المدينة الأفلاطونية في الإسلام: المدينة الفاضلة للفارابي نموذجا – ترجمة: نورالدين علوش
08/05/2018
مع تلك النماذج التي أشرت إليها في الفصلين الثاني عشر والثالت عشر، حول حضور الأفكار السياسية للأفلاطونية المحدثة ،عند بعض مفكري اللاتين واليونانيين والبيزنطيين. اقترح دراسة نموذج اخر يمثل المشرق الاسلامي . وهذا النموذج يمثله الفارابي في كتابه “أراء أهل المدينة الفاضلة” الذي كتبه في أواخر حياته، حسب بعض المصادر بدأ تأليفه في نهاية مقامه ببغداد (941) وأنهاه بحلب 942/3.
هذا النموذج ليس المقصود منه بأي حال ،أن يحل محل الفلسفة السياسية الإسلامية الوسيطة.ولا أحاول دراسة الفلسفة السياسية للفارابي بالكامل؛ لأن تلك المحاولة تفترض مناقشة باقي كتبه الأخرى وعلاقتها بالمدينة الفاضلة. مع ذلك فالنموذج المختار ليس بدون دلالة.فالفارابي كما يعرف هو مؤسس الفلسفة السياسية في الإسلام ،وكتابه “المدينة الفاضلة” يعتبر مرجعية وذا تأثير كبير جدا.في هذا الفصل أود عرض المدينة الفاضلة التي عبر بها الفارابي عن السياق الإسلامي ،وكذا الأفكار الأفلاطونية المحدثة التي أعيد بنائها في بداية جزئي الكتاب .
لم تكن الفتوحات الإسلامية للمناطق الشرقية للإمبراطورية الرومانية بين 630 و 640 ,تهتم فقط بالمدن في مصر وسوريا ؛حيث استطاع الأفلاطونيون المحدثون الحفاظ على حياتهم، بالرغم من الاكراهات والصعوبات التي تعرضوا لها مثل مافعله جستينيان.بل كانت تهتم بحماية وإدماج وتوسيع تعاليمهم داخل الثقافة الاسلامية.
حيث تعاون السريان المسيحيون مع المسلمين، في ترجمة النصوص اليونانية؛ إما مباشرة أو عبر النسخ السريانية أو الفارسية,وهذا برنماج تم العمل به ببغداد بين القرنين الثامن والعاشر,الذي تضمن جزء مهم من الادب الفلسفي .
يمكن القول خاصة ،أن المناهج الدراسية المتبعة في المدارس الأفلاطونية المحدثة المتأخرة ،كانت معروفة في بغداد مثل المنطق،التعريفات الفلسفية لامونيوس وتلاميذه.وتراتبية الفضائل والعلوم والجمع بين أفلاطون وأرسطو، باعتبارها تمثل هذه العلوم وتعبر عن العالم بخلفية أفلاطونية محدثة . فالترجمات اليونانية وملخصات كتب أفلاطون وأرسطو ،تمت قراءتها مع الأفلاطونية المحدثة مثل ثيولوجيا أرسطو( في الاصل هي نسخة من تساعيات أفلوطين)والخير المحض( في الأصل هو نسخة من كتاب بروقلس عناصر الثيولوجيا).
هذين الكتابين أشرفا عليهما – الكندي ببغداد في القرن التاسع- ونصوصا أخرى أفلاطونية محدثة ،لفورفوريوس وسمبليسيوس وفيليوبونوس وكتب أخرى لم تتبق منها إلا النسخة العربية.
وهكذا يمكن ملاحظة الاستمرارية القوية بين ممارسة المدارس الأفلاطونية المحدثة المتأخرة، في القرن الخامس و السادس و بداية السابع ، وتطور الفلسفة في بغداد في القرنين التاسع والعاشر، بسبب التقدير الكبير الذي حظيت به لدى الفلسفة الإسلامية في بدايتها و اهتمامها بالفلسفة السياسية. كان الفارابي لديه معرفة عميقة بجمهورية أفلاطون وملخص الكتاب. كتب كثيرا حول الفلسفة السياسية، كما فعلت مدرسته والفلاسفة المسلمون اللاحقون،ولا سيما ابن رشد الذي علق على الجمهورية (670).
على الرغم من الظروف والشروط الخاصة، التي ساهمت بدون شك في التأكيد على الفلسفة السياسية في الإسلام.وإعادة بناء الفلسفة السياسية للأفلاطونية المحدثة التي اقترح في هذا الكتاب انها استمرارية في هذا المجال بين الافلاطوينة المحدثة اليونانية المتأخرة وبين الفلسفة الإسلامية في بدايتها ؛عوض ما تم افتراضه حتى اليوم .هذا الافتراض تأثر بالرأي التقليدي القائل: بان الأفلاطونية المحدثة اليونانية لم تهتم قط بالفلسفة السياسية .
يقدم الفارابي في كتابه “المدينة الفاضلة “كما سأوضح نموذجا لهذه الاستمرارية.في كل الاحتمالات ،فان الفارابي تأثر بالمصادر اليونانية .مع ذلك إذا افترضنا أن الافلاطوينة المحدثة لم تشترك مع المصالح السياسية لأفلاطون وأرسطو، وافترضنا أن أفلوطين وفورفوريوس لم تعجبهما الأفلاطونية السياسية ،وجب الاستنتاج أن مصدر الفارابي يوناني.إذا حددنا المرحلة الزمنية للعصور القديمة المتأخرة ،لا تنتمي إلى التيار الرئيسي للأفلاطونية المحدثة المتأخرة. لكن هذه الافتراضات يجب أن تكون واضحة وغير ثابتة، وأن الأفكار السياسية للفارابي قريبة جدا مما هو موجود عند الأفلاطونية المحدثة المتأخرة في بداية أجزاء كتابه.
الخلفية الميتافيزيقية
يبدأ كتاب المدينة الفاضلة للفارابي، بتفسير واضح لبنية الواقع انطلاقا من السبب الأول(الله).من خلال مستويات مختلفة للوجود تفيض عن السبب الأول، وصولا إلى عناصر العالم المادي والطبيعة البشرية.بهذه الحجة الصارمة التي تذكرنا بعناصر اللاهوت لبروقلس، يبدأ الفارابي في توضيح أن السبب الأول يجب أن يكون كاملا بإطلاق ,بريء من جميع أنحاء النقص، فوجوده أفضل الوجود وأقدم الوجود،فانه ليس بمادة وغير منقسم وواحد وعقل بالفعل يعقل ذاته .
كل شيء يفيض عنه في سلسلة متدرجة من المستويات المادية وغير المادية.هذا الفيض يعكس طبيعة المبدأ الأول بطرق مختلفة ، منها اربعة تستحق التركيز:
أ – جوهره جوهرا تفيض منه الموجودات ،من غير أن يخص بوجود دون وجوده فهو جواد وجوده هو في جوهره ويترتب عنه الموجودات ،ويتحصل لكل موجود قسطه من الوجود بحسب رتبته عنه.
ب ما يفيض عن المبدأ الأول ،مرتب في نظام تراتبي كما نجد في المقطع التالي:وجوهره أيضا جوهر إذا أفاضت منه الموجودات كلها بترتيب مراتبها حصل عنه لكل موجود قسطه الذي له من الوجود ومرتبته.فيبتدا من اكملها وجودا ثم يتلوه ما هو انقص منه قليلا ثم لايزال بعد ذلك يتلو الأنقص إلى أن ينتهي إلى الموجود الذي إن تخطى عنه إلى ما دونه تخطى الى ما لم يكن ان يوجد اصلا فتنقطع الموجودات من الوجود.
هذا النص لم يوضح بما فيه الكفاية، ما هوفي جوهر السبب الاول الذي يسلتزم انتاجه بطريقة هرمية ، لكن يمكن الافتراض ان هذا الكمال للمبدأ الأول، يمكن التعبير عنه ضرورة في نقص الموجودات التي تتطلب مجموعة من مراتبها.
ج هذا النظام التراتبي نجد تعبيره ايضا في العدل .
يترتب عنه الموجودات ،ويتحصل لكل موجود قسطه من الوجود بحسب رتبته عنه فهو عدل وعدالته في جوهره .
وهذا كما أشار إليه المبدأ الأفلاطوني المساواة الهندسية (التناسب) ،هذا ينطبق على الفارابي في حقول الميتافيزيقا والطبيعة والسياسة. بل هناك عدالة طبيعية لوحظت في تحول أربعة العناصر في ارتباط كل واحد مع أخر:كل مكون له حقوق ويتلقى بدوره مايستحق في التحول وهذا راجع الى عملية تفصيلية للتحول الكيميائي.
د – وأخيرا اذاحصلت الموجودات مرتبة في مراتبها، أن تأتلف وترتبط وتنتظم بعضها مع بعض ائتلافا وارتباطا وانتظاما تصير بها الأشياء الكثيرة جملة واحدة. ولبعض الأشياء تكون أحوال فيها تابعة لجوهرها مثل المحبة التي بها يرتبط الناس فانها حال فيهم وليست في جواهرهم التي بها وجودهم . وهذه ايضا مستفادة عن الاول.
من ثم يقدم الفارابي في نظام تنازلي، مراتب الأشياء المفارقة التي هي عشرة عقول تناسب عشرة أجسام سماوية. والعقل العاشر هو العقل الفعال الذي يخرج العقل البشري من القوة إلى الفعل.
فعالم ما تحت القمر هو الموجودات الطبيعية( الاسطقسات, المعادن ,النبات, الحيوان) والحيوان الناطق .
يمثل الانسان على النحو الذي يشكله التسلسل الهرمي لقوى النفس، كل قوة خاضعة لأخرى وتخدم القوة الأعلى منها . القوة الناطقة هي رئيسة كل القوى. هذا النظام الطبيعي في الطبيعة البشرية يعني أن غاية هذه الطبيعة هي غاية النفس الناطقة.
مع أن غاية العقل العملي تابعة للعقل النظري. غاية العقل النظري هي :
السعادة وهي أن تصير النفس من الكمال في الوجود إلى حيث لاتحتاج إلى قوامها إلى مادة.وذلك أن تصير في جملة الاشياء البريئة عن الاجسام وفي جملة الجواهر لمفارقة للمواد وان تبقى على تلك الحال دائما ابدا.إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال.
فهدف الإنسان في الحياة كعقل خالص( مثلما هو حال الأفلاطونية المحدثة اليونانية).
وهذه الحياة اقرب ما تكون إلى الحياة، التي يتمتع بها العقل المفارق.بهذا المعنى فهدف الإنسان هو التشبه بالله. فهذا المفهوم انتقل عبر التعاليق الأفلاطونية المحدثة المتأخرة إلى فلاسفة الإسلام وهي معروفة عندهم.
المدينة الفاضلة باعتبارها وسيلة للوصول إلى الهدف الإنساني
يتم الوصول إلى غاية الإنسان ،عن طريق ممارسة الفضائل التي تتم في إطار مجتمعي.وبالتالي فان التنظيم السياسي مطلوب ،ليس فقط لحماية الإنسان، ولكن أيضا وسيلة للوصول إلى الكمال الأقصى.قد تؤدي المدينة الفاضلة دورا في البناء الأخلاقي ،وتؤدي إلى تقدم في الفضيلة المؤدية الى السعادة.
وأهل المدينة الفاضلة لهم أشياء مشتركة ،يعلمونها ويفعلونها وأشياء أخر من علم وعمل ،يخص كل رتبة وكل واحد منهم انما يصير كل واحد في حد السعادة؛ بهذين اعني المشترك له ولغيره معا وبالذي يخص أهل المرتبة التي هو منها
ومن ثم تظهر السعادة الإنسانية في ثلاث مبادئ ميتافيزيقية: الاتصال والعدل والترابية.
وينطبق الامر على السياق السياسي، للأفعال الفاضلة عبر أية سعادة تبحث عنها.
للوصول إلى الفضيلة العليا والسعادة القصوى، يتطلب إقامة المدينة الفاضلة . يميز الفارابي بين مدن فاضلة تسعى إلى السعادة في الاخرة ،ومدن تبحث عن أهداف دنيوية .
في الحديث عن الاجتماعات الفاضلة يميز الفارابي بين الكاملة وغير الكاملة.
وغير الكاملة اجتماع أهل القرية ،واجتماع اهل المحلة، واجتماع سكة ثم اجتماع أي منزل ،والمحلة والقرية هما جميعا أهل المدينة .
ما يميز المدن الفاضلة عن الجاهلية هي الغاية.فالمدينة الفاضلة غايتها تحقيق السعادة، أما المدن الجاهلية ،فغاياتها تحقيق اللذة أو اليسار أو الكرامة.المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح ،الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان والحفاظ عليه وكذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطرة متفاضلة الهيئات .وهذا يؤكد حضور مبدأ أفلاطون في المساواة التناسبية.
في كتابه فصول منتزعة يقدم الفارابي خمس طبقات لمدينته: الحكماء – رجال الدين والخطباء والشعراء- الرياضيون- الجنود- الفلاحون.
ويمكن مقارنة المراكز الثلاثة الأولى ،مع مجموعة الحراس في جمهورية أفلاطون، والتي من شأنها أن تعطينا بعد ذلك البنية الثلاثية ( الحراس المساعدون المنتجون) للمدينةالافلاطونية.
يؤكد الفارابي في المدينة الفاضلة ،على البنية الملكية التراتبية للمدينة، كما نجدها في البنية الميتافيزيقية للحقيقة ،حيث تعتبر المدينة الفاضلة محاكية لها.
فمواطني المدينة الفاضلة ،في مختلف مراتبهم يحاكون رئيسهم؛ كما تحاكي الموجودات الطبيعية السبب الاول. إلا أن البينة الملكية للمدينة لايترتب عنها وجود حاكم واحد ،بل يمكن أن يكونوا عدة حكام.
على ضوء جمهورية أفلاطون نتساءل، اذاكانت ثمة امرأة بين هؤلاء الحكام لم يناقش الفارابي هذه الإمكانية في المدينة الفاضلة.لكنها غير مستبعدة مبدئيا لأن الفارابي قال بمساواة المرأة مع الرجل في القدرات المعرفية ” أما في القوة الحاسة وفي المتخيلة وفي الناطقة فليسا يختلفان”.
حاكم المدينة الفاضلة
حاكم المدينة الفاضلة يجب أن يكون أفضل مواطن، ويتمتع بدرجة عالية من الصفات الاخلاقية والطبيعية والعقلية .حتى يصبح قدوة لمواطنيه وهو الفيلسوف الحقيقي الذي أصبح عقلا بالفعل ؛ بهذا يصل الحاكم إلى درجة عالية من السعادة الإنسانية والاقتراب أكثر من حياة العقل الفعال التي يمكن مقارنتها بالتشبه الإلهي الموجودة عند فلاسفة الأفلاطونية المحدثة.
ان تتشبه بالإله هو وسيلة عند الأفلاطونية المحدثة, ليس فقط بتوجيه الحكمة النظرية ,بل كذلك ممارسة دورا سياسيا, بما إن الإلهي لايستمتع فقط بكماله العقلي بل أيضا من خلال ممارسة العناية الإلهية.نفس التأويل للتشبه الإلهي النظري والعملي نجده في بداية الفلسفة الإسلامية ؛كما نجده عند حاكم المدينة الفاضلة للفارابي الذي لايتمتع فقط بالحكمة النظرية .بل القدرة على استعمال الحكمة لمصلحة الاخرين.
يجب ان نميز في هذه اللحظة ,بين القدرة السياسية لحاكم المدينة الفاضلة وبين الاستعمال الآني لهذه القدرة.متأثرا بكتاب السياسي لأفلاطون ،نجد الفارابي يصف الحاكم بأنه ملك سواء حكم أم لا، بما أن العلم الملكي يجعل منه ملكا .نستنتج ان السعادة الشخصية للحاكم تتمن الحكمة النظرية والعملية.سواء أكانت الحكمة العملية مناسبة للتطبيق السياسي.حرم على الفاضل من الناس المقام في السياسات الفاسدة ووجبت عليه الهجرة إلى المدن الفاضلة.
دعونا ننظر بمزيد من التفصيل، في الحكمة النظرية والعملية التي يمتلكها الفيلسوف الملك. الجانب النظري ينطوي على المعرفة الميتافيزيقية مثل تلك الموجزة أعلاه في القسم الأول وهي الحكمة التي تشمل معرفة الغاية من الطبيعة البشرية. أن تصبح عقلا بالفعل بمساعدة العقل الفعال ، حيث يتلقى الحاكم المعرفة من قبل العقل الفعال . بتقبله لهذه المعرفة يكون الملك الفيلسوف إماما ونبيا ومشرعا.هذا يعني أن الملك الفيلسوف يتوفر على الحكمة العملية.وهي حكمة تتعلق بالوسائل التي بإمكانها الوصول إلى غاية الإنسان وهي حكمة أيضا تستلزم قدرة تشريعية لبلورة قوانين تؤدي إلى سعادة الناس .وبالتالي فالقوانين تشكل جزء من الحكمة العملية ,التي تاخد في الاعتبار الحوادث العارضة للزمان والمكان ,في العلاقة مع السعادة التي تساهم في تحقيقها.
فوجود مثل هذا الحاكم نادر. مع ذلك هذا الحاكم كان يمثل نبي الإسلام محمد ص .لكن هناك حكاما من الدرجة الثانية ،وجب أن يكونوا عالمين وحافظين للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون ، محتذين بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها وان يكون لهم جودة استنباط في ما لايحفظ عن السلف فيه شريعة ويكون فيما يستنبطهم من ذلك محتذيا حذو الأئمة الأولين .
ننبه في هذا المستوى تقريبا ،تباين الحكام الفضلاء بين الملك الفيلسوف الفاضل في الجمهورية والتدبير الدستوري لثاني أفضل مدينة في القوانين.
الملة في المدينة الفاضلة
كما هو مبين في المدينة الفاضلة ،تمثل الحقائق التي ينبغي أن يعرفها المواطنون.هذه الحقائق تعرف بأحد الوجهين إما أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة وإما أن ترتسم فيها بالمناسبة والتمثيل فحكماء المدينة الفاضلة ومن يلي الحكماء يعرفون هذه على ما عليه موجودة والباقون منهم يعرفونها بالمثالات التي تحاكيها وتحاكي هذه الاشياء لكل امة ولأهل كل مدينة بالمثالات التي عندهم وهذه المثالات المحاكية تتناسب مع الملة .
تجد أراء ميتافزيقية خاطئة تعبيرها في الملة الخاطئة ،وتجد الآراء الميتافزيقية الصحيحة تعبيرها في الملة الصحيحة. وبالتالي مرفوضة من قبل أتباع الآراء الخاطئة حول العالم.
الملة محاكية للفلسفة، يستعملها حكام المدينة الفاضلة للإقناع السياسي للمواطنين الغير القادرين على إدراك الحقائق الفلسفية.
فالتوظيف السياسي للملة في المدينة الفاضلة، شبيه بالدور الذي تلعبه الملة في كتاب القوانين لأفلاطون هذا الدور الذي أعادت بنائه الأفلاطونية المحدثة المتأخرة على سبيل المثال كتاب الامبراطور جوليان . الأساطير الدينية الموجوة في كتابات أفلاطون مثل جورجياس وبروتاغوراس والندوة ؛ تم اعتبارها من قبل بروقلس تمثيلات رمزية للحقائق الميتافيزيقية التي يمكن معرفتها عن طريق مستوى عالي ومباشر للجدل.
الفائدة السياسية لهذه الأساطير الدينية ،باعتبارها تمثلات رمزية للواقع ؛تناسب في الحقيقة البناء الأخلاقي للمواطنين بل حتى للاطفال وهذا واضح عند جوليان.
كما هناك أساطير باطلة سياسيا عند أفلاطون ، وجب تصحيحها حتى نعبر عن الحقائق الفلسفية الصحيحة ،ثم عند الفارابي الاراءالدينية الخاطئة تعبر عن ميتافيزيقا خاطئة ،وأراء دينية صحيحة تعبر عن الفلسفة الصحيحة التي هي أساس السعادة الإنسانية في المدينة الفاصلة.
خلاصة
من الواضح أن مشروع المدينة الفاضلة للفارابي، مرتبط بسياقه التاريخي وبتساؤلات مثل الإمام والنبي والتأويل والتعبير السياسي عن ارث النبي.ميتافيزيقا الفارابي تعبر عن تطور الفلسفة الإسلامية، ولاسيما قراءة الأفلاطونية المحدثة برؤية أرسطية التي ترى أن السبب الأول هو عقل بالفعل يدرك ذاته ويفكر فيها. في حين أن الأفلاطونية المحدثة اليونانية ترى تعالي السبب الاول، وراء كل اشكال التعقل هو مؤكد جدا.
مع ذلك فان مشروع الفارابي السياسي في جميع النواحي الرئيسية، يتوافق مع الافلاطوينة المحدثة المتاخرة التي أعيد بناؤها في هذا الكتاب ،ووضحت في الحوار المجهول “العلم المدني و التحول الكنسي المسيحي من خلال رسائلpseudo-Dionysius .والنقاط المشتركة بينهم كالتالي:
أولا: تعكس البنية السياسية على المستوى الإنساني ،المبادئ المهيكلة للحقيقة الميتافيزيقية والطبيعية وهي مثال لها.
المبادئ الميتافيزيقية للجود ،التراتبية والعدل هي ما يعمل بها المجتمع في كل الأنحاء. الفارابي في كتابه المدينة الفاضلة، يعبر بوضوح عن ما قدمه برقلس وباقي الأفلاطونيون المحدثون.
تسترشد المدينة الفاضلة بطريقة تنظيم العالم المادي والطبيعي.
ثانيا: دور المدينة الفاضلة هو الوصول إلى هدف مفارق: أي الحياة العقلية التي تمثل درجة عليا للسعادة الإنسانية.التي تتشبه بالحياة الإلهية. هذه الغاية يمكن الوصول إليها عبر الحياة فاضلة في إطار سياسي يعزز الأفعال الفاضلة.
يشدد الفارابي على أهمية النظام السياسي ، ونطاق درجاته من خلال مستويات عليا للتقرب من السعادة التي يمكن الوصول إليها ؛التي تذكرنا أكثر بالمقاربة التدريجية ليامبليخوس وأي أفلاطوني محدث يوناني من مقاربة افلوطين الذي لم يهتم كثيرا بالحياة السياسية .
ثالتا :استلهم الفارابي الملك الفيلسوف من الافلاطوينة المحدثة اليونانية، الذي يوحى اليه عن طريق العقل الفعال.هذا الوحي يتلقاه الفلاسفة عندما يصلون الى مرحلة عليا من المعرفة و يحيون بالسعادة ويتحركون اليها في العمل السياسي ؛تلك الظروف تسمح لهم بمحاكاة العناية الالهية .
يميز الفاربي بين مستويات الكمال للحكام ، من الرئيس الاول الذي يندروجوده، الى الرئيس الثاني؛ وهذاممكن مقارنته بتاويلات افلاطونية محدثة لكتابا الجمهورية والقوانينن.
رابعا :ان الدور السياسي للاراء الدينية للفاربي يذكرنا،ليس فقط بافلاطون ولكن بتأويلات افلاطونية محدثة متاخرة لطبيعة ودور الاساطير الدينية .
بالاضافة الى مقارنات اشرت اليها في الصفحات السابقة .لكن ربما نلخص أن الفارابي في كتابه المدينة الفاضلة ،عبر بوضوح عن تكييفه الفلسفة السياسية للافلاطونية المحدثة المتاخرة ؛لكن اذا كان الامر هكذا، فان كان تابعا لمصدر يوناني قديم متاخر فهذا المصدر لاينتمي الى التيار الرئيسي للافلاطونية المحدثة اليونانية المتاخرة .
لأسباب هي :أ- الفاربي لا يمثل تياراللاهوت السلبي، فهو يعرف الله كعقل وليس الواحد الافلوطيني غير الفعال.ب يفضل علم الفلك بطليموس على علم الفلك الارسطي برؤية بروقلس .
ج يرفض التعصب المتطرف ازاء الحياة الاخرة.
د – يرفض الصوفية الافلاطونية ,بإخضاعه قوى التخيل إلى العقل .
مع ذلك فلا واحدة من الحجج مقنعة . أ – اعتبار الله عقل وليس واحد ليس له تاثير على النظرية السياسية .
تدير نفس المبادئ الميتافزيقية المدينة الفاضلة ،سواء كان المبدأ الاول عقلا أو واحدا.
أماالحجة الثانية ب – فلا تناقش سؤال مصدر الفلسفة السياسية للفارابي.
رفض الفاربي موقف الافلاطونية المحدثة من الحياة الاخرى .
ج- هذا ينطبق على بداية الافلاطونية المحدثة، مثل افلوطين وفورفوريوس اكثر من الافلاطونية المحدثة اليونانية المتاخرة ،التي تكلمت كثيرا حول النفس والبدن واعطت أهمية كبيرة للشروط المادية التي تحكم النفس في عودتها الى سعادتها.
فنقاش الفارابي حول الحياة الاخرة ،يتوافق مع بعض اتجاهات الافلاطونية مثل فورفريوس اكثر من اخرين.
د – الحجة الاخيرة لاتكف تماما .لاتعطي اهمية كبيرة لسؤال مصدر افكار سياسية للفاربي ،وتقترح اختلافات قد تكون نسبية:الصوفية الافلاطونية تجد مكانا بعيدا خلف مشروع التأليه السياسي .والسبب هو تفوقها على التمثل الرمزي عند الافلاطونية المحدثة كذلك.
بالنظر إلى هذه الحجج، يمكن القول باننا لايمكن أن نتوقع كل التفاصيل في المدينة الفاضلة ،قد تكون متوافقة مع مصدر يوناني واحد افتراضي . يجب أن نتوقع تأويله وتكييفه لمصدره أو مصادره في ارتباط مع دورها في السياق الاسلامي وتاريخ الفلسفة الاسلامية. ربما اقوى حجة ضد افتراض أن الفاربي في مدينته الفاضلة، كيف الفلسفة السياسية للأفلاطونية المحدثة المتأخرة هو الاعتقاد بأن هذه الفلسفة غير موجودة ، لكن هذا الاقتراح يجب التخلي عنه.