مجلة حكمة
النسوية التحليلية النفسية

النسوية التحليلية النفسية

الكاتبإميلي زاكين
ترجمةهويدا الشوفي

ستناقش هذه المقالة النسوية التحليلية النفسية، وليس التحليل النفسي النسوي (أي أنها لن تتناول الأفكار المتعلقة بتطور المبادئ النسوية في الممارسة السريرية، إلا إذا اضطررنا إلى التلميح إليها، على الرغم من أن معظم المؤلفات اللاتي سيُناقشن فيما يلي قد تدربن كمحللات). يبلور التحليل النفسي نظرية عن اللاوعي الذي يربط ربطاً حتمياً بين الحياة الجنسية والذاتية. وبقيامه بهذا، فإنه يكشف الطرق التي تؤثر فيها دوافع اللاوعي بكل من إحساسنا بأنفسنا وولاءاتنا وارتباطاتنا السياسية، ويوضح البنى الرمزية التي تحكمها والتي تتجاوز نطاق الفاعلية الفردية. قد يتراءى في البداية أن أي تحالف بين النسوية والتحليل النفسي يجب أن يكون قد نُسّق على أرضية خائنة: فعلى سبيل المثال، يتهم خطاب سيغموند فرويد Sigmund Freud، في محاضرته عن “الأنوثة” في أثناء نقاشه “لغز الأنوثة” (فرويد 1968 [1933]، 116) أو التمايز الجنسي، النساء بأنهن “المشكلة” (113) ويعفي حضوره من هذه التهمة عبر إبدائه الأمل بأن تكون” ذكورتهن أكثر من أنوثتهن” (117). هذا التحيز المتضمن في خطاب فرويد والمحتوى الواضح لادعاءاته أقلق نسويات عديدات. ستشرح هذه المقالة كيف ولماذا شرعت النظرية النسوية، رغم ذلك، في قراءة فرويد قراءة جادة وتطوير تحليلات دقيقة لمفاهيمه الأساسية وتحديد حدودها ومآزقها وإمكانياتها.

يقول فرويد في نفس المقال المشار إليه أعلاه بأن “التحليل النفسي لا يحاول وصف ماهية المرأة -فهذه مهمة لا يستطيع إنجازها إلا بشق الأنفس- ولكنه سيبدأ بالبحث عن كيفية نشأتها وتطورها من طفلة ذات ميول ثنائية الجنس” (فرويد 1968 [1933]، 116). ولا يشير في استخدامه لكلمة “ثنائية الجنس” إلى العلاقة بالموضوع الجنسي، بل بنوعية الغريزة الجنسية (والتي سيشار إليها بمصطلح “التحول”)؛ فالطفل ثنائي الجنس هو الطفل الذي لم يصبح بعد، من الناحية النفسية، رجلاً أو امرأة، والذي تعمل حياته الغريزية في طور ما قبل الاختلاف الجنسي. يصور فرويد الأنوثة هنا على أنها إحدى مسارات عقدة أوديب ويشير إلى أن الهوية الجنسية إنجاز هش وليست معطى أو جوهراً طبيعياً. ومن خلال تحديده للدائرة التي يتحرك فيها التفسير الذي يطرحه التحليل النفسي للاختلاف الجنسي ورؤيته للألغاز المحلولة وحتى غير القابلة للحل والتي قد يرى الآخرون فيها عمل الطبيعة أو الثقافة، يطرح فرويد إشكالية وجود أي رابط، سواء أكان سببياً أو سلساً أو مباشراً، بين الجنس والحياة الجنسية والاختلاف الجنسي. لا يتلاءم البحث التحليلي النفسي مع النظريات البيولوجية للجنس والنظريات الاجتماعية للنوع الاجتماعي تلاؤماً يسيراً، بل يزعزعها، ولذلك فهو يعقّد التمييز بين الجنس والنوع الاجتماعي كما صِيغ في كثير من الأحيان في النقاشات النسوية. في حين يُفسر الجنس والنوع الاجتماعي في النظرية النسوية أحياناً من منطلق التعارض بين البيولوجيا والثقافة أو الطبيعة والتربية، فإن نظرية فرويد، كما ستُناقش فيما يلي، تتحدى هذه الثنائيات وتطور تفسيراً للدافع الجنسي الذي يجتاز الذهني والجسدي ويخضع لتقلبات فردية بدلاً من افتراض شكل تشريحي أو اجتماعي موحد. إذاً، مهما كانت مخاطر كتابات فرويد على النساء، فإن هذا العمل يستكشف بطرق جديدة معنى الهوية الجنسية وإمكانياتها. إضافة إلى ذلك، وكما سأجادل فيما يلي، تعطّل النسوية التحليلية النفسية العديد من الافتراضات حول ماهية النسوية وأهدافها المفاهيمية والمادية التي تنظر لها، بما في ذلك وبصورة خاصة مفهوم المرأة نفسه. كذلك يطرح التحليل النفسي، بزعزعته فهمنا لهذا المفهوم، تساؤلات على النسوية حول قيمة الاختلاف والسعي إلى المساواة والتوترات العالقة بين هذه المساعي المتضاربة.

في حين أنه يوجد، بلا شك، مجموعة كبيرة من المواقف المتباينة التي قد تندرج ضمن إطار عمل النسوية التحليلية النفسية، إلا أن ما تشترك فيه هذه المواقف في العموم هو انتسابها إلى تفسيرات فرويد للاوعي واحترامها لها والاستعارة منها بعض الشيء، حتى عند انتقادها عدة فرويد النظرية و/ أو مراجعتها. يجب على أي نظرية تحليلية نفسية صحيحة أن تقدم على الأقل تفسيراً للاوعي وارتباطه بالحياة الجنسية، وربما بالموت. إلا أن هذا الانتساب، تحديداً، كان كذلك بمثابة عائق أمام تطور النسوية حيث يُقرأ فرويد أحياناً، على الأقل ظاهرياً، على أنه يقدم تفصيلات للبناء النفسي كارهة للنساء وربما قسرية (بروكوستية) ويحذف التنوع في التجارب الفردية للنساء ويقلصها إلى صيغة مقيدة وغير متغيرة تتناسب مع المعايير النظرية الخاصة بهذه التفصيلات. ومع ذلك، فقد وفرت تأملات فرويد وفرضياته المتعلقة بالهستيريا وعقدة أوديب والحياة الجنسية الأنثوية والأنوثة ودور النساء في الحضارة، من بين غيرها من الأفكار، الأسس المتقلبة ومواقع الجدال لإعادة صياغة النسوية. بالتالي، يتعين علينا، قبل التمكن من مناقشة أي صيغة من الصيغ المتعددة والمتباينة للنسوية التحليلية النفسية بمزيد من التفصيل، أن نؤسس أولاً جذورها التاريخية وحقلها المفاهيمي الذي تنشأ عليه. ولأن جزءاً كبيراً من النظرية النسوية التحليلية النفسية يتعلق بمراجعة الرواية الأوديبية لفرويد تحديداً، فسوف تولي هذه المقالة اهتماماً خاصاً بنظريات فرويد عن اللاوعي والتي تتعلق بالعقدة الأوديبية.

1.   اللغز الفرويدي للأنوثة

يهدف التحليل النفسي الفرويدي إلى توصيف البنى النفسية التي تكمن وراء التجربة الفردية وتفسرها في تشكيلاتها التجريبية المتنوعة، وهو متجذر في الممارسة السريرية مع المرضى والمحاولات التخمينية لاستيعاب المفاهيم الأساسية وتحديدها. يطرح فرويد ذاتاً منقسمة غير معروفة لنفسها، و”أنا” تتخللها فاعليات متعددة، بدلاً من الفرد العقلاني الذي يهتم بمصلحته الخاصة الذي تفترضه النظرية السياسية الليبرالية أو الكوجيتو[1] المستقل القائم في ذاته الذي تفترضه الإبستمولوجيا الديكارتية. فوفقاً لكريستيفا، “اكتشاف فرويد حدد الحياة الجنسية على أنها الرابط بين اللغة والمجتمع والدوافع والنظام الاجتماعي الرمزي” (كريستيفا 1984 ،84). بكلمات أخرى، تتمثل الرؤية الثاقبة التي توصّل إليها فرويد في أن الروابط الجنسية هي التي تحفزنا على الذاتية وتدخلنا في الحضارة.

يميز فرويد بين الدوافع البشرية والغرائز البشرية، إذ أن الدوافع (على عكس الغرائز) لا تملك هدفاً أو موضوعاً محدداً مسبقاً تقدمه الطبيعة ولا تتبع مساراً بيولوجياً موضوعاً مسبقاً. فبالنسبة لأولئك الذين يعيشون في العالم البشري، قد ترتبط الدوافع بأي عدد من الأهداف أو الموضوعات، ويمكن الشعور بها عبر عدة مواضع جسدية. ووفقاً لفرويد، تصبح الدوافع محددة بهذه الطرق عبر توسط الأفكار أو التمثيلات. بالتالي، فالتجسيد البشري مشبع بمعنى غامض، والحياة الجنسية تنشأ من نوع من القصور الغريزي الذي يمثل الرغبة كصعوبة أو مشكلة، ويدفعها نحو تعقيدها المتزايد.

يمكن تمييز جوهر ادعاء فرويد حول تأثير الحياة الجنسية على العمليات النفسية بدءاً من أعماله الأولى حول الهستيريا، مع العلم أنه يجب توضيح إحدى التحولات الحاسمة التي جرت في تفكيره. يدرس فرويد في كتابه دراسات في الهستيريا Studies in Hysteria (1895)، الذي كتبه بالتعاون مع جوزيف بروير Josef Breuer، الظاهرة التي قد يظهر فيها أعراض بدون وجود أذية عضوية. فالهستيريا تُشخّص عندما تجعل فكرة أو ذكرى ما الشخص مريضاً، بدون أن يتسبب في ذلك أي مرض جسدي. والهستيريا بالتعريف فكرية المنشأ (سببها فكرة)، حيث تشير إلى العملية التي يتم من خلالها تحويل فكرة مزعجة ولكنها مكبوتة إلى أعراض جسدية. يفترض فرويد في البداية أن الأعراض الهستيرية تنشأ كنتيجة لإغواء عنيف في الطفولة (ما نسميه اليوم التحرش الجنسي)، وهو رضّ حقيقي يتسبب حدث ثانوي أخف نسبياً في إطلاق العنان له بأثر رجعي بعد فترة من الكمون. تُعتبر “فرضية الإغواء” محاولة لتفسير مسببات الهستيريا (أصل العصاب) بواسطة قوى رضية لتجربة جنسية مبكرة حدثت في فترة الطفولة المبكرة، وهو حدث خارجي يرتطم بالجهاز النفسي ولكن ذاكرته تُكبت وتُقتطع من الوعي. تُصبح الذاكرة المكبوتة جسدية (تسري في الجسد والأعراض الجسدية) عندما يحفّز حدث لاحق، غالباً ما يحدث في مرحلة المراهقة، آثار الذاكرة المبكرة. طُوّر العلاج بالكلام كطريقة لاستحضار الذاكرة المكبوتة وإطلاقها أو تحريرها، وإعادة ربط الفكرة بتأثيرها المبتور والمشتت (عدم قمعها) وبالتالي حل الأعراض الجسدية.

يدّعي فرويد في كتابه ثلاثة مباحث في نظرية الجنس Three Essays on the Theory of Sexuality (1905)، أن الحياة الجنسية قوة بدائية وفطرية (وإن كانت غير مكتملة) للحياة الطفلية تنشأ من الأحاسيس الجسدية التي تترافق مع العمليات الحياتية، مخالفاً فيه افتراضه الأولي القائل بأن الحياة الجنسية تطرأ من الخارج. تخلى فرويد، في الفترة الواقعة بين هذين العملين، عن فرضية الإغواء واستبدلها بفرضية الحياة الجنسية الطفلية وفكرة أن الأعراض تنجم عن النزاعات التي تنشأ بين الخيالات الرغبوية للاوعي وبين قمعها. بكلمات أخرى، لم تعد الذاكرة المكبوتة تجعل المرء مريضاً ولم يعد العنف الجنسي الرضيّ يشكل السبب الأساسي للأعراض. يفترض فرويد أن الخيال الرغبوي، وليس تجربة الماضي الفعلية، هو العامل المحدد للأعراض العصابية. لفهم أهمية هذا التحول في تفكير فرويد، يجب أن ندرك ما الذي يعنيه بالواقع النفسي وتمييزه عن الواقع المادي. فالواقع النفسي، على خلاف حقل الواقع المادي التاريخي بين الذوات المتفاعلة، هو الحقل الحيوي للخيال الرغبوي والحياة النفسية الداخلية، ويعمل بصورة مستقلة عن الاعتبارات الموضوعية للمصداقية. حسب وجهة نظر فرويد، الخيالات الرغبوية للاوعي ليست أكاذيب أو خداع، إنما تكشف حقيقة تتعلق بالحياة الداخلية للذات وماهية الشخص وما الذي يريده، وليس بالعالم الموضوعي. قد يكون من الأفضل القول إن الخيالات الرغبوية تحجب هذه الحقيقة، لأن تعبيرات الوعي عن الرغبة والهوية غالباً ما تقود إلى تضليلنا، فهي تعبر عن آمال الذات لكنها تشوهها، وتظهرها لكنها تنكرها.

وكما يوثق فرويد في محاضرته “التذكر والتكرار والعمل من خلالهما Remembering, Repeating, and Working-Through ” (1914)، فإن الانتقال التخميني من الذاكرة إلى الرغبة ومن الواقع إلى الخيال الرغبوي هو انتقال كذلك من المشاهد الخارجية للإغواء إلى النشاطات النفسية الداخلية، ومن سلطة الأحداث السابقة إلى سلطة أحداث اليوم، ومن الخضوع السلبي إلى الحفاظ النشط على عدم الانسجام. بدلاً من حدث خارجي يمس بالحياة الجنسية غير المتطورة للطفل، فإن فكرة الحياة الجنسية الطفلية تفترض مسبقاً وجود قوة دافعة نشطة تعمل منذ الطفولة المبكرة ووجود شقاق داخلي أو نفسي، أي ذاتاً تتعارض مع رغباتها الخاصة بها. تعمم فرضية الحياة الجنسية الطفلية حدث الرض، وتحدد تجربته في الإثارات الغريزية التي تستحوذ على الجهاز النفسي المتأثر قبل الأوان. وبتخلصه من فرضية الإغواء لا يكتشف فرويد حقل الخيال الرغبوي والواقع النفسي فحسب، بل يمهد الطريق كذلك للتفكير في طاقات الليبيدو، والنزاع النفسي الداخلي الذي يُعد جوهرياً للوجود البشري، وفكرة المسؤولية عن الشقاق بين الرغبة والمناوشات التي تشكل الحياة وأنماطها. على الرغم من الجدل الدائر حول رفض فرويد لفرضية الإغواء، إلا أنه بدون افتراضه الفاضح للحياة الجنسية الطفلية لن يكون هناك نظرية تحليلية نفسية للاوعي. وعلى الرغم من أن بعض المراجعين جادلوا بأن فرويد يتخلى عن مبادئه ويخون مرضاه، إلا أنه في الواقع لم يتبرأ من حقيقة الاعتداء الجنسي أو ينكر أن بعض الأطفال قد تعرضوا للتحرش الجنسي. بل إن التحول في تفكيره يتعلق بمسببات الهستيريا بمعنى تشخيصي؛ فلم يعد يقال إن العصاب ينشأ من العنف الجنسي في مرحلة الطفولة ( ربما أمر نادر الحدوث)، ويمكن بالتالي رؤيته يتخلل أي تطور جنسي طبيعي بدلاً من معارضته. يصل فرويد، بتخلصه من فكرة وجود براءة أساسية أو وجودية للنفس والتي فُرضت بعد ذلك بعنف من الخارج، إلى المسلمة الأساسية للفكر التحليلي النفسي.

إن المثال على هذا النشاط الخيالي للاوعي هو عقدة أوديب. إذ يفترض فرويد في كتاباته اللاحقة عن الأنوثة، بما فيها “الأنوثة” (1933) و”الحياة الجنسية الأنثوية” (1931) و”في العواقب النفسية للتمييز التشريحي بين الجنسين” (1925)، أن عقدة أوديب عند الفتاة الصغيرة تجري على نحو مختلف عما هي عند الفتى الصغير وعلاقتها بحصر الخصي مختلفة. والأهم من ذلك هو أن فرويد أكد على أنه لا يمكن فهم الأنوثة من منظور بيولوجي أو تقليدي (فرويد 1968 [1933]، 114). إحدى الطرق الأخرى للتعبير عن ذلك هي أن الاختلاف الجنسي يتعلق بصورة أساسية بالواقع النفسي بدلاً من الواقع المادي، وبميدان الخيال الرغبوي بدلاً من ميدان الطبيعة أو الثقافة. إن القصة الأوديبية قصة عن التطور النفسي، قصة كيف نصبح ذوات وكيف، ونحن نصبح ذوات، نتمايز جنسياً.

يبدأ الفتى والفتاة، في المرحلة ما قبل الأوديبية، من نفس الموضع العاطفي، مرتبطَين بالأم، وبسبب نقطة البداية المشتركة هذه يدّعي فرويد أن الفتاة الصغيرة هي رجل صغير؛ فهما غير مختلفَين وغير متمايزَين جنسياً بعد. ولهذا السبب يؤكد فرويد كذلك على فكرة الليبيدو الذكوري المفرد؛ الليبيدو ليس محايداً في رؤية فرويد لأن موضوعه الأصلي هو الأم ورغبته تجاه الأم مرتبطة في رؤية فرويد بالذكورة والنشاط، تماماً مثلما يربط المتعة البظرية لدى الرضيعة بالمتعة القضيبية. ومع ذلك يعترف فرويد بأنه لا يمكن أن يوجد تمييز جنسي في المراحل الأكثر بدائية في الليبيدو. ولا يمكن القول بدقة إنهما امتلكا تنظيم تناسلي إلا بعد اجتيازهما المرحلة الأوديبية لأن ذلك يُكتسب عبر علاقة مع الخصي وهي المرحلة الأخيرة من التطور الجنسي (بعد المراحل الفموية والشرجية والقضيبيبة). ومن ثم، كلا الطفلين في مرحلة الطفولة هما “رجلين صغيرين” تُفسر رغبتهما من خلال شروط الليبيدو الذكوري المفرد.

يبدو فرويد حائراً حقاً حول كيفية نشوء الأنوثة: فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحب والتعلق في مرحلة ما قبل التاريخ لدى الفتاة يتمحوران حول الأم، فلماذا تُحول ولاءها نحو الأب؟ وبما أنها تمر، قبل التنظيم التناسلي، بالمرحلة القضيبية (الاستمنائية)، لماذا تحول موقع متعتها الجسدية من البظر إلى المهبل؟ هذه من بين غيرها من الأسرار التي يقصد فرويد تحديدها عندما يشير إلى لغز الأنوثة. كذلك يوحي فهمه للأنوثة كلغز إلى أنه لا يفهم الهوية الجنسية بوصفها جوهراً طبيعياً معطى سابقاً متجذراً في علم التشريح، بل بالأحرى بوصفها شكلاً من أشكال التفرد والتمايز يتحقق من خلال التفاعل المعقد بين الدوافع الجسدية والدوافع الأسرية الأخرى. قصة الفتى أكثر سلاسة واستمرارية لأنه يحتفظ بمتعته القضيبية، وعلى الرغم من أنه يجب أن يستبدل موضوع رغبته المباشر (الذي لم يعد الأم، بل أحد ما يشبهها)، إلا أن بإمكانه التطلع إلى أهداف بديلة. يبدأ تعلق الفتى الأوديبي بالأم من تعلقه بها في المرحلة ما قبل الأوديبية بدون انقطاع وينتهي هذا التعلق بسبب تهديد الخصي الصادر عن الأب. عند الانتهاء من عقدة أوديب يتماهى الفتى مع الأب، ويؤسس أنا أعلى داخله ويتخلى عن الموضوع المباشر للرغبة مع الوعد بأن يمتلك هو كذلك يوماً ما موضوعاً مشابهاً على شاكلة الأم. إلا أن عقدة أوديب لدى الفتاة أكثر تعقيداً بالضرورة لأنها لا يمكن أن تنشأ إلا من خلال الانفصال عن العلاقة ما قبل الأوديبية بالأم، وبالتالي فهي تشكيل ثانوي. يفترض فرويد مسبقاً أن إدراك الفتاة الصغيرة لميزة الإخصاء في الأم المحبوبة هو ما يدفعها إلى التحول نحو والدها. بكلمات أخرى، لا يحلّ الإخصاء عقدة أوديب، بالنسبة إلى الفتاة، بل يُدخلها فيها، ولهذا السبب يدّعي فرويد أنها لن تنتهي بالكامل أو تُحل، وهو ما يفسّر بالتالي، حسب رؤيته، الأنا الأعلى الأضعف لدى الفتاة وعدم قدرتها على التسامي. لا تتحول الفتاة عن والدتها بخوف بل بازدراء ويدفعها الحسد على ما لا تملكه الأم. فالأب بالنسبة لها لا يمثل تهديداً (فهي تجد نفسها مخصية بالفعل)، ولا احتمال تحقيق رغبة في المستقبل (فالبديل الوحيد للقضيب المفقود هو طفلها)، كما هو الحال بالنسبة إلى الفتى الذي يمكن أن يتماهى معه ويأمل في أن يحصل على ما لديه في النهاية. وعلى هذا، فالوعد الوحيد الذي يقدمه الأب هو ملاذ ضد الخسارة التي تمثلها الأم التي تحمل هذه الخسارة والمسؤولة عن خسارة الفتاة. يمثل الأب، في السيناريو الأوديبي للفتاة، وعلى عكس الأم المخصية، القدرة الذكورية للرغبة نفسها التي تفتقر إليها هي نفسها ولكنها قد تستعيدها من خلال إتاحة رجل آخر الفرصة لإنجاب طفل. تُدرَك الأنوثة، في مسار عقدة أوديب لدى الفتاة، على أنها الرغبة في أن تصبح موضوع الرغبة الذكورية.

لا تشمل نظريات فرويد في الجنس واللاوعي علم النفس الفردي فحسب، بل تشمل كذلك تكوين الحياة الاجتماعية. فالحياة الجنسية والهوية الجنسية، اللتان تتشكلان في علاقة متناقضة مع الآخرين، تتخللان روابط الحضارة وتتشعبان عبر كل العلاقات الاجتماعية. يقدم فرويد، بتحويله انتباهه إلى مسائل ثقافية أوسع، قصة أو أسطورة عن أصل البنى السياسية تتوازى مع فهمه للنفس الفردية وتُردده. سيكون من المفيد، لفهم الأهمية السياسية لعقدة أوديب، أن نضعها بعمومية أكبر ضمن نطاق فهم فرويد لعلم النفس الجماعي. إذ يناقش، في كتابه علم النفس الجماعي وتحليل الأنا Group Psychology and the Analysis of the Ego (1921)، كل تعارض واضح بين علم النفس الجماعي وعلم النفس الفردي ويدّعي أن الطفولة البشرية تنغمس منذ البداية في عالم من الآخرين. فحتى في علم النفس الفردي ظاهرياً، يوجد دوماً شخص آخر مشارك، كنموذج أو موضوع، كمسرح للتماهي أو كموضوع للحب. إن التماهي والحب، اللذين يشكلان جوهر الهوية، “ظاهرتان اجتماعيتان” بالفعل، ونجد بصورة عكسية، أن العلاقات الاجتماعية نفسها تقوم على التطورات التي تحدث في الأسرة. بالتالي من الخطأ فصل علم النفس الفردي عن علم النفس الجماعي وكأنهما غير متداخلين بطبيعتهما، أو أن نفترض وجود نوع من أنواع الغرائز الاجتماعية الخاصة المنفصلة عن الدوافع التي تحفز الفرد. بعبارة أخرى، لا تتشكل الذات الفردية بصورة مستقلة تماماً في نوع من التمركز المنعزل على الذات ولا تتشكل بوصفها مجرد تأثير لقوى اجتماعية خارجية.

يمثل كتاب الطوطم (المقدس) والمحرم Totem and Taboo  (1913) محاولة فرويد لشرح أصل الحياة الاجتماعية، وروايته عن الروابط التي تربط الرجال بعضهم مع بعض على أساس الظاهرة النفسية. فهو يتصور نشاطاً اجتماعياً بدائياً ما قبل سياسي يتعرض فيه حشد بدائي من الأخوة للقمع من قبل أب قوي يطالب لنفسه بكل النساء وكل المتعة المتاحة في الجماعة. يُحرم الأبناء أو يُنفون، ويُحفزون للارتباط ببعضهم البعض للإطاحة بالأب، أي أنهم يهدفون إلى قتل الأب والاستحواذ على نسائه، وهي جرائم تعكس على المستوى الجمعي الرغبات الأوديبية للأطفال الذكور. لا يُفضي قتل الأب، في قصة فرويد، إلى الحرية غير القانونية والوصول اللامحدود إلى الموضوعات الجنسية (حرب أهلية بين الأخوة)، بل يؤدي بالأحرى إلى خلق الطواطم والمحرمات؛ فيصبح الأب البدائي شخصية طوطمية وموضوعاً سلفياً محترماً، ويعاد تصوُّر تصرفات الأبناء المتمثلة في قتله ومطالبتهم بنسائه على أنها تجاوزات محظورة تتمثل في القتل وزنا المحارم. بالتالي، فإن للمحرّميْن المتعلقين بالقرابة المؤسَسان كقانون، أي المحظورات في جنس المحارم والقتل، أصل مشترك وينشآن معاً، ويفرضان معاً العمليات المجتمعية للأباعدية (الزواج من الأباعد أو من خارج الأقارب) والطوطمية (الروابط المجتمعية للانتماء التي تأسست من خلال توسط السلف المشترك). لهذا يربط فرويد بين التشكيل السياسي والرغبتين الأوليتين للأطفال وجريمتي أوديب، ويُسند الأباعدية إلى تحريم زنا المحارم، والروابط الأخوية إلى تقديس الحياة وحظر القتل. كذلك تستلزم الطوطمية والأباعدية المساواة الأخوية؛ فكيلا يأخذ أحدهم مكان الأب ويتولى سلطته المفردة، يتم تقييدهم واحترامهم بالتساوي، وتوزيع النساء بالتساوي. لا تعمل حكاية فرويد، بتصويرها خلق مجتمع مستقر قائم على القانون (رغم تأسيسه على العنف)، كنموذج فكري للعلاقات السياسية الأساسية فحسب، بل كذلك للعلاقات السياسية الدائمة والمعاصرة، والتي يراها متجذرة في دوافع اللاوعي ولكنها موجهة نحو تحقيق استقرار تلك الدوافع أو توازنها على المستوى الجمعي. إن العلاقة بين الأب والابن، في رواية فرويد، هي ما تهم من أجل تأسيس هذه العلاقة السياسية شبه المستقرة، وهي رابطة من الأخوة الذين يتمتعون بحقوق متساوية. يؤسس هذا النسب النظام السياسي في الأخوّة القاتلة، حيث تكون النساء بمثابة موضوعات للتبادل ولسن ذوات يتمتعن بالمواطنة.

فضلاً عن ذلك، يحدّد فرويد، عبر تفسيره ظهور الوجود القانوني، شيئاً عنيداً ومتعنتاً في الترتيبات الاجتماعية؛ وهو نوع من الاعتداء على الذات (الأنا الأعلى) الذي يربط بين اللذة والعدوان، ويحمل بالتالي قوة مزعزِعة للاستقرار فعلاً. يتسم موقف الأبناء تجاه الأب بالتناقض الوجداني، فنجد الكره المتصف بالإعجاب والقتل المتبوع بالشعور بالذنب والندم. يحيي الأخوة ذكرى هذه الخسارة ويحافظون على رابطتهم مع بعضهم البعض في المراسم العامة لوجبة الطوطم حيث يستهلكون معاً المادة المشتركة (جسد الأب الذي تحول إلى طوطم مذبوح)، ويؤكدون بالتالي على علاقتهم والتزامهم المتبادل. هذا التأكيد على المادة الأبوية المشتركة والقرابة، والتأثير الجمعي للحب والخسارة والشعور بالذنب والحداد، يحافظ على روابط الهوية. يضع القانون الذي ينشأ من قتل الأب طقوسه ويفرض مراسيمه، فيحرّم القتل وسفاح القربى في الحقل العام، ويستحوذ داخلياً عن طريق “لا” التحريم المترسخة في الأنا الأعلى، ويُنتج شعوراً دائماً بالذنب يقود الحضارة ويجعلها مصدراً دائماً للسخط. إلا أن النساء لا يظهرن كذوات للقانون بل كموضوعات لتبادله؛ علاوة على ذلك، نظراً إلى الاستطالة غير المحدودة لعقدة أوديب لديهن، فمن المرجح أن يكنّ النساء أكثر ميلاً للعداء لمراسيم الحضارة طالما أنها تنتهك الحياة الأسرية.

كما أن العلاقة بين الأب والابن متضَمنة، وإن كانت بصورة مخفية، في التفسير الذي يقدمه فرويد في كتابه “الأنا والهو The Ego and the Id” (1923) حول كيفية ظهور الأنا. حيث يكتب أن التماهي هو “أقدم تعبير عن الرابطة العاطفية مع الآخر” (فرويد 1968 [1923]، 37)، أي أنه سابق على الاستثمارات العاطفية بالموضوعات أو علاقات الرغبة. ويكون الارتباط الليبيدوي البدائي “في مرحلة ما قبل التاريخ الشخصي” بالأب وغير متعلق بالموضوع (فرويد 1968 [1923]، 37). والتراجع اللاحق والمتكرر من الاستثمار العاطفي بالموضوع (استثمار الطاقة الغريزية في موضوع ما) إلى التماهي (سحب تلك الطاقة في النفس)، هو الآلية الأساسية لتشكيل الأنا، التي تأخذ الموضوع المفقود إلى النفس. بما أن الأنا هي “رواسب” الموضوعات المهجورة، فقد تشكلت من خلال الخسارة في عملية استيعاب حزينة تدمج، عن طريق التماهي، موضوعات لولاها نُفيت الأنا. تماماً مثلما يحتفظ الأب بالهيمنة في الحياة السياسية بعد موته، فهو يهيمن كذلك على الحياة النفسية حتى قبل تشكيل الأنا. في نظرية فرويد، حكم الأب شامل، وسيادته تمتد في كل مجال. إن تفضيل فرويد للعلاقات الأبوية والأخوية يقدم الدافع للكثير من النسوية التحليلية النفسية، كما سنناقش فيما يلي.

2.   النقد النسوي للتحليل النفسي

لم يتفق جميع المحللين، حتى ممن هم ضمن دائرة فرويد، مع تقييمه، ودارت نقاشات بينهم حول الحياة الجنسية للنساء ودور الإخصاء وحسد القضيب فيها، نخص منهم كارل أبراهام Karl Abraham وإرنست جونز Ernest Jones وهيلين دويتش Helene Deutsch وكارين هورني Karen Horney. جادلت هورني تحديداً من أجل وجود ميل أنثوي متأصل وليس مجرد تشكيل ثانوي قائم على الإخصاء، واعترضت على التأثيرات الظاهرية لحسد القضيب والشعور المفترض بالنقص لدى النساء. وحاولت، كما حدث مع بعض الانتقادات النسوية اللاحقة لفرويد، استعادة الحياة الجنسية الأنثوية، وبالتالي شكل صالح للوجود الأنثوي، من خلال الاستناد إلى طبيعة مستقلة حقاً وتحميل الثقافة المسؤولية عن الوضع الدوني للنساء. ولكنها مع ذلك، ومن خلال إعادة تأكيدها على أولوية القوى البيولوجية والاجتماعية، تدحض تماماً الفكرة التي تشكل جوهر فرضية فرويد والتي تميز التحليل النفسي على أنه مجال فريد من نوعه للبحث، وهو مجال نفسي مميز للتمثيل اللاواعي.

وبعد ذلك بقليل، تناولت سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir خطاب التحليل النفسي في كتابها “الجنس الآخر The Second Six” (1989، [1949])، حيث خصصت أحد الفصول الأولى للتعبير عن ارتيابها في “وجهة نظر التحليل النفسي” (بوفوار 1989، 38-52). تندد بوفوار، مثلها مثل هورني، بفكرة فرويد القائلة بأنه لا يوجد سوى ليبيدو ذكوري وحيد وأنه لا يوجد ليبيدو أنثوي “بطبيعة أصلية خاصة به” (بوفوار 1989، 39). ففرويد يعتبر، حسب وجهة نظرها، أن ما يحتاج إلى تفسيره هو أمر مسلم به، ألا وهو القيمة الممنوحة للذكورة. وتلومه لعدم أخذه بعين الاعتبار الأصول الاجتماعية لكل من السلطة والامتيازين الذكوري والأبوي، وتعتبر نظريته غير كافية لتفسير آخرية المرأة. وتجادل بأنه في حال أن النساء تحسد الرجال، فذلك بسبب السلطة والامتياز الاجتماعيين اللذين يتمتعون بهما، وليس بسبب التفوق التشريحي. لقد ميزت بوفوار، على غرار “الواحدية الاقتصادية economic monism” للمادية التاريخية (بوفوار 1989، 52) وليس على غرار التحديدات والتوضيعات التي تقدمها العلوم البيولوجية للحياة البشرية (التي تتعامل مع الكائنات البشرية كموضوعات محددة في العالم الطبيعي وبالتالي ليس كذوات حرة أو قادرة على تحديد مصيرها وتتمتع بالفاعلية)، التحليل النفسي على أنه “واحدية جنسية” (بوفوار 1989، 52): فكل أمر يُفسّر من خلال عدسة واحدة. وتشير في بداية الفصل إلى أن التحليل النفسي يقدم منظوراً لا تنوي “نقده بالكامل” (بوفوار 1989، 38)، لأنه يفهم بصورة خاصة أنه “لا يوجد عامل يتدخل في الحياة النفسية بدون أن يكون قد اكتسب دلالة إنسانية” (بوفوار 1989، 38)، لكنها تتساءل عن اعتماده العقائدي على عناصر محددة من التطور ومرونته المحرجة على أساس مفاهيم جامدة” (بوفوار 1989، 38). والأخطر، حسب بوفوار، هو أن التحليل النفسي يخصص للنساء نفس مصير الانقسام الذاتي والنزاع بين الذاتية والأنوثة الذي ينشأ عن الإملاءات الاجتماعية والمعايير البيولوجية. وأنه يقدم خصائص الأنوثة والذاتية على أنهما مساران متباعدان غير متوافقين مع بعضهما البعض. قد تكون النساء قادرات على أن تكنّ أشخاصاً كاملات، وذوات فاعلية، ولكن على حساب أنوثتهن؛ أو بإمكانهن أن يشرعن في مسار الأنوثة، لكن فقط عبر التضحية باستقلاليتهن وفاعليتهن. هذا الاختيار بين إضفاء الطابع الذكوري على الذاتية والخضوع للأنوثة يحافظ على تعارض أخلاقي وسياسي وميتافيزيقي بين الخَلق الذاتي الحر والانحباس الجسدي الذي يستبعد إمكانية أن تكون المرأة امرأة وذاتاً في نفس الوقت.

تزعم بوفوار أن التحليل النفسي يُلزم النساء بمصير ثابت وعملية حياتية تنموية وغائية، تماماً مثلما يحدد الذوات بالإشارة إلى ماضٍ خارج سيطرتها. فاعتماد التحليل النفسي على التصنيفات الجنسية، بإسناده إلى النساء جوهر أو هوية محددة، يجعل المرأة مرة أخرى بمثابة الآخر بالنسبة لذات ما بدلاً من أن تكون ذاتاً بعينها، وبالتالي ينكر حريتها الوجودية. إلا أنه، وحسب رؤية بوفوار، إذا لم تكن النساء أنفسهن ذوات، بل يتعارضن مع ما تتشكل منه ذاتيات الرجال، فهن لا تزلن مسؤولات طوعاً عن هذا الوضع، طالما أنهن يساهمن في هذه العملية عبر رؤية أنفسهن من خلال أعين الرجال، وتبرير وجودهن من خلال علاقاتهن الرومانسية ومحاولة عكس كينونة الرجال. تحافظ بوفوار على حرية المرأة بقولبة آخرية المرأة كنتيجة للوضع الاجتماعي (بما يترتب عليه من علاقات قوة) ولخياراتهن كذلك (وبالتالي مسؤوليتهن)، على عكس خطاب التحليل النفسي الذي تدعي أنه يرفض “فكرة الخيار ومفهوم القيمة المرتبط بها” (بوفوار 1989، 45).

تنبع تخوفات بوفوار حول تفسير فرويد للأنوثة من مصدرين، أولهما الشك الأنثوي بأن النساء يُفهمن في خطاب التحليل النفسي على أساس نموذج ذكوري، وثانيهما قناعة وجودية بأن البشر هم من يحددون هوياتهم ويختارون أنفسهم من خلال أفعالهم. وتؤكد، استناداً إلى قناعاتها الوجودية، على أنه حتى عندما تتنازل النساء عن حريتهن، فهن يقمن بذلك كفاعلات مسؤولات عن مصيرهن، وليس كمجرد ضحايا سلبيات يتبعن مصيراً محدداً من الناحية التطورية. وتعترف، استناداً إلى قناعاتها النسوية، بأن خيارات النساء قد تكون مقيدة بقوى اجتماعية وجسدية فعالة، لكنها تصر على أنهن يتحملن مع ذلك مسؤولية لا نهائية عن تحرير إمكانياتهن الخاصة بهن من خلال إعتاق أنفسهن. بالتالي، قراءتها لفرويد موجهة بصورة كبيرة ضد النزعة الحتمية الملموسة وبصورة أقل ضد فكرة اللاوعي في حد ذاته، على الرغم من أنها تريد الدفاع عن فكرة الذات الموحدة في أصل الاختيار، وتصر على أن “الحياة النفسية ليست فسيفساء، بل هي كل واحد في كل جانب من جوانبها ويجب علينا احترام تلك الوحدة” (بوفوار 1989، 44)، وهو افتراض يحدّ بالتأكيد من أوجه التشابه بين النزعة الوجودية والتحليل النفسي. ومع ذلك، يبدو أن خلاف بوفوار مع فرويد حول ما إذا كان القيد جزءاً من وجودنا في العالم أقل قياساً بخلافهما حول مكان توضع هذا القيد؛ فالتحليل النفسي يوضّع القيد داخلياً في تكوين النفس ذاتها وليس في مواقف الحياة الاجتماعية، بينما بوفوار توضّع القيد خارجياً في القوى الثقافية التي تؤثر حتى على إحساسنا الأعمق بفاعليتنا. بالتالي تدّعي بوفوار أن تفسيراتها الخاصة لأنوثة النساء ستكشف عن النساء في تحررهن، الذي يوجهه المستقبل بحرية وليس مجرد شرح لماضٍ. ومن ثم، فهي تصادق على وعد النزعة الوجودية من أجل النسوية.

كما تأثر مشروع بوفوار الخاص المتعلق بتوضيح العلاقة المفارِقة بين الأنوثة والذاتية بمفاهيم التحليل النفسي، واستغل رؤاه النظرية بطرق متنوعة. فكتاب الجنس الآخر يسلط الضوء على الممارسات التي تصبح بها النساء نساء من خلال استغلالهن للاختلاف الجسدي (الجنسي)، بالإضافة إلى الطريقة التي تقيّد فيها القوى الجسدية وقوى اللاوعي البشر عموماً وتسيّرهم. في الواقع، يبدو أن بوفوار وفرويد يتفقان على أن المرأة لا تولد امرأة بل تصبح كذلك، أي أن الأنوثة تنطوي على نوع من العمليات (الاجتماعية أو النفسية) وليس على معطى بيولوجي أو طبيعي. وكلاهما مهتم بـ”كيف” تتم هذه العملية، أي كيف تصبح المرأة امرأة، على الرغم من عدم اتفاقهما، كما ناقشت أعلاه، على ماهية هذه “الكيفية”. علاوة على ذلك، تدين بوفوار بوضوح، في معرض صياغتها لمواقف النساء المتناقضة تجاه التجسيد والحياة الجنسية والأمومة، الاهتمام الذي توليه الممارسة التحليلية النفسية لكل من الاستماع إلى سرديات النساء بضمير المتكلم وتفسير التأثير العاطفي للأحداث التي لا يمكن تصنيفها بسهولة والاهتمام بالارتباطات التي تحمل المودة والاستياء. وتعترف، مثلها مثل فرويد، بأننا متجسدات ككائنات جنسية وأن أجسادنا لا تشهد على محدوديتنا وحدودنا فحسب، بل تؤثر كذلك كمواقع للمواجهات مع الآخرين، وهي مواجهات متعددة القيم؛ بما في ذلك الروابط المُحِبة والدفاعات المهدِّدة ولحظات التأكيد والانحلال. ترفض بوفوار أي برنامج سياسي يتطلب أن ننكر إمكانياتنا الجسدية لكي نكون بشراً كاملين وتعلن أن الأجساد والاختلاف الجسدي هما أمران أساسيان لمشاريع الهوية الذاتية، وليسا مجرد احتمالات عرضية للذهن العقلاني وغير المتجسد. ولا يوجد، بالنسبة إليها كما بالنسبة إلى فرويد، شيء مثل إنسان غير متجسد وغير جنسي؛ فأي مثال للإنسان بمعزل عن الهوية الجنسية أو الاختلاف الجنسي هو تجريد لا يمكن تأكيده إلا على أساس ثنائية العقل والجسد. فالأنوثة بالنسبة إلى بوفوار ليست مجرد غموض يحبس ذاتية النساء (حتى لو كان لتفسيرها الاجتماعي هذا التأثير). أخيراً، تدرك بوفوار تمام الإدراك، مثل فرويد، تأثير الوضع المنزلي على الأطفال، والطريقة التي تردد فيها الحياة الأسرية صدى المعنى الذي يشكل العلاقات الحميمة والعلاقات مع العالم الأكبر.

إن تصوير بوفوار لعيش وجود أنثوي، وللاختلاف الجنسي بوصفه موقفاً متجسداً يتطور عبر سلسلة من الأوصاف الظاهراتية، يحاول فهم كيف قُوْلِبت النساء كأخريات في دراما الذاتية الذكورية، ويشكك في الفرضية القائلة بأن هذا حدث تاريخي يحدث في مرحلة زمنية معينة. بوفوار نفسها غالباً ما (أُسيئت) قراءتها بطريقة مماثلة (لإساءة) قراءتها للتحليل النفسي، بوصفها تقدم تتابعاً محدداً من التجارب للنساء، بدلاً من وصف العمليات القائمة اجتماعياً. إلا أن كتاب الجنس الآخر يصور تأثير الترتيبات الاجتماعية غير العادلة على شخصية المرأة؛ فهو لا يقدم مصيراً موحداً للنساء ولا يفترض هوية ميتافيزيقة مشتركة. ومع ذلك، يتماشى عمل بوفوار من نواح عديدة بسهولة أكبر مع النسويات الأنجلوأميركيات الموجهات اجتماعياً أكثر من تماشيه مع إريغاري وكريستيفا.

3.   اللغة، والقانون، والاختلاف الجنسي

نجد، عند النظر في خلفية النسوية التحليلية النفسية والتي يتجذر جزء كبير منها فيما يسمى بالنسوية الفرنسية أو يتماشى معها، أن للسياق الفرنسي للنظرية التحليلية النفسية دور حاسم كذلك، وبصورة خاصة عمل جاك لاكان Jacques Lacan. فقد كان لعمله تأثيراً قوياً على الاستثمارات النسوية للتحليل النفسي وكان هدفاً لنقدها، وقد تبنت لوسي إريغاري Lucy Irigaray وجوليا كريستيفا Julia Kristeva، من بين غيرهما، أفكاره وحولتاها وتحدتاها (ستناقش كلتاهما فيما يلي). يشاد بعمل لاكان لنزعه التأطير البيولوجي لدى فرويد، ولكنه يُنتقد بسبب النزعة المركزية القضيبية. هذان الجانبان متشابكان في الواقع، حيث يعتمد كلاهما على شرح لاكان المسهب للغة بوصفها نظام رمزي يسبق ذاتية الإنسان ويجعلها ممكنة. ولكي أُبقي تركيزي منصباً على التوظيف النسوي للجهاز النظري للتحليل النفسي، سأركز أولاً على فهم لاكان للتقاطع بين اللغة والقانون في النظام الرمزي، وبعدها على تفسيره لتشكيل الأنا في النظام التخيلي. فالتخيلي والرمزي أسلوبان للتمثيل يجعلان العالم والنفس مفهومين. النظام الرمزي هو مصطلح لاكان للطريقة التي يصبح فيها الواقع مفهوماً ويكتسب معنى وأهمية من خلال الكلمات؛ والنظام التخيلي يشير إلى أسلوب الفهم الذي تقدمه الصور. ينسق التوسط المتناغم والمتنازع للعالم عبر الصور والكلمات الواقع أو يعطيه معنى، ويحفز الذاتية والعلاقات الاجتماعية. وكما هو الحال مع فرويد، فإن الشخصيات الأمومية والأبوية مركزية في تفسيره للذاتية.

يصف لاكان عمله بأنه عودة إلى فرويد أساساً، وإن كانت عودة تجلب رؤى كل من اللغويات البنيوية وخاصة فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure ورومان جاكبسون Roman Jakobson، والأنثروبولوجيا البنيوية وفي المقام الأول كلود ليفي شتراوس Claude Levi-Strauss، إلى ميدان التحليل النفسي. ومع ذلك، تُعتبر عودته تنقيحات كذلك؛ فهو لا يسترجع مفاهيم فرويد المحورية فحسب، بل يجددها أيضاً. فوفقاً للاكان، تتنبأ نظرية فرويد في الحياة الجنسية بنظرية للدلالة لم يتمكن قط من الإسهاب في شرحها. إن النسب الأنثروبولوجي واللغوي لفكر لاكان أمر مركزي لهذه المفهمة “للعالم الرمزي”. فهو يؤيد صراحة فهم ليفي شتراوس للقانون المتعالي الذي يقف وراء النشاط الاجتماعي البشري بوصفه تحريم زنا المحارم؛ ويكتب أن “القانون الأساسي أو الرئيسي، القانون الذي تبدأ فيه الثقافة بالتعارض مع الطبيعة، هو قانون تحريم زنا المحارم” (لاكان 1992 [1986]، 66-7). يؤسس تدخل اللغة والقانون لقطيعة مع الطبيعة من شأنها أن تبدّل العالم بإضفاء المعنى عليه. وفقاً لمنطق كتاب الطوطم والمحرم، تتشكل الهويات الاجتماعية على أساس الإقصاءات التي تؤسس شبكات القرابة. ويُحافَظ على هذه الروابط الاجتماعية من خلال التفويضات والمحظورات (ما هو مطلوب وما هو محظور)، وبخاصة من خلال تفويض الأباعدية (مع بناها للتبادل) الذي يحدد أن “عقدة أوديب عالمية وطارئة في آن” (لاكان 1991b [1978]، 33): فالحظر الأبوي يهيئ الظروف للنشاط الاجتماعي البشري بدون أن يصبح الحظر نفسه متأصلاً. بالتالي يفسر لاكان التحول العابر للأجيال للبنى الأولية لعلاقات القرابة دون الاستناد إلى أي ضرورة طبيعية. ويعتبر أن قانون القرابة هذا (الذي يملي الرغبة وحدودها) يتوافق بصورة أساسية مع نظام اللغة لأنه يتشكل من خلال تعبير رمزي.

يدعو لاكان الحظر الأبوي (تحريم زنا المحارم) بقانون الأب، ويطور العلاقة بين القانون واللغة عن طريق التلاعب بالألفاظ. فالـnon (لا) وnom (اسم) الفرنسيتان تلفظان بصورة متشابهة. الـ(لا non) التي تحرّم (أي قانون الأب) والاسم nom الذي يؤسس السلطة (اسم الأب أو الاسم المناسب) يُمنحان في وقت واحد. إذ يتبنى الطفل، من خلال الخضوع لقانون الأب (اللا الخاصة به واسمه)، هوية رمزية ومكانة في عالم المعنى البشري، أي يصبح الطفل ذاتاً مقيدة بالقانون وحاملة للغة. مع هذا الإذعان يكتسب الطفل حياة من الرغبة والنقص، ويسعى وراء موضوعات مفقودة بدون أرضية مؤكدة أو هدف ثابت، وهو نقص في امتلاء الكينونة يحدده لاكان على أنه إخصاء.

كما ناقشنا أعلاه في القسم المخصص لفرويد، يفهم فرويد أن النساء “مخصيات”، أي محرومات من القضيب، وأن الرجال يعيشون تحت تهديد الإخصاء. يعقّد لاكان هذا المنظور النظري باعتباره أن جميع الذوات، جميع الكائنات الناطقة، مخصية، مما يعني أنها محرومة من القضيب النفسي phallus، وهو يختلف عن القضيب العضوي penis. فبينما القضيب العضوي عضو بيولوجي، فإن القضيب النفسي دال يستدعي دالات أخرى أو يشير إليها أو يستدعي أنظمة من الدالات أو يشير إليها. لحظة الإخصاء هي اللحظة البدئية للخسارة وتمزيق اللغة للكينونة. ومع دخول الذوات عهد القانون واللغة، تُعزل عن الإحساس المباشر للتجربة الجسدية؛ فالكلمات والتمثيلات تتوسط العلاقات مع الأشياء ومع النفس ومع الآخرين. يمكن أن يستند التمييز بين القضيب النفسي والقضيب العضوي إلى تمييز فرويد بين الغريزة والدافع، لأن المصطلح الأخير في كل حالة يشير إلى أن التجربة الجسدية لها معنى طالما تأخذ مكانها في وسط اللغة وفي عالم الآخرين.

يحدث الإخصاء عندما يدرك الطفل نقص الأم ويبطل جبروتها الأمومي. فالأم، فبالنسبة له، تتوقف عن كونها المزود كلي القدرة لكل إشباع لأنها هي نفسها كائن راغب محروم من الإشباع. يشير هذا اللغز المتعلق بالرغبة الأمومية إلى موقع آخر، نحو “القانون الذي أدخله الأب” (لاكان 2006 [1970]، 582). فالحظر الأبوي يتدخل لتحذير الطفل/ة من أنه/ا ليسا الرد على مطلب رغبة الأم. ويأخذ قانون الأب، الذي يحفزه نقص الأم، مكان رغبة الأم ويحل محلها ويخفيها. في الواقع، تشير الوظيفة الأبوية، التي تعمل من خلال القانون والاسم، إلى أب ميت، تماماً مثلما يفهم فرويد في كتابه الطوطم والمحرم أن الأب المقتول، وهو الشرط المسبق للقانون، أقوى من الأب الحي. في النسخة اللاكانية من العقدة الأوديبية، يكتسب البشر وضعاً جنسياً بعبور العقدة الأوديبية، أي من خلال الخضوع للإخصاء والذي يسمى كذلك بالوظيفة القضيبية النفسية، وبالتالي يدخلون في الدلالة. لذلك لا يوجد اختلاف جنسي قبل التمثيل.

نصل هنا في فكر لاكان إلى مركزية القضيب، إن لم تكن النزعة الأبوية (البطريريكية)، والدور المركزي للقضيب النفسي في تفكيره حول الذاتية والاختلاف الجنسي. فوفقاً للاكان، يغرس القضيب النفسي الدال في الذات بغض النظر عن أي “تمييز تشريحي بين الجنسين” (لاكان 2006 [1970]، 576). بعبارة أخرى، القضيب النفسي مسؤول عن عبور الطفل من حقل الانغماس في الإحساس الإدراكي المباشر إلى حقل تمثيلي يكتسب العالم فيه معنى. وهذا الادعاء هو الذي ينزع الطابع البيولوجي عن فكر فرويد، لأنه يحدد وظيفة القضيب النفسي بمعزل عن أي سمات جسدية محددة. يصر لاكان على أن القضيب النفسي دال، وليس صورة أو عضو جسدي، وأن الكل مخصي في علاقته به. تقول الـ”لا” التي يفرضها الأب للطفل “أنت لست موضوع رغبة الأم” أو “أنت لست قضيبها والشيء الذي يشبع رغبتها”. وهو ينقل بالتالي الرسالة التي مفادها أن الطفل يفتقر كذلك إلى أمر ما أو يرغب فيه. على الرغم من تمييز لاكان بين فكرة “يُصوّر لها أن تكون” التي تميز الأنوثة، في محاولة منها لأن تكون القضيب النفسي الذي لا تكونه (أن تكون موضوع الرغبة)، وبين فكرة “يُصوّر له أنه يمتلك” التي تميز الذكورة في محاولة منها لامتلاك القضيب النفسي الذي لا تملكه (أن تمتلك موضوع الرغبة)، إلا أنه لا يزال يؤكد على أن كل شخص يفتقد القضيب النفسي بطريقة ما، سواء بأسلوب ألا يكون هو أو بأسلوب عدم امتلاكه له. ومع ذلك، ففي حين عدم تركيز لاكان التجربة البشرية على المرونة البيولوجية المفترضة للتمييزات التشريحية وإنما على التدبير التمثيلي، فإن القضيب النفسي يحافظ على ارتباطاته مع الذكورة ويبقى النقطة المحورية للهوية الجنسية.

افترض فرويد، كما ناقشنا سابقاً، وجود ليبيدو واحداً فحسب وهو ذكوري. ويتناول لاكان صراحة، في مقاله “دلالة القضيب النفسي The Signification of the Phallus”، وجهة النظر البديلة القائلة بأنه قد يوجد ليبيدوان اثنان وينتقدها ويسخر منها بوصفها نوعاً من المساواة الجنسية و”المساواة في الحقوق الطبيعية” (لاكان 2006 [1970]، 577). وجهة النظر هذه أشرت إليها سابقاً على أنها تعود لكارين هورني التي تدافع عن الفكرة القائلة بطبيعة الحياة الجنسية الأنثوية المتأصلة وغير المتشعبة والقائمة على البيولوجيا. كما يستخف بفكرة أن المرحلة الأخيرة من الحياة الجنسية التناسلية موجهة نحو الشخص الكامل في شخصيته/ا، وتحقق نوعاً من أنواع العطف نحو الكينونة الكاملة للآخر (لاكان 2006 [1970]، 580). يشك لاكان في هذين الموقفين بوصفهما تطبيعاً وإضفاء للطابع البيولوجي، ويدّعي أن النفس لا تتناغم مع الطبيعة في أي من هاتين الطريقتين. ويدعي، على النقيض من هذا الخيال الرغبوي بالتكامل الجنسي وفكرة تقارب الاهتمامات الجنسية للرجال والنساء، أن فرويد فهم “الاضطراب الجوهري للحياة الجنسية البشرية” (لاكان 206 [1970]، 575)، أي أننا في حالة نقص دوماً، وأننا نبحث عن الأهداف والموضوعات دوماً، وفهم “انحراف حاجات الإنسان بسبب حقيقة أنه يتكلم” (لاكان 2006 [1970]، 579)، وأن هذه الفوضى تعني كذلك أنه لا يوجد علاقة جنسية متناظرة أو متناغمة بين الرجل والمرأة المتكاملين والمدركين لذاتيهما.

يجب التمييز بوضوح بين البعد الرمزي للعلاقات الإنسانية وبين بعدها التخيلي بوصفه ميداناً للأنا. شُرح النظام التخيلي بصورة أساسية وواضحة في مقالة لاكان “مرحلة المرآة بوصفها مولّدة لوظيفة الأنا كما كشفت عنها تجربة التحليل النفسي The Mirror Stage as Formative of the I Function as Revealed in Psychoanalytic Experience”، حيث يتوسع في شرح رؤى فرويد الواردة في كتابه الأنا والهو، ويتناول فكرة أن الأنا هي أولاً وقبل كل شيء أنا جسدية تتشكل كـ”إسقاط لسطح ما” (فرويد 1968 [1923]، 27)، أي تمثيل مرئي لقشرة أو واجهة خارجية. يتفق لاكان مع هذا الرأي، حيث يكتب عن تشكل الوعي “في كل مرة… هناك سطح مثل هذا يمكن أن يُنتج ما يسمى صورة” (لاكان 1991b [1978]، 49). تبدأ مرحلة المرآة قبل المرحلة الأوديبية، عندما يكون عمر الطفل ستة شهور تقريباً. يكون الطفل في هذا العمر رضيعاً بكل معنى الكلمة، بدون قدرة على الكلام، وكذلك بدون قدرة على التنسيق الجسدي أو التحكم الحركي. ولأنه يولد قبل أوانه، في مرحلة تسبق أي قدرة كافية على الاعتناء بنفسه، فإنه يكون عاجزاً غريزياً تماماً. ومن خلال تحديد نفسه بصورة ما وبوحدة متناسقة ولكنها متناقضة مع وجوده الجسدي المجزأ والمشتت، فإنه يشكل ذاتاً أولية يحركها وهم ما، ولكنه وهم يسمح له بتوقع تنظيمه المستقبلي الخاص به.

تؤسس رواية لاكان عن مرحلة المرآة الأنا كنظام تخيلي في الأساس، يتشكل من خلال افتتان الطفل بالشكل الوحدوي المتمثل في صوره عن نفسه التي يظنها أنها له بسبب التماهي. تتعارض هذه الصورة الإدراكية للخطوط والحدود الجسدية المتماسكة مع العجز الحركي للطفل و”الحركات المضطربة” أو الدوافع المجزأة التي تحفز جسده وعملياته. تتشكل الأنا المتوهمة بالسيطرة على النفس والاحتواء من خلال سوء الإدراك، وهو تماهٍ استباقي مع حصن للنفس مثالي ومستقر ومنغلق على ذاته. هذا التماهي المترافق مع صورة عن النفس يضع الأنا ككيان تنافسي ونرجسي وعدواني. وعلى الرغم من أن فعل سوء الإدراك يصبح الأساس للشعور بالنفس أو للوعي الذاتي، إلا أنه كذلك فعل للاغتراب أو الإقصاء أو الانقسام الذاتي؛ فالنفس تنقسم كذلك، من خلال إقامة مثال تخيلي وتمثيل النفس في صورة مكتملة، وتصبح غير واعية بنفسها ومنقطعة عن تعدد الدوافع المتفرقة.

تمثل الأنا بالنسبة إلى لاكان “عقدة العبودية التخيلية” (لاكان 2006 [1970]، 80) وبالتالي موقع ركود الذات وجمودها. وتشكل مرحلة المرآة كذلك أساس نقد لاكان لعلم نفس الأنا، ففي حين يُعتبر الأخير تقوية للأنا ليكون هدف الممارسة التحليلية، فإن لاكان يعتبر أن تطلعات الأنا تتمثل بأن تكون “طُعماً” (لاكان 2006 [1972]، 78) لامتلاك الذات، ودرعاً يقسّي الذات ويقاوم الحرية والحركة، وبنية دفاعية تقدم هوية اغترابية. مع هذه النظرية عن الأنا، يقدم لاكان ذاتاً تتعارض مع نفسها، وغير متطابقة معها وفي “خلاف أولي” معها (لاكان 2006 [1970]، 78)، ممزقة بين الوحدة والشواش، والتنظيم والفوضى، والتكامل والتجزئة. ينبع انسحاب الذات من نفسها من انعكاسية الممارسات التمثيلية للغة. فقد حوصرت الأنا كموضوع في علاقات تعارضية، ومنها علاقتها بنفسها، ولا يمكن بالتالي مساواتها مع الذات بوصفها كائناً متكلماً قادراً على لعب دور أعقد في الحضور والغياب، باستخدام الكلمات والدالات المرتبطة مع بعضها البعض بصورة مختلفة؛ فاللغة، على خلاف الإدراك (أنا أدرك موضوعاً أو لا أدركه)، يمكنها استحضار حضور الشيء وغيابه معاً (أستطيع تمثيل موضوعات غير موجودة).

في حين يرتبط ظهور النظام الرمزي بالتحول الأوديبي، ويرتبط النظام التخيلي بالمرحلة ما قبل الأوديبية، فإنه من الخطأ التفكير في النظامين التخيلي والرمزي ضمن شروط تطورية أو تسلسلية زمنية (كرونولوجية) لأنهما بنى مستمرة للتجربة أيضاً. يجادل لاكان بأنه حتى في العلاقة الثنائية الظاهرية بين الأم والطفل يوجد عنصر ثالث نشط دوماً. يكون هذا العنصر في البداية مجرد سؤال يتعلق برغبة الأم وماذا تريد، إلا أنه يعطّل فعلياً موقف الطفل أو يزعزعه، ويمزق الوحدة الثنائية، حتى عندما يعتبر الطفل نفسه موضوع رغبة الأم، لأنه يشير بطريقة أولية إلى أن الأم ناقصة، وليست كاملة أو تامة أو كلية القدرة. بكلمات أخرى، يعني سؤال الرغبة أن الأم القضيبية في النظام التخيلي هي نفسها الأم المخصية في النظام الرمزي، وأنه لا بد من ترقية الوحدة التخيلية للأنا، مع علاقاتها المتناقضة، إلى علاقة رمزية للاختلاف.

مع ذلك، من المهم عدم الخلط بين الأم والمرأة أو بين الأمومة والأنوثة. يعلن لاكان بوضوح أنه “لا يوجد شيء اسمه المرأة، فالمرأة (كتب الحرف الأول من الكلمة بحرف كبير) تدل على الكون” (لاكان، 1998 [1975]، 72)، وهو مفهوم ميتافيزيقي له سياق محدد وجوهري. ويشير، بتأكيده على أن “المرأة غير موجودة، إلى أن شيئاً ما يهرب من الخصي والتقييد والدلالة ومتطلبات قانون الأب. تهمل التمثيلات الرمزية والتخيلية أمراً ما، وتهاجم حدوده، وتسبب مأزقاً يمثل شقاً أو تصدعاً في النظام الرمزي. على الرغم من أن التمثيل يتوسط الاختلاف الجنسي، إلا أنه لا يمكن احتوائه بالكامل ضمن شروطه.

قادت الفكرة القائلة بأن الاختلاف الجنسي ليس فطرياً من الناحية البيولوجية ولكنه تَشكّل من خلال اللغة والقانون، بعض النسويات إلى الاستنتاج بأن لاكان يقف إلى جانب النزعة البنائية الاجتماعية، ولكن هذا خاطئ. فلاكان مصر على أن الاختيار بين الطبيعة والثقافة خاطئ، وأن اللغة ليست “ظاهرة اجتماعية” (لاكان 2006 [1970]، 578). فاللغة والقانون، المتجسدان من خلال اسم الأب، غير قابلين للاختزال إلى ممارسات وعمليات اجتماعية، وهما في الواقع شرط إمكانها. على الرغم من انتقاد لاكان لتأسيسه الاختلاف الجنسي على أساس الوظيفة القضيبية وتأسيس الذاتية على أساس السلطة الأبوية، إلا أن ما يقدمه المشروع اللاكاني للنسوية ليست فكرة ثقافة مرنة خاضعة لسيطرة البشر متميزة عن الطبيعة الراسخة التي تهرب منها، وإنما يقدم فكرة أكثر إرباكاً وهي أن السيادة البشرية، على أنفسنا وعلى الآخرين وعلى الطبيعة والثقافة، في حد ذاتها وهمية. إن رؤى لاكان، مثلها مثل رؤى فرويد، لا تشير إلى وعد التقدم العقلاني نحو قدر أكبر من المساواة واحترام الاختلاف الفردي والشمولية، بل تشير إلى هشاشة الهوية والروابط الاجتماعية وعدم استقرار الدوافع التي تربطنا ببعضنا البعض. لا تُعتبر الذاتية والحياة الجنسية تكيفات طبيعية بل انحرافات وانعطافات وانقطاعات عن الطبيعة تقوّض الهوية وتقسّم أو تحد أي وحدة للنفس أو المجتمع. بالإضافة إلى تميّز طريقة لاكان وتركيزه ورؤاه، يُعد هذا الاستعداد للتعامل مع حدود السيطرة على النفس أحد الأسباب التي جعلت بعض المنظّرات النسويات ينظرن إليه على أنه مورد إبداعي ومرن. ويواجه لاكان، في كشفه لأوجه القصور للتفسيرات الاجتماعية التجريبية للاختلاف الجنسي والهوية وعلاقات السلطة القائمة عليها، البنى الأساسية الجذرية للظروف الاجتماعية التاريخية التجريبية.

4. النسوية الفرنسية

يُعد إطلاق تسمية النسوية الفرنسية خاطئ من نواحٍ عديدة، لأن المؤلفات اللاتي نُعتن بذلك نادراً ما كنّ من أصول فرنسية أو من جنسية فرنسية (على الرغم من أنها اللغة السائدة في كتاباتهن)، ولا يعرّفن عن أنفسهن بالضرورة وبصورة علنية على أنهن نسويات. تتساءل الكاتبات المنتميات إلى النسوية الفرنسية، بمن فيهن لوسي إريغاري وجوليا كريستيفا وسارة كوفمان وكاثرين كليمنت وهيلين سيكسو من بين أخريات، عن العلاقة بين الأمومة والأنوثة بأساليب مختلفة، ويشككن في قدرتنا على تحديد ماهية المرأة، ويقلقن حيال افتقار فرويد للانتباه للأمهات، ويلعبن بنمط الكتابة، ويتساءلن حول الذاتية الأنثوية وحول ما إذا كان بإمكان النساء أن يكنّ ذواتاً أو مواطنات بدون تبني المعايير الذكورية، ويطعنّ في مركزية القضيب عند لاكان، ويشتبهن في أن الوصول إلى لغة سيدمج النساء في صورة إخوة محايدين. وهن، على عكس بوفوار، أكثر تعاطفاً من الناحية الفلسفية والمزاجية مع انشقاق الذات الذي أسهب فيه التحليل النفسي، فكرة أن أنا لست أنا، وأن الانقسام الذاتي هو الميزة الأساسية للوجود البشري وليس الهوية الذاتية، وأن الذات بالتالي هي ليست نقطة المنشأ الوحدوية للاختيار. ويتساءلن، مثل بوفوار، ما إذا كانت بنية الأنوثة وبنية الذاتية متوافقتين وقابلتين للتناسب وللتوفيق بينهما، ويغتظن من هاجس أنهما متعارضتين بصورة أساسية. وعلى الرغم من أنهن يهدفن إلى فصل الأنوثة عن الأمومة وانتقاد الخلط بينهما، إلا أنهن يأخذن على محمل الجد كذلك أهمية الأمومة للنساء والأطفال من كلا الجنسين. ولأنهن يعترفن بحدود التفسيرات الاجتماعية الثقافية لافتقار النساء إلى مكانة في العقد الاجتماعي ويأخذن الأنوثة والجسد الأنثوي كنقاط انطلاق في الحديث أو الكتابة، فغالباً ما يُتهمن بالنزعة الماهوية. سوف أركز فيما يلي على أعمال إريغاري وكريستيفا، وأدرس كيف تعاملتا مع أفكار فرويد ولاكان وقامتا بتحويلها، وكيف صاغتا الاختلاف الجنسي بوصفه مرتبطاً بالكامل بتأسيس نظام رمزي وهدمه.

4.1 مأزق الذاتية الأنثوية

تصف إريغاري مشروعها بأنه يُنجز على ثلاث مراحل: أولاً، تفكيك الذات الذكورية، وثانياً، تحديد الإمكان لذات أنثوية، وثالثاً، بناء ذاتية مشتركة تحترم الاختلاف الجنسي (إريغاري 1995a، 96). فالاختلاف الجنسي، حسب وجهة نظرها، ليس نظاماً من الهيمنة يجب التغلب عليه، بل هو عملية وممارسة ثقافية يجب تحقيقها وتغذيتها؛ إذ تلخص علاقات الهيمنة والتبعية الفعلية، التي تميز السياسات والمجتمع والتاريخ والأدب واللغة والقانون في الغرب، بالنسبة لإريغاري حكم اللااختلاف الجنسي، أي النظام الأخوي للأخوة أو المواطنين المتساوين الذي يغفل الانقسام الذاتي للطبيعة والتمايز الجنسي المتأصل فيها. تُقحم كتابات إريغاري فرويد في ثقافة اللااختلاف الجنسي هذه، فعمله هو أحد أعراض الميتافيزيقا الذكورية وحلمها بالهوية الذاتية والسيطرة على النفس. سأناقش فهم إريغاري للااختلاف الجنسي فيما يلي بمزيد من التفصيل، بعد أن أصف أولاً أسلوب كتابتها وأوضحه.

يتسم أسلوب كتابة إريغاري في كثير من الأحيان بالمحاكاة، وهو نهج تدّعي أنه “أُسنِد تاريخياً إلى الأنثى” (إريغاري 1985b،76)، ولذلك هي تتبناه عمداً لكي “تحاول استعادة مكانتها التي استغلها الخطاب” (إريغاري 1985b،76). لم تتقدم كتابة إريغاري بصورة منطقية، بحيث تضع الفرضية وتدعم الحجج، ولم تُصَغ عبر تفسيرات خطية بحيث تتفق مع التقليد. وهذا لا يعني طبعاً أنها لم تصل إلى استنتاجات أو أن كتابتها خالية من الرؤية. لكنها تحصّلت على هذه الرؤى عبر عكس النص الذي تقرأه، والسماح له بإظهار توتراته وتناقضاته، وعبر مقاربته، وتغييره، وتكثيف أزماته وعرض هفواته (زلات لسانه النصية والمفاهيمية). فكتابتها مقادة بأهواء المؤلف قبلها، وتُظهر القوى البنيوية للنص ومآزقه وحدوده أو تفضحها. تعمل استراتيجية القراءة هذه على منطق اللاوعي للنص، فتكشف تخيلات المؤلف ومخاوفه الكامنة من خلال تضخيمها والتأمل فيها، وبالتالي تحاول إرخاء القبضة الذكورية على الرمزي عبر نقل مسلماته غير المعلنة والتحدث من منظور مختلف. وتهدف هذه الاستراتيجية، بإصغائها بانتباه إلى الدال والكلمات والصمت في نصوص التحليل النفسي، إلى استعادة البدني في اللغة، والذي هو شيء كامن في العمليات الرمزية للتمثيل، كما تهدف إلى اختراع لغة جديدة وتخيل أشكال جديدة.

يتضمن كتاب إريغاري منظار المرأة الأخرى Speculum of Other Woman (وهو أطروحتها وعملها الذي أدى إلى نفيها من المدرسة اللاكانية) مقالتها الطويلة بعنوان “النقطة العمياء في حلم قديم بالتماثل The Blind Spot of an Old Dream of Symmetry” التي تتناول كتابات فرويد حول الأنوثة. حيث تبدأ المقالة بمعالجة مباشرة للفظه عبارة لغز الأنوثة (إريغاري 1985a، 13) في محاضرته “الأنوثة”. يمكننا هنا أن ندرك بالفعل أسلوب إريغاري الفريد ومشروعها النقدي، والطريقة التي تراكبت فيها هاتين الميزتين في كتابتها وتشابكتا مع بعضهما البعض، مما يدفع إلى طريقة تقليد متميزة في قراءة النص وتكراره وإعادة إنتاجه وعكس صورة خطاب فرويد التأملي، ولكنها كذلك تحوّل مصطلحاته وتخربها. تبدأ نصها بكلمات فرويد، كما بدأ هو نصه، ويتألف من اقتباسات طويلة تتبع مسار مقالة فرويد. بقدر ما يبدو هذا الاستيلاء للوهلة الأولى وكأنه استماع سلبي من جانب ابنة بارّة، إلا أن إريغاري تؤدي نوعاً من التقنع بالأنوثة: متقبلة، وخاضعة، ومطيعة. لكن هذا الأداء ليس مجرد مراجعة أو إعادة إنتاج؛ فعبر ضربها الأمثلة على الطرق التي لا تملك النساء فيها لغتها الخاصة ولا يمكنها التحدث إلا بصوت الأب أو من خلاله، تؤسس المجال الرمزي الذي يجب أن يتحرك فيه أي نقد بينما تقوّض كذلك مسلماته. لقد أُضيفت كلماتها كتعليق أو تساؤل أو تعارض تقتحم النص الفرويدي وتستحوذ على امتيازاته وتكشف عن جروحه. وهي تصرّ، عبر إشراكها فرويد في حوار، على وضعها هي كذات متحدثة، وليس كمجرد موضوع دراسة لدعم التوسع في العلم المتحيز جنسياً.

إن إصرار إريغاري على حديثها الخاص يشكل أهمية بالغة في ضوء تأنيب فرويد للنساء بقوله: “أنتن أنفسكن المشكلة” (فرويد 1968 [1933]، 113). فقد غامر فرويد في محاضرته بتناول مسألة الاختلاف الجنسي، وسعى إلى تعقيد تصوراتنا وحقائقنا المتعلقة بمعناها ووضعها بدلاً من تبسيطها. إلا أن إريغاري تحاول، عن طريق استرجاع رأي فرويد وتكراره، أن تُظهر أنه ما زال عالقاً في اليقينيات والدوغمائيات حول الجنس، لذلك فخطابه في النهاية هو أحد خطابات اللااختلاف الجنسي، كما سأناقش فيما يلي. بالتالي، فرويد ليس سيد مقالة إريغاري؛ فكلماته لم تحدد مسارها بقدر ما تكشف عن طابعها الترابطي (الحر)، وعدم سيطرتها، وخيالاتها الرغبوية الأنوية والتماهية التي تطارد نصوصه حول الأنوثة.

تُعد أعمال فرويد، وفقاً لإريغاري، لامختلفة جنسياً لأنها تفترض نوعاً من التماثل أو التناغم بين الهويتين والحياتين الجنسيتين الذكورية والأنثوية. ففيما يتعلق بالرغبة الجنسية، يفترض فرويد أن النساء “الطبيعيات” يرغبن في الرجال والرجال يرغبون فيهن، وبالتالي يمكن لكل جنس تلبية رغبات الجنس الآخر. وفيما يتعلق بالهوية الجنسية، ينمذج فرويد عقدة أوديبية أنثوية على أساس النموذج الفكري الذكوري والأصل الذكوري، حيث الأنثى نسخته المشوهة. في كلتا الحالتين، يستنبط فرويد فهم النساء على أنهن الآخر المكمل للرجال، آخر منمذَج على نفس الشاكلة. تعتبر إريغاري هذا تدبيراً أحادي الجنس ومثليّاً اجتماعياً يحكمه التعارض أو الانعكاس. هذا اللااختلاف الجنسي هو الذي أُشير إليه في عنوان مقالة إريغاري “الحلم القديم بالتماثل”. ولكن إريغاري تعتقد، كما يشير عنوان المقالة كذلك، أن هذا الحلم مبني على “نقطة عمياء”. يصف فرويد علاقة الفتاة بالشخصية الأمومية بأنها “كبت متعنت تحديداً” (فرويد 1968 [1931]، 226) وينظر إلى الفتاة الصغيرة على أنها رجل صغير؛ إنه لا يرى علاقة الأم بالابنة أو يستوعبها. الجريمة هنا، من وجهة نظر إريغاري، هي قتل الأم وقمع الأنساب الأمومية أو خطوط النسب. وقانون الأب، هذا النظام الوراثي الذي يتيح للأبناء أن يرثوا اسمه عن طريق الخضوع لنواهيه وإعطاء الامتياز لهذا الاسم على حساب جسد الأم، يستأثر حتى بالمولد للأب. بالتالي، يُقمع النسب الأمومي. تجادل إريغاري بأن هذا الأمر يعني أن العلاقة ما قبل الأوديبية بين الأم والابنة لم يتناولها النظام الدلالي؛ في الواقع ذلك النظام ينكر بصورة رجعية وجود مثل تلك العلاقة على الإطلاق، لأن الابنة لا تصبح ابنة حقاً، ولا تصبح متصفة بالأنوثة أو متمايزة جنسياً (كفتاة أو امرأة) إلا بعد المرحلة الأوديبية. وفقاً للمصطلحات اللاكانية، يستبعد فرويد علاقة الأم بالابنة من النظام الرمزي. لم يُفقد الارتباط الأمومي أو يُكبت فحسب، بل حُظرت كذلك القدرة على تسمية الخسارة أو تحديدها كخسارة. فبعد محو خسارة الأم من الذاكرة، لا يمكن الانتحاب عليها. تدّعي إريغاري أن هذا اللاتماثل النَسَبي، حيث يتم تخليد اسم الأب والتضحية بجسد الأم من أجله، هو ما يحافظ على شرعية النظام الأبوي ويحث على الخيال الرغبوي بتناغم الاختلاف الجنسي والاقتناع بأن كلا الجنسين متشاركان ومتكاملان في هويتيهما ورغبتيهما.

بالتالي، يندرج الاختلاف الجنسي، حسب قراءة إريغاري لفرويد، تحت “إشكاليات التشابه” أو يُشتق منها (إريغاري 1985a،26) ويوجهه الخيال الرغبوي بالتكوين الذاتي، أي أن يكون المرء أصله هو، وهو مثال للسيطرة على النفس بحيث لا يهددها أي اختلاف حقيقي. يفترض التفسير المسبق الذي أورده فرويد للحياة الجنسية أن الذات الجنسية ذكرية، حتى أنه لا يوجد نساء، بل أمهات فحسب أو أولئك المقدر لهن أن يصبحن أمهات، أي أن معنى كون الشخص امرأة قد اُستنفذ تماماً في كونها أماً. فالفتاة الصغيرة، في المرحلة السابقة لتاريخها النفسي كما تم تفصيله في فكرة أن “الفتاة الصغيرة هي رجل صغير” (فرويد 1968 [1933]، 118)، لن تكون ابنة. مع اختلاف الفتيات الصغيرات عن الأولاد الصغار وتوقفهن عن أن يكنّ رجالاً صغاراً، يُتوقع منهن أن يصبحن موضوعات مرئية جذابة، ومرآة لرغبات الرجال، تمكنّ الرجال من استعراض أنفسهم، وتدعم صورتهم عن أنفسهم بانعكاس محب. ترى إريغاري في هذا التفسير رغبة ذكورية في توجيه رغبة النساء نحو الرجال. فالنساء يُتوقع منهن أن يكنّ بمثابة مرآة تدعم أهداف الرجال، وتغذي هوياتهم وتدعمها، وتنشط دافعهم نحو السيادة، عن طريق تقديم أنفسهن كأنا بديلة. إن هذا النظام التخيلي المرآتي قاتل للأم، يتغذى على دم النساء ويترك دَيْنه الأساسي للأم غير مدفوع، ويتخلى عن ذاتية الابنة. لقد مُيزت الذكورة، بقمعها الاعتماد على الأصل الأمومي للحياة، بأنها أصلية ومنها ينبع التمايز. ما يعمل كفقد بدائي بالنسبة إلى الفتيان/ الأبناء، وكمسبب رغبتهم، لا يمكن أن يعمل بالنسبة للفتيات/ البنات إلا كثغرة في اللغة، وغياب في المعنى، ونفي للرغبة واللغة والنساء الأخريات، وفراغ في اللغة لا يمكن تعويضه ولا التعافي منه لأنه حُفّز باللغة وبالدخول في النظام الرمزي الذي استدعاه الحظر الأبوي لاسم الأب. يتمحور قلق إريغاري حول أن المرأة في نظر فرويد ليست سوى مرآة وعلاقتها هي دوماً بالابن: ليس هناك علاقة بين الأم والابنة. لم تقم الثقافة الغربية على قتل الأم فحسب، والتي تدّعي أنها أقدم من قتل الأب في كتاب الطوطم والمحرم، بل إن قتل الأم هذا منسي والأم لا يُحزن عليها.

قامت الحياة السياسية على أساس كل من السلالة النسَبية بين الآباء والأبناء وروابط الأخوة، مما أدى إلى قمعها أي نسب أمومي واستحواذها على العالمية والمواطنة للرجال وجعل النساء مجرد موضوعات لرغبات الرجال ومقايضاتهم. لا يُعد استغلال النساء مجرد ظاهرة تحدث ضمن النظام الاجتماعي، بل هو أساسه ومقدمته المنطقية فعلاً. تطلق إريغاري على النظام الأبوي تسمية “الحياة الجنسية المتشابهة الرجالية homo(m)osexuality”، والتي تعني أنه نظام من المتشابهين في الجنس (homo) وفي الوقت نفسه نظام من الرجال (homme)؛ أي أن نظام اللااختلاف الجنسي يتجاهل العلاقات فيما بين النساء، وتحديداً العلاقات بين الأمهات والبنات، ويضع النساء في وسط تحالفات الرجال بوصفهن داعمات خفيات وأرصدة نشطة للهيكل السياسي. يدعم نسيان الأم هذا العلاقات العمودية والأفقية بين الرجال، إلا أنه يترك النساء غير ممثَلات في اللغة (كذوات) وغير قادر على إحراز تمثيل لهن في النظام السياسي (كمواطنات). بالتالي، يهدف مشروع إريغاري إلى انتقاد النظام المتشابه الرجالي وتدبيره المرآتي، وإعادة تنشيط العلاقات بين الأم والابنة لجعل الذاتية الأنثوية ممكنة، وتنمية الاختلاف الجنسي في الحقل السياسي، وفي الهوية المدنية. يستلزم تطوير مصادر الانتقال، أي أن تصبح النساء مواطنات وذوات، تعطيل انتقال السلطة بين الرجال وإعادة التفكير في العبور من الطبيعة إلى الثقافة التي تمثلها عقدة أوديب. وتتطلب هذه المهمة التدخل في الحقلين الرمزي والتخيلي، وخلق لغة جديدة غير منفصلة عن الجسد، وإنهاء تقسيم العمل بين الحب والقانون.

تحول بنية التدبير التمثيلي، وربطها للذاتية بالذكورة، دون التقارب بين كون المرأة امرأة وكونها كائناً متكلماً. وعلى الرغم من وجود كلمات خاصة للنساء في اللغة طبعاً، إلا أن هذه الكلمات لا تمثلهن إلا بالإشارة إلى الذكورة، كصورة سلبية عن الرجال، أو كاستجابة لجهود أبوية من المعايير والتوقعات الأنثوية. فهي تكفلها في عالم ذكوري، وتحدد ماهيتها مسبقاً، وتجعلها أسيرة لفكرة الجوهر الأنثوي. بينما تسعى إريغاري، على النقيض من ذلك، إلى خلق تمثيل للنساء لا يكون كتصميم لماهيتها ولا يعرّفها بجوهر ملموس أو يقيدها به، بل يسمح لها بالوجود وفقاً لشروطها الخاصة والتكلم عن نفسها. وتعتقد أن هذا النوع من تقرير المصير محظور بسبب استبعاد السلالة النسَبية بين الأم وابنتها، وهو استبعاد يعمل على إسناد قدر أمومي للمرأة (كأمهات للرجال). لا تتسم كتابات إريغاري بالدلالية أو التعبيرية ولا تتحدث عن المرأة (كما لو كانت المرأة موضوعاً محدداً لدراسة) ولا تتحدث بوصفها امرأة (كما لو كان الهدف هو التعبير عن جوهر داخلي)، بل تقيم علاقة انعكاسية باللغة. ومن خلال رضوخها في نمط كتابتها المحاكي للتوقعات الثقافية حول الحيل الأنثوية، تعرض فاعليتها المنفية وتوسع بالتالي احتمالات كونها امرأة لتشمل، ليس كونها موضوعاً في اللغة أو مرجعاً له فحسب، بل كذلك محولاً للغة. تظهر إريغاري أنه يمكن من خلال التكلم بصورة مختلفة، تحويل المعنى الحقيقي لأن تكون امرأة (أو تكون رجلاً)، بحيث يبقى الاختلاف الجنسي مفتوحاً على احتمالات جديدة، بدون ادعائها قول ما هي المرأة فعلاً، وتصحيح ما أخطأ فيه النظام الرمزي. لذلك، هي لا تدحض كثيراً رواية فرويد لكل من عقدة أوديب والذكورة المزعومة للفتاة الصغيرة بقدر ما تعيد تمثيل جريمته الأساسية ضد النساء، وهي الإقصاء الأوديبي للاعتماد الأمومي، محوِّلة بالتالي مشهد تمثيلها.

كما تتحدى إريغاري فكرة لاكان عن قانون الأب والدال القضيبي، فتتهكم على الطريقة التي تم فيها إسناد الولادة الطبيعية إلى الأمومة في حين أُسندت الولادة الثقافية إلى الأبوة، مما يساوي المرأة/ الأم بالجسد والرجل/ الأب باللغة والقانون، ويحيل عملية الولادة الجسدية (الأمومة) إلى الطبيعة الصامتة بينما يثمّن عملية الشرعية الرمزية (الأبوة) بوصفها مكوناً للحضارة. لقد أُضفي الطابع الذكوري على الذاتية، بينما أُضفي الطابع الأنثوي على الجسد البشري وشُوّه. تهدف إريغاري إلى إثارة أزمة شرعية في الإرث الأبوي واسم الأب الذي يمنح للطفل هوية سياسية وعائلية.

يؤدي طمس الاختلاف الجنسي إلى تمكين نظرية ميتافيزيقا الجوهر حيث تكون الهوية الجنسية مسألة كينونة مثبتة ومحددة سلفاً أو جوهراً أساسياً أو خصائص مشتركة، بدلاً من كونها شكلاً من أشكال الصيرورة والتوليد الذاتي. يقاوم تفسير إريغاري النسَبي للاختلاف الجنسي كل من الفكرتين التاليتين: فكرة الجوهر الإنساني العالمي الثابت (ومن ثم المحايد جنسياً) الذي يقابل التعددية البشرية (وبالتالي يطردها)، وفكرة الجوهر الجنسي الذي يتألف من هويات منغلقة ذاتياً يوجد بينها انقسام لا يمكن عبوره. وذلك يعني أنها ترفض الافتراضات الوجودية لكل من المساواة العالمية والنزعة الانفصالية، وتعتبرهما ذكوريتين وأبويتين ضمنياً، ومرتبطتين بنزعة جوهرية ميتافيزيقة تهدف إلى التقاط التنوع في المبادئ الأولى أو الأخيرة، أو إخضاع الجزئيات لمفاهيم عامة. وهي تتخذ من انقسام الطبيعة الذاتي إلى اثنين نموذجاً للتطور الذاتي المستقل، متحدية بذلك منطق الواحد والكثرة. عندما تقول إريغاري إن الطبيعة البشرية ثنائية، فهي لا تقصد أن هناك جوهرين جنسيين مثبتين، بل أن تكون طبيعياً يعني أن تكون متجسداً ومحدوداً ومنقسماً، وأن الميزة الأساسية للطبيعة هي النمو من خلال التمايز. والطبيعة البشرية في رأيها ليست غير متجسدة أو محايدة؛ بل هي جنسية أو مرتبطة بالجنس بصورة مميزة، حيث لفظة الارتباط بالجنس sexuate لفظة مستحدثة لكلمة جنسي sexed، ولكنها ليست بالضرورة اختلافاً جسدياً وشهوانياً. تعبّر إريغاري كذلك، برؤيتها الجسد الطبيعي كجسد متمايز ذاتياً وليس متطابقاً ذاتياً، عن قدرات مميزة للتوالد تتوافق مع الاحتمالات المورفولوجية المختلفة (احتمالات الشكل الجسدي) التي تستلزم “تكوينات ذاتية مختلفة” (إريغاري 2001 [1994]، 137).

وتجادل إريغاري بأنه إذا كانت الطبيعة البشرية ثنائية ودوماً منقسمة، عندها فالهوية المدنية هي كذلك ثنائية ومنقسمة؛ أي لا بد من إدخال ثنائية الطبيعة في ثنائية الثقافة. فالأحادية وهم من أوهام النظام الأبوي، بينما الثنائية تهدد نظام المركزية القضيبية وتتحدى الافتراض القائل بأن العالمية لا بد أن تكون مفردة. والفكرة الفاضحة عن الذاتية الأنثوية تعني أن العالمية لا بد أن تكون مزدوجة. بالنسبة إلى إريغاري، لا تعني ازدواجية العالمي مجرد استبدال العالمية المحايدة (وهو أمر ينطبق على جميع البشر) بحقيقتين متميزتين ومنفصلتين تماماً. فالعالمية التي ازدوجت قد انفصلت أو انقسمت عن نفسها كذلك، أي لم تعد واحدة، وترى إريغاري في هذا إمكانية صقل الاختلاف الجنسي والتغلب على ثقافة اللااختلاف الجنسي التي تعتمد على فكرة الإنسان العام.

إذا صِيغ الآخر دوماً على أساس المِثل، كمجرد اختلاف محدد عن هوية عامة أساسية معينة، فلن يكون هناك إلا التكامل والتضاد، ولن يكون هناك ذاتاً أخرى حقيقية مطلقاً، لكل منها مسارها الخاص في التطور. لقد عكست النساء ذوات الرجال، وانعكست أناهم عليهن في وهم الكمال والوحدة، وخضعن للمطالبة بأن يؤدين الأنوثة أو يتقنعن بها. بالتالي، ونظراً لهذا النقد الذي وجهته إريغاري لاستغلال الآخرية رغم نقدها لسياسات المساواة النسوية، لا يمكن لها التوافق ببساطة مع مشروع الاختلاف، إذا كان هذا يعني تأكيد مزايا الخصوصية البيولوجية أو الاجتماعية للمرأة بوصفها سمات أساسية وقيّمة فطرياً، لأن إريغاري اعتبرت أن نظاماً رمزياً وتخيلياً أبوياً هو من أطّر هذه السمات فعلاً ومقدَّماً. لا يعني تأكيد إريغاري على الاختلاف الجنسي التأكيد على سمات الأنوثة التي نُسبت إلى النساء، لأن هذه السمات فعلياً، حسب رؤيتها، سمات اللااختلاف الجنسي، التي لا تُعرّف إلا بالإشارة إلى الرجال. لم يظهر الاختلاف الجنسي بعد، وواجبها جعله موجوداً.

تتعارض ثنائية الوجود مع التبدل الميتافيزيقي بين الواحد والكثرة، حيث أن تذبذبها المستمر بين النزعة الجوهرية للهوية الجامدة والتأرجح الحر مستقل عن أي وجود محدد للتعددية غير المحدودة والنزعة الفردية البحتة. وعلى أرضية هذه الثنائية الوجودية تحاول إريغاري بناء أخلاقيات الاختلاف الجنسي، كعلاقة سياسية بين اثنين، مع الحقوق المدنية المناسبة للتحديد الجنسي للهوية، بحيث لا تنفصل هوية المرء كمواطن عن الجسد، ولا ينفصل القانون عن الطبيعة. وإذا لم يكن الاختلاف الجنسي مجرد تأثير للقمع، فالحرية لا تعني التحرر من التجسيد الجنسي. وعلى الرغم من أنه لا يمكن للحيادية السياسية أن تعترف إلا بالذوات المتحررة من حاجات الجسد والمتجردة من حياتها الجسدية، إلا أن المواطنين في نظر إريغاري ليسوا تجريدات. فالعالم المزدوج غير الحيادي يسمح بالاعتراف بالذوات الأنثوية المميزة (والذوات المذكرة المميزة) سياسياً.

تؤكد إريغاري على أن تثبيت الذاتية الأنثوية أمر مفارِق في النظام الاجتماعي الأخوي، مثل بوفوار التي تؤكد على أن اللغة والثقافة تشكلان الذات بوصفها ذكورية والأنثى بمثابة الآخر له. ولكنها ترى أن بوفوار وفرويد يفشلان في التعامل مع الاختلاف الجنسي طالما أنهما يتمسكان بفكرة ذاتية ذكورية وحيدة، فرويد لافتراضه أن الليبيدو ذكوري دوماً، وبوفوار لاعتقادها أن هدف تحرير النساء هو المساواة مع الرجال (على سبيل المثال، من خلال اختتام كتاب الجنس الآخر Second Sex بدعوة إلى الأخوّة والتي تبدو، ظاهرياً، أنها دعوة للنساء إلى تمثّل المعايير الذكورية عن الذات). وهي ترفض مشروع المساواة، لأن “المساواة” لا يمكن أن تعني مساواة إلا بالنسبة إلى الرجل، وتقترح بدلاً من ذلك مضاعفة فكرة الذاتية بما يتماشى مع تقسيم الذات الذاتي. قد يبدو هذا غير ضروري، خاصة بالنسبة للنسويات اللاتي يستهدفن تحقيق المساواة، لأن بإمكان النساء طبعاً أن يكنّ، في معظم أنحاء العالم الليبرالي الديمقراطي على أقل تقدير، مواطنات وذوات معاً مثل الرجال تماماً. ولكن وجهة نظر إريغاري هي أن النساء لا يمكنهن التمتع بحقوق الرجال إلا شريطة أن يكنّ مثلهم، أي طالما هنّ إخوة ويندرجن في الفردية المحايدة للعقد الاجتماعي الليبرالي. بالتالي، هذا الوصول المتساوي المزعوم إلى المواطنة والذاتية لا يحلّ المفارِقة، لأنه ينحاز إلى جانب الذاتية على حساب الأنوثة، ويحتفظ بتكوين الأنوثة بوصفها نقصاً، وصورة معكوسة للرجل، أي الآخر بالنسبة إلى المِثل والتي تقف في طريق الفاعلية السياسية وتعوّق الاستقلال، والتي يجب بالتالي التغلب عليها من أجل تحقيق تقرير المصير. فالأنوثة والذاتية تبقيان متعارضتين في العقد الاجتماعي السائد.

لا تعتقد إريغاري أن باستطاعتها القول ما هي ماهية المرأة أو ما هي ماهية الأنوثة. فآليات التبادل الأسرية والاجتماعية والرمزية تحرم الأنوثة من صورها ولغتها الخاصتين بها، وتصوغ النساء من خلال لغة الرجال وصورهم ورغباتهم، وتُنتج بالتالي تناسقاً ظاهرياً ولكنه زائفاً ضمن لغة وحيدة رتيبة. في مواجهة هذا التناغم، مع المِثل وآخره، تفسر إريغاري إنتاج الاختلاف الجنسي أو عمله، الاختلاف الجنسي بوصفه علاقة بين اثنين، على أنه موجهاً نحو تحرير الأنوثة والذكورة من قيودهما الميتافيزيقة والسياسية عن طريق السماح لكل منهما بصقل طبيعتيهما المترابطة. لا تعني فكرة “بين اثنين” وجود مسار واحد مشترك بين الاثنين، بل تشير بالأحرى، بالإضافة إلى قيمة كل من الهوية الجنسية الأنثوية بصورة خاصة والهوية الجنسية الذكورية بصورة خاصة، إلى المسار العلائقي للعلاقات التفاعلي بين الذوات الذي يسمح لهما بتقدير كل منهما للآخر وتقييمه. ونظراً إلى أن فكرة “بين اثنين” قد قامت على ثنائية الوجود (التمايز الذاتي)، فإننا سنجد في صقل هذا الاختلاف الجنسي إمكانية لوجود علاقة جنسية أخلاقية، وهو ما تدعوه إريغاري بأخلاقيات الاختلاف الجنسي. إذاً، ترى إريغاري، على عكس لاكان، بأنه يمكن أن توجد علاقة جنسية. بالتالي، لا يتضمن تعهُد إريغاري مجرد تأكيد على الاختلاف مقابل المساواة، ولا ينطوي بالتأكيد على عكس بسيط؛ فمثل هذه المواقف تُتخذ على أساس نظام رمزي وعلاقة تخيلية قائمين بالفعل، وهما نفسهما نحتاج إلى التحقيق فيهما. يجب علينا، من أجل إيجاد لغة للحياة الجنسية الأنثوية والذاتية الأنثوية، أن “نراجع الخطاب السائد” (إريغاري 1985b، 119) وافتراضاته السائدة للمادة أو الجوهر، ومفهومه عن الهوية الذي يناصر نظام اللااختلاف الجنسي.

على الرغم من أن إريغاري استحضرت الأم في كثير من الأحيان كمصدر للحياة والذاتية، إلا أنها لا تساوي بين الأمومة والأنوثة أو بين الأم والمرأة. يبدو أن جيسيكا بنجامين Jessica Benjamin (التي سيُناقش عملها فيما يلي) تشترك، مع العديدين غيرها، في الرأي الخاطئ القائل بأن المشروع النظري لإريغاري قائم على تثمين “الأعضاء التناسلية الأنثوية بوصفها نفطة انطلاق لرغبة مختلفة” (بنجامين 1988، ص 276). ولا شك أن هذا التفسير (الخاطئ) ينبع من نص إريغاري الصعب “عندما تتحدث شفاهنا معاً When OUR Lips Speak Together”. لكن ما تقصده إريغاري بـ”التحدث من الجسد” هو الابتعاد عن المفهوم المفرد للأصل والرغبة، وبالأخص أصل الرغبة. تُعدّ كتابتها عن أجساد النساء، مثلها مثل استرجاعها لأنساب الأم والابنة، استراتيجية لغة وتخيل، تضع الجسد كحدّ سائل، وكموضع تدفق الثقافة في الطبيعة والعكس بالعكس، وليس كمركز أنوي منغلق على ذاته. هي ليست من أصحاب المذهب الجوهري الذي يرى بيولوجيا النساء على أنها مصيرها. بل تتحدى الانقسام بين الطبيعة والثقافة، وتتحدى الاختيار بين البيولوجيا أو الحضارة.

4.2 الذاتية، والتغير، والاغتراب

على الرغم من أن إريغاري وكريستيفا جُمعتا معاً في كثير من الأحيان في لمحات عامة خاطفة لما يسمى بالنسوية الفرنسية، إلا أن مشاريعهما (ومواقعهما في الأكاديمية) متباينة أساساً، سواء فيما يتعلق بتحليلاتهما النقدية أو مشاريعهما السياسية. ففي حين أن إريغاري كانت طالبة لدى لاكان الذي كانت على قطيعة مع تعاليمه (رغم استلهامها منها) منذ أعمالها الأولى، فإن علاقة كريستيفا بمدرسته الفكرية أكثر غموضاً ولم تكن طالبة لديه أو تحضر ندواته مطلقاً. ربما يكون تناول موقفهما من العنف الرمزي للإخصاء (عقدة أوديب) والعقد الاجتماعي هو أفضل طريقة لالتقاط وجهتي نظرهما الشخصية. فكما أوضحنا أعلاه، تتخيل إريغاري ثقافة مرتبطة بالجنس من شأنها التغلب على المطالب الأوديبية بالتدبير التضحوي وإعادة الأنساب الأنثوية إلى عمل الحضارة. أما كريستيفا فتزعم، على النقيض من إريغاري، بأنه لا وجود للذاتية وراء التضحية، ولا تعتقد بإمكانية التغلب على أوديب أو وجوب التغلب عليه. لا تندرج كريستيفا وإريغاري ضمن مجموعة واحدة ولا تردّ كل منهما على كتابات الأخرى. لكن لكل منهما تدريباً وممارسات تحليلية نفسية وتهتمان كلاهما بالجسد والدوافع، وتتناولان فكرة الخسارة أو نفي جسد الأم وتأثير قتل الأم على العلاقات الاجتماعية. حتى أن كريستيفا (على غرار إريغاري) تدين الإنسانية بوصفها “أخوة المِثل” (كريستيفا 1998، 168) وتلعب بأسلوب الكتابة، مثل إريغاري، مما يجعلها تقدم تصويرات تجريبية ومبتكرة وخيالية أحياناً للحالات المزاجية النفسية والممارسات الأمومية والمساعي الفنية.

كما أن ارتباط كريستيفا بالفكر النسوي متقلب وغير مستقر، رغم أن تركيزها على مسائل متعلقة باللغة والأنوثة والجسد الأمومي يجعل عملها قابلاً للاهتمام والتطور النسوي. تصنف كريستيفا في مقالتها “زمن النساء Women’s Time” الحركة النسوية في ثلاثة أزمنة أو أجيال مميزة، لكل منها نهجها ورؤيتها الخاصة للعدالة. الجيل الأول عالمي من حيث المبدأ ويطمح إلى إعطاء المرأة مكانة في التاريخ والعقد الاجتماعي؛ حيث يأخذ هذا الجيل المساواة مهمة له ويؤكد على تعريف النساء بالقيم السائدة للعقلانية. تضع كريستيفا بوفوار في صف هذا المشروع المتمثل في السعي إلى الوصول إلى الذاتية العالمية. الجيل الثاني تفاعلي، يرفض فكرة تمثل القيم التي تُعتبر ذكورية؛ حيث يصر هذا الجيل على الاختلاف الأنثوي. على الرغم من أن كريستيفا لا تشير إلى إريغاري، إلا أنه يبدو من الواضح أنها تضعها في صف هذه الاستراتيجية ومشروع الاعتراف بالخصوصية الأنثوية. الجيل الأول، في نظر كريستيفا، ملتزم جداً بالمساواة العالمية إلى حد إنكاره الفروق الجسدية، والجيل الثاني ملتزم جداً بالاختلاف إلى حد إنكاره المشاركة في تاريخ يُعدّ ذكورياً. لا يتبع الجيل الثالث مسار تثبيت الهوية ولا مسار تحييد الاختلاف في وسط العالمية، بل يحتضن الغموض وانعدام الهوية، ويحترم قيمة المشاركة في الزمن التاريخي وحتمية الاختلاف. يدرك الجيل الثالث أننا ندخل العقد الاجتماعي والمجتمع المحلي مع الآخرين ككائنات متجسدة.

بما أن كريستيفا تعتقد أنه لا وجود للذاتية ولا للمجتمعية بدون عنف العقد الرمزي وتقسيم الذاتية، فإن النسوية التي تقترحها لن تلجأ إلى هذا العنف لا عن طريق الوقوف خارج التاريخ (كما يفعل الجيل الثاني)، ولا عن طريق إنكار أجساد النساء ورغباتهن (كما يفعل الجيل الأول). وإذ تأخذ كريستيفا على محمل الجد تعنت الاختلاف الجنسي والشروخ العنيفة داخل الهوية، فإنها تدعو إلى دعم نسوي للاغتراب لا يتظاهر بإصلاح التصدع بين الجسد والقانون (ما يدعوه لاكان الإخصاء) ويرفض عزاء الهوية. وتشير كريستيفا إلى التجربة الجسدية للحمل، وهي تجربة انفصال، وتجربة وجود اثنين في واحد، كتجسيد لعدم الاستقرار والتغير في الهوية.

يمكن استيعاب هذا الإصرار على هشاشة الهوية وتقلقلها في المقام الأول من خلال تفحّص فهم كريستيفا للدوافع واللغة. فكريستيفا تقدم مفهوم السيميائية (مفهوم يتعلق بعلم الأعراض أو العلامات ويهتم بفهم العلامات وتأثيرها علينا) بوصفه البعد العاطفي للغة الذي يسهّل حركتها النشطة. السيميائية هي مادية اللغة، وصفاتها النغمية والإيقاعية، وقوتها الجسدية. في تصور كريستيفا، لا تستبعد اللغة الدوافع فحسب، بل تدرجها كذلك كعنصر غريب داخلها. على الرغم من أن السيميائية أكثر بدائية من الدلالة، إلا أنها تشارك في الممارسات الدالة.

إن شرح كريستيفا المسهب للسيميائية يضعها في مرحلة سابقة على التخيل اللاكاني، أي قبل اللحظة التي يتعرف فيها الرضيع على أناه الخاصة به ويميز نفسه عن موضوع ما. فالطفل، الذي لا يزال في علاقة سهلة الاختراق مع جسد آخر، يسيّره تدفق فوضوي وغير متجانس وإيقاعي من طاقة الدفع “التي ليس لديها أطروحة ولا موقفاً” (كريستيفا 1984، 26). ولأن السيميائية متحركة ومؤقتة وتنتقل عبر جسد الذات التي لم تتشكل بعد، فإنها تشكل قوة عماهية سابقة للغة وغير قابلة لتحديد موقعها لأنها تسري عبر مادية لم تتمايز بعد، حيث لم يتميز فيها حتى الآن الجسد الطفولي من الجسد الأمومي. تدعو كريستيفا هذه المرحلة بمرحلة ما قبل النظرية لأنها تسبق مرحلة الافتراضات والمحاكمات والمواقف والفرضيات، وهي احتمالات لاحقة قد تكبح أو تغتنم حركة تتجاوزها دائماً. بما أن الصورة نفسها نوع من أنواع الإشارة، وتمثيل أول، فإن ظهور التخيل يحدد أول قطيعة نظرية، وهي انقطاع عن الطبيعة ودخول في حقل العُرف. إذاً، إن ما تعنيه كريستيفا بالنظري يشمل البعدين التخيلي (مرحلة المرآة) والرمزي (عقدة أوديب) عند لاكان. ولا يمكن القول بإمكانية وجود دلالة مناسبة إلى جانب النفي بوصفه حُكماً إلا مع ظهور المرحلة النظرية، أي “عتبة اللغة” (كريسيفا 1984، 45). بتبديلها فهم لاكان للتخيل أو مرحلة المرآة بتلك الطريقة، تهتم كريستيفا بالعلاقة بين الأم والطفل في مرحلة ما قبل الأوديبية بطريقة لا يفعلها هو، في حين تشرح كذلك بإسهاب الفكرة الرئيسية غير المكتملة في عمل فرويد.

يميز فرويد بين الشبقية الذاتية والنرجسية الأولية، وينسب إلى الأخيرة فعلاً نفسياً جديداً. ففي حين أن الشبقية الذاتية تسبق تشكل الأنا وتفرّد الذات، فالنرجسية الأولية لا تنشأ إلا مع التطور التمهيدي لوحدة الأنا، عندما تتمكن الأنا من تمييز نفسها من العالم المحيط واعتبار نفسها موضوعاً. تتوافق السيميائية مع طاقة الدفع المنتشرة للشبقية الذاتية، وينصبّ اهتمام كريستيفا على تحدي فرويد لتقييم الفعل النفسي لتشكيل الأنا الذي يمكّن النرجسية الأولية، والتي تنسبها إلى تماهٍ أولي مع الأب التخيلي. في كتاب حكايات الحب Tales of Love، الذي ينطلق من ادعاء فرويد في كتابه الأنا والهو بأن التماهي مع الأب في مرحلة ما قبل التاريخ الفردي يسبق التركيز العاطفي على الموضوع ويُعد أكثر أولوية منه، تقدم كريستيفا تفسيراً أصلياً للفترة السابقة لعقدة أوديب، حيث تجد شخصية أبوية هناك. وبما أن رابطة التماهي تسبق أي رابطة أخرى مع الموضوعات، فإن الأب المتخيل هو ما يجعل الفصل النهائي بين الأنا والموضوع، أو بالأحرى بين الأنا البدائية والموضوع البدائي، ممكناً. فالأب لا يشكل الموضوع الأول، بل التماهي الأول الذي يجعل اللغة والحب، والتحرك داخل عالم من الآخرين، أموراً ممكنة. تفترض كريستيفا أن هذا التماهي يغير الفضاء الأمومي ويعرقله بشيء يتجاوز حدوده. ولكنه يشير كذلك إلى وجود قدرة رمزية أولية ما قبل نظرية تعمل في الحياة الطفلية. على الرغم من أن الدوافع تطرد الموضوع الأولي أو تفصله أو تعزله، إلا أن فضاء التمايز يُدعم بالتماهي مع الأب التخيلي الذي يبقيه مفتوحاً. فالأب التخيلي هنا مرتبط بالحب (على عكس الأب الرمزي المرتبط بالقانون)، وهو دعوة للغة والذاتية، ليصبح كائناً يمكنه بناء علاقات مع الآخرين.

تتفق كريستيفا مع رؤية فرويد القائلة بأن القطيعة النظرية، أو القطيعة التحريمية لعقدة أوديب والأب الميت، والتي تؤسس للقانون والنشاط المجتمعي، هي قطيعة عنيفة وقاتلة (كريستيفا 1984، 70). فالقدرة على التمثيل تغير عالمنا الإدراكي، مما يترتب عليه استحالة وجود إحساس جسدي مباشر، وأن جميع التجارب ستتوسطها ممارسات ذات مغزى ويغربلها تنظيم الأنا. ولكن على الرغم من أن الطفل الدال يعاني من هذا التمزق في التجربة بوصفه خسارة يجب أن نحزن عليها، إلا أنه، وكما تزعم كريستيفا، هدية، هدية لنفس يمكنها التنقل عبر اللغة. فبإمكان الطفل، بوجود الكلمات والذكريات، أن يعوّض عن خسارة الموضوعات في الإدراك (حيث يتعلم، في الحالة النموذجية، تحمّل خسارة الأم). حسب رؤية كريستيفا، إن وجود الأب المحب الذي يتيح تفرد الطفل الأولي عن الأم يسبق “العنف البنيوي الناجم عن اقتحام اللغة بوصفه قتلاً للبدن وتحويلاً للجسد واستيلاء للدوافع” (كريستيفا 1984، 75). وعلى الرغم من أن العنف الرمزي جزء لا يتجزأ من الحفاظ على النظام الاجتماعي، إلا أن الحب وليس القانون، حسب تفسير كريستيفا، من قدم الوعد المتعلق باللغة في البداية. على عكس إريغاري التي تريد استعادة فترة ما قبل الأوديبية من أجل استعادة الأنساب الأنثوية، لا تريد كريستيفا سوى إعادة توصيفها من أجل تقييم أهميتها للتفرد والتحول الذاتي الخلاق. وتعتبر أن قتل الأم في المرحلة الطفلية (الانفصال عن الأم) شرطاً ضرورياً للذاتية وليست مجرد بقايا من العنف الأبوي.

غير أن كريستيفا ترسم مسارات مختلفة للعلاقات الأبوية والأمومية في تكوين الذات. فالأب المتخيَل يمكّن من خلق فضاء نفسي جديد يقوم على التمييز بين الداخلي والخارجي، أي بين النفس والآخر. واقتحام الدال يدشّن التفرد وافتراض التشكيل الجسدي والوحدة البدنية، وبالتالي يقتضي فقدان الجسد الأمومي. ترى كريستيفا أن قتل الأم، وقمع الجسد الأمومي، حدث ضروري في مسار الذاتية. يمكن أن يكون التبدل الجسدي بين الأم والطفل بمثابة عائق أمام الحب، فيحجز الطفل في قيد غامر. توفر الأم المحِبة النهج الأول للغة والقانون من خلال إظهارها الحب لموضوع هو ليس الطفل، بل طرف ثالث خارج العلاقة الثنائية يجعل العلاقة الثنائية نفسها ممكنة ويطلق العنان للضغوط العاطفية الناجمة عنها. ويقدم الأب المحِب أحد الوعود، رغم تعطيله الاندماج مع الأم، مما يتيح للطفل تمثيل نفسه ويشجعه على ذلك. نجد هنا أن فكر كريستيفا يتماشى مع فكرة لاكان القائلة إن الأم التي يتمحور موضوع رغبتها على طفلها فقط سوف تنجب طفلاً لا يستطيع تجاوز الذهان الناتج عن كونه القضيب النفسي بالنسبة إليها.

تُعد الدلالة واللغة موقعين للتسامي، وللأعمال الخلاقة التي تنبثق من الدوافع، لكن من الممكن أن يعطّلهما النبذ والمِلنخوليا (السوداوية أو الكآبة المصحوبة بالحزن الشديد) اللذين يشكلان قيوداً للإخضاع، رغم أنهما شرطين أساسيين له. تعرّف كريستيفا النبذ والمِلنخوليا بأنهما موقعان للأزمة النفسية (والاجتماعية) المتجذرة في الاضطراب النرجسي. ففيهما، تخاطر العمليات الهشة المتعلقة بتشكيل الأنا بالانهيار؛ إذ ترتد الذات إلى العدوانية المتناقضة في مواجهة صعوبة توضيح حدود النفس. وفي حين أن كريستيفا تفهم النرجسية على أنها بنية أساسية للنفس، وإن كانت غير مستقرة، فللنبذ والمِلنخوليا علاقات إشكالية بالجسد الأمومي وخسارته (أو الاضطراب الناجم عن خسارته). إنهما خبرتان ناجمتان من تشتت الأنا أو انحلالها دون إعادة تنظيم، وكذلك من تحصينها المتشدد.

وصفت كريستيفا النبذ في كتابها قوى الرعب: مقال عن النبذ Power of Horror: An Essay on Abjection، بأنه ليس الداخل ولا الخارج وليس الذات ولا الموضوع وليس النفس ولا الآخر، مما يعكر صفو الهوية والنظام بعدم استقرار الحواجز والحدود والقيود. تقدم كريستيفا أمثلة عن السوائل الجسدية، مثل العرق والدم والقيح والحليب، كموضوعات غير ذات أهمية تُنفى في سياق تشكيل الأنا. كما تشمل هذه الموضوعات غير ذات الأهمية جسد الأم أيضاً؛ الواقع أن الجسد الأمومي موقع مميز للنبذ، لأنه هو ما يجب استبعاده كي يتحقق التفرد والانفصال، حتى يتمكن الفرد من تمييز النفس عن الآخر وإقامة علاقة ثنائية (تخيلية) من الفضاء الأمومي غير المتمايز أو الكورا السيميائية، أي العلاقة ما قبل المكانية بالدوافع المتدفقة (وإن لم تكن غير منتظمة تماماً). ومن ثم يمكن إطلاق تسمية المكبوت الأولي على النبذ، وهو أولي لأنه يسبق الحظر الرمزي الثانوي المتعلق بتحريم زنا المحارم أو عقدة أوديب، ويسبق كذلك تأسيس أي هوية كانت.

النبذ مرعب ومثير للاشمئزاز، ولكنه يستحوذ على الاهتمام كذلك؛ فهو غريب ولكنه مألوف. عملية النبذ ليست مجرد عرَض من أعراض الرهاب (الفوبيا) أو الاضطراب الحدي، بل تجربة قاسية ضرورية ومتكررة الحدوث في أي عملية انتقال للذات إلى التماهي مع الأب والوصول إلى اللغة. إنها أقدم شكل من أشكال السلبية، وإقصاء أو طرد يعمل على تأمين حدود النفس وتشكيل مسافة وتحديد خط انقسام يمكن للأنا أن تنبثق منه. تدعو كريستيفا هذا بالمحاولة العنيفة “للتحرر من قبضة الكيان الأمومي” (كريستيفا 1982، 13) أو بالأحرى مما ستكون عليه الأم، لأن هذه العملية تؤسس للتمييز بين الجسد الأمومي والطفل في المقام الأول، مما يجعل النرجسية الأولية ممكنة. يكشف النبذ عن تقلقل الانقسام بين الذات والموضوع، وهشاشة الهوية، والحاجة إلى تشكيل الذات ضد التهديد بالانحلال والرغبة فيه.

على الرغم من أن النبذ ليس من اهتمامات كريستيفا الأساسية، إلا أنه يمكن فهمه كذلك على أنه ظاهرة اجتماعية لها تبعات سياسية. فقد تُدفع تجربة الاضطراب الأنوي الأولي نفسياً إلى المجال السياسي، وتؤُكَد أو تُعزَز اجتماعياً. يواجه الأفراد في النبذ ما يتعين عليهم إقصاؤه أو طرده من أجل الحفاظ على الهوية، أي أنهم يواجهون اعتمادهم على الآخرين وفناءهم ومحدوديتهم وماديتهم. قد ترتد هذه الغرابة المختبرة على حواف الهوية المليئة بالثغرات إلى علاقات مقلقة مع الآخرين، وخصوصاً أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم يفتقرون إلى الهوية الواضحة أو يُهمشون اجتماعياُ أو يرفضون الاستيعاب الثقافي. وفي حين أن تركيز كريستيفا على ما هو منبوذ أقل من تركيزها على عملية النبذ، أي تركيزها على الموضوع غير المهم والمُقصى أقل من تركيزها على العنف الناجم عن الانفصال الذي يجلب الموضوعات (والآخرين) إلى الوجود، فإن عملها يقدم الدعامات النظرية لطرح تساؤلات تتعلق بمن يتحمل عبء النبذ، وكيف يُصوّر البعض على أنهم ليسوا بشراً أو أنهم حيوانات أو غرباء، ولماذا يُصوَّرون على هذا النحو. يكشف تحليلها للنبذ الطرق التي تعتمد فيها الحياة الاجتماعية على تخفيف الفوضى والاضطراب أو احتوائهما، وإدارة الخوف من التدنس.

إن اضطراب الحدود والعلاقة المتضاربة بالفضاء الأمومي على تخوم النرجسية، يحفزان المِلَنخوليا كذلك. تتكرر فكرة الأمومة بوصفها الأم المكبوتة أساساً في كتاب الشمس السوداء: الاكتئاب والمِلَنخوليا Black Sun: Depression and Melancholia، حيث تدّعي كريستيفا أن “قتل الأم ضرورة حيوية بالنسبة لنا” (كريستيفا 1989، 27)، فهو التقسيم المؤسس الذي يسهل ولادة الأنا ونموها. وتُشيد بالطفل، “المتجول الشجاع”، الذي يغادر المهد ليقابل الأم في حقل التمثيلات” (كريستيفا 1989، 41). وتؤكد على أن تنظيم النفس يقوم على الخسارة، وتدرك كذلك أن المعاناة التي تنطوي عليها الخسارة يمكن أن تعرقل تشكيل النفس، وأن الخسارة نفسها يمكن أن تصبح الواقع المهيمن لبعض الأشخاص غير القادرين على إقامة علاقة آمنة مع أنفسهم. وفي حين أن الحزن، بالنسبة إلى كريستيفا وفرويد، يمكّن الذات من التجاوز التدريجي والمؤلم للخسارة عبر إقامة علاقة لغوية معه، فإن المِلَنخوليا ممارسة تمكّن الذات من التمسك بالموضوعات المفقودة، وبالأخص الأم أو بالأحرى الأم الميتة (أو المكبوتة). ييسّر الأب المحب الحزن والإبداع اللغوي؛ بينما تعطل الأم التي أُميتت الإبداع الذاتي. إن ولادة الأنا من الإقصاء وتقسيم الوحدة ليس مجرد لحظة محزنة ، بل كذلك لحظة ممتعة محتملة، يقدم فيها ظهور اللغة ووعد الأب تعويضاً وحياة مع عالم من الآخرين، بحيث يمكن للكلمات أن توفر القوت الذي كان يوفره الثدي سابقاً. فالأب يجعل من الممكن ملء الفراغ باللغة وتشكيل روابط دلالية.

إن المشكلة، حسب فهم كريستيفا للانهيار الناجم عن المِلَنخوليا، مشابهة للمشكلة التي ناقشناها أعلاه في القسم الخاص بإريغاري، أي أن الخسارة لا تُسمى ولا يُحزن عليها، وبالتالي تبقى غير معالجة داخلياً، مما يترك الذات راكدة ومشلولة. حسب كريستيفا، تُعد معاناة النساء من فقدان الإبداع وعدم القدرة على التسامي أشد من معاناة الرجال، ووصولهن إلى اللغة والتحول الذاتي الخلاق أكثر عرضة للاضطراب بسبب القمع المستمر (المناقش سابقاً) لعلاقتهن ما قبل الأوديبية بالأم ومواجهتهن صعوبة أكبر في تأسيس تماهٍ أولي مع الأب. ففي حين أن الرجال قد رقّوا (ربما) فقدان الرابطة الملغاة مع الجسد الأمومي إلى إيقاعات اللغة، فإن هذا الفقد غالباً ما يصبح بالنسبة إلى النساء فضاء ميت لم يكن فيه في يوم من الأيام سوى حياة مليئة بالخسارة والفراغ فقط. إن النساء، المسجونات بأم غير ميتة وغير محزون عليها ومقصيات من اللغة أو التمثيل، عرضة لمخاطر التضحية الرمزية بدون أي تعويض.

يقدَّم التحليل النفسي كعلاج مضاد للاكتئاب، مثل الفن والكتابة، قادر ليس فقط على إبقاء الدوافع أو القوى السيميائية تتحرك من خلال اللغة، بل كذلك على تعزيز إمكاناتها الثورية لتجاوز الحدود والقوانين الرمزية وإعادة صياغة النفس والمجتمع بصورة إبداعية. تحيي الممارسة التحليلية النفسية، مثلها مثل النص الشعري، الكورا السيميائية أو تنشطها، من خلال الوصول إلى الدوافع والإيقاعات التي يقمعها عادة القانون والنظام الرمزيان، حيث تُعد الكورا السيميائية الصلة مع الجسد الأمومي أو الأنوثة. تطلق مثل هذه الممارسات العنان للطاقات المشوِشة للجسد، والانفصال الممتع بين المعنى واللامعنى. وتستغل التوتر الجدلي بين النظامين السيميائي والدلالي استغلالاً مثمراً وبالتالي تُبقي هذا التوتر موجهاً نحو المعارضة والاحتجاج بدلاً من الانهيار الداخلي.

 على الرغم من مقاومة النظام السيميائي للنظام الرمزي، أو عدم قدرة النظام الرمزي على احتوائه، إلا أن الاثنين متشابكان ومتداخلان دوماً في اللغة؛ فالدوافع تدعم العملية الرمزية وتقوّضها في الوقت نفسه، مما يقرب الإيقاعات والقوى الجسدية من الدلالة ويجذبها ويدفعها في الوقت نفسه بعيداً عن تنظيمها وحالاتها. يرتبط هذا الإمكان التدميري للدوافع والإيقاعات السيميائية بالسلبية كقوة تمرد، وكتجاوز، وبصورة أعمق كقوة إقصاء جسدي، ولكن بصورة أعم كقوى تحفّز باستمرار على التنظيم الذاتي للشخص. تحافظ السلبية على الحياة وتبقيها مستمرة عن طريق تدوير الطاقة، جاعلة الذات في حالة تقدم دوماً. فمن خلال حركتها، لا تكون الذات هوية جامدة، بل تتطور دوماً وتعيد صياغة نفسها من خلال التفاعل بين الدوافع واللغة، في التوترات القائمة بين الجسد والصورة المرآوية وبين الصورة المرآوية والنفس.

على الرغم من دفاع كريستيفا عن “الثورة الشعرية”، (بمعنى العملية المستمرة لإعادة صياغة المرء للغة والنفس من خلال استغلال التباينات بين العناصر السيميائية والرمزية)، إلا أنه أحياناً يُشار إليها كمفكرة محافظة بسبب التزامها بالحفاظ على النظام الرمزي والعقد الاجتماعي. تكمن خطورة نظام رمزي قوي جداً أو ضعيف جداً في أنه يشجع على العودة إلى النبذ أو المِلَنخوليا، أي إلى المرحلة السابقة لتشكيل الأنا، وإلى انحلال الحدود التي تحافظ على الحياة الاجتماعية والذاتية الخلاقة، مما يساهم في انهيار الأنا في فراغ سحيق فارغ وتثبيط الإبداع السيميائي. إن مثل تلك الذات الهشة والمتجزئة والمفككة، الباحثة دوماً عن موضوعات لعلاج تصدع الكينونة والحالمة بالعودة إلى الوحدة ولكنها تعاني من كابوس الاضطراب وانهيار الهوية، معرضة بصورة خاصة إلى التأثير الرضّي لمواجهة الغريب، أي الآخر غير المألوف أو الدخيل المثير للاضطراب والذي يُرفض في ارتداد إلى النرجسية الهذيانية وإعادة تأكيد للسيطرة على النفس والهوية الذاتية. يعكّر الغريب الحدود، مما يشير إلى الفشل في القضاء الكامل على مخلفات الهوية وتطهير النفس. ترى كريستيفا في أخلاقيات التحليل النفسي، القائم على الانقسام الذاتي، أي كون الشخص غريب عن نفسه، إمكانية إقامة علاقة أخلاقية مع الآخر ودعوته إلى دخول حدودنا السياسية (ودرء أشد أشكال النبذ ضراوة). في حين تهدف إريغاري إلى إدخال الاختلاف الجنسي في العقد الاجتماعي وحقل القانون والحقوق، فإن كريستيفا تقترح إدخال الخلاف الذاتي.

5. النسوية التحليلية النفسية الأنجلوأميركية

يوجد عدد من المنظرات النسويات الأنجلوأميركيات (والأستراليات) اللاتي قرأن لاكان وأسّسن لانتقال الأفكار من اللغة الفرنسية إلى الانجليزية ومن فرنسا إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته وأوائل تسعينياته. نذكر من بينهن جولييت ميتشيل Juliet Mitchell (التحليل النفسي والنسوية Psychoanalysis and Feminism)، وتيريزا برينان Teresa Brennan (تفسير الجسد: فرويد والأنوثة The Interpretation of the Flesh: Freud and Femininity)، وإليزابيث غروز Elizabeth Grosz (جاك لاكان: مقدمة نسوية Jacques Lacan: A Feminist Introduction)، وجين غالوب Jane Gallop (قراءة لاكان وإغواء الابنة Reading Lacan and The Daughter’s Seduction)، وجاكلين روز Jacqueline Rose (الحياة الجنسية ضمن مجال الرؤية Sexuality in the Field of Vision). اتبعت هذي المنظرات، رغم كتابتهن بالانجليزية، زاوية رؤية النهج اللاكاني الفرنسي في التحليل النفسي ويمكن إدراجهن عموماً ضمن ما أصبح يطلق عليها “النسوية القارّية“. ويهدفن، وهن المسؤولات عن إحياء التحليل النفسي للفكر النسوي والتصدي للرفض النسوي السابق، إلى استعادة تحليلات فرويد المركزية لأغراض نسوية. فجوليت ميتشيل، على سبيل المثال، بلورت رؤية ضرورية لأي قراءة نسوية، وهي أن “التحليل النفسي ليس توصية للمجتمع الأبوي، بل تحليل له” (ميتشل 1973، xiii). كما شاركت ميتشيل وروز في تحرير كتاب الحياة الجنسية الأنثوية Feminine Sexuality، وهو مختارات من محاضرات لاكان، حيث كتبت المحررتان مقدمة مؤثرة له.

مع ذلك، لن يتناول هذا القسم الاقتباس النسوي المستوحى من لاكان للتحليل النفسي في العالم الذي يتحدث الانجليزية، بل التطور الأنجلوأميركي للتحليل النفسي النسوي الذي ينحدر من نظرية العلاقات الموضوعية البريطانية ويعتمد عليها، وتركيزه على الرابطة بين الطفل والأم في المرحلة ما قبل الأوديبية، وخاصة عمل ميلاني كلاين Melanie Klein ودونالد وينِكوت Donald Winnicott. ونذكر من بين المؤلفين الذين عملوا في هذا السياق كل من نانسي شودورو Nancy Chodorow (إعادة إنتاج الأمومة The Reproduction of Mothering)، ودوروثي دينرشتاين Dorothy Dinnerstein (حورية البحر والمونطور The Mermaid and the Minotaur)، وجيسيكا بنيامين Jessica Benjamin (روابط الحب والذوات المتشابهة، والموضوعات المحبة Bonds of Love and Like Subjects, Love Objects). ما يميز هذا التقليد الأنجلوأميركي عن التقليد المتأثر باللاكانية هو تأكيده على النشاط الاجتماعي ما قبل الأوديبي أو التفاعل بين الذوات وتركيزه على قيم الاندماج والتناغم والكلية، على عكس قيم الانقسام الذاتي واحترام الغريب في الداخل.

وسنركز فيما تبقى من القسم على عمل بنيامين كنموذج للنهج الأنجلوأميركي، ونوضح أوجه التشابه والاختلاف بينه وبين النهج الفرنسي. فبنيامين، مثلها مثل إريغاري، تشعر بالقلق إزاء تصوير التحليل النفسي للحياة الاجتماعية كعالم للرجال تطور على أساس العلاقة بين الأب والابن وما يصاحبها من عدوانية وحقد وحب وحزن. وتجادل، في معرض استنكارها لهذا “الصراع على السلطة” (بنيامين 1988، 6) حيث تكون النساء مجرد موضوع محدد للرغبة، أن الذوات تصبح، في أثناء تشكيل الهوية، مقيدة بالحب بعلاقات اجتماعية قمعية. وتقلق من أن “الهيمنة متجذرة في قلوب المهيمن عليهم” (بنيامين 1988، 5)، وأن النساء مرتبطات أيروتيكياً بالسلطة الأبوية، وتعتقد أن بإمكان التحليل النفسي المساعدة في شرح كيف يحدث ذلك ولماذا يحدث. بالتالي، لا يقدم التحليل النفسي لبنيامين رؤى حول النفس الفردية فحسب، بل كذلك حول تنظيم السلطة السياسية والتسلسل الهرمي وبنيتهما وتوزيعهما. وهدفها “فهم البنية العميقة للنوع الاجتماعي كتعارض ثنائي شائع في التمثيلات النفسية والثقافية” (بنيامين 1988، 218). على خلاف كريستيفا وإريغاري اللتان تطرحان مشكلة ثنائية التمييز بين الطبيعة والثقافة وشموليتهما، وتؤكدان على تحول الروابط الرمزية، تسلط بنيامين الضوء على دور الصور النمطية الثقافية (المتناقضة) في إبراز النوع الاجتماعي كما نعرفه ونعيشه، وتؤكد على الحاجة إلى التحول الاجتماعي.

تنشئ بنيامين مشروعها، عبر اتخاذها ما تسميه نهجاً انتقائياً وتَجنبها العقيدة المنهجية المتعلقة بعلم النفس التحليلي الفرويدي ونظرية الغرائز، على أساس المنظور العلائقي بين شخصين، مع اعتبار الآخر ذاتاً مستقلة منفصلة. وتؤكد على وجود ثنائية حقيقية وعلاقة منذ البداية وعلى أن عملية النمو تسلتزم التطور ضمن العلاقات وليس تطورها هي، بدلاً من وجود وحدة غير متمايزة تحكم الحياة الطفلية المبكرة في المرحلة ما قبل الأوديبية، والتي تجعل الرضيع مجرد “نظام طاقة أحادي” (بنيامين 1988، 17). وتفترض أن الرضيع كائن نشط واجتماعي في الأساس يسعى إلى التواصل ويعبّر عن رغبته في الاعتراف به. تتشكل عقدة الهوية من خلال التفاعل بين هذه الرغبة واستجابة الآخر الذي يعزز هوية الرضيع أو يرفضها بطرق مختلفة. تدعي بنيامين أن هذا التركيز على العلاقات الاجتماعية والتفاعل بين الذوات لا يهدف إلى تجاهل العناصر النفسية الداخلية لتشكيل الذات، وتجادل في الواقع من أجل “التفاعل بين النفس والحياة الاجتماعية” (بنيامين 1988، 5). وتؤكد على أن الداخلي والخارجي ليسا منظورين نظريين متنافسين، بل يكمل أحدهما الآخر. وتريد، مع ذلك، تحديد موضع الهوية عموماً، وبالأخص الهوية الاجتماعية، ضمن نطاق التحديدات الاجتماعية المتعددة والغامضة للذات.

تجادل بنيامين بأن الهيمنة تنشأ نتيجة إخفاقات الاعتراف المضمنة في النظامين السياسي الاجتماعي، وليس مجرد إخفاقات تحدث على المستوى الشخصي أو الفردي في علاقة مفردة. وتنظر، في استعارة أولية من فوكو، إلى الطريقة التي تشكل بها السلطة الهويات والرغبات، منتجة علاقات متعلقة بالنوع الاجتماعي (بنيامين 1988، 4). وتصور، في استعارة أخرى من هيغل، جدلية الاعتراف في الصراع من أجل الهوية كـ”نزاع بين الاستقلال والتبعية” (بنيامين 1988، 33). إلا أن الحكاية الهيغلية حسب وجهة نظر بنيامين، بدأت بداية خاطئة، مثلها مثل الحكاية الفرويدية، باستخدامها كلمات “أنا أحادية تهتم بمصلحتها الخاصة” (بنيامين 1988، 33) وبالتالي تنتهي بحتمية الانهيار والهيمنة. وفقاً لبنيامين، يحل وينِكوت المعضلة الهيغلية والفرويدية (بنيامين 1988، 38)، أي النزعة الأنوية الأحادية المستقلة، بإعادته صياغة مشكلة الاعتراف على مستوى الخيال الرغبوي وتمييزه بين العالمين الداخلي والخارجي. يشعر الرضيع بالثقة في تأكيد استقلاليته وتدمير موضوعه في خياله الرغبوي، طالما يتوصل إلى أن الموضوع له وجود خارجي آمن في الواقع. بعبارة أخرى، يهدأ الخيال الرغبوي للتدمير من خلال فشله؛ فالرضيع يدمر داخلياً ولكنه يشعر بالارتياح خارجياً لأنه لا يزال يوجد موضوع يستطيع التعامل والتفاعل معه. وبتحديد أكثر، يدمر الرضيع الأم داخلياً وفي الخيال الرغبويي أو ينفصل عنها، بينما يحتفظ في الوقت نفسه بعلاقة معها خارجياً وفي الواقع. ويجب على الأم الجيدة بما يكفي تعزيز هذا العلاقة بين الأنوين المنفصلتين، فلا تسمح للطفل بالنجاح في تدميرها أو الهيمنة عليها، ولا تسمح لنفسها بسحق محاولات الطفل الوليدة لتأكيد الذات. إذاً، تعد العلاقة بين الأم والطفل نوعاً من أنواع الصراع السلطوي الهيغلي الجديد المنقح، الذي يحافظ على هدف الاعتراف أو الاحترام المتبادلين، ولكنه يجازف بالهيمنة والتمرد. ولا تُقمع النزاعات العنيفة ضمنه ولكنها تُحيّد وتهدّأ في واقع الحياة بين الذوات المتفاعلة التي تؤكد الاستقلال وتعترف به.

تخلُص بنيامين، كما فعل تشودورو درينشتاين، في معرض تساؤلها مثلهما عن حقيقة السلطة الأبوية، إلى أن إحدى المصادر أو المكونات أساسية تكمن في تربية النساء أو الأمهات حصرياً للأطفال، مما يتسبب بمخاطر تتعلق بانهيار السلطة الأمومية إلى مجرد هيمنة، ودعم الخيال الرغبوي للقدرة المطلقة للأم، وتركيز التناقض القوي على الأم، وتعزيز الهويات وتماهيات النوع الاجتماعي الجامدة. وفي حين يحقق الفتى الاستقلال بواسطة التماهي المحب مع الأب والانفصال عن الأم، تتعقد علاقة البنت بالسلطة الأبوية بسبب تعذر الوصول إليها. وفي حال سعت إلى “توليد تحررها عن طريق الأب” (بنيامين 1988، 99)، ستربط أنوثتها بالخضوع بدلاً من الفاعلية، وتتعلق بالذكورة كموضوع مثالي للحب (وكموضوع حبها)، مما يمنح الأب قيمة بينما يقلل من قيمة الأم، ويخلق انقساماً بين الحياة الجنسية الأنثوية والذاتية المستقلة. إلا أن بنيامين تجادل بأنه لا يمكن معالجة “اللاشخصية المتبدلة”(بنيامين 1988، 216) للهيمنة الذكورية بنقد لا يركز سوى على الأسرة ورعاية الأطفال، وأنه لا يمكن التغلب على علاقات السلطة من خلال التحول في أدوار الرعاية فقط، على الرغم من أن المساواة بين النساء والأمومة هي بالتأكيد أحد أركان المشكلة. إذا شجعت علاقات السلطة الاجتماعية هويات النوع الاجتماعي –حيث تُنمى الذكورة بوصفها إنكاراً للتبعية وتأكيداً للاستقلالية، في حين تُنمى الأنوثة بوصفها تماهٍ مع التربية وتنازل عن الاستقلالية- عندها فإن التحول الحقيقي يتطلب الاهتمام بالأدوار الاجتماعية و”التمثيلات الثقافية” (بنيامين 1988، 217)، لأن “الميزة الأساسية لنظام النوع الاجتماعي –تعزيز الذكورة كفصل عن الرابطة الأولية والأنوثة كاستمرارية لها- تظل قائمة حتى عندما يساهم الأب والأم على قدم المساواة في تلك الرابطة” (بنيامين 1988، 217). لا يستجيب الأطفال، في النموذج النظري لبنيامين، إلى بيئتهم الاجتماعية فحسب، بل كذلك إلى الأفكار ذات المعنى الغامض (التوصيات والتوقعات والمحظورات والمواعظ) التي غالباً ما توصلها لغة الأهل وأوامرهم سواء عن طريق التلميح أو بصورة غير مباشرة أو عن غير قصد. بالتالي، تتطلب المساواة بين الجنسين أن تعترف النساء بأنفسهن وأن يعترف الرجال به، وأن يثمن التفاعل بين الذوات.

يمكن تمييز تحليل بنيامين من تحليلات إريغاري وكريستيفا تحديداً من خلال الطريقة التي يميل بها تحليلها إلى دمج التمييز بين التمثيل والأدوار الاجتماعية أو تقويضه. ففي حين تفترض النسوية التحليلية النفسية الأنجلوأميركية أن النوع الاجتماعي مشتق من التفاوتات الاجتماعية (بما فيها الأسرية) وعلاقات القوة ويعتمد عليهما، وتهدف بالتالي إلى الحد من آثاره النفسية من خلال تصحيح الهيمنة الاجتماعية أو التبعية الأسرية، فإن النسوية الفرنسية لا تقيس النفس على أساس العلاقات الاجتماعية والثقافية وإنما على أساس التمثيلات التخيلية والرمزية. إن تقسيم بنيامين للحياة النفسية الداخلية إلى علاقات داخلية وخارجية، ورؤيتها للتوازن بين الذوات المتفاعلة، المناقض لتأكيد إريغاري وكريستيفا للخلاف ضمن الذوات وفيما بينها، يوجهه الاقتناع بأن التناغم الاجتماعي مرغوب وقابل للتحقق.

6. خلاصة

يقدم التحليل النفسي مشروعاً نقدياً وتشخيصياً، وليس بالضرورة مشروعاً معيارياً أو تحررياً. كما تتحدى نظرية التحليل النفسي الأنا العقلانية والإنسانية، بتطويرها نظرية الدوافع والقوى غير العقلانية التي تحركنا وتدفعنا والفكرة القائلة بأننا غامضون بالنسبة إلى أنفسنا بدلاً من أن نكون شفافين وأننا غير قادرين على معرفة أنفسنا أو السيطرة على أنفسنا تماماً، وتقترح أن شخصياتنا الأخلاقية ومجتمعاتنا السياسية غير قابلة للتحسن، مما يكشف عن هشاشة هوياتنا النفسية والسياسية. لا يمكن افتراض أن اللاوعي في جوهره قوة متجاوزة أو محافظة، بل قوة غير موثوقة تعزز الثورة والتمرد في بعض الأحيان والتعنت والحفاظ على الحدود الصارمة أحياناً أخرى.

على الرغم من التحالف المضطرب بين التحليل النفسي والنسوية في كثير من الأحيان، إلا أن تفسير التحليل النفسي للاوعي يزود النظرية النسوية بالموارد اللازمة من أجل أبحاثها السياسية والوجودية. فمن الناحية الوجودية، يقدم التحليل النفسي فهماً نفسياً متميزاً للاختلاف الجنسي، وكيف نسكن أجسادنا وهوياتنا وكيف لا نسكنها، وهو تحليل قابل للاختزال إلى تصنيفات اجتماعية وبيولوجية. ومن الناحية السياسية، يقدم التحليل النفسي تصويراً للقوى التي تدفعنا إلى تنظيم الروابط التي تربطنا معاً وتفكيكها وإعادة تنظيمها. كما يسهل، من خلال تقديمه نظرة ثاقبة في تشكيل الذاتية والأوهام المحركة للحياة الاجتماعية، عمل التحليل النسوي للعناصر العنيدة للعلاقات الاجتماعية الأبوية، بما فيها الروابط الرمزية والقوى الداخلية التي تعزز الهوية وتربط الذوات الجنسية بعلاقات الهيمنة والخضوع. يساعد الاهتمام النسوي التحليلي النفسي بالمكونات الأساسية للحضارة ونوى الاختلاف الجنسي والانتماء الجماعي في تفسير استمرار السلطة الذكورية ويمكّن المنظرات النسويات من صياغة التصحيحات الممكنة والتحديات طرق التحسين، أو الانقطاعات الأخلاقية التي تصل إلى جذور الحياة السياسية وما وراءها ولا تعمل ببساطة على الساحة الاجتماعية المحددة.

المراجع

أعمال مشار إليها

  • Beauvoir, Simone de, 1989 [1949], The Second Sex, trans. H. M. Parshley, New York: Vintage Books.
  • Benjamin, Jessica, 1988, The Bonds of Love, New York: Pantheon Books.
  • –––, 1998, Like Subjects, Love Objects, New Haven: Yale University Press.
  • Brennan, Teresa, 1992, The Interpretation of the Flesh: Freud and Femininity, New York: Routledge.
  • –––, 1993, History after Lacan, New York: Routledge.
  • Chodorow, Nancy, 1978, The Reproduction of Mothering: Psychoanalysis and the Sociology of Gender, Berkeley: University of California Press.
  • Cixous, Helene and Clement, Catherine, 1986 [1975], The Newly Born Woman, trans. Betsy Wing. Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Dinnerstein, Dorothy, 1976, The Mermaid and the Minotaur: Sexual Arrangements and Human Malaise, New York: Harper & Row.
  • Freud, Sigmund, 1968, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, ed. and trans. James Strachey. London: The Hogarth Press.
  • –––, 1968 [1895], Studies in Hysteria, in The Standard Edition, vol. II.
  • –––, 1968 [1905], Three Essays on the Theory of Sexuality, in The Standard Edition, vol. VII.
  • –––, 1968 [1913], Totem and Taboo, in The Standard Edition, vol. XIII.
  • –––, 1968 [1914], “Remembering, Repeating, and Working-Through,” in The Standard Edition, vol. XII.
  • –––, 1968 [1921], Group Psychology and the Analysis of the Ego, in The Standard Edition, vol. XVIII.
  • –––, 1968 [1923], The Ego and the Id, in The Standard Edition, vol. XIX.
  • –––, 1968 [1925], “Some Psychical Consequences of the Anatomical Distinction Between the Sexes,” in The Standard Edition, vol. XIX.
  • –––, 1968 [1930], Civilization and Its Discontents, in The Standard Edition, vol. XXI.
  • –––, 1968 [1931], “Female Sexuality,” in The Standard Edition, vol. XXI.
  • –––, 1968 [1933], “Femininity,” in The Standard Edition, vol. XXII.
  • Gallop, Jane, 1982, The Daughter’s Seduction, Ithaca: Cornell University Press.
  • –––, 1985, Reading Lacan, Ithaca: Cornell University Press.
  • Grosz, Elizabeth, 1990, Jacques Lacan: A Feminist Introduction, New York: Routledge.
  • Irigaray, Luce, 1985a [1974], Speculum of the Other Woman, trans. Gillian C. Gill, Ithaca: Cornell University Press.
  • –––, 1985b [1977], This Sex Which is Not One, trans. Catherine Porter, Ithaca: Cornell University Press.
  • –––, 1993a [1984], An Ethics of Sexual Difference, trans. Carolyn Burke and Gillian C. Gill, Ithaca: Cornell University Press.
  • –––, 1993b [1987], Sexes and Genealogies, trans. Gillian C. Gill, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1993c [1990], Je, Tu, Nous: Toward a Culture of Difference, trans. Alison Martin, New York: Routledge.
  • –––, 1994 [1989], Thinking the Difference, trans. Karin Montin, New York: Routledge.
  • –––, 1995a, “‘Je—Luce Irigaray’: A Meeting with Luce Irigaray,” interview with Elizabeth Hirsh and Gary Olson, in Hypatia vol. 10, no. 2, Bloomington: Indiana University Press.
  • –––, 1995b, “The Question of the Other,” in Yale French Studies, no. 87.
  • –––, 1996 [1995], I Love to You: Sketch of a Possible Felicity in History, trans. Alison Martin, New York: Routledge.
  • –––, 2001 [1994], Democracy Begins Between Two, trans Kirsteen Anderson, New York: Routledge.
  • Klein, Melanie, 1984a, Love, Guilt and Reparation and Other Works 1921–1945, New York: Free Press.
  • –––, 1984b, Envy and Gratitude and Other Works 1946–1963, New York: Free Press.
  • Kofman, Sarah, 1985 [1980], The Enigma of Woman: Woman in Freud’s Writings, trans. Catherine Porter, Ithaca: Cornell University Press.
  • Kristeva, Julia, 1982 [1980], Powers of Horror: An Essay on Abjection, trans. Leon S. Roudiez, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1984 [1974], Revolution in Poetic Language, trans. Margaret Waller, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1986, “Women’s Time,” in The Kristeva Reader, ed. Toril Moi, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1987 [1983], Tales of Love, trans. Leon S. Roudiez, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1989 [1987], Black Sun: Depression and Melancholia, trans. Leon S. Roudiez, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1991 [1988], Strangers to Ourselves, trans. Leon S. Roudiez, New York: Columbia University Press.
  • –––, 1998, “The Subject in Process,” in The Tel Quel Reader, eds. Patrick ffrench and Roland-Francois Lack, New York: Routledge.
  • –––, 2002 [1997], Intimate Revolt: The Powers and Limits of Psychoanalysis, trans. Jeanine Herman, New York: Columbia University Press.
  • Lacan, Jacques, 1977 [1973], The Seminar of Jacques Lacan, Book XI: The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis, trans. Alan Sheridan, New York: Norton.
  • –––, 1982, Feminine Sexuality, eds. Juliet Mitchell and Jacqueline Rose, trans. Juliet Mitchell, New York: Norton.
  • –––, 1991a [1975], The Seminar of Jacques Lacan, Book I: Freud’s Papers on Technique, trans. John Forrestor, New York: Norton.
  • –––, 1991b [1978], The Seminar of Jacques Lacan, Book II: The Ego in Freud’s Theory and in the Technique of Psychoanalysis, trans. Sylvia Tomaselli, New York: Norton.
  • –––, 1992 [1986], The Seminar of Jacques Lacan, Book VII: The Ethics of Psychoanalysis, trans. Dennis Porter, New York: Norton.
  • –––, 1993 [1981], The Seminar of Jacques Lacan, Book III: The Psychoses, trans. Russell Grigg, New York: Norton.
  • –––, 1998 [1975], The Seminar of Jacques Lacan, Book XX: On Feminine Sexuality: The Limits of Love and Knowledge, trans. Bruce Fink, New York: Norton.
  • –––, 2006 [1970], Ecrits, trans. Bruce Fink, New York: Norton.
  • Laplanche, J. and Pontalis, J.-B., 1973 [1967], The Language of Psycho-Analysis, trans. Donald Nicholson-Smith, New York: Norton.
  • Mitchell, Juliet, 1973, Psychoanalysis and Feminism, New York: Vintage Books.
  • –––, 1982, “Introduction—I,” in Feminine Sexuality, eds. Mitchell and Rose, New York: Norton.
  • Rose, Jacqueline, 1982, “Introduction—II,” in Feminine Sexuality, eds. Mitchell and Rose, New York: Norton.
  • –––, 1986, Sexuality in the Field of Vision, London: Verso.
  • Winnicott, D.W., 2005, Playing and Reality, New York: Routledge.

مصادر أخرى

  • Beardsworth, Sara, 2004, Julia Kristeva: Psychoanalysis and Modernity, Albany: SUNY Press.
  • Beauvoir, Simone de, 2010 [1949], The Second Sex, trans. Constance Borde and Sheila Malovany-Chevallier, New York: Knopf.
  • Burke, Carolyn, Naomi Schor, and Margaret Whitford, eds., 1994, Engaging with Irigaray: Feminist Philosophy and Modern European Thought, New York: Columbia University Press.
  • Butler, Judith, 1990, Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity, New York: Routledge.
  • –––, 1993, Bodies that Matter: On the Discursive Limits of Sex, New York: Routledge.
  • Chanter, Tina, 1995, Ethics of Eros: Irigaray’s Re-writing of the Philosophers, New York: Routledge.
  • Chanter, Tina and Ewa Ziarek, eds., 2005, Revolt, Affect, Collectivity: The Unstable Boundaries of Kristeva’s Polis, Albany: SUNY Press.
  • Cimitile, Maria, and Elaine Miller, eds., 2007, Returning to Irigaray: Feminist Philosophy, Politics, and the Question of Unity, New York: Routledge.
  • Copjec, Joan, 1994, Read My Desire: Lacan Against the Historicists, Cambridge: MIT Press.
  • –––, 2002, Imagine There’s No Woman: Ethics and Sublimation, Cambridge: MIT Press.
  • Cornell, Drucilla, 1991, Beyond Accommodation: Ethical Feminism, Deconstruction, and the Law, New York: Routledge.
  • de Lauretis, Teresa, 1984, Alice Doesn’t: Feminism, Semiotics, Cinema, Bloomington: Indiana University Press.
  • –––, 1994, The Practice of Love: Lesbian Sexuality and Perverse Desire, Bloomington: Indiana University Press.
  • Deutscher, Penelope, 1997, Yielding Gender: Feminism, Deconstruction, and the History of Philosophy, New York: Routledge.
  • –––, 2002, A Politics of Impossible Difference: The Later Work of Luce Irigaray, Ithaca: Cornell University Press.
  • Diprose, Rosalyn, 1994, The Bodies of Women: Ethics, Embodiment and Sexual Difference, New York: Routledge.
  • Ferrell, Robyn, 1996, Passion in Theory: Conceptions of Freud and Lacan, New York: Routledge.
  • Gatens, Moira, 1995, Imaginary Bodies: Ethics, Power and Corporeality, New York: Routledge.
  • Grosz, Elizabeth, 1991, Sexual Subversions: Three French Feminists, Sydney: Allen and Unwin.
  • Huntington, Patricia, 1998, Ecstatic Subjects, Utopia, and Recognition: Kristeva, Heidegger, Irigaray, Albany: SUNY Press.
  • Oliver, Kelly, 1993, Reading Kristeva: Unraveling the Double-bind, Bloomington: Indiana University Press.
  • –––, 1997, Family Values: Subjects Between Nature and Culture, New York: Routledge.
  • –––, 1998, Subjectivity without Subjects, Lanham, MD: Rowman & Littlefield.
  • –––, 2004, The Colonization of Psychic Space: A Psychoanalytic Social Theory of Oppression, Minneapolis: University of Minnesota Press.
  • Oliver, Kelly (ed.), 1993, Ethics, Politics, and Difference in Julia Kristeva’s Writing, New York: Routledge.
  • Pateman, Carole, 1988, The Sexual Contract, Palo Alto: Stanford University Press.
  • Sjoholm Cecilia, 2005, Kristeva and the Political, New York: Routledge.
  • Shepherdson, Charles, 2000, Vital Signs: Nature, Culture, Psychoanalysis, New York: Routledge.
  • Silverman, Kaja, 1988, The Acoustic Mirror: The Female Voice in Psychoanalysis and Cinema, Bloomington: Indiana University Press.
  • –––, 1996, The Threshold of the Visible World, New York: Routledge.
  • Stone, Alison, 2006, Luce Irigaray and the Philosophy of Sexual Difference, Cambridge: Cambridge University Press.
  • Whitford, Margaret, 1991, Luce Irigaray: Philosophy in the Feminine, New York and London: Routledge.
  • Zakin, Emily, 2000, “Bridging the Social and the Symbolic: Toward a Feminist Politics of Sexual Difference,” in Hypatia vol. 15, no. 2, Bloomington: Indiana University Press.
  • Ziarek, Ewa, 2001, An Ethics of Dissensus: Postmodernity, Feminism, and the Politics of Radical Democracy, Stanford: Stanford University Press.

أدوات أكاديمية

How to cite this entry.
Preview the PDF version of this entry at the Friends of the SEP Society.
Look up this entry topic at the Indiana Philosophy Ontology Project (InPhO).
Enhanced bibliography for this entry at PhilPapers, with links to its database.

مصادر أخرى على الإنترنت

  • French Feminist Theory, at the Women’s Studies Resources website, maintained by Karla Tonella, University of Iowa.
  • philoSOPHIA: A Feminist Society.
  • Luce Irigaray, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Sarah K. Donovan (Villanova).
  • Literary Theory, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Vince Brewton (U. North Alabama).
  • Jacque Lacan, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Matthew Sharpe (U. Melbourne).
  • Sigmund Freud, entry in the Internet Encyclopedia of Philosophy, by Stephen Thornton (U. Limerick).

مداخل ذات صلة

Beauvoir, Simone de | feminist philosophy, approaches: continental philosophy | feminist philosophy, approaches: intersections between pragmatist and continental philosophy | feminist philosophy, topics: perspectives on the body | feminist philosophy, topics: perspectives on the self | Freud, Sigmund | Lacan, Jacques

Copyright © 2011 by 
Emily Zakin <zakinea@muohio.edu>


[1] مبدأ أنا أفكر إذاً أنا موجود الديكارتي