مجلة حكمة
الثقافة الأوروبية الفريدة

ما الذي يجعل الثقافة الأوروبية فريدة؟

الكاتبكيفين ماكدونلد
ترجمةتقي الدين بن فيفي

       بشكل عام، فإن فرادة الثقافة قد تنبع إما من الطبيعة أو من الرعاية – نفس التقسيم القديم الدائم، غير أنني أعتقد أننا الآن في وضعية أفضل من السابق للتعامل مع هذه المسائل، وسأجادل أن كليهما مهم. لقد عرفت الثقافة الغربية تحولات ثقافية فريدة لم تكن لأي نظرية بيولوجية/تطورية أن تتنبأ بها، لكنها عرفت أيضا تاريخا تطوريا فريدا. بُنيت الثقافة الغربية من طرف أناس مختلفين جينيا عن أولئك الذي بنو حضارات وثقافات العالم الأخرى. وفيما يأتي سأناقش فرادة وضع الثقافات الأوروبية بالمقارنة مع الحضارات التقليدية الأخرى:

  • الكنيسة الكاثوليكية والمسيحية.

  • النزعة نحو الزواج الأحادي.

  • النزعة نحو عائلة بسيطة مبنية على الأسرة النواة.

  • النزعة أكبر نحو زواج مصاحب ومبني على مودة متبادلة بين الزوجين.

  • عدم التركيز على علاقات القرابة الممتدة وما يتعلق بها، أو النقص النسبي للمركزية العرقية.

  • النزعة نحو الفردانية وكل آثارها: حقوق الفرد ضد الدولة، والحكومة التمثيلية، والعالمية الأخلاقية، والعلم.


إن خلفيتي تكمن في مجال البيولوجيا التطورية، ومن بين الأسئلة الأولى التي استوقفتني حينما تعرضت لنظرية التطور الجنسية كانت “لماذا كانت الثقافات الأوروبية أحادية الزواج؟

 نظرية التطور الجنسية بسيطة للغاية: يتوجب على الإناث الاستثمار بشكل كبير في التكاثر –الحمل، والرضاعة، وغالبا تقتضي رعاية الأطفال قدرا استثنائيا من الوقت. ونتيجة لذلك، فإن تكاثر الإناث محدود للغاية. حتى تحت أفضل الظروف التي يمكن أن تحيط بالمرأة، لنقل، 20 طفل. إلا أن فعل التكاثر هيّن بالنسبة للرجال. ونتيجة لذلك، يستفيد الرجال من تعدد الأزواج، وإن كان يُتوقع أن الرجال الأثرياء والأقوياء يتوجب عليهم استعمال ثروتهم وقوتهم لتأمين أكبر قدر ممكن من الأزواج. باختصار، فإن تعدد الأزواج المكثف من طرف الرجال الأثرياء والأقوياء هو الاستراتيجية الأمثل للرجال. بمعنى، أنه سلوك يحسن نجاح الرجل التكاثري إلى أبعد حد.

إن النظرية مدعمة جدا، هناك ترابط قوي بين الثروة ونجاح التكاثر في المجتمعات التقليدية في كل أرجاء العالم, يمكن للرجال الأثرياء والأقوياء التحكم في عدد كبير من الإناث. كان للرجال الصفوة في كل الحضارات التقليدية عبر العالم، بما فيها حضارة الصين، والهند، والمجتمعات الإسلامية، وحضارات العالم الحديث، ومصر القديمة وإسرائيل القديمة، آلاف أو ربما مئات الآلاف من الخليلات. في جنوب صحراء افريقيا الكبرى، كانت النساء عموما قادرات على تربية الأولاد من غير دعم الأب. وكانت النتيجة تدني مستوى الزواج المتعدد حيث تنافس الرجال على التحكم في أكبر عدد ممكن من النساء. وكان أبناء هذه العلاقات شرعيين. بإمكانهم وراثة الممتلكات ولم يتم احتقارهم من طرف العامة. كان للإمبراطور الصيني آلاف الخليلات، وفي موسوعة غينيس للأرقام القياسية فإن السلطان المغربي كان له 888 ابنا.

وللتأكيد، فهناك مجتمعات أخرى حيث يكون الزواج المتعدد هو المبدأ. من المتعارف عليه التفريق بين الزواج الأحادي المفروض إيكولوجياً عن الزواج الأحادي المفروض اجتماعيا. بشكل عام، فإن الزواج الأحادي المفروض إيكولوجياً يتواجد في المجتمعات التي أُجبِرت على التكيف مع ظروف البيئة القاسية مثل ظروف الصحاري والقطب الشمالي.[1] تحت ظروف قاسية مثل هذه، فإنه يستحيل على الذكور التحكم في الإناث الزائدة لأن الاستثمار في كل ذكر يجب أن يكون موجها لأبناء امرأة واحدة. الفكرة الأساسية هي أنه تحت الظروف القاسية قد لا يكون باستطاعة المرأة رعاية الأبناء بنفسها إنما ستكون بحاجة لدعم من الذكر. إن كانت هذه الظروف قد استمرت لزمن تطوري مهم، فإن المرء قد يخلص إلى أن السكان قد يطورون نزعة نحو الزواج الأحادي. في الواقع، قد يتصور المرء أن الميل نحو الزواج الأحادي قد يصبح قويا لدرجة أنه قد ينبثق عنه ميولات نفسية وثقافية اتجاه الزواج الأحادي حتى في وجه تغيرات الظروف البيئية . فيما بعد سأقترح أن هذا ما حدث بالتحديد مع تطور الأوروبيين.

يستعمل ريتشارد ألكسندر مصطلح “الزواج الاحادي المفروض اجتماعيا””socially imposed monogamy” (SIM) ليشير إلى وضعيات حيث ظهر الزواج الأحادي حتى في ظل غياب الظروف البيئية القاسية.[2] تعني الظروف القاسية أن الرجال بحاجة إلى رعاية الأبناء بشكل مباشر، لكن في مواقف أخرى فإننا نتوقع ونجد بصفة عامة أن الذكور يتنافسون للحصول على أكبر قدر يمكن طلبه من الزوجات.

المثال الأول عن فرادة الغرب

في حين تميزت كل الثقافات المتقدمة اقتصاديا في العالم بالزواج المتعدد من خلال الذكور الناجحين، كانت للمجتمعات الغربية ابتداء من الإغريق والرومان إلى غاية الحاضر نزعة قوية نحو الزواج الأحادي.

كانت لروما القديمة مؤسسات سياسية مختلفة ودعم إيديولوجي ينزعان إلى الزواج الأحادي.[3] إن أصول الزواج الأحادي المفروض اجتماعيا في روما قد فقدت في التاريخ، إلا أنه قد كانت هناك بعض الميكانيزمات للحفاظ على  الزواج الأحادي، بما في ذلك القوانين التي قلصت الوضع القانوني للأبناء المولودين خارج الزواج الأحادي، والأعراف المعارضة للطلاق، والمواقف الاجتماعية السلبية نحو السلوكات الجنسية غير الملائمة، والأيديولوجيا الدينية للاحتشام الجنسي لأحاديّي الأزواج. تنوع هذه الميكانيزمات استمر عبر تاريخ الغرب إلى غاية الحاضر.

خلال فترة الجمهورية الرومانية، كانت هناك أيضا ميكانيزمات منعت الاستبداد السياسي من طرف أية عائلة ارستقراطية، بما في ذلك تقليل العهدة للقنصليين، وإلى قنصلين اثنين في نفس الوقت. إن المتطلبات القانونية للتمثيل السياسي للأنظمة السفلى قد تطورت بشكل تدريجي. مثلا، مناصب الدهماء, كان هناك إلى جانب هذا قوانين شاملة تمنع زواج الأقارب. هذه القوانين منعت التركيز على الثراء داخل مجموعات الأقارب وهكذا تم منع هيمنة أي عائلة ارستقراطية.[4]

أصبحت المعارك حول الزواج الأحادي سمة مهمة للعصور الوسطى حيث حاولت الكنيسة الكاثوليكية فرض الزواج الأحادي على الذكور الصفوة.[5] كانت الكنيسة الكاثوليكية جانبا فريدا للثقافة الغربية. حين زار ماركو بولو Marco Polo  الصين في القرن 13 وحين وصل كورتز Cortez إلى الأزتك Aztecs في 1519، وجدا تشابهات كثيرة مع مجتمعهم، بما في ذلك النبالة الموروثة، والكهنة، والمحاربون، والحرفيين، و أن كل الفلاحين يعيشون على الاقتصادي الزراعي. وهكذا فقد كان هناك تقارب كبير بين المجتمعات. إلا أنهم لم يجدوا مجتمعات حيث تدعي المؤسسات الدينية التفوق على المؤسسات العلمانية وتقوم بتعديل السلوكات التكاثرية للصفوة العلمانية بنجاح. ولا أنهم وجدوا ملكا مثل لويس التاسع (لويس القديس) الذي حكم فرنسا وهو يعيش حياته كالراهب مع زوجته الوحيدة، ويقوم فيها بحملة صليبية ليحرر الأرض المقدسة.

كانت الكنيسة الكاثوليكية وريثة الحضارة الرومانية حيث كان الزواج الأحادي مترسخا في القانون والعرف، وخلال العصور الوسطى حملت على عاتقها فرض الزواج الأحادي على الارستقراطية الأوروبية الناشئة. وللتأكيد، فقد عرف مستوى تعدد الأزواج بين الأوروبيين الأرستقراطيين في العصور الوسطى تراجعا بالمقارنة مع حريم البلدان الصينية أو الإسلامية. غير أن ذلك قد يكون راجعا خاصة إلى الوضع الاقتصادي غير المتطور نسبيا للعصور الوسطى المتقدمة. بعد كل ذلك، فقد قاد الامبراطور الصيني دولة شاسعة مكتظة بالسكان مع فائض إنتاج اقتصادي ضخم. لقد كانوا أكثر ثروة من شيوخ قبائل أوربا القرون الوسطى، واستعملوا تلك الثروة والقوة للحصول على نساء أكثر.

على أية حال، فإن الزواج المتعدد كان موجودا في أروبا، وأصبح خلال العصور الوسطى موضوع صراع بين الكنيسة والأرستقراطية. كانت الكنيسة ” المؤسسة الحكومية الاكثر أهمية وتأثيرا [في أروبا] خلال فترة العصور الوسطى”. المظهر الرئيسي لهيمنة هذه السلطة على الأرستقراطية العلمانية تضمَّن ضوابط الجنس والتناسل.[6] كانت النتيجة أن نفس قواعد السلوكات الجنسية مفروضة على كل من الفقراء والأغنياء على حد سواء. كان برنامج الكنيسة “يتطلب علاوة على كل ذلك، خضوع كل العلمانيين، وخاصة الأقوياء منهم، لسلطة الكنيسة ويسمحوا لها بالإشراف على أخلاقهم، ولا سيما أخلاقهم الجنسية. عن طريق هذه الوسيلة، ومن خلال الزواج، استطاع الارستقراطيون البقاء تحت الرقابة. كانت كل المشاكل الزوجية موكولة إلى الكنيسة لوحدها لتبث فيها.[7]

إن محاولة فهم سلوكات الكنيسة خلال هذه الفترة من ناحية علم النفس التطوري، يتجاوز نطاق هذه الورقة.[8] غير أن الواحد قد يلاحظ أن الرغبة في القوة أمر إنساني عالمي، لكن ككل الرغبات الانسانية، فإنها بحاجة لأن تُربط بنجاح التكاثر. بنفس الطريقة، فإن الناس يرغبون بالجنس، إلا أن الشروع في الجنس لا يؤدي بالضرورة إلى امتلاك الكثير من الأبناء حتى لو صممتها الطبيعة الأم بتلك الطريقة.

إن إحدى السمات الفريدة من نوعها للكنيسة هي أن شعبيتها كانت معززة بصورة (وواقع) أنها غيريّة. لقد مثلت كنيسة العصور الوسطى بنجاح صورة عدم اهتمامها بالتحكم في المرأة أو امتلاك مستوى عال من نجاح التكاثر. لم يكن الأمر على هذا الحال دائما. فقبل إصلاحات العصور الوسطى، كان للكثير من القسيسين زوجات وخليلات. كتب القديس بونيفاس Saint Bonivace عن الكنيسة الفرنسية في 742م، شاكيا للبابا عن “ما يسمى الشمامسة Deacons، الذين قضوا حيواتهم منذ الصبى في الفجور والزنا، وكل أنواع الفواحش، الذين دخلوا الشماسة Diaconate  بهذه السمعة، والذين هم الآن، بينما يمتلكون أربعة أو خمسة خليلات على أسرتهم، لا يزالون يقرؤون الإنجيل.”[9]

ومع ذلك، كان الاصلاح بين الاكلريوس أمرا حقيقيا. لم يُعرف عن أي أسقف انجليزي في القرن 13 أنه يملك زوجة أو عائلة. كان رجال الدين المتزوجين حتى في مستويات دنيا خلال هذه الفترة أمرا استثنائيا في انجلترا. واستمرت المستويات الدنيا للانقياد للشهوة الجنسية لدى رجال الدين خلال فترة الاصلاحات.

ومن ثم عرضت الكنيسة صورة الإحسان والغيرية. لم تكن قوتها وغناها موجهة صوب نجاح التكاثر. تظهر غيرية التكاثر الحقيقية على أنها عامل في الانجذاب الواسع الانتشار نحو أنماط حياة رهبانية تنسُكيّة للغاية. كان هذا التنسك جزءا مهما لتصور العامة للكنيسة خلال العصور الوسطى العليا. خلال القرن 11 و 12 أنشئت آلاف من المعابد. مكونة من عزاب وزهاد ذكور بشكل رئيسي من طبقات الأثرياء، “حددت المعابد الخاصية الروحانية للكنيسة كلها، في التعليم وفي الفن، [و] في انتقال الثقافة…”[10]كانت صورة إيثار الزهاد معززة أيضا بالايديولوجيا حيث يتم الاعتقاد في أن صلاة الرهبان تساعد كل المسيحيين.

ساعدت هذه الأنظمة على توفير صورة شعبية للغاية للكنيسة. خلال القرن 13، كان الرهبان المتسولون (الدومينيكان، والفرانسسكان) مساهمين في إصلاح الكنيسة لتمديد سلطة البابا على الكنيسة، ولتعزيز قواعد العزوبية عند الرهبان، ومنع المحاباة وشراء وبيع المنصب الكهنوتي Simony، وإعطاء الكنيسة سلطة بديلة عن السلطة العلمانية، بما في ذلك القدرة على تنظيم العلاقات الجنسية. “إن الفقر الطوعي، والعوز المفروض ذاتيا الذي ميّز المتسولين الأوائل مع أكثر شرائح السكان تواضعا وحرمانا، على النقيض الصارخ من مهنية ومباهاة رجال الدين العلمانيين وثروة الشركات و حصرية الأديرة، فقد حركت الضمير وأثرت في سخاء الجمعيات التجارية.”[11]

إنها لمن أكثر الظواهر الاستثنائية في تاريخ العصور الوسطى العليا كلها… الكثير من أعضاء الطبقة العليا والأثرياء أو الأقل ازدهارا من المجتمع، الذين كانت لهم أفضل الفرص للاستمتاع بالملذات الدنيوية بالكامل، قد تخلوا عنها … كان تدفق المرشحين الجدد لتلك الأماكن مثيرا للدهشة حيث أعيدت قواعد حياة الرهبانية لصرامتها السابقة، مفروضة بشكل أكثر صرامة أو حتى إعادة تعريفها بشكل أكثر قسوة… يتوجب علينا أن نفترض أن الدافع الأساسي لاختيار حياة الرهبانية كان دائما المثل الأخروية للرهبنة، حتى لو فقدت هذه بعضا من قوتها الدافعة في مجرى حياة طويلة أو كانت مختلطة مع دوافع أخرى من البداية.[12]

خلال القرن 13، كان الرهبان المتسولون عادة مجندين من الارستقراطية، ونبلاء الأرض، و عائلات ثرية أخرى. غالبا ما خالف آباؤهم قراراتهم، من المحتمل أنهم، ككل الآباء، أرادوا أحفادا. “لقد كان كابوسا بالنسبة للعائلات الميسورة الحال أن يصبح أبناؤهم رهبانا”[13] بدأت هذه العائلات بتفادي إرسال أبنائها إلى الجامعات بسبب الخوف الراسخ من أن يجند أبنائهم في الحياة الدينية.

في مركز المجتمع توجد مؤسسة ذات أيديولوجيا تقول بوجوب غيريّة الناس، ووجوب عزوبيتهم حتى وإن ولدوا أثرياء. هذا يفسر القبول الشعبي لسلطة الكنيسة فيما يتعلق بالزواج والجنس، غير أنها لا تزال تجعل المرء يتساءل عن سبب دخول الناس ميسوري الحال للرهبنة وأن يصبحوا عزابا أصلا. سواء أحببنا أم لا، مهما قد يقول المرء عن الغرب الأوروبي خلال هذه الفترة، فإن تحسين النسل لم يكن جزءا من الصورة.

كانت كنيسة العصور الوسطى سمة فريدة من نوعها للثقافة الغربية، لكن أحد مواضيع هذه الورقة هو أنها لم تكن في معظمها أوروبية في نواحي حرجة. هذا لأن أوروبا العصر الوسيط كانت مجتمعا جماعيا مع حس قوي بالهوية والالتزام الجماعي، وسأجادل أن المجتمعات الغربية أيضا فريدة في التزامها بالفردانية – حتى أن الفردانية في الحقيقة هي السمة المميزة للحضارة الغربية.

لقد كانت جماعية مجتمع الغرب الأوروبي في أواخر العصور الوسطى أمرا حقيقيا. كانت هناك هوية جماعية قوية والتزام جماعي للمسيحية على جميع مستويات المجتمع، كما يشير، على سبيل المثال، كثرة الحجاج وتدفق الحماس الديني والاتقاد داخل المجموعة المتعلق بالحملات الصليبية لتحرير الأرض المقدسة من السيطرة الإسلامية. كان للكنيسة المسيحية حس قوي بالمصالح الاقتصادية للمجموعة المسيحية في مقابل اليهود، وغالبا ما عملت بقوة لاستبعاد اليهود من التأثير على الاقتصاد والسياسة ومنع العلاقات الجنسية بين المسيحين واليهود.[14]

كما هو موضح أعلاه، كانت هناك أيضا مستويات مرتفعة من الغيرية التكاثرية، خاصة بين الرهبان المتسولين، والعديد من رجال الدين الآخرين، وفي النهاية بين النخبة العلمانية. كانت الغيرية التكاثرية بين النخبة العلمانية أساسا كنتيجة للإكراه إلا أن هناك حالات أيضا لضبط النفس الطوعي، كما في حالة لويس التاسع الفرنسي – لويس القديس. لم يكن لويس نموذجا مثاليا للسلوك المسيحي النظيف فحسب. بل كان أيضا يمتلك حسا قويا لمصالح المجاعات المسيحية الاقتصادية في مقابل اليهود وكان منهمكا بشدة في الحملات الصليبية لاسترجاع الأرض المقدسة للسيطرة المسيحية.[15] لقد اعتبر الأوروبيون أنفسهم جزءا من جماعة داخلية متراصة ضد الجماعات خارج المسيحية (بالخصوص المسلمون واليهود) الذي يعتبرون أقوياء وأعداء مهدِّدِين.[16]

لقد كان هناك فجوات بالفعل بين مُثل مجتمع مسيحي موحد مبني على قوة الكنيسة وبين الضبط الجنسي بين النخب. إلا أن هذه الفجوات يجب أن تكون متوازنة من خلال الاعتراف بأن الكثير من مسيحيي العصر الوسيط وخاصة الفاعلون المركزيون مثل: الحركات التنسكية، الرهبان المتسولون، الباباوات المصلحون، الصليبيون المتحمسون، الحجاج الأتقياء، وحتى الكثير من النخب الارستقراطية، يرون أنفسهم على أنهم جزء من جماعة فوق وطنية موحدة بشدة. لقد كان هذا التوجه الجماعي الموحد للغاية – غريبا جدا بالنسبة للحياة الغربية المعاصرة- الأمر الذي جعل من خاصية المستويات العليا للجماعة الملتزمة والغيرية مفهوما compréhensible في فترة العصر الوسيط من الناحية نفسية.

الضوابط الاجتماعية وأيديولوجيا الحفاظ على الزواج الأحادي المفروض في أوروبا الغربية

في أوروبا الغربية تبنت الكنيسة نموذجا إكليريوسيا للزواج الذي عارض بكل معنى الكلمة المصالح التكاثرية للارستقراطية. كنتيجة مباشرة لهذه المجهودات، حدثت تحولات في بنية العائلة والفرض الاجتماعي للزواج الأحادي من طرف الكنيسة المسيحية في نهاية القرن 12. تبدو هذه العوامل التالية على أنها أكثر أهمية في فرض والحفاظ على الزواج الأحادي:

منع الطلاق: يستفيد الذكور الأثرياء أكثر من قدرتهم على الطلاق بسهولة لأنهم يستطيعون الزواج بسهولة أكثر. بينما كان الطلاق معروفا في مجتمعات أوراسيا Eurasian societies وكان قانونيا بين القبائل قبل المسيحية في أوروبا، كانت وجهة نظر المسيحية أن الزواج كان أحاديا وغير قابل للفسخ. أصبح الطلاق مقيدا أكثر من ذي قبل تحت الأباطرة الرومان المسيحيين، و ما بين القرن التاسع والقرن 12 بدأت الكنيسة في صراع ناجح مع الارستقراطية مركزين حول سلسلة من حالات الطلاق شملت النبلاء. على سبيل المثال، في أواخر القرن 12، مُنع الملك فيليب الفرنسي من تطليق زوجته مع أنه غير معجب بها وكانت عاقرا. كان على الملك الاعتذار لمجموعة من رجال الدين بديْرٍ في فرنسا.

في أوقات كان فيه الطلاق مسموحا به، لكن فقط إذا كان الهدف من ذلك أن يحصل الذكر على وريث في حالات ما إذا لم ينجح الزواج الأول في إنجاب واحد. مثلا، لويس السابع وإليانورآكتاين في فرنسا العصور الوسطى. (غير أن البابا لم يسمح لهنري الثامن بتطليق زوجته حتى مع عدم إنجابهم لولد). كان الطلاق “مستحيلا عمليا باستثناء قلة قليلة من الأثرياء جدا” في بريطانيا لغاية اصلاحات 1857. لكن مع ذلك فإن معدلات الطلاق بقيت منخفضة جدا. “في تلك المناطق الأوروبية التي شرّعت الطلاق في القرن السادس عشر، استغرق الأمر ثلاثمائة سنة أو أكثر قبل أن يتم تمييز خط الطلاق عن المحور الأفقي للتمثيل البياني لمعدلات الطلاق.” في انجلترا ظل معدل الطلاق أقل من 0.1/1000 زواجا حتى سنة 1914 وأقل من 1000/1 لغاية 1943 (Stone 1990)، في سنة 1910 لم يكن لدى أي من الدول الأوروبية معدل طلاق أعلى من 1000/5 نسمة. بحسب علمي، فإن هذه النزعة القوية المعارضة للطلاق فريدة في حضارة الغرب الأوروبية.

عقوبات على عدم الشرعية: من منظور تطوري، فإن الجانب الأكثر أهمية للضوابط الاجتماعية المتعلقة بالتكاثر يتمثل في التحكم في التسري. إن الضوابط على عدم الشرعية تعارض المصالح التكاثرية للأثرياء الذكور عن طريق جعل التسري أمرا صعبا أو مستحيلا وعن الطريق التأثير في إمكانية إنجاب الأبناء غير الشرعيين من خلال، مثلا، منعهم من وراثة الممتلكات.

لقد عارضت الكنيسة التسري للغاية، لا سيما التسري في ظل وجود زوجة شرعية. غالبا ما تبدو الضوابط الاجتماعية فعالة على مقدرة الأبناء غير الشرعيين في الوراثة. اعتقدت الكنيسة أن الزواج الشرعي أنجب أطفالا شرعيين وأن الآخرين ليس لديهم وضع قانوني، على الرغم من أن الأبناء غير الشرعيين في بعض الأحيان يحضون بمكانة أفضل من الآخرين (أنظر أدناه). لقد كانت ممتلكات الأبناء غير الشرعيين معرضة للمصادرة من طرف الكنيسة أو الدولة، لدرجة أنه لو أراد رجل ترك ممتلكاته لابنه غير الشرعي الذي يريده فإنه يتم التصدي له من طرف السلطات. اختفى الأبناء غير الشرعيون من الوصايا كليا خلال الحقبة التطهيرية Puritanera في انجلترا.

إلى جانب التأثير المباشر للكنيسة، كانت هناك مختلف العقوبات الأخرى المتعلقة بالولادات غير الشرعية الناتجة عن السلطات العلمانية والرأي العام. أن يكون المرء أبا و لا سيما أما للولد غير الشرعي يؤدي للنفي أو السجن، وقد كان معروفا لدى النساء أن تفعل كل ما بوسعها من أجل إخفاء الحمل، بما في ذلك ترك المنطقة. لقد كان لهذه الضوابط الاجتماعية تأثير على وفيات الأبناء غير الشرعيين. كانت وفيات الرضع أعلى بين الأطفال غير الشرعيين في كل من انجلترا المبكرة الحديثة وفرنسا. غالبا ما نبذت النساء أبناءها غير الشرعيين. وغالبا ما يبلغ عن الأبناء غير الشرعيين كمجهَضين، ما يعني قتل الرضع infanticide، وأحيانا تسعى المرأة لتفادي تحمل الأبناء غير الشرعيين عن طريق الإجهاض abortion.

الضوابط على التسري بين النخبة: أصبحت الضوابط على تسري النخبة مؤثرة بشكل متزايد خلال العصور الوسطى. وهكذا بدى القرن 12 نقطة تحول. هناك أمثلة جيدة من هذه الفترة للذكور النخب الذين كان بمقدورهم تفادي الضوابط الاجتماعي والايديولوجية التي تفضل الزواج الاحادي كما أن هناك أمثلة يكون فيها مثل هؤلاء الأفراد أحاديي الأزواج بشكل كلي. يمكن رؤية النماذج العامة من خلال النظر في  الخصوبة غير الشرعية للملوك الانجليز. من المعروف أن عشرة من 18 ملكاً الذين حكموا انجلترا من سنة 1066 إلى غاية 1485 قد اتخذوا عشيقات، ومن المعروف أنهم كانوا آباء لواحد وأربعين ابنا غير شرعي يمكن التعريف عليهم بدرجة ما من اليقين. أنجب هنري الأول، الذي حكم من 1100 إلى 1135، 20 ولدا من هؤلاء، وتم إدراج 5 آخرون على أنهم محتملون. لم ينجب ملك آخر في العصور الوسطى أكثر من 3 أبناء، ولم يُسجل أي ابن غير شرعي على وجه اليقين للملوك الثمانية. لقد كان هنري الأول متميزا باهتمامه الظاهر في الحصول على عدد كبير من الذرية لتوسيع طموحه الاقليمي. غير أن هنري قد عامل أبناءه غير الشرعيين أقل حسنا من أطفاله الشرعيين، فهؤلاء كانوا مدللين وتلقوا تدريسهم في البلاط، وتم تكوينهم للحياة كنبلاء عظماء. من جهة أخرى، غالبا ما كان الأبناء غير الشرعيين مستبعدين من وراثة العرش، وفي كثير من الأحيان لا يتم عرض الزواج عليهم. يعكس التغير العام في المواقف والممارسات المتعلقة بالزواج التي حدثت في القرن 21، انخفاضا في كل من عدد وأهمية الأطفال غير الشرعيين على القرون التالية.

ضبط السلوك الجنسي في العصور الوسطى وبعدها: لقد كان من بين الأهداف الأساسية للكنيسة في العصور الوسطى ضبط السلوك الجنسي خارج الزواج الأحادي، كان ضبط التجاوزات الجنسية وظيفة مهمة للمحاكم الكنسية ابتداء من العصور الوسطى ممتدة إلى غاية نهاية القرن 17. كانت هذه المحاكم نشطة للغاية في القرن 17 بانجلترا ملاحقين قضايا السفاح والزنا، ونكاح المحارم، والمعاشرة غير المشروعة، بالرغم من أن فعالية العواقب الكنسية كانت مختلفة عبر المكان والزمان، إلا أنه كان هناك أمثلة عن عواقب مدمرة حيث “تتم مضايقة الضحية من طرف أصدقائه، وحرمانه من الحياة من خلال مقاطعة المجتمع له ومعاملته كمنبوذ”.

في القرن 17، كانت قدرة نظام اللجنة العليا لمحكمة الكنيسة على فرض العقوبات، بما في ذلك العقوبات على الزنا، على المُلّاك الذين يمكن أن يتوقعوا التحصين من الاجراءات القضائية الأخرى: ” هذا التطبيق للمساواة أمام القانون لم يجعل الكنيسة محبوبة لذوي الشأن في القرن السابع عشر في انجلترا”.[17] وقفت أيضا السلطات العلمانية مثل قضاة الصلحjustices of the peace، مستعدة لمحاكمة مثل هذه الجرائم. فعلى سبيل المثال، وفقا للقوانين الايليزابيثية Elizabethan statutes، حَكم قضاة الصلح في القرنين السادس عشر والسابع عشر عادة على مرتكبي الجرائم الجنسية من كلا الجنسين بجلد عام بينما يتم تعريتهم من الخصر (بالنسبة للمرأة “حتى يُدمي ظهرها”) ثم يتم وضعهم في مقطرات.[18](المقطرة آلة تعذيب “المترجم”).

       أيديولوجيات تعزز الزواج الأحادي: بالرغم من اعتمادها في الأخير على الضوابط الاجتماعية، فقد طورت كنيسة العصور الوسطى أيديولوجيات مفصلة لتعزيز الزواج الأحادي والكبح الجنسي. بشكل عام فقد أكدت هذه الكتابات على التفوق الأخلاقي للعزوبة وخطيئة الجنس خارج إطار الزواج من أي نوع كان. كانت كل العلاقات الجنسية، بعيدا عن الزواج الأحادي، مدانة عالميا من طرف كل سلطة دينية على طول الفترة الحديثة المبكرة إلى غاية الأوقات المعاصرة. تم النظر إلى الجنس في إطار الزواج على أنه ضرورة مدعاة للأسف وخطيئة ضرورية، وأن العاطفة المفرطة اتجاه زوجة واحدة تعتبر زنا. بينما كان هناك تخفيف نسبي للمواقف خلال القرن 18، ظهرت في القرن التاسع عشر أيديولوجية جنسية دينية قوية مناهضة لمذهب المتعة anti-hedonist.

       خلاصة: ابتداء من العصور الوسطى، نتج عن نظام مفصل من الضوابط الاجتماعية والايديولوجيات فرض زواج أحادي بشكل أو بآخر في مناطق واسعة من أوروبا الغربية. “كان الانجاز الاجتماعي الكبير للعصور الوسطى القديمة هو فرض نفس القواعد الجنسية والسلوك المحلي على كل من الثري والفقير. وعلى الملك في قصره، وعلى الفلاح في كوخه: لم يكن معفى كذلك.”[19] ومع ذلك، لم يكن النظام شموليا بأي حال من الأحوال. كان هناك ترابط إيجابي بين الثراء والنجاح الانجابي على امتداد أوروبا قبل الصناعية.

في أوروبا الغربية كانت هناك استمرارية ملحوظة داخل مجموعة مختلفة من المؤسسات، التي عاقبت على تعدد الزوجات وتُوجه الجنس غير الأحادي نحو المنافذ غير الانجابية أو قمعها تماما. بالرغم من التغيرات في هذه المؤسسات وبالرغم من التغيرات الواسعة في البنيات السياسية والاقتصادية، فإن المؤسسات العائلية الغربية التي نشأت في نهاية المطاف من حضارة روما رمت بوضوح إلى الفرض الاجتماعي للزواج الأحادي. بشكل عام، فقد كان هذا الجهد ناجحا.

       آثار الزواج الأحادي

       إن الزواج الأحادي مظهر جوهري لفرادة الغرب مع بعض الآثار المهمة. قد يكون الزواج الأحادي شرطا ضروريا للوضع الديموغرافي الأوروبي الفريد “ضغط منخفض”.[20] هذا الوضع الديموغرافي ناتج عن الزواج المتأخر والعزوبية لنسب كبيرة من الإناث خلال فترات النقص الاقتصادي. علاقة هذا بالزواج الأحادي هي أن الزواج الأحادي ينتج في حالة يكون فيها الفقراء من كلا الجنسين غير قادرين على التزاوج، بينما في أنظمة تعدد الأزواج فإن تزايد الإناث الفقيرات يقلص فقط قيمة الخليلات للرجال الأثرياء.على سبيل المثال، في نهاية القرن 17 فإن حاولي 23% من كلا الجنسين بقوا من غير زواج بين الأعوام 40-44. لكن، بسبب تغير الفرص الاقتصادية، فإن هذه النسبة انهارت في بداية القرن 18 إلى 9%، وكان هناك انخفاض مقابل في سن الزواج. مثل الزواج الأحادي، هذا النموذج كان فريدا بين المجتمعات الطبقية في أوراسيا.[21]

       في المقابل، فيبدو أن الوضع الديموغرافي المنخفض له تبعات اقتصادية. لم يكن معدل الزواج هو العائق الرئيسي للنمو السكاني فحسب، لكن هذه الاستجابة، خاصة في إنجلترا، كان لها ميل لأن تتخلف عن التغيرات الاقتصادية الملائمة حتى أن هناك ميلا لتراكم رأس المال خلال الفترات الجيدة بدلا من ضغط السكان المستمر على توفير الغذاء.

       إن حقيقة حدوث التعديلات المستمرة بين الاقتصاد والتقلبات الديموغرافية على مهل، تميل إلى إحداث تقلبات كبيرة وحتى تدريجية في الأجور الحقيقية، ممثلة فرصة للتخلص من عائق الدخل المنخفض الذي يُفترض في بعض الأحيان أن يكون قد كبح كل الأمم قبل الصناعية. ستميل فترة طويلة لرفع الأجور الحقيقة، من خلال تغيير هيكل الطلب، إلى إعطاء دفعة قوية بشكل غير متناسب لطلب سلع تتعدى ضروريات الحياة الأساسية، وهذا ما يعطي دفعة لقطاعات الاقتصاد التي يكون نُموّها مُهِماً في حالة ما إذا ظهرت الثورة الصناعية.[22]

       بالتالي فقد كان هناك بعض المنطق في افتراض أن الزواج الأحادي، من خلال نتيجة الوضع الديموغرافي المنخفض الضغط، كان شرطا ضروريا للتصنيع. إذاً، لم يكن النمط العام نمطا حيث يكون فيه ميل مستمر نحو الزواج المتأخر و/أو العزوبية بين الإناث. بدلا من ذلك، فإن الزواج متأثر بالقيود الاقتصادية. في أوقات الازدهار كان سن الزواج لكلا الجنسين منخفضا وقلة من الإناث بقين غير مُنجبات. كانت النتيجة نظام زواج حساس للغاية اتجاه توفر الموارد: “كان نظام الزواج المرن، النقطة المحورية التي يدور حولها النظام، مظهرا مميزا مهما لأوروبا، الأمر الذي سمح للسكان بالتكيف مع الاقتصاد.”[23] هذا يشير إلى أن الزواج الأحادي قد يكون بالفعل مظهرا مركزيا للعمارة اللازمة للتحديث الغربي.

       الزواج الأحادي والاستثمار في الابناء: تميل أنظمة الزواج المتعدد إلى تخصيص موارد للتكاثر وبشكل نسبي أقل إلى الاستثمار في الأبناء. بالنسبة للذكر في مجتمع متعدد الزواج فإنه أمر جذاب أن يستثمر في زوجة أو خليلة أخرى واستثمارا أقل في ابنها.[24] في المجتمعات متعددة الأزواج، فإن الاستثمار في خليلات إضافية يميل إلى أن يكون له فوائد كبيرة ويتطلب استثمارا أقل في الأبناء. يتم عادة إعطاء نسل الخليلات إرثا قليلا نسبيا وسُمح لهم بالنزول في السلم الاجتماعي. هناك نسبة جنس منخفضة  low sex-ratioللنسل بين النساء الحريم – رجحان الفتيات.[25] من الناحية النظرية فإن هذا يشير إلى تحيز اتجاه الاستثمار المنخفض في الابناء وهذا راجع بشكل عام إلى سهولة الزواج بالنسبة للإناث.[26] بالرغم من أن بنات هؤلاء الخليلات سيكون لهن مكانة اجتماعية متدنية بالمقارنة مع مكانة آبائهن، فإنهن سيقبلن على الزواج. من جهة أخرى، فقد كان أبناء الطبقات العليا أهدافا للمنافسة على المهر مع العائلات المتدنية المكانة. في كلتا الحالتين، فإن هناك حاجة ضئيلة للآباء لاستثمار الوقت أو الطاقة أو المال في نسل خليلاتهم.

       ومع ذلك، فإن الزواج الأحادي يقيد استثمار الذكور الأفراد في نسل امرأة واحدة. ومع انحدار في علاقات القرابة الممتدة (انظر أدناه) و إضفاء الطابع المؤسساتي على الزواج الأحادي على جميع الطبقات الاجتماعية، أصبح دعم الأبناء يقع كليا على عاتق العائلة النووية المستقلة. كما هو موضح أدناه، كانت هذه العائلة “البسيطة” هي الأداة الحاسمة للتحديث الغربي.

       انحدار علاقات القرابة الممتدة وظهور الأسرة البسيطة: كما هو الحال في الزواج الأحادي، فقد كان للكنيسة أيضا دور في انحدار علاقات القرابة الممتدة. في هذه الحالة، مع ذلك، كانت سياسة الكنيسة مدعمة بظهور حكومات مركزية قوية، الأمر الذي ثبط علاقات القرابة الممتدة واستبدل وظيفة العائلة الممتدة لضمان مصالح الفرد.

       من وجهة نظر تطورية فإن المرء غالبا ما يبالغ في أهمية إمكانات علاقات القرابة. وبسبب روابط القرابة البيولوجية، فمن المتوقع أن يكون للأقرباء مصالح مشتركة وحدود دنيا للتعاون وحتى سلوك التضحية بالنفس. كانت القبائل الجرمانية التي استقرت في غرب أوروبا في نهاية الامبراطورية الرومانية، منظمة كجماعات قرابة مبنية على  أساس العلاقات البيولوجية بين الذكور. وقد كان لهذه القبائل حس قوي اتجاه تضامن الجماعة مبني على روابط هذه القرابة. “بما أن الجرمانيين القدماء لم يتمكنوا من الاعتماد على حماية ومساعدة امبراطورية بيروقراطية حينما يكونون تحت تهديد هجوم أو مجاعة، فإنه يتوجب على كل رجل وامرأة من الجماعة الامتثال للمبدأ السوسيوبايولوجي الأساسي لحياة الجماعة المتجسد في أواصر التضامن الأسري والجماعي.”[27] كان هذا العالم المبني على علاقات القرابة القبلية هي ما أراد الملوك والكنيسة القضاء عليه.

 

 

قوى رافضة للقرابة الممتدة: لقد كان في صالح كل من الكنيسة والأرستقراطية القضاء بشكل واسع على جماعات القرابة. تميل دولة مركزية قوية ذات تركيز عال إلى تقليل أهمية علاقات القرابة الممتدة بنفسها، لا سيما إذا كانت السلطة تحمي مصالح الأفراد. من وجهة نظر تطورية، فإن لمجموعة القرابة الممتدة تكاليف وفوائد. تأتى الفوائد من الحماية والدعم الموفرين من طرف قرابة أوسع، إلا أن هذه الفوائد تستلزم تكاليف من ناحية:

  • الطلبات المتزايدة من طرف الأقارب على الخدمات التبادلية.

  • حقيقة أن الأقارب سيميلون إلى منع أي فرد من الصعود أعلى بكثير من الآخرين في مجموعة الأقارب.

  • صعوبة تأسيس المرء لنفسه في بناء قرابي بعيد عن المساواة. كنتيجة لذلك، يُتوقع من الأفراد أن يتجنبوا التورط في جماعات قرابة ممتدة حين تكون مصالحهم محمية من طرف مؤسسات أخرى، بمعنى، إزالة فوائد علاقات القرابة الممتدة، إلا أن التكاليف تبقى. بشكل عام فإن الأفراد ينزعون إلى السعي خلف حماية مجموعة الأقارب الممتدة حين تفشل السلطة المركزية، وبالمقابل فإنهم يهجرون مجموعة الأقارب الممتدة حين تكون سلطة الدولة كافية لحماية مصلحهم.[28]

إن الصورة التي يحصل عليها المرء هي التطور التدريجي للغرب الارستقراطي المبني على العائلة البسيطة المتحررة من الالتزامات اتجاه القرابة المباشرة المسيطرة على أهل الريف الذين يتميزون بالعائلة البسيطة والمترسخة في مجتمع الجيران والأصدقاء، لا بجماعة القرابة الممتدة. كان هذا البناء الاجتماعي إنجازا للعصور الوسطى المتأخرة. لم تكن العلاقات القرابية الممتدة أمرا ذال بال بين أهل الريف في أواخر القرون الوسطى بإنجلترا وفرنسا.[29]

سياسة الكنيسة: من جهتها، فقد ساهمت الكنيسة في القضاء على أواصر القرابة الممتدة في أوروبا الغربية من خلال رفض الزواج بين الأقارب (زواج أقرباء الدم) ودعم الزواج المبني على موافقة الشريكين فحسب. في حالة الزواج بين الأقارب، قامت الكنيسة بحضر الزواج بين مجموعة أفراد آخذة في التوسع. وفي القرن السادس عشر كان الحضر ممتدا ليشمل أبناء العمومة الثانية وفي القرن الحادي عشر تم تمديده ليشمل أبناء العمومة السادسة. أي، الأفراد الذين يشتركون في الجد الأكبر. من الواضح أن المحظورات على زواج الأقارب تتجاوز تلك التي تنبأت بها نظرية التطور.[30] علاوة على ذلك، فإن العلاقات البيولوجية لم تكن مهمة هنا، لأن الزواج قد كان محظورا على الأقارب البعيدين بشكل مماثل (أي الأقارب من خلال الزواج) أيضا على الأفراد الأقارب روحيا (أي، أقارب العرابين). كان أثر هذه السياسة تقويض شبكة القرابة الممتدة وخلق أرستقراطية محررة من الالتزامات اتجاه مجموعة الأقارب الأوسع.

مهما كان المنطق الذي استندت إليه هذه المحظورات من طرف الكنيسة، فإن هناك دليلا على أن الأرستقراطية قد امتثلت للقواعد الكنسية. كان هناك عدد قليل من الزيجات أقرب من أبناء العم الرابع أو الخامس بين النبلاء الفرنسيين في القرن العاشر والقرن الحادي عشر.[31]لقد أضعفت هذه الممارسات مجموعة الأقارب الممتدة، لأن النطاق الممتد لزواج المحارم قد حال دون تضامن مجموعات الأقارب الممتدة عن طريق استبعاد “تعزيز الدم بالزواج.”[32]

وكانت النتيجة انتشار الصلات البيولوجية بين النبلاء بدلا من ارتكازها في القمة. استفاد أيضا الأحفاد المباشرون للعائلة بدلا من مجموعة الأقارب الأوسع: “سعى الرجال في المناصب العلمانية العليا… إلى تعزيز ثرواتهم وعائلاتهم لتوفير أكبر قدر من الحماية لأحفادهم المباشرين على حساب القرابة الأوسع”[33]

       بالإضافة إلى سياستها في القرابة، عملت تعاليم الكنيسة في الرضا بالزواج كقوة ضد العلاقات القرابية الممتدة. “كانت العائلة، والقبيلة، والعشيرة، تابعة للفرد. إن أراد المرء الزواج كفاية، فبإمكانه اختيار زوجته وسوف تصون الكنيسة قراره.”[34] جاء الزواج كنتيجة لاتفاق ومن ثم مصادقا عليه من خلال الاتصال الجنسي. لقد أسست الكنيسة سلطتها ضد الأواصر التقليدية للقرابة والعائلة عن طريق إزاحة الطبيعة الأساسية للزواج من سيطرة العائلة والسيد العلماني إلى الأفراد المعنيين. كانت حرية اختيار شريك الزواج هي القاعدة في إنجلترا خلال الفترة الحديثة أما السلطة الأبوية فقد مورست فقط في قمة 1% من السكان.[35]

       الأسس الإثنية للفردانية الغربية

       إن الرجل المجوسي The Magian man [الشرقي] ليس سوى جزء من “نحن” روحانية، تنزل من الأعلى، هي واحد ونفسها في كل من يؤمن بها. الإنسان المجوسي كجسد وكروح فإنه ينتمي إلى نفسه فحسب، إلا أن هناك شيئا آخر، شيئا غريبا علويا، يكمن فيه، جاعلا إياه بكل نظراته وقناعاته فقط جزءا من الاجماع، الذي يَستبعد، كانبثاق الإله، كل احتمالية تأكيد الذات للأنا Ego . الحقيقة بالنسبة له شيء مختلف عما هي عندنا، أي، بالنسبة لنا نحن، بالتحديد الذهنية الأوروبية. كل مناهجنا الابستيمولوجية، المعتمِدة على الحكم الفردي، بالنسبة له هي جنون وتتميم ونتائجها العلمية هي عمل الأشرار، الذين أربكوا وخدعوا الروح فيما يتعلق برغباتها وأهدافها الحقيقية. ههنا يكمن سر فكر المجوس Magian secret النهائي الذي لا يمكن الاقتراب منه، في عالم كهفه– إن استحالة التفكير، أو الاعتقاد، أو معرفة الأنا Ego هي المسلمة في كل أساسيات جميع هذه الأديان.

الرؤية العالمية الفاوستيةFaustian world view : “في وولفران فون إيشنباخWolfranvon Eschenback ، و ثيربانتسCervantes ، و شيكسبير  Shakespeare، وغوته Goethe، فإن الخط التراجيدي لحياة الفرد تطور من الداخل إلى الخارج، ديناميكيا، ووظيفيا.” “… على استعداد لمساءلة حتى الإله إذا ما كان القناع الذي يظهره–أو الذي قال أنه أظهره- كاذبا إذا ما ضُرب”[36] أوزفالداشبنجلر.

       إلى هذا الحد فقد يفترض المرء أن خلق الأسرة النووية الفردية مبني على الاتفاق والحب، والزواج الأحادي، وانهيار أهمية القرابة الممتدة ببساطة هو نتيجة عمليات اجتماعية قد ذكرتها غير أن الحقيقة هي أن هذه التغيرات ظهرت بشكل أسرع وبشكل أكثر عناية من أي منطقة أخرى في العالم. يبقى العالم الغربي المنطقة الثقافية الوحيدة المتميزة بشكل أساسي بكل علامات الفردانية: الزواج الأحادي، والعائلة النووية الزوجية، الحكومة التمثيلية مع حقوق الأفراد ضد الدولة، الأخلاق العالمية، والعلم. علاوة على ذلك، فقد كانت هذه الثقافة مبنية على قاعدة قوية تعود للحضارة الرومانية، التي كانت لها بعض هذه السمات. وعليه فإنني أقترح أن هذه النزعات تنفرد بها المنطقة الثقافية الغربية الأوروبية وأن لها أساسا عرقيا. إنني لا أفترض أن الأوروبيين الغربيين قد كانت لهم تكيفات بيولوجية فريدة، بل فقط في أننا نختلف من حيث درجة الخصائص التكيفية لكل البشر وأن هذه الفروقات كافية لتمكين تطور ثقافة إنسانية فريدة.بشكل مماثل، فإن لكل البشر بشكل مميز قدرات عقلية مثل التمثيل الرمزي واللغة، إلا أن الأعراق تظهر اختلافات كمية في معدل الذكاء كافية ليكون لها تأثير جوهري على ثقافاتهم– ربما كافية لإحداث بعض الاختلافات الكمية على الأقل.

       إنني أقترح أن الأوروبيين على مدى تطورهم الأخير، كانوا أقل عرضة للانتقاء الطبيعي بين المجموعات، من اليهود وسكان الشرق الأوسط الآخرين. في الأصل كان هذا اقتراح فريتزلانزFritz Lenz، حيث أشار إلى أن السكان الشماليين تطوروا في مجموعة صغيرة بسبب الطبيعة القاسية للعصر الجليدي، وأن لهم ميلا نحو العزلة الاجتماعية.[37] قد لا يشير مثل هذا المنظور إلى أن  الأوروبيين الشماليين يفتقرون إلى الميكانيزمات الجماعية للمنافسة الجماعية. لكنه يشير فقط إلى أن هذه الميكانيزمات أقل عملا نسبيا و/أو تتطلب مستوى أعلى من الصراع الجماعي لإطلاق التعبير عنها.

       إن هذا المنظور متّسق مع النظرية الإيكولوجية، فتحت ظروف إيكولوجية مناوئة، فإن التكيفات توجَه نحو التعامل مع البيئة الفيزيقية المناوئة  أكثر مما توجه إلى المنافسة مع المجموعات الأخرى، وفي مثل هذه البيئة، سيكون هناك ضغط أقل لانتقاء شبكات القرابة الممتدة والمجموعات الجماعية أكبر.[38] تركز المفاهيم التطورية للمركزية العرقية على فائدة هذه الأخيرة فيما بين المجموعات المتنافسة. وبهذا قد تكون المركزية العرقية من غير أهمية إطلاقا في محاربة البيئة الفيزيقية، ومثل هذه البيئة قد لا تدعم مجموعات كبيرة.

       إن المجموعات الأوروبية هي جزء من المنطقة الثقافية الشمالية الأوراسية (نسبة إلى أوراسيا) والقطبية.[39]  نشأت هذه المنطقة الثقافية من الصيادين الجامعين للثمار المتكيفين مع البرد، والمناخات المناوئة إيكولوجيا. في مثل هذه المناخات فإن هناك ضغطا على الذكر لتموين العائلة وميلا نحو الزواج الأحادي لأن المناخ لا يعزز لا الزواج المتعدد ولا المجموعات الكبيرة لفترة تطورية مهمة. تتميز هذه الثقافات بعلاقات قرابة ثنائية حيث تعترف بكل من حدود الذكر والأنثى، ما يشير إلى مساهمة أكثر مساواة لكلا الجنسين كما هو متوقع تحت ظروف الزواج الأحادي. كما أن هناك تركيزا أقل على علاقات القرابة الممتدة ويميل الزواج إلى أن يكون خارجيا، أي، خارج مجموعة الأقرباء. إن كل هذه السمات هي على النقيض مع تلك الموجودة في منطقة ثقافة العالم القديم الأوسطي، متضمنة الجزء السلفي من أوراسيا. ثقافة الجماعة هذه تضم اليهود ومجموعات الشرق الأدنى المماثلة.

       يدل هذا السيناريو على أن الشعوب الأوروبية الشمالية أكثر عرضة للفردانية، وهذا راجع لتواجدهم لفترة طويلة في حالة إيكولوجية لا تعزز الجماعات القبلية الكبيرة المبنية على العلاقات القرابية الممتدة. بناء على الميتوكوندريا DNA Mitochondrial، فإن حوالي 80% من جينات الأورويين هي من قوم جاؤوا إلى أوروبا من الشرق الأوسط قبل 30-40,000 سنة.[40]  كان هؤلاء السكان قد استمروا بحزم خلال العصور الجليدية. من المحتمل أن يكون هؤلاء السكان الأوروبيون الذين نشأوا في البرد وبيئة الشمال المعتمة لمدة 40.000 سنة، قد طوروا ليس فقط شعرا أشقرا وأعينا زرقا لكن وطبائع وتفضيلات نمط حياة تتماشي معها.

       كان هؤلاء السكان صيادون وجامعو ثمار ولم يكونوا مزارعين. ونظرا لكون الانتاج الاقتصادي منخفضا نسبيا، فإن الصيد يفضل تموين الذكر للأنثى.[41] وهذا راجع لكون المتطلبات الحيوية للدماغ الانساني تستطيع أن تلتقي فقط مع نوعية رفيعة من النظام الغذائي. يمثل الدماغ البشري فقط 2%من الكتلة الجسدية إلا أنه يتطلب 20% من كل الطاقة، و70% في المرحلة الجنينية. أدى هذا إلى رباط ثنائي–الأساس النفسي للزواج الأحادي- حيث يوجد تعاون بين رعاية الإناث وتموين الذكور بداية من حوالي 500.000 سنة ماضية. تطلب الصيد أيضا “تجربة معتبرة، وتعليم نوعي، وسنوات من التطبيق المكثف”[42] بعبارات أخرى، فإن ذلك يتطلب أبوة وأمومة عالية الاستثمار.  إلى جانب أن ذلك يعزز الذكاء لأن الصيد بالنسبة للإنسان يعتمد على القدرات الإدراكية بدلا من القدرة على الركض أو القوة. إن سيناريو الصيد معقد ومتغير على الدوام.[43] كل أنواع الحيوانات إلى جانب الأفراد يُظهرون سمات سلوكية فريدة تعتمد على الشروط الداخلية للجنس، والسن، والجو، والتضاريس، إلخ. كل هذه الاتجاهات مكثفة في المناطق الشمالية، بسبب وجود طاقة أقل في كل وحدة من المنطقة.

       يظهر الدليل التاريخي أن الأوروبيين، وخاصة الأوروبيين الشمال شرقيين، قد سارعوا نسبيا إلى التخلي عن شبكات القرابة الممتدة وعن الأبنية الاجتماعية الجماعية حين تكون مصالحهم محمية بصعود حكومات مركزية قوية. هناك نزعة شاملة عبر العالم لانهيار في الشبكات القرابية الممتدة بالتزامن مع صعود سلطة مركزية.[44] غير أنه في حالة شمال غرب أوروبا فإن هذه النزعة، سرعان ما أدت إلى ظهور نمط “الأسرة البسيطة” الفريدة في الغرب الأوروبي، على الأقل في أواخر العصور الوسطى، وربما في وقت أسبق. تعتمد الأسرة البسيطة على زوجين وأبنائهما. كان نمط الأسرة البسيطة النموذجية للاسكندنافيين (باستثناء فنلندا)، والجزر البريطانية، والبلدان المنخفضة، والمناطق المتحدثة بالألمانية، شمال فرنسا. هذه الأسرة تتناقض مع هيكل الأسرة المشتركة النموذجية لباقي أوراسيا حيث تتكون الأسرة البسيطة من شريكين مرتبطين أو أكثر، عادة إخوة وزوجاتهم.[45] كان نظام الأسرة البسيطة، قبل الثورة الصناعية، يتميز بالتأخر في سن الزواج إلى جانب طرق لإبقاء الشباب غير المتزوجين مشغولين كخادمين ومنتشرين بين أسر الأثرياء. تميز نظام الأسرة المشتركة بسن الزواج المبكر لكل من الرجل والمرأة، ومعدل ولادة مرتفع، إضافة إلى طرق انفصال لتشكيل أسرتين أو أكثر حين تدعوا الحالة إلى ذلك.[46]

       إن نظام الأسرة البسيطة هو سمة رئيسية للثقافة الفردية. كانت الأسرة الفردية قادرة على السعي خلف مصالحها متحررة من الزامات وقيود العلاقات القرابية الممتدة ومتحررة من الاختناق الجماعي للبنى الاجتماعية النموذجية لبقية العالم. سرعان ما استُبدل الزواج المبني على الموافقة الفردية والمودة الزوجية بالزواج المبني على القرابة و حتى على التقدير.

       على الأرجح فإن هذا التعرض الكبير نسبيا لتشكيل نمط أسرة بسيطة قائم على أسس عرقية. لا تعطي الأسرة البسيطة فقط معنى بيئيا قهريا للأشخاص المتأقلمين مع المناخات القاسية، لكن كما تم توضيحه سابقا، فإن هذه النزعة قوية بين الشعوب الجرمانية. إنه لمن المثير للاهتمام إيجاد اختلافات جوهرية داخل فرنسا ملائمة للانقسام بين الشعوب الجرمانية الذين عاشوا في الشمال الشرقي لـــ “لخط الأبدي” « The Eternal Line »الذي يصل سانت مالو Saint Malo بالقناة الانجليزية مع جنيف Geneva في سويسرا الناطقة بالفرنسية. لقدطورت هذه المنطقة زراعة واسعة النطاق قادرة على إطعام المدن والمدن النامية، وقد فعلت ذلك قبل الثورة الزراعية في القرن الثامن عشر. وقد تم دعهما من طرف مجموعة كبيرة من الحرفيين المهرة في المدن، وفئة كبيرة من الفلاحين متوسطة الحجم من الذين يملكون الخيول، والأوعية النحاسية، والكؤوس الزجاجية، وأحذية في كثير من الأحيان، يملك أبناؤهم وجنة ممتلئة وأكتافا عريضة، ويلبس أطفالهم أحذية صغيرة. لم يكن لأي من هؤلاء الأطفال بطون منتفخة نتيجة الكساح كما هو الحال في العالم الثالث.[47] لقدأصبح الشمال الشرقي مركز الصناعة الفرنسية والتجارة العالمية.

       يختلف أيضا الشمال الشرقي عن الجنوب الغربي في معدلات التعليم. في بدايات القرن التاسع عشر، بينما كان معدل التعليم في فرنسا ككل ما يقارب 50 %فقد كان في الجنوب الغربي يقترب من 100 %،وظهرت الاختلافات على الأقل من القرن السابع عشر، علاوة على ذلك، فقد كان هناك اختلاف واضح في القامة، فمع الشمالين الشرقيين فهم طوال بحوالي سنتمترين في عينة من المجندين العسكريين في القرن الثامن عشر. يلاحظ لاديري Ladurie أن الاختلاف في كل السكان قد كان أكبر وهذا راجع لعدم قبول الجيش لكثير من الرجال قصار القامة من الجنوب الغربي. أشار مؤرخو العائلة أن الميل نحو الأسرة النووية المستقلة اقتصاديا كان أكثر بروزا في الشمال، بينما كان هناك ميل نحو العائلات المشتركة كلما تحرك المرء نحو الجنوب أو الشرق.[48]

       تشير النتائج بشدة إلى أن الاختلافات العرقية عامل مساهم في التنوع الجغرافي لأشكال الأسرة داخل أوروبا. تشير النتائج إلى أن الشعوب الجرمانية كان لها ميل بيولوجي أكبر إلى حد ما نحو الفردانية – ميل أكبر نحو الهيكل الاجتماعي للأسرة النووية بسبب حدوث الانتقاء في فترة طويلة محدودة الموارد من تطورها في شمال أوروبا. لقد كانت هذه المجموعات أقل انجذابا إلى مجموعات القرابة الممتدة، حيث أنه حين تغيرت الحالة مع أفول شبكات القرابة الممتدة، برز هيكل الأسرة البسيطة بشكل سريع. تم تبني هيكل الأسرة البسيطة بسهولة نسبية لأن هذه المجموعة قد كان لها استعدادات نفسية قوية مسبقة نسبيا نحو نظام الأسرة البسيطة من تاريخها التطوري الفريد.

       على الرغم من أهمية هذه الاختلافات بين الشعوب الجرمانية و أنظمة المناطق الأوروبية الأخرى، فإنها لا تخفي الاختلاف العام بين أوروبا الغربية وبقية أوراسيا. وبالرغم من النَزَعات نحو الأسر البسيطة وظهور التحول الديموغرافي بداية في الشمال الشرقي من أوروبا، فإنها قد عمّت بسرعة بين كل المدن الغربية.

       عنصر آخر في فرادة الغرب هو عادة وضع الشباب من عائلات الفلاحين كخدم بمنازل الآخرين في مناطق شمال شرق أوروبا المتميزة بالأسرة البسيطة. كان ما بين 30 و 40 % من الشباب بإنجلترا قبل الصناعية في الخدمة، أكبر مجموعة مهنية فردية لغاية القرن العشرين.[49] تجاوزت ممارسة استقبال الخدم مجرد توفير احتياجات المرء من خلال جلب الغرباء. وأحيانا ما يأخذ الناس أبناءهم للعمل كخدم في مكان آخر بينما يستقبلون في نفس الوقت خدما غير ذي صلة بهم.[50] لم يكن أبناء الفقراء أو من لا يملك أراضي فقط هم من يصبحون خدما، بل حتى أكبر من ذلك، فإن المزارعين الناجحين يرسلون أبناءهم كخدم في أماكن أخرى. في القرنين السابع عشر والثامن عشر غالبا ما استقبل الأفرادُ الخدمَ في وقت مبكر من زواجهم، قبل أن يكون بمقدور أبنائهم تقديم المساعدة، ثم ينقلون أبناءهم إلى الآخرين حين يكبرون ويكون هناك ما يكفي من المساعدة.[51]

       يشير هذاإلى ممارسة ثقافية متجذرة بشكل عميق، ممارسة أدت إلى مستوى عال من التبادلية القائمة على أساس غير قرابي. إلى جانب هذا فإن هذه الممارسة تمثل انعداما للمركزية العرقية لأن الناس يستقبلون غير الأقرباء كأعضاء في الأسرة. لم تكن هذه المجتمعات ما قبل الصناعية منظمة حول القرابة الممتدة، ومن السهولة بمكان رؤية أنها متكيفة مسبقا مع الثورة الصناعية والعالم الحديث بشكل عام. أما في بقية أوراسيا، كانت هناك نزعة قوية نحو الأسر المتكونة من الأقرباء.[52]

       ومن المثير للاهتمام، أنه في مجتمعات تنافسية جنسيا مثل الصين الكلاسيكية، يكون الخادمات محظيات لرب الأسرة.[53] حيث تنقل موارد الأسرة بشكل مباشر إلى التكاثر. وهكذا في نموذج أوروبا الغربية، كان الذكور الأثرياء يدعمون غير الأقارب أكثر بكثير مما هو عليه الأمر في المجتمعات المتنافسة جنسيا في أوراسيا. ومن المثير للاهتمام أن مجتمعات الصيادين الجامعين للثمار التي تعيش في ظل مناخ قاس غالبا ما يكون لها نظام مفصل للتبادلية reciprocity يهدف إلى مشاركة الموارد مثل الطعام. وأظن أن النظام التبادلي القائم على أساس غير قرابي، والنموذجي للغاية لأوروبا الغربية قبل الصناعية، كان من مخلفات تطور ممتد في المناخات الشمالية القاسية.

       لقد تبع مؤسسة الأسرة البسيطة المتحررة من التورط في مجتمع قرابي واسع، كلُ مؤشراتِ التحديث الغربي الأخرى: حكومة محدودة حيث يتمتع الأفراد بحقوق ضد الدولة، نظام التجارة الرأسمالي القائم على الحقوق الاقتصادية الفردية، والعلم كسعي فردي للحقيقة. تقوم المجتمعات الفردانية بتطوير مؤسسات سياسية جمهورية ومؤسسات بحث علمي تفترض أن الجماعات قابلة للنفاذ إلى أقصى حد ومعرضة بشدة للانشقاق حين لا تتحقق حاجيات الأفراد.

       الزواج الفرداني: الاتفاق، والحب، والرفقة كأساس للزواج

       إن صعود الأسرة البسيطة القائمة على الاتفاق بين الشريكين كان يعني أن الخصائص الشخصية للشريك تغدو أكثر أهمية بالمقارنة مع الوضع الذي تكون فيه العائلات متدخلة في علاقات القرابة الممتدة. في الحالات التي تتولي فيها الأسرة الممتدة السيادة، يكون الزواج عادة من الأقارب  consanguineous، ومتأثرا باستراتيجية العائلة. في نظام الأسرة البسيطة،  تصبح سمات الشريك أكثر أهمية، أي كل تلك السمات التي يعتمد عليها اختيار الشريك، بما في ذلك الذكاء، والشخصية، والتوافق النفسي، والوضعية الاجتماعية الاقتصادية.

       بينما تركز المجتمعات الجمعوية collectivist societies على النسب genealogy ودرجة العلاقة الجينية في الزواج، فإن المجتمعات الفردانية تميل إلى التركيز على الانجذاب الشخصي، مثلا، الحب الرومنسي، والاهتمامات المشتركة.[54] لاحظ جون موني John Money نزعة أكبر نسبيا لمجموعات أوروبا الغربية نحو الحب الرومنسي كأساس للزواج.[55]  وأشار فرانك سالترFrank Salter إلى أن لمجموعات أوروبا الغربية عددا من التكيفات الفردانية المتعلقة بالسلوك الجنسي، بما في ذلك نزعة كبيرة نحو آليات الحب الرومنسي والإثنية، بدلا من ميكانيزمات الضبط الاجتماعي لمنع الدياثة.[56] على المستوى النفسي، فإن الأساس التطوري للفردانية  ينطوي على ميكانيزمات مثل الحب الرومنسي الذي يكون فيه السلوك التكيفي مجزيا جوهريا[57] بدلا من أن يُفرض عن طريق استراتيجيات تضعها العائلة أو عن طريق الإكراه، كما هو الحال في الثقافات الجماعية. إنه الفرق بين الخطوبة الفردية بين الموافقة الحرة وإلى حد ما شريكين متساويين، في مقابل عادات مثل بردة Purdah حضارة الشرق الأدنى حيث تحبس المرأة ويُتحكم فيها من طرف الأقرباء الذكور إلى غاية نهاية الزواج المرتب.

       ابتداء من العصور الوسطى، كان هناك نزوع نحو زواج الرفقة القائم على المودة والاتفاق بين الشريكين، مؤثرا في النهاية حتى على قرارات زواج الأرستقراطية العليا.[58] “في حين أن العلاقات العاطفية بين الرجل والزوجة أمر أساسي في مجتمعات الغرب الصناعية، وليست محور البناء الاجتماعي في معظم المجتمعات.”[59]بالفعل، فإن هذه نقطة تعارض عامة بين المجتمعات الطبقية الشرقية والغربية.[60] لقد كان جعل الحب الرومنسي مثاليا كأساس للزواج الأحادي سمة دورية لحركات الفكر الغربية العلمانية، مثل المذهب الرواقي في أواخر العصور القديمة والمذهب الرومنسي Romanticism في القرن التاسع عشر.[61] هذا لا يعني انعدام الحب والمودة بين الشريكين في المجتمعات الأخرى، لكن فقط أنه في المجتمعات الغربية هناك تركيز شديد عليها.

       من المتوقع أن تؤدي الموافقة الفردية على الزواج، والتي تعتبر من خصائص الزواج الغربي منذ العصور الوسطى، إلى إعطاء الأفراد وزناً أكثر للخصائص الشخصية للشريك المستقبلي. ومن آثار هذا، تكافئ أكبر في السن لدى شركاء الزواج. إن التكافؤ النسبي في السن بين القرينين مقارنة مع تأخر سن الزواج علامة على نظام الزواج في أوروبا الغربية.[62] كان سن زواج المرأة أعلى في أوروبا الغربية من مكان آخر في أوراسيا أو افريقيا، بما في ذلك مجتمعات الفلاحين التي تتسم بالعائلات المشتركة.[63] في الواقع، في عينة كبيرة من 1550-1775 فإن معدل سن الزواج بالنسبة للإناث يتأرجح في حوالي 26 سنة إلى غاية 1675، حين بدأ بالانخفاض أعلى بقليل من 24 سنة في سنة 1800.

       نتيجة أخرى للأسرة البسيطة كانت العاطفة والارتباط الثنائي اللذين أصبحا أساس الزواج. لم يعد الزواج كمسألة مصاهرة سياسية بين وداخل مجموعات القرابة أو مسألة أعمال اقتصادية صرفة، أو ببساطة مظهرا للتنافس الجنسي، بل أصبح قائما على الانجذاب بين الأشخاص، بما في ذلك العاطفة. أصبحت العاطفة داخل الزواج مبدأ ثقافيا مع صعود الأسرة البسيطة. لقد وفرت الظاهرة الغربية للمغازلة (الفردية من نوعها بين ثقافات أوراسيا وإفريقيا) فترة حيث يكون فيها الشريك المستقبلي قادرا على تقييم التوافق الشخصي، بعبارات مالتوس، فإن الفرصة ممنوحة لكلا الجنسين “لاكتشاف الخصائص المشابهة، وتشكيل تلك الارتباطات القوية والدائمة التي بدونها تكون الدولة المتزوجة أكثر إنتاجا للبؤس من السعادة.[64]

       الفردانية وأفول الوعي العرقي بين الأوروبيين

       حتى الآن، فقد قمت برسم سيناريو، يمكن تلخصيه بالقول إن الأوروبيين الغربيين غير مستعلين عرقيا non-ethnocentric نسبيا بسبب فترة طويلة من الانتقاء الطبيعي في بيئة مناوئة حيث يكون لعلاقات القرابة الممتدة فائدة قليلة. لقد رجع الغرب إلى أصولهم، محررين من قيود علاقات القرابة الممتدة، متكيفين بسهولة مع الأسرة البسيطة التي حركت كل مظاهر الحداثة الأخرى: زواج العلاقات، والحقوق الفردية ضد الدولة، والحكومة التمثيلية، والأخلاق العالمية، والعلم. كانت النتيجة فترة ابداع لا مثيل لها، وغزو، وخلق الثروة التي استمرت للحاضر. ومع ذلك، فإن واحدة من أطروحات كتابي عن اليهود هي أن الفردانية عبارة عن استراتيجية رديئة بالمقارنة مع استراتيجيات الجماعة المتلاحمة. في الغرب، كانت علاقات القرابة الممتدة منحصرة كمقدمة للتحديث، إلا أن هذا لم يحصر التنافس بين الجماعة بشكل تام. مع بداية القرن التاسع عشر كان هناك تنافس بين اليهود كجماعوية collectivist، وكجماعة واعية إثنيا، وبين نخب الغرب الفردانية.

       أنثروبولوجيا، ينحدر اليهود من المنطقة الثقافية للعالم الوسيط القديم. تتعارض هذه المنطقة الثقافية إلى حد ما مع خصائص التنظيم الاجتماعي للغرب. كما هو موضح في الجدول 1، فإن الثقافة اليهود جماعوية وميّالة إلى المركزية العرقية، ورهاب الأجانب، والخصوصية الأخلاقية.[65]

أصول الثقافة اليهودية

أصول الثقافة الأوروبية

 

الزراع الرعويون العالم الوسيط القديم

(الرعاة)

الصيادون جامعوا الثمار الشماليين

التاريخ التطوري

مركزية أبوية أحادية قوية

مركزية أبوية ثنائية ضعيفة

النظام القرابي

أسرة ممتدة، أسرة مشتركة

أسرة بسيطة

نظام العائلة

زواج داخلي، قرابي، متعدد

زواج أحاي خارجي

ممارسات الزواج

نفعية، مبنية على استراتيجية عائلية والتحكم في مجموعة القرابة

علاقاتية، مبنية على الاتفاق الثنائي والمودة

نفسية الزواج

منخفضة نسبيا

عالية نسبيا

وضعية المرأة

جماعوي، سلطوي، قائد كاريزماتي

فرداني، جمهوري، ديموقراطي

البناء الاجتماعي

عالية نسبيا “مركزية عرقية مفرطة

منخفضة نسبيا

المركزية العرقية

عال نسبيا “رهاب أجانب مفرط

منخفض نسبيا

رهاب الأجانب

تعزز الهوية الجماعية، والالتزامات نحو جماعة القرابة

تعزز الاستقلالية، والاعتماد الذاتي

التنشئة الاجتماعية

الدوغمائية، الاستسلام للسلطة داخل الجماعة، وقائد كاريزماتي

العقل، والعلم

 

 

الموقف الفكري

الخصوصية الأخلاقية، أخلاق داخلية/خارجية، هل هي مفيدة لليهود.؟

الأخلاق العالمية: الأخلاق مستقلة عن الانتماء للجماعة

الموقف الأخلاقي

 

الجدول 1: يوضح الفروقات في أشكال الثقافة بين الأوروبيين واليهود

       إن إحدى المواضيع البارزة التي ظهرت بمواضع متعددة في كتبي عن اليهودية هو أن المجتمعات الفردية معرضة بانفراد إلى الغزو من طرف الجماعة المتلاحمة كالتي تم تمثيلها تاريخيا من طرف اليهود، يوفر البحث الأخير من قبل علماء الاقتصاد التطوريين رؤية مدهشة حول الاختلافات بين الثقافات الفردية في مقابل الثقافات الجمعوية. هناك جانب مهم من هذا البحث وهو نموذج تطور التعاون بين المجموعات الفردية.[66] سيعاقب الناس بطريقة إثارية المنشقين في لعبة “طلقة واحدة”– لعبة حيث يكون فيها المشاركون متفاعلين فقط مرة واحدة وهكذا لا يتأثرون بسمعة الأشخاص الذين يتفاعلون معهم. وبالتالي فإن هذا الوضع ينمذج ثقافة فردانية، لأن المشاركين غرباء من غير روابط قرابة. كانت النتيجة المدهشة أن الأشخاص الذين قدموا مستويات عالية من التبرعات الغذائية ينزعون إلى معاقبة الأشخاص الذين لم يتبرعوا، حتى ولو تحملوا تكلفة فعل ذلك. علاوة على ذلك، فإن الأفراد المعاقبين قد غيروا طرقهم وتبرعوا أكثر في الألعاب المستقبلية حتى ولو كانوا على علم أن المشاركين في الجولات الموالية ليسوا أنفسهم الذين كانوا في الجولات السابقة. يشير الباحثون إلى أن الناس من الثقافات الفردانية لهم رد فعل عاطفي سلبي متطور اتجاه الركوب المجاني free riding الذي يظهر في معاقبتهم لمثل هؤلاء الناس حتى على حساب أنفسهم –ومن هنا جاء مصطلح “العقاب الإيثاري” “altruistic punishment”.

 

       يوفر هذا البحث بشكل أساسي نموذجا لتطور التعاون بين الشعوب الفردانية. إن نتائجه أكثر قابلية للتطبيق على الجماعات الفردانية لأن مثل هذه الجماعات ليست قائمة على علاقات القرابة الممتدة وبالتالي فإنهم أكثر عرضة للانشقاق. بشكل عام، فمن المرجح أن نجد العقاب الإيثاري عال المستوى بشكل أكبر بين الفردانيين ومجتمعات الصيد وجمع الثمار من المجتمعات القائمة على القرابة والقائمة على العائلة الممتدة. كما أن نتائجه أقل قابلية للتطبيق على مجموعات مثل مجموعات اليهود أو جماعات جمعوية بشدة والتي تقوم في المجتمعات التقليدية على علاقات القرابة الممتدة، وروابط قرابة معروفة، وتفاعل متجدد بين الأعضاء, في مثل هذه المواقف، فإن الفاعلين يعرفون الناس الذين يتعاونون معهم ويتوقعون تعاونا مستقبليا لأنهم مقحمون في شبكات قرابة ممتدة، أو كما هو الحال عند اليهود، فإنهم في نفس الجماعة.

       وعلى هذا، فإن الأوروبيين هم بالضبط نوع المجموعات المجسدة في هذا البحث: هم مجموعات بمستوى عال من التعاون مع الغرباء بدلا عن التعاون مع أعضاء الأسرة الممتدة، وهم معرضون لعلاقات السوق وكذا الفردانية.

       يشير هذا إلى الاحتمال المدهش في أن مفتاح المجموعة التي تنوي جعل الأوروبيين معادين لأنفسهم هو تحريك ميلهم القوي نحو العقاب الإيثاري من خلال إقناعهم باستحقاق اللوم الأخلاقي لشعبهم. ولأن الأوروبيين فردانيين للنخاع، فإنهم يصعّدون حالا بقلق أخلاقي ضد شعبهم بمجرد أن تتم رؤيتهم كراكبين بالمجان free riders وبالتالي فهم يستحقون اللوم – إن تجل ميلهم القوي نحو العقاب الإيثاري ينبع من تاريخهم التطوري الماضي كصيادين جامعين للثمارhunter gatherers. في إصدار حكم عن العقاب الإيثاري، فإن المسافة الجينية النسبية غير ذات صلة. تتم رؤية الراكبين بالمجان free riders كغرباء في موقف السوق، أي أنه ليس لهم صلات عائلية أو قبلية مع المعاقِبين الإثاريين.

       إن البيوريتانيين كمجموعة أوروبية مهمة ومؤثرة للغاية مثال لهذه النزعة نحو العقاب الإيثاري. لقد كانت السمة المميزة للبيوريتانية هي الميل إلى متابعة القضايا اليوتوبية المقدمة على أنها أسئلة أخلاقية –حساسيتها نحو النداءات اليوتوبية وإلى ‘قانون أعلى’ والاعتقاد بأن الغرض الرئيسي من الحكومة هو أخلاقي. كانت نيوانجلند New England الأرض الأكثر خصوبة لـ “كمال عقيدة الإنسان” و “أبا لعشرات المعتقدات ‘isms'”[67] كان هناك ميل لتصوير البدائل السياسية كضرورات أخلاقية متعارضة بشدة. مع جانب يُصوَّر على أنه تجسيد للشر – مستلهم من الشيطان. إضافة إلى هذا فبالإمكان رؤية شدة الأخلاق البيوريتانية في “ورعهم الشخصي العميق”[68] وفي شدة التزامهم بالحياة لا حياة مقدسة فحسب، بل أيضا حياة حكمة وكدح.

       لقد خاضت البيوريتانية حربا مقدسة باسم الأخلاق الطاهرة حتى ضد أبناء عمومتهم جينيا. إن الاقتراح هو أن هذا شكل من أشكال العقاب الإيثاري الذي يُعثر عليه بشكل أكبر في مجموعات الصيد وجامعي الثمار المتعاونين أكثر من المجموعات القائمة على القرابة الممتدة. على سبيل المثال، بغض النظر عن التعقيدات السياسية والاقتصادية التي أدت إلى الحرب الأهلية، فإن الإدانة الأخلاقية للعبودية من قبل اليانكيين هي التي ألهمت الخطاب المؤثر وجعلت المذبحة الجماعية للأنجلو-أمريكيين الأقرباء باسم العبيد الإفريقيين قابلة للتبرير في أذهان البيوريتانيين. عسكريا، فقد أسفرت الحرب مع الكونفدرالية عن أضخم تضحية في الأرواح والممتلكات التي قدمها الأمريكيون على الإطلاق.[69] يمكن رؤية الاتقاد الأخلاقي البيوريتاني ونزعته نحو تبرير العقاب الشديد القسوة المفروض على الأشرار في تعليقات قس كنيسة الأبرشانيين القديمة في بليموثPlymouth  هنري وارد بيتشرHenry Ward Beecher في نيويورك [الذي] ذهب إلى حد الدعوة إلى “إبادة الشعب الألماني … وتطهير 10.000.000 جندي ألماني والفصل العنصري لنساء”.[70]

       وعليه، فإن العقاب الإيثاري الحالي هو خاصية مميزة للغاية للحضارة الغربية المعاصرة: بمجرد أن يقتنع الأوروبيون بأن شعبهم مفلس أخلاقيا، فإنه يجب استخدام جميع وسائل العقاب ضد شعبهم. بدلا من النظر إلى الأوروبيين الآخرين كجزء من مجتمع عرقي وقبلي شامل، فقد كان يُنظر إلى الأوروبيين الأنداد على أنهم مسؤولون أخلاقيا وكهدف مناسب للعقاب الإيثاري. بالنسبة للغربيين، فإن الأخلاق فردانية – حيث يعاقب الراكبون مجانا free riders على انتهاكات معايير المجتمع عن طريق العدوان الإيثاري.

       من جهة أخرى، فإن استراتيجيات الجماعة التي تنبع من الثقافات الجمعوية، مثل اليهودية، محصنة من مثل هذه المناورة لأن أواصر القرابة والجماعة أولى. الأخلاق خصوصية particularistic– كل ما هو مفيد للجماعة. لا وجود لتقليد العقاب الإيثاري لأن التاريخ التطوري لهذه الجماعات يرتكز حول تعاون الأقارب، لا الغرباء.

       على هذا، فإن أفضل استراتيجية للقضاء على الأوروبيين، تكمن في إقناعهم بإفلاسهم الأخلاقي. يتمثل الموضوع الرئيسي في كتابي ثقافة النقد: تحليل تطوري لانخراط اليهود في الحركات الفكرية والسياسية في القرن العشرينThe Culture of Critique: An Evolutionary Analysis of Jewish Involvement in Twentieth-Century Intellectual and Political Movements.[71] في أن هذا بالتحديد ما فعلته الحركات الفكرية اليهودية. لقد قدموا اليهودية على أنها سامية أخلاقيا بالنظر للحضارة الأوروبية وأن الحضارة الأوروبية مفلسة أخلاقيا وأنها الهدف الصحيح للعقاب الإيثاري. وكانت النتيجة أنه بمجرد اقتناع الأوروبيون بفسادهم الأخلاقي، فإنهم سيدمرون شعوبهم بانفجار عقاب إيثاري. إن التفكيك العام لثقافة الغرب، وأفولها في نهاية المطاف كأي شيء مماثل لكيان عرقي، سيحث نتيجة لهجمة أخلاقية تؤدي إلى ذروة العقاب الإيثاري. وهكذا يستمر الجهد المكثف بين مفكري اليهود في إيديولوجية السمو الأخلاقي لليهودية ودورها كضحية تاريخية مظلومة بينما تستمر في نفس الوقت في الهجوم على الشرعية الأخلاقية للغرب.[72]

       وبالتالي فإن المجتمعات الفردانية تمثل بيئة مثالية للاستراتيجيات الجمعوية والموجِهة للمجموعة، مثل اليهودية. من الأهمية بمكان أن مشكلة هجرة الشعوب غير الأوروبية لا تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية فحسب على الإطلاق، ولكنها تمثل مشكلة خطيرة ومتزايدة بشكل كبير في كل العالم أنحاء الغربي وليس في مكان آخر: فقط الشعوب من أصول أوروبي فتحت أبوابها لشعوب أخرى من العالم وهي الآن تخاطر بفقدان السيطرة على الأراضي المحتلة لمئات السنين. وقد فعلوا ذلك إلى حد كبير بسبب الضرورة الأخلاقية التي أدركوها هم أنفسهم والتي تم استخدامها بنجاح من قبل نشطاء الهجرة لتحقيق أهدافهم الاثنية الخاصة.[73]

       لدى المجتمعات الغربية ثقافات ذات نزعة إنسانية فردية، مما يجعل تقييد الهجرة أمرا صعبا. في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، رفضت المحكمة العليا مرتين قوانين الإقصاء الصينية على أساس أنها تستهدف مجموعة لا فردا.[74] كانت الجهود المبذولة لتطوير أساس فكري لتقييد الهجرة متعرجة، خلال سنة 1990 كانت قائمة على شرعية المصالح الإثنية للأوروبيين الغربيين وكانت لها إيحاءات عنصرية. كان من الصعب التوفيق بين هاتين الفكرتين مع الفكر السياسي والأخلاقي والإنساني المعلن لمجتمع جمهوري وديموقراطي، حيث أكد النشطاء اليهود المؤيدون للهجرة مثل إسرائيل زانغونيل Israel Zangwill على أن العضوية الجماعية الاثنية والعرقية ليس لها عقوبات فكرية بشكل رسمي. لقد اعتبر معارضوها أن استبدال هذه التأكيدات للمصالح العرقية الذاتية مع أيديولوجيا “قابلية الاستيعاب” في الجدل حول قانون ماكارانوارلتر McCarran-Walter act لسنة 1952 على أنه أكثر من مجرد ستار دخاني لــ “العنصرية”. في النهاية، انهار هذا التقليد الفكري إلى حد كبير نتيجة لهجوم الحركات الفكرية التي تم استعراضها في هذا الكتاب، وبالتالي انهارت ركيزة أساسية للدفاع عن المصالح العرقية للشعوب ذات الأصل الأوروبي.

       لقد كانت الاستراتيجية البارزة جدا للمفكرين اليهود كامنة في تعزيز الفردانية الراديكالية والعالمية الأخلاقية إلى حد إضعاف القاعد العرقية للمجتمع كلها. بعبارة أخرى، فقد استفادت هذه الحركات من حقيقة أن المجتمعات الغربية تبنت بالفعل باراديغم للفردانية والعالمية الأخلاقية، وكانت تميل بشدة إلى معاقبة شعوبها بدافع الإيثار. كان لهذه الحركات تأثير جماعي على تقويض المصادر المتبقية لتلاحم المجموعة بين الأوروبيين مع ترك اليهودية السليمة كحركة قائمة على الجماعة. تعتمد على المجموعة, نموذج هذه الاستراتيجية هو عمل مدرسة فرانكفورت للبحوث الاجتماعية، إلا أنه يمكن إبداء تعليقات مماثلة على الفكر السياسي اليساري والتحليل النفسي. في أبسط مستوياته، يعتبر تحديد المجموعات غير اليهودية مؤشرا لعلم النفس المرضي.

       بالرغم من انهيار القرابة الممتدة وصعود الفردانية، لم يفقد الأوروبيون تماما الشعور بالانتماء إلى مجتمع أكبر. في الولايات المتحدة، احتفظ الأوروبيون بشعور الشعوبية القائم على العرق في القرن الواحد والعشرين. كان هذا الشعور بالشعوبية والعضوية في عرق مدعوما بمعرفة داروينية مستلهمة، التي لم تنظر فقط في الاختلافات العرقية كنتائج علمية مؤسَسَة، لكن اعتبرت أيضا العرق الأبيض كعرق موهوب بشكل فريد. إلا أن هذه المحاولة الأخيرة لإيجاد معنى بيولوجي للشعوبية قد تراجع بشكل حاد، وينظر لها الآن برعب في المؤسسات الأكاديمية، إلى حد كبير بسبب الحركات الفكرية التي ناقشتها في كتاب ثقافة النقد.[75]

 

 

       خاتمة

       تبقى مقدرة المجتمعات الغربية الفردانية على الدفاع عن المصالح الشرعية للشعوب ذوي الأصول الأوروبية موضع تساؤل. إن النزعات الحالية تجعل المرء يتنبأ بأنه ما لم يتم التخلي عن الفردانية فإن النتيجة النهائية ستكون انخفاضا حادا في الهيمنة الجينية، والسياسية، والثقافية للشعوب الأوروبية. سيكون تنازلا لا مثيل له من جانب واحد عن مثل هذه السلطة ومما لا ريب فيه أن العالِم التطوريَّ لن يتوقع مثل هذا التنازل من غير فترة مقاومة على الأقل من طرف فئة كبيرة من السكان – من المحتمل أن يكون أكثر مركزية عرقية بيننا. ولعله من المفارقات، أن يكون رد الفعل هذا مضاهيا لجوانب من اليهودية عن طريق تبني أيديولوجيات جمعوية ومنظمات اجتماعية تخدم المجموعة. وسواء استمر تراجع الشعوب الأوروبية من غير انقطاع أو تم كبح هذا التراجع، فإنها ستؤسس لتأثير عميق لليهودية كاستراتيجية تطورية جماعية على تقدم المجتمعات الأوروبية.

—————————

كفين ماكدونالد بروفيسور في علم النفس، بجامعة كاليفورنيا (Long Beach)، ومؤلف ثلاثة كتب عن اليهودية كاستراتيجية تطورية: شعب سيقطن وحيدا (1994)، الانفصال وسخطه (1998)، و ثقافة النقد (1998)، تم نشرها كلها بواسطة Praeger.

 

المصدر


المراجع

Alexander, R. D. Darwinism and HumanAffairs, Seattle: University of Washington Press, 1979.

Bouchard, C. B. “Consanguinity and noble marriages in the tenth and eleventhcentury,” Speculum 56: 268-287, 1981.

Barthelemy, D. Portraits “Kinship,” in A History of Private Life, Vol. II, P. Aries& G. Duby (eds.) Cambridge: Harvard UniversityPress, 1988.

Brown, P. “Lateantiquity,” in P. Veyne (ed.) A History of Private Life, Vol. I. Cambridge: Harvard UniversityPress, 1987.

Brundage, J. A. “Concubinage and marriage in Medieval Canon law,” Journal of MedievalHistory 1: 1-17, 1975.

Burton, M. L., Moore, C. C., Whiting, J. W. M., & Romney, A. K. “Regionsbased on social structure,” CurrentAnthropology 37: 87-123, 1996.

Campbell, J. The Masks of God (4 Vols.), New York: Viking, 1959.

Chazan, R. MedievalJewry in Northern France: A Political and Social History, Baltimore: The Johns Hopkins UniversityPress, 1973.

Cohen, J. The Friars and the Jews: The Emergence of Medieval Anti-Judaism, Ithaca, NY: CornellUniversityPress, 1982.

Cohen, M. Under Crescent and Cross: The Jews in the Middle Ages, Princeton, NJ: Princeton UniversityPress, 1994.

Corbett, P. E. The Roman Law of Marriage, Oxford, ClarendonPress, 1930.

Corbin, A. “Intimate relations,” in M. Perrot (ed.) A History of Private Life: IV. From the Fires of the Revolution to the Great War, Cambridge: Harvard UniversityPress, 1990.

Draper, P., &Harpending, H. “A sociobiological perspective on human reproductive strategies,” in K. MacDonald (ed.) Sociobiological perspectives on humandevelopment, New York: Springer-Verlag, 1988, pp. 340-372.

Duby, G. The Knight, the Lady, and the Priest, (trans. Barbara Bray) London: Penguin Books, 1983.

Ebrey, P. “Concubines in Sung China,” Journal of FamilyHistory, 11: 1-24, 1986.

Fehr, E., &Gächter, S. “Altruisticpunishment in humans,” Nature 415: 137-140, 2002.

Fischer, D. H. Albion’sSeed: Four British Folkways in America, New York: Oxford UniversityPress, 1989.

Flinn, M. V., &Low, B. S. “Resource distribution, social competition, and mating patterns in humansocieties,” in D. I. Rubenstein& R. W. Wrangham (eds.) Ecological Aspects of Social Evolution, Princeton: Princeton UniversityPress, 1986.

Frison, G. C. “Paleoindian large mammal hunters of the plains of NorthAmerica,” Proceedings of the National Academy of Science 95:14575-14583, 1998.

Gilchrist, J. The Church and Economic Policy in the Middle Ages, New York: St. Martin’sPress, 1969.

Goldschmidt, W., &Kunkel, E. J. “The structure of the peasantfamily,” American Anthropologist 73:1058-1076, 1971.

Goody, J. The Development of the Family and Marriage in Europe, Cambridge, UK: Cambridge UniversityPress, 1983.

Guttentag, M., & Secord, P. F. “TooManyWomen?” Beverly Hills, CA: Sage Publications, 1983.

Hajnal, J. “Twokinds of pre-industrialhousehold formation system,” in FamilyForms in Historic Europe, R. Wall, J. Robin & P. Laslett (eds.) Cambridge, UK: Cambridge UniversityPress, 1983.

Hanawalt, B. The TiesthatBound: PeasantFamilies in MedievalEngland, New York: Oxford UniversityPress, 1986.

Henrich, J., Boyd, R., Bowles, S., Camerer, C., Fehr, E., Gintis, H., &McElreath, R. “In search of Homo economicus: Behavioralexperimentsin 15 small-scalesocieties,” Economics and Social Behavior 91: 73-78, 2001.

Herlihy, D.  MedievalHouseholds, Cambridge, MA: Harvard UniversityPress, 1985.

Hill, J. E. C. Society and Puritanism in Pre-RevolutionaryEngland, (2nd ed.) New York: Schocken Books, 1967.

Jordan, W. C. The French Monarchy and the Jews: From Philip Augustus to the Last Capetians, Philadelphia: University of PennsylvaniaPress, 1989.

Ladurie, E. L. The French Peasantry 1450-1660, (trans. by A. Sheridan) Berkeley: University of CaliforniaPress, 1986 (Originallypublishedin 1977).

Laslett, P. “Family and household as work group and kin group: areas of traditional Europe compared,” in FamilyForms in Historic Europe, R. Wall, J. Robin, and P. Laslett (eds.) Cambridge, UK: Cambridge UniversityPress, 1983.

Laslett, P. The World We have Lost, (3d edition) New York: Scribners, 1984.

Lawrence, C. H. The Friars: The Impact of the EarlyMendicantMovement on Western Culture, London: Longman, 1994.

Lenz, F. “The inheritance of intellectual gifts,” in HumanHeredity, (trans. E. Paul & C. Paul), E. Baur, E. Fischer, & F. Lenz,New York: Macmillan, 1931.

Leyser, K. J. Rule and Conflict in EarlyMedieval Society, London: E. Arnold, 1979.

Lynch, J. E. “Marriage and celibacy of the clergy: The discipline of the Western Church: An historical-canonical synopsis,” Jurist 23:14-38; 189-212, 1972a, b.

MacDonald, K. B. “Production, social controls and ideology: Toward a sociobiology of the phenotype,” Journal of Social and Biological Structures 6: 297-317, 1983.

MacDonald, K. B. “Mechanisms of sexualegalitarianism in Western Europe,” Ethology and Sociobiology 11:195-238, 1990.

MacDonald, K. B. “Warmth as a developmentalconstruct: An evolutionaryanalysis,” Child Development 63:753-773, 1992.

MacDonald, K. B. A People thatShallDwellAlone: Judaism as a Group EvolutionaryStrategy, Westport, CT: Praeger, 1994.

MacDonald, K. B. “The Establishment and Maintenance of SociallyImposedMonogamy in Western Europe,” Politics and the Life Sciences14:3-23, 1995.

MacDonald, K. B. “Focusing on the Group: Further Issues Related to Western Monogamy,” Politics and the Life Sciences 14:38-46, 1995.

MacDonald, K. B. Separation and ItsDiscontents: Toward an EvolutionaryTheory of Anti-Semitism. Westport, CT: Praeger, 1998.

MacDonald, K. B. The Culture of Critique: An EvolutionaryAnalysis of JewishInvolvement in Twentieth-Century Intellectual and PoliticalMovements, Westport, CT: Praeger, 1998 (Revisededition, 2002, Bloomington, IN: 1stbooks Library).

MacFarlane, A. Marriage and Love in England: Modes of Reproduction 1300-1840, London: Basil Blackwell, 1986.

Malthus, T. R. An Essay on the Principle of Population, New York: W. W. Norton, 1976 (Originallypublishedin 1798).

Marchant, R. A. The Church under the Law, Cambridge, UK: Cambridge UniversityPress, 1969.

Money, J. Love, and Love Sickness: The Science of Sex, GenderDifferences, and Pair Bonding, Baltimore: Johns Hopkins UniversityPress, 1980.

Noonan, J. T. “Power to choose,” Viator 4: 419-434, 1973.

Parkes, J. The Jew in the MedievalCommunity, (2nd ed.) New York: Hermon Press, 1976.

Petersen, W. “The “scientific” basis of our immigration policy,” Commentary 20 (July): 77-86, 1955.

Phillips, K.P. The Cousins’ Wars: Religion, Politics, and the Triumph of Anglo-America, New York: Basic Books, 1999.

Porter, R. “Mixed feelings: The Enlightenment and sexuality in eighteenth-centuryBritain,” in P. Bouce (ed.)Sexuality in Eighteenth-Century Britain, Manchester, UK: Manchester UniversityPress, 1982.

Raaflaub, K. A. “The conflict of the orders in archaic Rome: A comprehensive and comparative approach,” in K. A. Raaflaub (ed.) Social Struggles in Archaic Rome: New Perspectives on the Conflict of the Orders, Berkeley: University of CaliforniaPress, 1986a.

Raaflaub, K. A. “From protection and defense to offense and participation: Stages in the conflict of the orders,” in K. A. Raaflaub (ed.) Social Struggles in Archaic Rome: New Perspectives on the Conflict of the Orders, Berkeley: University of CaliforniaPress, 1986b.

Roebroeks, W. “Hominidbehaviour and the earliest occupation of Europe: An exploration,” Journal of Human Evolution 41: 437-461, 2001.

Russell, J. C. The Germanization of EarlyMedievalChristianity, New York: Oxford UniversityPress, 1994.

Salter, F. K. “Doesfemale beauty increase male confidence of paternity? A blankslatehypothesis,” Ethology and Sociobiology 1994.

Southwood, T. R. E. “Habitat, the temple for ecologicalstrategies?” Journal of Animal Ecology 46: 337-366, 1977.

Southwood, T. R. E. “Bionomicstrategies and population parameters,” in R. M. May (ed.) TheoreticalEcology: Principles and Applications, Sunderland, MA: Sinauer Associates, 1981.

Stone, L. The Family, Sex, and Marriage in England: 1500-1800, New York: Harper &Row, 1977.

Stone, L. The Road to Divorce, Oxford: Oxford UniversityPress, 1980.

Sykes, B. The SevenDaughters of Eve, New York: Norton, 2001.

Tellenbach, G. The Church in Western Europe From the Tenth to the EarlyTwelfth Century, Cambridge: Cambridge UniversityPress, 1993.

Triandis, H. C. “Cross-cultural studies of individualism and collectivism,” Nebraska Symposium on Motivation 1989: Cross Cultural Perspectives, Lincoln: University of Nebraska Press, 1990.

Trivers, R. Social Evolution, Cambridge: Harvard UniversityPress, 1986.

Ullman, W. The Growth of Papal Government in the Middle Ages: A Study in the Ideological Relation of Clerical to Lay Power, (3rd ed.) London: Methuen, 1970.

Vaughn, A. T. The Puritan Tradition in America, 1620-1730, (reviseded.) Hanover and London: UniversityPress of New England, 1997.

Veyne, P. “The Roman Empire,” in P. Veyne (ed.) A History of Private Life, Vol. I. Cambridge:  HarvardUniversityPress, 1987.

Watson, A. Rome of the XII Tables, Princeton UniversityPress, 1975.

Westermarck, G. The History of HumanMarriage, (5th ed.) New York: Allerton, 1922.

Wrigley, E. A., &Schofield, R. The Population History of England, 1541-1871, Cambridge: Harvard UniversityPress, 1981.

الموقع:

http://www.kevinmacdonald.net/WesternOrigins.htm

[1]– Alexander 1979; see Flinn & Low (1986) and MacDonald (1983) for ethnographic examples.

[2]– Alexander 1979.

[3] – MacDonald 1990.

[4]– Corbett 1930; Raaflaub 1986a,b; Watson 1975.

[5] – The following is based on MacDonald 1995.

[6]-Ullman 1970, 1.

[7]– Duby 1983, 162.

[8] -See Mac Donald 1995.

[9]– In Lynch 1972a, 33.

[10]– Tellenbach 1993, 101.

[11]– Lawrence 1994, 126.

[12]– Tellenbach 1993, 103.

[13]– Tellenbach 1993, 105.

[14]– Cohen 1982; Cohen 1994; Jordan 1989; MacDonald

[15]– Chazan 1973 ; Gilchrist 1969; Jordan 1989.

[16]– Lynch 1992, 161-164.

[17]– Hill 1967, 349.

[18]– Marchant 1969, 224.

[19]– Herlihy 1985, 157.

[20]– Wrigley & Schofield 1981.

[21]– Hajnal 1965, 1983; Laslett 1983; MacFarlane 1986; Wall 1983; Wrigley & Schofield 1981.

[22]– Wrigley & Schofield 1981, 439; see also Hajnal 1965; MacFarlane 1986.

[23]– MacFarlane 1983, 33.

[24]– Draper & Harpending 1988.

[25]– Guttentag & Secord 1983.

[26]– Trivers 1986.

[27]– Russell 1994, 120.

[28]– Stone 1977.

وظيفة الحماية للعائلة الممتدة ظاهرة معروفة في المستوى المتوسط، والمجتمعات القبلية إلى جانب الكثير من المجتمعات الفلاحية التي تتميز  ببناء عائلي متصل. (الكاتب)

[29]– Hanawalt 1986; Barthelemy 1988.

[30] – من منظور تطوري، فإن الزواج من الأقارب المقربين يؤدي إلى انحدار الزواج الداخلي inbreeding depression و خطر أمراض جينية متزايدة بسبب الجينات المتنحية recessive genes. تسمح الكثير من المجتمعات بالزواج من ابن العم الأول والقليل، مثل اليهود، يسمحون بزواج العم وابنة أخيه. وكما تمت مناقشته هنا، فإن المجتمعات الغربية تميل إلى الزواج الخارجي أكثر من المجتمعات الشرقية القريبة. (الكاتب)

[31] – Bouchard 1981.

[32] – Goody 1983, 145;

كان من بين آثار هذه السياسة، التي ركز عليها جودي Goody، أنه في كثير من الأحيان ما تُترك العائلات من غير ورثة مباشرين فيتركون ممتلكاتهم للكنيسة. (الكاتب)

[33] – Leyser 1979, 50.

[34] – Noonan 1973, 430.

[35] – MacFarlane 1986.

[36]– In Campbell 1959, Vol. 3 233-234 & Vol. 4, 553-554.

[37] – Lenz 1931, 657.

[38]– Southwood 1977, 1981

[39]– Burton et al., 1996.

[40]-Sykes 2000

[41] – Roebroeks 2001

[42]– Roebroeks 2001, 450.

[43] – Frison 1998.

[44]– Alexander 1979; Goldschmidt & Kunkel 1971; Stone 1977

[45]– Hajnal 1983.

[46]– Hajnal 1983; Laslett (1983)

مزيد من توضيح هذا الاختلاف الأساسي يشمل أربعة متغيرات تتراوح ما بين الغرب، الغرب/وسط أو متوسط، أو متوسطي، إلى الشرق.

[47]– Ladurie 1987.

[48]– E.g., Laslett 1983

[49]– Laslett 1977.

[50]– Hajnal 1983.

[51]– Stone 1977.

[52]– Hajnal 1983.

[53] – E. g., Ebrey 1986

[54]– Triandis 1990

[55] – Money 1980.

[56]– Salter 1994.

[57] – MacDonald 1992

[58]– Brundage 1987; Hanawalt 1986; MacFarlane 1986; Stone 1977; Stone 1990

[59]– MacFarlane 1986, 174.

[60] – Westermarck 1922.

[61]– E.g. Brown 1987; Brundage 1987; Corbin 1990; Porter 1982; Veyne 1987.

[62]– Laslett 1983.

[63]– SeeHajnal 1965 1983; MacFarlane 1986; Malthus 1976.

[64]– In MacFarlane 1986, 294.

[65]– SeeMacDonald 1998/2002.

[66]– Fehr & Gächter, 2002; Henrich et al., 2001.

[67]– Fischer 1989, 357.

[68]– Vaughn 1997, 20.

[69]– Phillips 1989, 477.

[70]– In Phillips 1999, 556.

[71]– MacDonald 1998/2002.

[72]– MacDonald 1998/2002.

[73]– MacDonald 1998/2002, Chap. 7.

[74]– Petersen 1955, 78.

[75]– MacDonald 1998/2002.