤال الأهم، بصرف النظر عن سلوك هوتنبرنر الغريب، هو لماذا لم يُنهي شوبرت السيمفونية ؟ إذ يبدو كما لو أنه أراد في الأصل أن يَكتب سيمفونية مكونة من أربع حركات، لكنه لم ينجح في إكمالها خلال 6 سنوات منذ بداية تأليفها في العام 1822م وحتى وفاته.

الإجابة المختصرة هي أَن أحدً لا يعرف السبب الكامن خلف عدم اتمامه العمل، وكل ما لدينا هو مجموعة من النظريات حول هذا السؤال الغامض، دعونا نُلقي نظرةً على بعضها :

حتى يومنا هذا، لا يزال علماء الموسيقى ومؤرخيها يختلفون حول سبب فشل شوبرت في إكمال السيمفونية. تكهن البعض أنه توقف عن العمل في خريف العام 1822م، بعد أن أتم كتابة الحركتين الأوليين، وهو الوقت الذي أصيب فيه بالمرض “الزهري – syphilis”، ولاحقاً حمى التيفؤيد التي ستقتله في نهاية المطاف. ونظراً لتدهور صحته على مر السنين وتراكم الديون عليه انتهى به الأمر الى الانشغال عنها.

ويرى البعض الآخر أن التوقف نابع من تشتته نتيجة انشغاله باتمام فانتازيا الرحال “Wanderer fantasy” للبيانو المنفرد، العمل الذي تطلب منه الكثير من الوقت والجهد.

إن اشتغال شوبرت على عديد من الأعمال الموسيقية في الوقت ذاته، خلق لدى البعض تصوراً عن سمعة تنظيمية سيئة عند شوبرت ، لذلك يُعتقد أن هذا الأخير كان قد أنهى (في الغالب) العمل، ولم يقم أبدًا بتجميع الأوراق معًا. وبموجب هذه النظرية، يُعتقد أن عملًا آخر لـ شوبرت تم تأليفه في الأصل باعتباره الحركة الرابعة. تم استخدام العمل كموسيقى افتتاحية للفصل الاول من مسرحية “روزاموند أميرة قبرص” – Rosamunde, Princess of Cyprus, D. 797: No. 1, Entr’acte No. 1

يَستند هذا الطرح الى التشابه المقامي لهذه الافتتاحية المكتوبة في ذات السلم الموسيقي للسيمفونية في سي الصغير، فضلاً عن التشابه في الأسلوب ونمط الالحان والتوزيع الموسيقي بينها وبين السيمفونية الناقصة ومدى صلاحية هذه المقطوعة لأن تكون خاتمة لعمل من العصر الكلاسيكي.

إحدى النظريات التي أعتقد أنها تحمل بعض الوزن هي أنه في حين أن الحركتين الأولى والثانية مجيدة، براقة، ومذهلة، فإن الحركة الثالثة التي كان قد بدأ بوضعها – اجزاء منها – “المفترض انها كانت سكيرتسو” كانت ذات نوعية رديئة ومملة اذا ما قورنت بسابقاتها. يرى الصحفي والناقد الموسيقي فالتر داهمس “Walter Dahms” في هذا الصدد أنّ شوبرت إذا لم يتابع التأليف لإكمالها فلأنّه لم يكن لديه ما يضيفه.

ربما استسلم شوبرت لأنه لم يستطع أن يجاري ما كتبه في النصف الأول من السيمفونية غير المكتملة. ربما أوحت له غريزته الموسيقية قائلةً “انظر، فرانز، هذه القطعة نموذجية بالفعل وكاملة – لا يمكنك إضافة أي شيء اليها، توقف عن المحاولة !”

 في النهاية وعلى الرغم من أنها تمثل لغزًا مثيرًا للتأمل، إلا انني أشعر أننا يجب أن نكون ممتنين لما تركه شوبرت لنا، وليس القلق بشأن “ما كان يمكن أن يكون”.


هامش:

تُعرف السيمفونيات المتأخرة لـ شوبرت بأسمائها الفرعية اكثر من ارقامها، نظرا لوجود نوع من الخلط في ترقيم سيمفونيات شوبرت . فالسابعة الغير منتهية ترقم بالسابعة عند الناطقين باللغة الالمانية والثامنة عند الناطقين بالانجليزية اما العظيمة فيكون ترقيمها بالتالي الثامنة او التاسعة.

مراجع :

* Conducting Schubert 8 “Unfinished” Symphony [analysis], Gianmaria Griglio.

* Symphony guide: Schubert’s Unfinished | Classical music | The Guardian

* BEETHOVEN AND SCHUBERT.

October 4, 2013 | Filed under: Essay and tagged with: Reid, Schubert

by Paul Reid.

* Schubert’s Unfinished Symphony – A Musical Mystery.

* صول | ثالثة بيتهوفن: سيمفونية لذكرى رجل عظيم