يمكنك معرفة ما يقدّره المجتمع بمعرفة ماالذي يمكنهم أن يذهبوا الى الحرب من أجله. في القرن السابع عشر، خضنا حروبنا من أجل الدين. في التاسع عشر، كانت من أجل الإمبراطورية. في العشرين والواحد والعشرين، قاتلنا حروبنا من اجل الحرية -إما الدفاع عن حريتنا أو محاولة تصدير نسختنا منها إلى أجزاء أخرى من العالم.
نميل، بالطبع، إلى افتراض أننا نعرف ما هي الحرية: الحرية لفعل ما نحب طالما أنه لا يؤذي الآخرين. لكننا نادرا ماندرك أن هذا التعريف للحرية حديث جدا.
إن جون ستيوارت ميل، الطفل النابغة، والإداري الاستعماري والفيلسوف، هو أحد المهندسين الأساسيين لأفكارنا المعاصرة عن الحرية. نُشِر بعد وفاته بوقت قصير، كتابه “الحرية”، وكان على حد قوله، عبارة عن استكشاف لطبيعة “طبيعة وحدود السلطة التي يمكن أن يمارسها المجتمع شرعياً على الفرد”. وتشتهر جدليّة ميل المعروفة بأن السبب الوحيد للتدخل في حرية تصرف شخص آخر هو حمايتهم من الأذى الجسدي. إنه ليس من المبرر أبداً التدخل في حرية شخص آخر لضمان سعادته أو حِكمته أو رفاهه لأن ذلك يعني تحديد ماهية رفاهية ذلك الشخص. تُعرَّف الحرية بأنها حرية الضمير، الأفكار، المشاعر والرأي، مثلما هي أيضا حرية الأذواق والمساعي التي نتبعها …أن نفعل ما نحب … دون عائق من رفقائنا المخلوقات، طالما أن ما نفعله لا يؤذيهم”.
ميل واحد من أبطال محاربة المطابقة (إتباع معايير المجتمع وتقاليده) في الفكر والعمل. ففي نظره لو كان هناك شخص واحد لديه رأي خاص في حين أن كل شخص آخر في العالم يعتقد عكس رأيه، لن يكون هناك أي مبرر لإسكات ذلك الصوت الوحيد. بالنسبة إلى ميل، فإن أحد المكونات الرئيسية للتقدم الاجتماعي هو التحرر من التقاليد والعادات التي يفرضها الآخرون، والتي تقيد ثقافة الفردانية، والتي بدورها “هي واحدة من العناصر الأساسية للرفاهية”. الحرية الفردية أمر حيوي، ليس فقط من أجل الفرد، ولكن من أجل التقدم الإنساني. بدونها لن يكون هناك أصالة أو عبقرية، ولن توجد اكتشافات جديدة أو ابتكار. لا يمكن للحضارة التقدم دون درجة من الحرية الفردانية التي تشجع على التعبير التلقائي، وتطوير الأفكار والأفكار الجديدة غير المقيدة بأنماط الماضي.
إنها حجة قوية. (في الحرية) كتابٌ مليء بالخوف من المطابقة الاجتماعية الفيكتورية –أن يكون رد فعل الفرد مطابقا لمعايير مجتمع خانق ذي درجة عالية من السيطرة الاجتماعية. إنه يبدو كتاب العصر في وقته، بافتراض التفوق الثقافي لعصر الحداثة. كما أنه يتنفس نخبوية تنظر بازدراء لوسطية ما يسميه “الرجال العاديين”.
لكن أكثر من ذلك، أعتقد أن هناك خللاً أعمق في طريقة تفكيره حول الحرية. إذا كانت الحرية في الأساس هي حريتي في أن أقول أو أفعل ما أحب، ما دمت لا أخطو على أصابع جارتي، فسوف تصبح جارتي تحديدا في أحسن الأحوال؛ وفي أسوأ الأحوال، تهديدا لحريتي. قد يكون هناك كل أنواع الأشياء التي أريد القيام بها -عزف موسيقاي بصوت عالٍ في ليلة صيفية، أو قيادة سيارتي بسرعة 100 ميل في الساعة على طريق هادئ في الضواحي -لكنني لا أستطيع لأنني قد أزعج سلام جارتي أو أتعرض لخطر الاصطدام من حافلة قادمة. والأسوأ من ذلك، قد ترغب جارتي في عزف موسيقى عالية جداً بالنسبة لي، أو قيادة سيارتها بسرعة كبيرة في حارتي، وبالتالي فهي تعتدي على مساحتي الشخصية.
هذا النهج يحافظ على السلام بيننا ولكن على حساب جعلنا نرى بعضنا البعض كقيود مزعجة لرغباتنا -والتي تحدد بالطبع أهدافنا المختارة ذاتياً في الحياة -أو التهديدات لاستقلالنا النفيس.
يجادل عالم الاجتماع الألماني هارموت روزا بأن “المبدأ الأخلاقي الذي يوجه موضوعات عصر الحداثة ليس تعريفًا خاصًا أو جوهريًا للحياة الجيدة، ولكن التطلع إلى الحصول على الموارد الضرورية للإبقاء على حياة جيّدة”. بعبارة أخرى، في العالم الفرداني الذي تخيله ميل، كلنا تركنا لنحلم أحلامنا الخاصة، واختيار طموحاتنا الخاصة، وأصبحنا محاصرين في الكفاح من أجل المال، والحقوق، والأصدقاء، والمظهر، والصحة، والمعرفة التي ستمكننا من الوصول إلى وجهتنا المختارة ذاتيا. وبالتالي تجعلنا منافسين مع بعضنا البعض، ليس فقط رؤية بعضنا البعض كمتنافسين في هذا السباق للحصول على الموارد، ولكن أيضا أن يرى بعضنا بعضا كتهديد محتمل قد يقف في طريق حريتنا في السعي وراء أحلامنا.
ومع ذلك، هناك نظرة أخرى أقدم، عن الحرية. هذه النظرة البديلة تتجذر في الشخصية وعبر الفضيلة أكثر من تجذّرها في الأهداف الشخصية الفردانية. هذه النسخة من الحرية التي نجدها في الأدب الكلاسيكي، لا ترى الحرية كحرية من القيود والتوقعات الاجتماعية التي تمنعنا من اتباع رغباتنا المختارة ذاتيا، ولكن التحرر من “العواطف”. ينظر اليونانيون إلى الروح وكأنها سفينة ينبغي أن تبحر بهدوء نحو موانئ هذه الفضائل كالحكمة والشجاعة والاعتدال. تسترشد السفينة في هذه الرحلة من paideia –التي يقصد بها التربية الأخلاقية أو التربية على الفضيلة -ولكن في نفس الوقت تتعرض السفينة لرياحٍ من دوافع غير عقلانية ومدمرةٍ مثل الحسد والغضب أو الشهوة التي تهدد من عصفها إلى خارج المسار. بالنسبة لهم، فإن رغباتنا العاطفية ليست الدليل الأخلاقي المقدس إلى ذواتنا الحقيقية، بل هي إلهاءٌ عن الطريق الحقيقي للفضيلة.
تم تطوير هذا النسخة من مفهوم الحرية من قبل المفكرين المسيحيين مثل سانت بول، والقديس أوغسطين وسانت توماس الأكويني. بالنسبة إليهم، الحرية الحقيقية هي الحرية من أي شيء يمنعنا من أن نصبح الشخص الذي خلقنا لكي نكون عليه: شخصٌ قادر على الحب لما هو خارجنا -للرب وجارنا. الحرية الحقيقية هي، إذن، الحرية من الحوافز الداخلية مثل الجشع، الكسل أو الكبرياء التي تقوقعنا على أنفسنا بدلاً من نتجه إلى الخارج نحو الرب ونحو بعضنا البعض. كما أنها تحررٌ من القوى الخارجية مثل الفقر المدقع الذي يتسبب في الإغراء للسرقة من أجل البقاء، أو الاقتصاد الذي يخبرنا باستمرار أن سر الحياة باكتساب المزيد من الأشياء. إنها ليست حرية كبيرة لأنفسنا، بل حرية ( من أنفسنا):
التحرر من الرغبات المتمحورة حول الذات، أو الاستيعاب الذاتي المشوه الذي يجعلنا نفكر فقط في مصالحنا الخاصة. إن الحرية هي خلق نوع المجتمع الذي نشعر فيه بالقلق إزاء رفاهية جيراننا أكثر من رفاهيتنا.
في وجهة النظر هذه عن الحرية، لا تصبح جارتي قيدًا أو تهديدًا، بل هدية -شخصًا لا يمكن أن أصبح بدونه شخصًا قادرًا على الإحساس الأساسي بفضيلة الحب. لنصوغها بشكل صريح، إذا كنت سأصبح شخصًا قادرًا على الحب الذي يتمحور حول الآخرين، فأنا بحاجة إلى شخص ما لأمارس هذا الحب عليه! إنها تقدم رؤيةً للمجتمع حيث يمكنك أن تثق بأشخاص آخرين لرعاية احتياجاتك، لأنهم يبحثون عن احتياجاتكم في الوقت ذاته الذي تبحثون فيه عن احتياجاتهم.
إنها أيضاً رؤية للحرية التي يمكن أن نقول بانها تقدم السعادة الشخصية بشكل أفضل من النظرة التحررية. أن تصبح الشخص الذي تعلّم، كما قال القديس بولس ذات مرة، “لا تنظر إلى مصلحتك الخاصة، بل إلى مصالح الآخرين”، هي وصفة للعلاقات والرضا السليمة بدلاً من العزلة المتزايدة للحياة الحديثة. إن تحمل المسؤولية للبحث عن احتياجات جيراننا لا يشكل بالتالي قيدا على حريتنا بل هو وسيلة لها.
ربما يكون لدى ميل نقطة في المعاناة من كبت التقاليد المحافظة في بريطانيا الفيكتورية، ولكن في عصر تزايد الوحدة والعزلة والقلق، فإن نظرته إلى الحرية لا تساعد في بناء الأحياء أو العائلات أو المجتمعات الجيدة. نحن بحاجة إلى نسخة أفضل: نسخة تجمعنا، بدلاً من أن تفرقنا.