الكاتب | لوك فيري |
ترجمة | عبد الوهاب البراهمي |
تودّ نهاية هذا القرن، وبتباهٍ أحيانا، أن تقيم في ظلّ رعاية ملاطفة لـ “عودة الإيتيقي”. يعلن خطاب القيم عن نفسه في كلّ مكان، بضرب من تباين استثنائي مع البيئة المحيطة: في انبعاث التنظيمات الخيريّة، والحروب ضدّ العنصريّة و”الإقصاء”، وفي الحاجة إلى ديونتولوجيا، أوأخلاقيات أكثر صرامة لمهنة لوسائل الإعلام، وفي أخلقة الحياة الاقتصادية والسياسية، وفي الانشغال بالبيئة، وتصاعد سلطة القضاة، والبيو-إيتيقا أوإيتيقا البيولوجيا، وفي الصراع من أجل حماية الأقليّات ضد التحرّش الجنسي والإجهاض والتتبّغ.. والقائمة تطول لهذه الإلزامات الجديدة التي يمكن، في نظري، أن تجعل فكرة الانشغال المستجدّ والمعمّم لأجل الخير فكرة ذات مصداقية، وإلاّ فكرة “ملائكية مدمّرة”. ولكن، قد يردّ البعض مع ذلك، بأنّه لا وجود لإيتيقا خالصة وصارمة، إيتيقا الواجب القطعي والمؤلم. فَخَطَابة الإلزامات المتقشفة، وفلسفة “يجب عليك إذن، أنت تستطيع“، والصرامة الجمهوريّة قد أخفقت، تاركة مكانها لمنطق المنافسة الفرداني، والاستهلاك والسعادة، وباختصار، لمقتضى الأصالة وقرب الذات من ذاتها الذي سنسمّيه ” إيتيقا” بقلب المعنى! وقد تعني نهاية تجذّر معايير أخلاقية في العالم الصارم لدين سماوي، لا بل في عاَلمِ مجرّدَ تمدّن لائكي، في نهاية المسار، إفلاس معاني الجهد والتضحية بأنانية على الأقلّ، وإلاّ حدوث تراخ كوني. وعلاوة على ذلك، أنظروا إلى خيانة الديمقراطيات حينما يتعلّق الأمر بالدفاع عن مبادئها الخاصّة ! انظروا أيضا إلى تصاعد الطائفية، والاستقالة المَدَنِيّة للمواطنين البسطاء، ومضاعفة الأعمال في “أعلى مستوى“. يوجد هنا كما في موضع آخر” تدنّي المستوى وقد أصبح القاعدة … الانشغال بالشخص ذاته، برفاهيته هو وأقربائه، و استبدال التنافس المحموم، والبحث عن رفاه مادّي ونفسي، بتآكل الإحساس بالتبعيّة التامّة تجاه الإلهي أو الأمّة، المقتضى القديم ِلِهبَةِ الذات. نكتشف حقيقة الإيتيقا اللائكية في ” صنم الواجب” هذا، في العالم المعاصر، عالم التنافس والاستهلاك، و ستضعنا هذه الحقيقة أمام المشهد الدائم.
هل هو انحطاط أم عودة الإيتيقي، تقدّم أخلاقي أم ذوبان الإنسانية في الفردانيّة والاستهلاك اللانهائي؟
ما يزال النقاش الموازي لذاك الذي يتّصل بالثقافة المعاصرة، يراود التفكير المعاصر. ويأتي كل موسم أدبي ليعيد إحياءه بمحاولات جديدة تسعى إلى جلب مساهماتها الحاسمة وتنسيب تفاؤل المُتمسّكين بـ“تكوّن أخلاقي.”
إنّ الأصل في هذه الإستفهامات المشروعة هو ظهور رؤية للعالم، في بحر الستينات، تتميّز بإدّعاء الرفاهية، و” الأصالة”، وتطالب، باسم احترام الأفراد، باجتثاث كل الدغمائيات، سواء أكانت من أصل أخلاقي أو دينيّ. إنّ مجيء مثل هذه الإيتيقا، حسب “جيل ليبوفيتسكي” ، هو أبعد من أن يكون حلقة سطحية، تتّصف بها سنوات السّتين فحسب، وتَسِمُ تتويجا أقصى لمسار طويل من الدهرنة أو العلمنة sécuralisation أدّى، منذ القرن 18م ، إلى لائكية منتهية. فالمقتضيات الجديدة للإستقلالية الفردية سيترجمها إفلاس المثل العليا التضحوية sacrificiels التي ما تزال تهيمن على الأخلاق اللائكية الأولى، الجمهوريّة والصّارمة. وما تضعه من تشخيص يستحقّ التفكير. وحتّى لا تظلّ الكلمات رنانة مثل الشعارات، لابدّ من غير شكّ البدء بتعريف ملموس أكثر لمقولة الأصالة.
إيتيقا الأصالة أو أولويّة الرفاهية: نهاية المتعاليات؟
تشمل هذه الإيتيقا، أولا، هذا المقتضى الضدّ- أرستقراطي الذي يتجلّى بعدُ في الحركات المناهضة في السنوات الـ60. فلقد هيمنت شيئا فشيئا مقولة التراتبيّة hiérarchie على العالم القديم، والميدان السياسي الذي زعمت الثورة الفرنسية القطع معه؛ تراتبية الكائنات بالطبع، وما يؤسّس الإقطاعية، بل أيضا المعاييرَ – اعتبار الإلهيات أسمى من القيم الإنسانية. ولم توجد حركة ديمقراطية لم تلحّ، منذ قرنين، في الآن نفسه على ضرورة الترويج أكثر للمساواة واللائكيّة. ولا تشذّ حركة ماي 68 عن هذه القاعدة. ولم تتوقّف ولو قليلا التراتبية الاجتماعية والسياسية والأخلاقيّة والإستيتيقية والثقافية عن فرض نفسها كبداهات على الجميع ( أو تقريبا). ها هنا ما تدينه بدرجة أولى إيتيقا الأصالة: هي تزعم، على نحو ما تبدو في خضمّ السنوات 60، الترويجَ، ضدّ مقولة الامتياز القديمة، ومشروع تسوية تامّة للقيم والشروط. ويكفينا هنا، تقديم مثال ذي رمزية كبيرة، لنفهم أنّ لا توجد فروق بين “ممارسات جنسيّة” حسنة وأخرى ” سيئة”. تلك هي دلالة التحرّر المشهور مطلبا للشباب: يجب وضع حدّ للأمر، في هذا الموضوع كما في كلّ ما عداه، لمقولة التراتبية المعيارية و”القمعيّة”. فلا وجود لأيّ معيار ذي قيمة، طبيعيّ ودينيّ وحقوقي أو غيره، بل هو الاقتضاء l’exigence فحسب، منظورا إليه في ذاته بوصفه أخلاقا أصيلة وحيدة، أي فسح المجال لكل واحد أن يكون ذاته. شريطة أن يكونه حقّا. لأجل ذلك يجتمع إراديّا العامل المساواتي، في دلالته كحقّ للجميع في الأصالة، مع فكرة ” حق الاختلاف”. يجد هذا الأمر كثيرا ممّا يعادله في الحقل الثقافي: يجب إلغاء كلّ “تمييز” بين الموسيقى العَاِلمَة وموسيقى ” البوب”، بين القصّة التقليدية والقصّة المصوّرة (B D)، بين الغرب الأوروبي وشعوب العالم الثالث، وباختصار، كلّ ما أخطأنا في التعامل معه وفق مقولات، ” مشاهير الخياطين”haute couture و ” ثقافة الدّون” sous- culture” فلا يتعلّق الأمر هنا بتقييم هذا الادعاء الكوني للمساواة بالأصالة ( بالحق في أن نكون ذواتنا)، فحسب، بل حصره في جديده وما يختصّ به، بالنسبة إلى أخلاق الواجب التقليديّة. وفضلا عن ذلك، نشعر أنّها تحوي الأفضل والأسوأ، مثلما هو غالبا شأن الموجات الكبيرة للتاريخ المعاصر.
أَصِلُ إذن إلى السمة الثانية المميزة لهذه الإيتيقا الجديدة: ومطلبها المناقض لمبدأ الجدارة .méritocratique أو الاستحقاقراطية. يوجد في ” الأخلاق البورجوازية”- عنوان نضع تحته في خلط إرادي، كلّ أشكال الإحالة إلى واجب قطعي- كان الحُكْمُ متماثلا دوما: يوجد معيار عام متعال على الأفراد من نوع خاص( مثلا البرامج المدرسية في جمهوريتنا )؛ ويتمثّل الجهد الأخلاقي في الاقتراب أقصى ما يمكن من هذا المثل الأعلى، الذي هو نوعا ما خارجا عن ذاته. وحتّى إذا لم تكن مقولة استقلالية الذات مرفوضة، فإنّه قد وقع تصوّرها بوصفها هدفا أقصى، يعسر بلوغه، لا بما هي واقعا راهنا. يتّضح أن الجهد والاستحقاق لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهذا الأخير أي الاستحقاق ليس في الأصل سوى نتيجة للأوّل (الجهد). هذه هي الكلمات المفاتيح التي تُعرِّفُ منذ وقت قريب، أخلاق الواجب- وفي الحقيقة، بالنسبة إلى عدد أكبر، هي الأخلاق باختصار شديد: تعالي المعيار، وقوّة الإرادة، والمثل الأعلى للذات. ومنذ أن كان “ممنوعا المنع ” interdit d’interdire”، ومنذ أن كان ينظر إلى كلّ معياريّة بما هي قمعيّة، أصبح الفرد لذاته وبالنسبة إلى نفسه معياره الخاص. هاهنا أيضا يوسّع مطلب الرفاهية والأصالة حقوقه: كن كما أنت be yourself، هكذا يأمر طالما بقي له القليل من الأمر القطعي ليعلنه ! ليلتحق به من جديد، الحقّ في الاختلاف: لكلٍّ أن يصبح من الآن فصاعدا، ما هو عليه، و بمنح ” الكائن- ذاته” l’être- soi ” َوصْمَ شرعيةٍ جديدة، فلن نعرف الحكم مسبقا على الاختلافات التي سيفرزها في النهاية، المسار. فالأساسي هو وضع حدّ لتعالي المعايير، والنفاذ في النهاية إلى الفهم، وتحديدا لهذه الحقيقة التي لا لبس فيها: التعالي الوحيد الذي يبقى هو تعالي الذات على ذاتها، تعالي أنا غير أصيل بعدُ على أنا أصيل. وباختصار، تعالٍ منحصر في كليّته داخل عالم المحايثة للأنا الفردي. من هنا، ولردم المسافة اللامنتهية، كان تدخّل التقنيات أو الممارسات التي خلقت طريقا للنفاذ إلى الأصالة: رياضات متنوّعة، بدءا بالركض (ظاهرة جماعية جديدة ومتفرّدة في نوعها يجب الإشارة إليها)، تسمح بأن يكون المرء ” راض عن نفسه” ، bien dans sa peau”، مثل كوكبة من الوصفات العلاجية غير المسبوقة، المشتقة من علم النفس التحليلي أو من الجكمة الشرقية، تمنح الإحساس” براحة ذهنية”. ومن وراء الشعور بالرضا وبمعزل عن الأخلاق الكبرى التي بَنَتْهَا ، خاصّة منذ الثورة الفرنسية،(- ويمكن أن نذكر، فضلا عن التقليد الجمهوري الفرنسي، التقليد الكانطي الألماني القريب منه جدا، أو النفعية الأنجلوسكسونية)- ، هل كانت المجتمعات أو هل هي اليوم، قادرة على إنتاج خطابات وتمثّلات للعالم بإمكانها أن تجيب، لا فقط عن السؤال عن الرفاهية بل عن سؤال مختلف، سؤال المعنى؟ قبل رسم أجوبة عن هذا السؤال، سأبذل جهدي خاصّة في أن أبيّن لكم، من منظوري الخاص، كيف يطرح هذا السؤال في عصر الأخلاق الكبرى التي لم تختفِي بل تغيّرت منزلتها، وكيف أنّ هذا السؤال عن الروحانية أو الحكمة الذي ربّما، وأكرّر هذا، لم يكن سؤالا عن الخير والشرّ بل بالأحرى سؤالا عن المعنى، يُعاد طرحه بطريقة جديدة ويمكن أن يتمفصل مع مشكل كلاسيكي منذ عشرين سنة في السياسة المعاصرة، مشكل ” المشاريع الكبرى”. وحتّى نكون على اتفاق حول المعاني، أقول في بعض الكلمات- واسمحوا لي بهذه الملاحظات ذات الطابع المدرسي قليلا- إنّي أود بسرعة تعريف ما تعنيه اللائكيّة والدين على الصعيد السياسي.
سأبدأ بعرض ما سأعنيه، فيما بعد في مداخلتي، بعبارة لائكيّة. أعتقد أنّه حينما نسعى إلى تعريف ما تعنيه أوروبا إن على صعيد اقتصادي أو الثقافي أو المعرفي، فإنّنا ندرك أنّ الفضاء الأوروبي ليس القارّة القديمة للأمم المسيحيّة فحسب، بل هو أيضا، وبالخصوص، منذ قرنين، منذ الثورة الفرنسية، قارّة اللائكية. وبالفعل، مع الإعلان عن حقوق الإنسان، ومع إنشاء البرلمانات وخاصّة في فرنسا، ومع خلق المجلس النيابي، حدثت قطيعة حاسمة على مستوى فلسفي وتاريخي بين القانون والدين. لقد ولدت اللائكية في معناها العميق، حينما ، لأول مرّة في تاريخ البشرية، وبتدخّل حقوق الإنسان، قرّرنا- كنّا على صواب أم لا فليست هذه هي المسألة- تأسيس القانون، وبشكل أعمّ، السلطات الأخلاقية والسياسيّة، لا على نصوصٍ أو عالمٍ لاهوتي، بل على إرادة الأفراد، ممثّلين للشعب، ومجتمعين في المجلس النيابي. قد يبدو هذا جدّ بسيط، ولكن، مرّة أخرى، هي قطيعة جدّ خاصّة بأوربا وفي مرحلة من تاريخها، أي الثورة الفرنسية، وهو ما يفسّر الصدى الذي لَقِيته هذه الثورة في الخارج، والنموذج الذي يمثّله برلماننا لكلّ أوروبا. واعتقد أنّه وفي نهاية تحليل عميق، تُوافق اللائكيّة هذا الفصل بين الدين والسياسة، وولادة النزعة الإنسانية السياسية، ومعنى خاص للّفظ، أي هذا الموقف من الإنساني بوصفه أساسا للحقّ، وللسلطات الأخلاقية والسياسية. تميّزنا هذه القطيعة بعدُ عن الجمهوريات الإسلامية، حيث نُحِيل، بغرض التشريع لوجه من وجوه الحقّ، حتى لو كان وضعيا، إلى مرجعيّة نصيّة، إلى نصوص دينيّة، وحيث يستند نظام الأسرة إلى القرآن، مُقِرٍّا بحق الرجل مثلا، في الزواج بأربعة نساء. وستوافق القطيعة الثانية التي ستلحق هذه اللائكيّة للعالم الديمقراطي، الذي هو أروبي أكثر منه أمريكي، موت الماركسية. ولن أتوسّع في هذه النقطة طالما أنّه واضح أنّ الماركسية كانت وبطريقتها، دِينَ خلاصٍ أرضي. وقد يكون من المناسب مع ذلك، الإشارة إلى أنّ القطيعة مع الماركسية قد خلقت فضاء نقاش متعلق بالتحديد، بالمشاريع الكبرى. هل أنّ السياسة محمولة كي تكون ببساطة مسئولة عن التنظيم الإداري وتكون إصلاحية، وهو ما ليس بالضرورة نفس الشيء ، حتّى لو تقارب هذا في فكر العديد، أو على العكس، هل تحتفظ بعدُ بإمكانيةِ، بعد انهيار الماركسية، مهما كان رأينا في ذلك، بلوغَ بُعْدٍ روحي قويّ كفاية كي يمنحها إمكانية أكبر وأكثر ضخامة، وعظمة من تلك الإمكانية المتعلّقة بإدارة الشؤون حتى لو كانت في المعنى السامي للعبارة؟
نأتي إلى الدّين بعد تعريفنا اللائكيّة. ما هو الدّين على الصعيد السياسي؟
على الصعيد السياسي –( ولن أتحدث عن الأبعاد الأخرى)- يردّ كثير من الكتّاب الدين إلى التقليد، دون التعبير عن أساس ما هو منقول ومترجم. الدين هو ما يرثه البشر كشيء آت من خارج. وإذا ما تمسّكنا بهذا التعريف المتين، الذي أحيل إليه غالبا طوال هذا العرض، فسنقرّ بانّ الخطاب الدينيّ إذا ما كان، وبامتياز، الخطاب الذي يقدّم رؤية للعالم ، وينقل قيما متجذّرة في كيان هو في الآن نفسه خارجيا ومتعال على البشر : الإلهي كما نفهمه بأي معنى كان..توجد قراءة ثانية للدين على الصعيد السياسي، هي أكثر تبسيطا بما أنّها تتمثّل في اعتباره بمثابة خرافة. لقد ساد هذا التحليل منذ القرن 18م حتّى وصول فرويد وماركس اللذان ينظران إلى الدين باحترام بوصفه” وسواسا قهريا للبشرية” أو ” أفيون الشعب”. أترك جانبا مقاربة رجل الدين التي تبدو لي أضعف ما يكون من المقاربات. والمقاربة الثالثة للدين، التي أفضّلها هنا تنطلق من مبدأ أن الديني أيّ كان محتواه، يجيب عن سؤال أعتقد أننا نسيناه هو السؤال، لا عن معنى هذا المشروع الخاص أو غيره، عن إصلاح هذه المؤسّسة أو تلك، أو عن هذا البرنامج السياسي أو ذاك، بل هو السؤال، بأكثر عمق، عن معنى المعنى. أستعمل هذه الصياغة لا لمتعة استخدام المعجمية الفلسفية، بل لأبيّن أنّه إذا، ما استطعنا، في العالم اللائكي، تعريف معنى مشاريعنا بالنسبة إلى غايات وأهداف رسمناها نحن – (ما نقوم به، لو فكّرتم جيّدا، من الصباح إلى المساء وفي كلّ المجالات)- وإذا ما صار لأعمالنا معنى، بالنسبة إلى أهداف، في نظرنا كما في نظر الآخرين، يصبح هذا السؤال عن المعنى الأقصى، في المقابل، صعبا جدّا طرحه في عالم منفصل عن الدين، عالم اللائكيّة، حتى لو كان في شكل ” متواضع وضعيف” بلغة الأنجلوسكسونيين.
عن هذا السؤال يجيب الدين، مثلما أيضا وبطريقة ما تجيب الأتيوبيات السياسية الكبرى لليسار. واليوم لا يجد هذا السؤال أيّ جواب، على الأقلّ جوابا ظاهرا على الصعيد الجماعي، كلّ منّا مدعوّ في الأساس لحلّ هذا المشكل كما يفهمه في الفضاء الخاص، وإذا ما أمكن دون تشريك الآخرين. هاتان هما الملاحظتان الأوليتان اللتان وددت تسجيلهما كي أوضّح قولي.
أنسنة الألهي humanisation de divin
أبسط لكم الآن جملة من الملاحظات والتأملات التي يمكن أن تندرج ضمن منظورين:
من جهة، ما أسميناه” نهاية افتتان العالم” désenchantement du monde ” إحالة إلى كتاب هام جدا لمارسال قوشي يلحّ على بيان الطريقة التي تخلّصت بها المجتمعات الديمقراطية من الدين، وبالخصوص من الدين المسيحي، وتفسير لماذا فُرِضَتْ اللائكيّة على أساس الدين المسيحي، وبصورة أقلّ يسرا على أساس اليهودية والاسلام؛ ومن جهة أخرى ما سأسمّيه ” إعادة إفتتان العالم” le réenchantement du monde“، أي إمكانيات إدعاء الروحانية التي تعرض على العالم اللائكي. ويمكن أن نعود، في شأن ما يعبّر عن نهاية افتتان العالم، إلى دراسة ثقافية وسياسية للقرنين الأخيرين كي نبينّ، مثلما قام بذلك قوشي، كيف يُعبّر العالم اللائكي عن نفسه، في آن واحد، بدَمَقْرَطة تزداد اتساعا واستقلالية autonomisation متنامية للأفراد-( يزعم الأفراد الذين يتحرّرون دائما وباستمرار أنهم يفكّرون بأنفسهم)- وبما أن هذا التقدّم في الحرية الفردية ثمنه خيبة أمل شديدة للعالم باعتبار، كما قلته في حينه، يجد الفرد نفسه وحيدا مع ذاته قبالة السؤال الجوهري عن معنى وجوده. لا يطرح هذا السؤال غالبا، على الأقلّ بالنسبة إلى الملحدين، إلا بمناسبة ظروف استثنائية مثل المرض أو الحداد الذي، يمثّل وتحديدا في العالم اللائكي، حيّزا كبيرا للتفاهة. يعتبر مثال الحِدَادِ تجسيدا للتفاهة التي رُدَّ إليها الخطاب اللائكي.. وما يثير دهشتي بالأساس أنّه في كلّ مرّة تتاح لنا فرصة أن نعيش هذه التجربة، تجربة الحداد أو مشاهدة أصدقاءنا يعيشونها، من ناحية، أن كلّ ما يأخذ معنى في وجود الشخص المعني، يُعَلُّقُ بفقدان الشخص المحبوب ويصبح فجأة لاقيمة له، ومن ناحية أخرى، أنّه حتّى في الاحتفالات الأكثر لائكيّة، تستمرّ الحركات gestes الدينية في الوجود. يمكن أن نطيل في وصف ظاهرة نهاية افتتان العالم هذه، ولكن بما أنه ربّما أكون هنا أقلّ أصالة، فلن أقف عند ذلك طويلا. أتفق في هذه النقطة مع قوشي ولوباتشفسكي اللذان اشتغلا على نهاية المقدّس في المجتمعات اللائكية التي، بالرغم من تفاهتها الكبيرة، فإنّ الإيديولوجيا الوحيدة التي ظلّت متيقظة هي الإيديولوجيا الليبيرالية بكل ما تحمله على صعيد الحرية والتحرّر. وسأعفيكم من توسيع مطوّل حتى أصل مباشرة إلى ما يمكن أن يمثّل الجزء الوضعي أو المدني لعرضي: إعادة افتتان العالم.
لقد عشنا طيلة هذا القرن الأخير، أو على الأقلّ طيلة القرن 19 و20م، هذه المرحلة حيث انتهت الثورة الفرنسية، خاّصة بفضل تدخّل المدرسة، مَسَارَيْن متناقضين تماما. ولجلب انتباهكم إلى إحدى خصائصهما، أصف المسار الأوّل الأكبر الذي تحدّثت عنه الآن بصيغة” نهاية افتتان العالم”، ومسار ” أنسنة الإلهي” ، بما في ذلك داخل الكنيسة. لقد أعادت المجتمعات المعاصرة، على الصعيد الثقافي والفلسفي والفكري منذ قرنين، ترجمة المفاهيم الكبرى للدين المسيحي- بشيء ما من السعادة لكنها فعلت ذلك- في ألفاظ متوسّطة، إن جاز القول، في متناول الملحدين، وملائم للاّئكيّة.
ولفهم هذا أقدّم مثالا بسيطا، لا يمكن تصوّر الإعلان عن حقوق الإنسان بخلفية مسيحية خاصّة، دون تصوّر مسيحي للإنسانية ولكن في ذات الوقت، إنسانية تحدّث نفسها وتقول لنفسها، بواسطة معجمية هي لائكية تماما وفي متناول غير المؤمنين. لقد شهدنا إذن، حركة أنسنة للإلهي، وإعادة ترجمة لمفاهيم الدين داخل مقولات اللائكيّة. تمثّل هذه الظاهرة مشكلا كبيرا بالنسبة إلى الكنيسة، و تشهد بذلك الرسالة البابوية، بكثير من العمق والمتانة،(- وأقولها بكل لطف بأنّني لاعرفاني)- الرسالة التي عليها أن تضع حدّا لسيرورة الأنسنة للإلهي بالنسبة إلى المسيحيين أنفسهم. إنّ الحدّ الذي ما فتئ البابا يذكّر به هو أنّ كل دين، ولأنّه تقليديّ تحديدا، في المعنى الذي أعنيه سابقا، يرتكز عل محتوى وحي ينفلت عمّا يمثّل بالذات مبدأ اللائكيّة المعاصرة : مبدأ إيتيقا المناقشة أو، إن شئتم، حتى لا أستخدم لغة مضطربة، ” أن يفكّر المرء بنفسه”. إنّ المبدأ الأساسي لللائكيّة، المبدأ المعاصر بامتياز، المبدأ الذي نعثر عليه بعدُ لدى ديكارت، هو اقتضاء التفكير بأنفسنا، أي اقتضاء رفض حجج السلطة. فمهما يكن الرأي الذي أقبله في ” تصديقي”، يجب عليّ أنّ أضعه في غربال النقد. هذا هو بداهةً أوّل مَعْنَى لما يعرف بـ”الشكّ المنهجي”. فما يفعله ديكارت هو وضع مبدأ معاصر بامتياز، المبدأ الذي سيعتمده الجميع لحظة الثورة الفرنسية وهو هذا الاقتضاء المطلق بأن نفكّر بأنفسنا، الاقتضاء الذي، كما ترون يقابل على نحو ما- وقد لاحظه جيدا البابا في رسالته- يقابل مبدأ الوحي. سوف يتجلّى مبدأ الوحي دوما في هذا السياق كمبدأ دغمائيّ، كشيء مفروض على الفرد، بمعزل عن مطلبه في أن ” يفكّر بنفسه”. وما يحاول البابا فعله، وهو من وجهة نظره مبرّر، هو أن يذكّر المسيحيين بهذا المبدأ البسيط الذي وِفْقه يوجد محتوى لاهوتي قد أعود إليه لاحقا.
تأليه الإنساني
إنّ الحركة الثانية التي سأهتمّ بها الآن، هي سيرورة “الأخلاق الإلهية” الموحى بها في الإنجيل( ففي الأناجيل لا يوجد دين فحسب، بل أيضا أخلاق) والتي لا تقبل النقاش. يوجد باستمرار تقابل جوهريّ بين مبدأ الدّين الذي يقتضي الطاعة والتواضع ومبدأ ” فكّر دائما بنفسك” الذي، من وجهة نظر البابا، هو تماما مبدأ الكبرياء مثلما هو مبدأ الاستقلالية الذي يستدعي باستمرار أكثر، وضع كلّ محتوى في غربال النقد.
أعتقد أن هذا التناقض هنا قويّ جدّا في صلب الكنيسة المسيحية، ومع ذلك فقد قضّى أحدهم مثل اوغان درووارمان Eugen Drewermann مثلا، وهو الذي ليس مجرّد ديماغوجي بل عالم لاهوت كبير، قضّى كامل حياته في إعادة ترجمة الدين، خاصة حِكَمَ أو أَمْثَالَ الإنجيل، بمفردات في متناول الملحدين. وإذا ما ذكرنا دريورمان قد نقول تقريبا، وهو ما أثار سخط أسقف أبرشية باديربورن المرتبط به، هو أنّ إعادة الترجمة هذه تذهب بعيدا إلى حدّ لا حاجة فيه أن نكون مؤمنين لنجد الأناجيل جميلة، وهو بداهة ما يطرح مشكلا بالنسبة إلى التذكير بهذا المحتوى، في الدلالة الدغمائية للوحي في منظور لاهوت أخلاقي. توجد إذن هذه الأنسنة للإلهي، وألحّ على ذلك، داخل الكنيسة، فهذا أحدهم مثل الأب فالاديي في كتابه ” تقريظ الوعي” يطرح مشكلا مخالفا للبابا، مخاصما أنّه يجب إدماج مبدأ إيتيقا المناقشة أو الحوار داخل الكنيسة وأنّ هذا المبدأ ليس متضاربا تماما مع مبدأ الوحي.
إنّه لمشكل كبير ! في رأيي هذان المبدآن في موضع ما، هما متضاربان، وحينما أقول في موضع ما، ليس لمجرّد استعمال صيغة، بل لأنّي اعتبر أنّه يوجد مكان محدّد حيث يكونان متضاربين: سأترك المسألة مفتوحة، ولكن سأعود إلى “الإنساني”، إلى ما يمسّ مسألة معرفة هل مازال المقدّس أو “المتعالي”موجودا في مجتمعاتنا المعاصرة.
لنطرح المشكل بكلّ بساطة: إذا ما سلّمنا، بوصفنا لائكين، وديمقراطيين نتطلّع إلى الاستقلالية، مبدأ رفض حجة السلطة، وإذا ما تبنّينا كاقتضاء التفكير بأنفسنا- (واعتقد أنّ المسيحيين أنفسهم يقبلون هذا المبدأ وأنّه بالتحديد ما يمكن أن يمثّل مشكلا لديهم)- إذن، فإمّا أنّه لا يوجد تعالٍ بالنسبة إلى الفرد ويصبح كلّ شيء محايثا لوعيه – (اللحظة الأولى للشكّ الديكارتي، هي الأنانة solipsisme-) ، وإمّا أنّه توجد بقايا متعاليات، حتّى في المجتمعات المعاصرة واللائكيّة، ولكن حينئذ، لابدّ أن يكون موقع ما نعترف به كقيمة متعالية بالنسبة إلى الفرد، كقيمة متسامية على الفرد ، متلائما مع رفض حجّة السلطة. يجب إذن أن يتعلّق الأمر بتعالي من نوع جديد ، يتخذ شكلا جديدا بالنسبة إلى الوحي التقليدي الذي يفرض قبول حجّة السلطة بتواضع، ويجب أن يكون تعالي فكر انطلاقا من العقل والقلب الإنساني، انطلاقا من محايثة الإنسان لذاته ، وليس بوصفه معيشا كشيء مفروض من خارج أو موروث. وبعبارة أخرى، لا يتعلّق الأمر بتعالٍ أعلى من وعيي بل أسفله، أكتشفه على نحو ما، داخل أحاسيسي الخاصّة وفي عقلي الخاص. هنا يكمن الفرق بين النوعين من التعالي بما أنّه لدينا من جهة تعالٍ تقليدي مفروض من الوحي ومن سلطة رجال الدين ومن جهة أخرى ، تعالٍ ، إن جاز القول، لائكيّ، تعالٍ يعاش في محايثة الذاتيّة الأكثر حميميّة.
يسمح لنا طرح المسألة على هذا النحو بالانشغال ببعض التأمّلات التي تبدو جديدة من منظور فلسفي وتاريخي. أوّلا،لا أعتقد أنّ المقدّس قد اختفى من المجتمعات اللائكيّة. يقول نيتشه بأنّ المقدّس هو ما يمكن أن نضحّي من أجله، وهو ما قد نهبه حياتنا. يتعلّق الأمر إذن حسب نيتشه بقيمة وهميّة. ومهما كان التفكير، فإنّ من يضع قيما بوصفها أرفع من الحياة، فهو في وهم الدّين. يعرّف الدّين أساسا بالنسبة إلى نيتشه بوصفه وَضْعَ قيم أسمى من الحياة. لماذا؟ لأنّنا نستعيد بهذا الفعل بنية العالم الدنيوي والأخروي، والمحايثة والتعالي الذي يعرّف كلّ دين عند نيتشه. أعتقد أنّ ما نلاحظه اليوم، والذي يمكن أن نقوم به خبريّا، هو أن المقدّس كقيمة قد نضحّي من أجلها، أو على أي حال كقيمة نعترف بسموّها على حياتنا الخاصّة لم تختفي، ولكنّها مرّت من العمودي إلى الأفقي. لقد مرّ المقدّس، بالفعل، من هذا التعالي الذي يحتلّ قمّة البشر والذي فرضه التقليد، إلى متعالٍ نحو سافلة البشر، يكتشفونه داخل قلوبهم بالذات حتّى نحتفظ بهذه العبارة المجازية. وإذا ما كتبنا تاريخ المقدّس وهو ما قد يكون أمرا مهمّا، فسيتّضح لنا الأمر أكثر. لماذا قبل البشر طوال تاريخهم ، بما في ذلك أيامنا هذه، التضحية بحياتهم؟ لقد قبلوه من أجل الإله- يوجد أيضا ، في مجتمعات أخرى ، ” مجانين الإله” fous de Dieu” – ، ومن أجل الوطن – هم أقلّ عدد اليوم- ومن أجل الثورة، – و هم حاليا، أقلّ عددا أيضا- ولكن إذا ما نظرتم في هذه الضروب الثلاث من التعالي وهي الإله والوطن والثورة، فستلاحظون دائما تقاربها في التاريخ، فهي تتقارب دائما أكثر من المحايثة إلى الإنسانيّ: فالإله بعيد جدّا عن البشر، والوطن هو بعدُ جماعة بشرية والثورة هي مشروع إنساني خالص، بل مادّي ! نشهد إذن انهيار المتعالي العمودي بكلّ أشكاله، واليوم بعبارة بسيطة، نشهد ظهور متعالي من نوع أفقي ولكن ليس برهان جديد.
سأقول، متّجها إلى الأساسي، بأنّ الكيانات الوحيدة التي من أجلها نحن هنا، ستكون مستعدّة للقيام بتضحيات جسيمة بشكل عفوي، ليست كيانات فوق البشر، بل كائنات بشرية أخرى، بدءا بأولئك الذين تربطنا بهم علاقات العاطفة. سأتوقّف قليلا عند مسألة مرور المتعاليات من القمة إلى أسفل الوعي البشري، لأنّها تبدو لي أساسية من زاوية نظر مشكل اللاهوت السياسي الذي طرحته سابقا. يُروى أن هوسرل كان معتادا، حينما يدرّس طلاّبه، على يُظْهر لهم مُكعّبا – (وقد ظلّ هذا المجاز مرسّخا جدّا في تاريخ هذا التيار الفلسفي الذي هو الفينومينولوجيا)- وكان يقول لهم:” أنظروا جيّدا إلى هذا المكعّب فمهما كانت الطريقة التي تنظرون بها إليه فلن تروا سوى ثلاث أسطح ! يوجد دوما، مهما كانت وجهة النظر التي تتبنوّنها، وحتى لو قمتم بدورة حول المكعب، فستبقى ثلاثة أسطح غير مرئيّة”. بالطبع نحن أمام مجاز ولكنّه مهمّ جدّا وأساسي بالنسبة إلى المسألة التي تشغلنا اليوم، بما أنها تسند فكرة أننا ندرك التعالي، بالنظر إلى تعالي الثلاث جوانب اللامرئية للمكعّب، مباشرة داخل المحايثة، والحال هذه من المحايثة إلى الإدراك البشري. فنحن ندرك إذن مباشرة ودونما حاجة إلى اللجوء إلى التفكير، أنّ الشيء هو مكعّب لا نرى منه إلا ثلاث أسطح أو جوانب. وبعبارة أخرى يوجد في كلّ مرئيّ جانب من التعالي واللامرئيّ الذي هو بوجه ما متضمّن في هذه المحايثة للفكر ووعي الفرد. لا حظوا جيّدا الفرق بين المتعاليات من النوع التقليدي أوالمُوحَي بها: يُدرك هذا التعالي في المحايثة انطلاقا من الوعي، دون اللجوء إذن إلى حجّة السلطة. ولتقديم مثال بسيط أيضا، نقول اثنان مع اثنان يساوي أربعة هي قضيّة تُقَاوم بأعجوبة الفردانية النسبوية باعتبارها لا ترتبط بذوق ذاتي ؛ ومع ذك فهي لا تفرض نفسها بحجة السلطة . تتضمّن كلّ حقيقة علمية شيئا ما هو في ذات الوقت محايثا كليّا للوعي ومتعالٍ تماما بالنسبة إلى الذاتيّة الخاصّة للفرد. نملك هنا بالذات مثالَ تَعَالٍ في المحايثة، والذي هو على نحو ما، مقبول من الفرد دون اللّجوء إلى السلطة التي توجد في أسفل الوعي باعتباره يكتشف هذا التعالي انطلاقا من قناعاته الخاصّة، دون التخلي عن المقتضى الديكارتي ” التفكير بأنفسنا” .أؤكّد، خارج هذا النموذج الفكري الذي لن أوسّع تحليله حتى لا أقوم بدرس في الفلسفة، على الصلة وما قد يحصل من نتائج على التطوّر العيني الواقعي والتاريخي للمجتمعات الديمقراطية. وأعتقد أنّه يوجد جانب من تاريخنا الثقافي، والسياسي والفكري لا يحظى بالتقدير: ولادة الأسرة المعاصرة. ولم يقع الاهتمام بهذه المسألة إلاّ منذ عشرين سنة ، منذ أعمال فيليب أرياس؛ التي إنْ لم تطّلعوا عليها، فإنّي أدعوكم فيما يتّصل بهذا الموضوع، إلى قراءة عمل مؤرّخ أمريكي، إدوارد شورتر، الذي أجده مثيرا ومهمّا : نشأة الأسرة المعاصرة. وفيه يفسّر المؤلف، إنطلاقا من أطروحات آرياس، ولادة هذا الحدث الرئيسي الذي هو مرور أسرة منظّمة من خارج بالتقليد- خاصّة بالتقليد الديني، ولكن أيضا بتقاليد المجموعات القروية- إلى أسرة مؤسسة على العاطفة أي على الذاتية. نزوّج الأفراد من قبل لأسباب اقتصادية و”لإمتداد نسب ” جدّ ملموس : الحفاظ على العائلة، امتداد أسري، وعِرْق كما لا نزال نقول في القرن18م، دون أيّ اعتبار للصلات الاختيارية، والعواطف، وعلى وجه العموم حتّى القرن 18م – يظلّ الأمر رهين الطبقات الإجتماعية و كلّ شيء هنا للتنسيب – ولم يكن الحبّ أو العاطفة هو المبدأ الأساسي للزواج، بل يمكن أن نقول بأنّ الزواج عن حبّ هو اختراع حديث. وسنخرج من التنظيم التقليدي لحياة الأفراد، ومن ثقل الدين، إذ التقليد هو بالأساس الدّين، تحت تأثير الرأسمالية ونظام الأجرة، وخاصّة بفضل النساء اللاتي سيغادرن المجموعات القروية “للنزوح إلى المدينة” واختيار شغلهن. وبمطالبتهن باختيار الشغل، سيقمن أيضا باختيار الزوج والعناية بأطفالهنّ، وهو ما يمثّل حدثا جديدا نسبيا: أذكّر بأنّ مونتاني يجهل عدد أطفاله الذين ماتوا في سن الرضاعة وهو أمر، إن سمحتم لي، غير قابل للتصديق حرفيا اليوم ! يوجد الرابط الاجتماعي الأكثر أهمّية، سواء أكان في الأسرة أو، في معنى موسّع، داخل ما يسمّيه الإغريق “فيليا “philia، الصداقة، هكذا إذن، رابطا مؤسَّسا، لا على التقليد، بل على العاطفة، وهو ما يؤدّي بعدُ إلى المشكلات المعروفة: يرتكز الزواج القائم على العاطفة على شيء متقلّب وضعيف، وولادة الزواج عن حبّ ينجم عنه ولادة الطلاق.
إنّ حدث العاطفة بوصفها رابطا اجتماعيا مميّزا هو أيضا ما سيؤدّي من قريب إلى ظهور شكل جديد من ” الدهرية اللائكية” sacralité laique”. أفكّر، استنادا إلى هذا، في العمل الإنساني الذي لا يقتصر على من نسمّيهم عن طواعية اليوم،” العمل الإنساني الاعلامي”، بل الذي حدث في البداية مع هنري دينان، طَبْعٌ فَخْمٌ فعلا، هنا بلا شكّ المشروع اللائكي الوحيد – (فدينيان وبالرغم من كونه بروتستانتي كان لائكيا) – يشبه تصميما كبيرا؛ بل حتّى إلى اليوم ، من ينقد بشدّة العمل الإنساني الإعلامي لا يقرأ ذكرى سولفيرينو le souvenir de Solférino دون تأثّر. يوجد هنا إذن شيء مهمّ لإعادة التفكير أو للتفكير، ولادة هذه المتعاليات الأفقية التي أشرت إليها سابقا، أي هذه العلاقة مع الآخر الذي يصبح بطريقة مَا علاقة مقدّسة حينما توجد عاطفة، وحيث لا يوجد، يمكن للتعاطف أن يلعب دورا بقدر ما هو ضخم ، فهو يُؤَسّسُ ، لا على وحيٍ فحسب أو على مبادئ عقلية مثلما هو الحال في الأخلاق اللائكية ، بل على حماسةٍ، في المعنى الاشتقاقي للكلمة.
لقد أسيء، في نظري، تقدير هذا العامل المؤثّر جدّا ، في الفكر، و ربمّا أيضا في السياسة المعاصرة. لقد اتخذت السياسة منذ عشرين سنة منعرجا يبدو لي مؤسفا. لقد أضحت تقنية في المعنى الفلسفي للكلمة، في المعنى الذي يتحدّث فيه هيدجر عن عالم التقنية. فمشروع العلم المعاصر بالنسبة إلى هيدجر، مثلما بدا مع قاليلي وديكارت، هو مشروعَ هيمنة على العالم بواسطة الذكاء والإرادة الانسانية- أبسّط ولكن استعيد أساس فكره: سيصبح البشر بفضل العلم ” أسيادا على الطبيعة ومالكيها “. لقد كان الإنسان إلى حدّ القرن 18م خاضعا لغائية خارجة عنه. لأجل هذا يعتقد فلاسفة القرن 18م بوثوق في فكرة التقدّم؛ إنهم يعتقدون أن العلم سيسمح يقينا بالسيطرة على العالم، ولكن ليس لأجل لذّة السيطرة، بل للتحرّر، وللسعادة وحريّة البشر. بيد أن ما يحدث حسب هيدجر، بمجيء التقنية، هو أنّ السيطرة أصبحت غاية في حدّ ذاتها، وأضحت تحكّم من أجل التحكّم، قوّة من أجل القوّة. والقوى المنتجة في النظام الرأسمالي تتطوّر لذاتها، وقدرات البشر على العالم تتنامى ولكن دون أن يوجد لديها أيّ غائية مرئية ودون أن نكون على يقين بأنّ هذه القدرات هي عوامل سعادة وحريّة. يوجد هنا حسب هيدجر، مرورا من العلم إلى التقنية، مرورا من الأنوار إلى العالم المعاصر بواسطته يُجْلَى كلّ اعتبار للغايات لفائدة الاعتبار الوحيد للوسائل، لمجرّد قوّة الاقتدار.
يقدّم ردّ السياسة إلى التقنية سلبيات حقيقيّة. فأنا لا أعتقد، رغم كوني ليبيراليا على الصعيد السياسي، ورغم حذري من “المشاريع الكبرى” كحذري من الطاعون، مشاريع كتلك التي تصوّرناها في الماضي، أنّ السياسة يمكن أن تُخْتزل في تقنية، ولا في منظورية إصلاحية بالتحديد، لو ذهبنا بعيدا. أعتقد انّه لابدّ أن توجد مشاريع في السياسة و أعتقد أنّه إذا ما كان لنا حذرا شديدا منها، فلأنّنا نفكّر في المقدّس، والمعنى والتعالي، بالأحرى وفق النموذج الدغمائي الذي أثرته في البداية بدل نموذج يبدو لي، متلائما تماما مع اللائكية ومقتضى الاستقلالية والحريّة التي هي مشروعة للأفراد في المجتمعات الديمقراطية، والتي هي تحديدا هذا التعالي في المحايثة الذي تكلمت عنه سابقا؛ هذا التعالي المُدْرَكِ انطلاقا من العقل والقلب الإنساني ذاته، وليس مفروضا من المؤسّسة أو التقليد أيّ كان. أعتقد أنّه توجد في هذا المنظور إمكانية العثور من جديد على المشاريع الكبرى التي، ليست لا مُهَدِّمةَ ولا كارثية أو قاتلة، بل التي تمنح المُصلح طابعا آخر غير الذي تمنحه التقنية أو التكنوقراطيا.
*نص مقال يعكس محاضرة ألقاها لوك فيري في 14 جوان 1996 في جامعة بروكسيل. نشر– مجلة ” بين وجهات النظر”Entre-vues عدد 31- 32 وفي كتاب جماعي “حضارة رهينة شغفها بالرفاه” نشر مجلة “بين وجهات النظر” – 1997
“De la passion” du bonheur à la redécouverte du sacré – Luc Ferry