الكاتب | مايكل تريمبلي |
ترجمة | رٌبى الخليل |
تحرير | عبد المنعم أديب |
من السهل حصرُ التفكير في ماهِيَّة الفلسفة ضمن أُطُر: عقليَّة أو نظريَّة أو أكاديميَّة، ومن شأن مصطلحات مثل “الأخلاق” أو “الفضيلة” أنْ تستحضر إلى الذهن مُحاضرةً مدرسيَّةً أو نقاشات نظريَّةً أو تجارب فكريَّةً. لكنْ مع تطور الفلسفة في اليونان القديمة بات يُنظر إلى الأخلاق على أنها مهارة تطبيقيَّة؛ حيث ترى هذه المدارس الفكريَّة القديمة أنَّ الفلسفة لا تنحصر في إطار المناقشة، بقدر ما هي سبيل لتغيير الفرد، وترمِي إلى انتشال الطلاب من جهلهم ورضاهم الذاتيّ والارتقاء بهم ليكونوا أكثر شجاعةً وعدلًا واعتدالًا وحِكمةً، بمعزل عن إتقانهم وصف الأفكار أو مُناقشتها في الحصَّة الدراسيَّة.
وتُعدُّ “الرُّواقيَّة” إحدى هذه المدارس الفكريَّة القديمة. والفضيلة من منظور الرُّواقيِّين كانت تتعدى كونها مجرد فكرة للتأمل، بل قدرة تتطلب الرعاية والصقل عن بصيرة. وعلى غرار طاقات المرء في الحرب أو ألعاب القوى أو النجارة، يتطلَّب بلوغُ المكانة الجيدة والرفيعة توفُّرَ مهارة صُقلت على مدار سنوات من الاجتهاد والمثابرة في الدراسة والممارسة والتدريب. وهو ما يحيل كلَّ الماهرين -من وجهة نظر الرواقيِّين- إلى نماذج يُحتذى بها. على سبيل المثال كان الفيلسوف الرواقيّ اليونانيّ “إبكتيتوس”[1] (55 م – 135م) يستلهم أفكاره تحديدًا من الرياضيِّين، حيث يرى أنهم النمط البدائيّ للارتقاء بالذات، وأنَّ بوسعِ الفرد أنْ يحذو حذوهم في حال كان التطور وصقل هذه المهارة الأمثل مُبتغاه.
وأوَّل الدروس المُستقاة من الرياضيين يكمن في “الارتقاء بالعمل” على حساب “النظريَّة”؛ فالرياضة بالأساس ترتكز على الأداء. ولا تجد رياضيًّا يتأمل بقدرته بل يختبرها في الملعب والحَلَبَة. وإنْ ظهر خلل في الأسلوب أو اللياقة أو خطَّة اللعب يبادر إلى تسويته، بعيدًا عن تقديم الذرائع؛ انطلاقًا من ثقته بالأداء -بصفته المعيار الأمثل للتطور-.
فجوهر الرياضة -بمعنى آخر- يتمحور حول أدائك في الأوقات العصيبة بمعزل عن أقوالك أو خططك السابقة؛ فالمهم في الوقتِ الآنِيِّ جودةُ أدائك. ناهيك عن المخاطرة التي يتكبدونها عندما يرتبط الأمر بتقدُّمهم وتطوُّرهم الذاتيّ. فلا ننسى أنَّ ثَمَّةَ تَبِعات لعدم التطوُّر تَقَعَ على كاهل الرياضيِّين؛ فالتطوُّر والارتقاء بالأداء ينأى عن كونه مجرد نظريَّة، بل شيء يخضع للاختبار، يُكافَئ في حالة الانتصار أو يُكوى بنيران الفشل. ومع ذلك تساهم تبعات الفشل هذه على صقل التطوُّر الذاتيّ.
إذا لم يكن التفكير القويم منبعَ سلوكنا؛ فسلوكُنا يحاكي سلوك الرياضيّ الذي يتدرَّب دون أنْ يخوض أيَّة منافسة، فما الجدوى من تدرُّبه؟
كان “إبكتيتوس” -الذي كانت له مدرسته الخاصَّة في المذهب الرواقيّ في نيكوبوليس باليونان- يَعِيْ مَيلَ طُلَّابه نحو وضع النظريَّات حول الأخلاق عِوضًا عن تطبيقها. ورغم إلمامهم بالرُّواقيَّة ظلُّوا يترقبون تغيير ذواتهم دون عمل. في معرض ردِّه على هذا التوجه، انبرى “إبكتيتوس” إلى دعوة الرياضيِّين بالقول:
كم من الوقت يستدعي إدراكُكم باستحقاق الأفضل، دون أنْ تُقدِمُوا على تجاوز الاختلافات التي يفرضها العقل؟ اكتسبتم المعرفة بالمبادئ الفلسفيَّة التي كان يتعيَّن عليكم قبولها، وقبلتُمُوها. ما هي طبيعة المُعلِّم التي تترقبون قدومه مِمَّا حدا بكم إلى إرجاء أيّ جهد في سبيل إصلاح ذاتكم إلى أن يأتي؟! ليكُنْ “الأفضل لكم” بمثابة قانون معصوم. وإن تعرَّضتم لأمر يتسدعي بذل الجهد أو لأمر مُبهجٍ أو غير مُبهج؛ فتذكَّرُوا أنَّ وقت المسابقة قد أزف، والأولمبياد على الأبواب، ولا مجال لهدر المزيد من الوقت. فمدى فقدان التقدُّم أو ضمانه مرهون بيوم واحد وسلوك واحد.
في حقبة ما من حياتنا كنا أشبه بهؤلاء الطلاب، اعترانا شعور مشترك بضرورة اتِّباع نهج مُغاير، لكننا عجزنا عن التحرك: رُبَّما في مُجابهة شخص مُتنمِّر في العمل، أو تخصيص جزء من وقتنا لتقديم العون لشخص آخر، أو الاعتذار عند الوقوع في الخطأ، أو الاضطلاع بمسؤوليَّة المحافظة على صحتنا الجسديَّة وعاداتنا. بغض النظر عن الأسباب، كنا ندرك الصواب إنَّما لم نخطُ لتحقيقه.
“إبكتيتوس” يحضنا على التمعُّن بسلوك الرياضيِّين، فيما يتعلق بضرورة التحرُّك انطلاقًا مِمَّا نراه صائبًا. فنحن أشبه في تصرفاتنا بذاك الرياضيّ الذي يجتهد في تدريباته دون أنْ يخوض أيَّة منافسة قطُّ. ما الجدوى من التدريب إذن؟ فإنَّ اللحظة التي تُكدِّر حياتنا، والفعل الذي نراه لازمًا علينا؛ هُنا فقط تتجسَّد الأولمبياد الخاصَّة بنا، إنها فرصتنا لخوض غمار المنافسة. بات لزامًا علينا أنْ نتحرك ونحُثَّ الخُطى، وإنْ أخفقنا أو ارتكبنا الأخطاء نكُنْ قد كسبنا -على الأقلِّ- شرفَ المحاولة، وتبلورت أمامنا النقاط الواجب تحسينها لاحقًا، وعلى الأقلِّ بذلنا جُلَّ قدراتنا في المحاولة.
ومن الطبيعيِّ أنْ يفضي بنا هذا النوع من المناقشة إلى السؤال الصعب حول: ماهيَّة الفعل “القويم”. وهنا تستحضر النظريَّة نفسها؛ فالفعل القويم عند الرواقيين يرتبط بتناغُمه مع الطبيعة، بما في ذلك طبيعتك ككائن مُفكر وطبيعتك كحيوان اجتماعيّ لديه واجبات تجاه الآخرين. مما يعني الإقرار بتجسُّد الخير الأسمى في الفضيلة والشخصيَّة دون المُساومة بهما طمعًا بأيَّة مكافأة أو تحت أيّ تهديد بعقوبة خارجيَّة: كالمال والشهرة أو الموت والسجن.
ثَمَّةَ قيمةٌ ساميةٌ تلوح في معرض الخوض بأغوار هذه الأسئلة والتمعن في أجوبة أخرى. ومن الأهميَّة بمكان ألا نُساق مَعصُوبِيْ الأعيُن لقبول رؤى الرواقيين -أو أي شخص آخر- في تحديد أسلوبنا في الحياة. وأرى أنَّه من الضروريِّ ضمان عدم مُراوحتك في دائرة التنظير لا غير. ويُعزى ذلك لسببَيْنِ وجيهَيْنِ: أوَّلًا، يَعِيْ معظم الناس حقيقة الإقدام على فعل لا يُظهر قدراتهم الخاصَّة. والسبب الآخر يرتبط بالطبيعة المعقدة لهذه الأسئلة المتمحورة حول الفعل الأمثل.
وخلال سيرك على درب الحياة ستكتسب المعرفةَ، وتتبدل مع الوقت رؤاك وأفكارُك. وإنْ تسلحت أفعالك الآنيَّة بالنِّية الطيِّبة في سعيك لتكون الأفضل وتتطور؛ عندها يتسنَّى لك استخلاص العِبَر من تلك الأخطاء. فالشخص الراغب بإتقان رياضة لا يدري عنها شيئًا سيتعلم بوتيرة أسرع مِن المُمتنِع عن اللعب حتى يُلِمَّ بكُلِّ صغيرة وكبيرة عنها.
وفي خضمِّ رحلتك نحو الارتقاء للأفضل، عليك أنْ تُركِّز جهدك على العمل قبل النظريَّة. فالشخصيَّة تُصقَل عبر عملية مُكرَّرة تنطوي على العمل والفشل، ومِن ثَمَّ النهوض للعمل مرة أخرى. حتى تغدو عدَّاءًا مُحترفًا عليك بالجري، الأمرُ نفسُه يسري على رغبتك في التفوق في الشجاعة واللطف، والتي لنْ تتحقق إلا من خلال تكرارك للأفعال الجَسُورة والمُفعَمَة باللطف.
الرياضيُّون منذ حقبة “إبكتيتوس” يُحوِّلون المَشاقَّ إلى فرصٍ لاستخلاص العِبَر من الفشل
بالنظر إلى أنَّ تطوير الذات عمليَّةٌ عسيرةٌ وشاقَّةٌ؛ علينا أنْ نتسلح بالمُثابرة والجَلَد في خضمِّ نضالنا نحو الارتقاء. ويرى “إبكتيتوس” أنَّ المُثابرة تتطلب مُجدَّدًا التأمُّلَ بنموذج الرياضيين؛ حيث يتَّسِمُ الرياضيُّون البارعون بالقوة، نظرًا إلى ما يُواجهونه خلال التدريبات والمنافسة من ألم جسديٍّ وصراع نفسيٍّ مُرافقٍ للفشل والهزيمة؛ ففي الإطار النفسيّ لا يُعدُّ التدريب والمنافسة أمريْنِ يسيريْنِ، ومع ذلك تحلَّوْا بالمُثابرة والجلد. ويحثُّنا “إبكتيتوس” على الامتثالِ بالرياضيين عند ارتكابنا الأخطاء:
في المقام الأوَّلِ، أدِنْ أفعالَك، وبعدئذٍ لا تفقدْ الأملَ بنفسك، بل تعلَّمْ مِن سلوك مُدرِّبِيْ المُصارعة. الصبيُّ يسقط، يبادره المدرِّبُ بالقول: “انهضْ، وتابِعْ القتالَ حتى يشتدَّ عودُك”.
إنْ أقدمتَ على تصرُّفٍ، وكانَ الفشل بانتظارِك أو عجزتَ عن فعلِه بالشكل اللائق؛ ما عليك إلا تقمُّص رُوحِ مدرِّب المصارعة. قُلْ لنفسك: انهضْ وحاولْ مُجدَّدًا حتى نغدو أقوى. ما هي الطريقة التي نطور من خلالها هذه المُثابرة؟ ابتكر الرياضيُّون منذ عهد “إبكتيتوس” حيلةً يُمكننا استعارتُها: إنهم يُحيلُون المشاقَّ إلى فرصٍ لاستخلاص العِبَر من الفشل. أعرضُ لك مُحادثةً بين “إبكتيتوس” وأحد طُلَّابه بهذا الصدد:
الطالب: هل يتسنَّى لنا استخلاص الفوائد من المشاقّ؟
“إبكتيتوس”: نَعَمْ، والأمر يسري على الجميع.
الطالب: حتى من شخصٍ أهانَك؟
ما طبيعة الفائدة التي يجنيها المُصارع من شريكه في التدريب؟ فائدة عُظمى. كذلك الرجل الذي يُوجِّه الإهانة لي يتحوَّل إلى شريكي في التدريب؛ فهو يُدرِّبُني على الصبر والنَّأْيِ عن الغضب والتحلِّي بالنبل و… كُلُّ هذا وتقول لا فائدةَ تُجنى منه؟ ببساطة لست على دراية بكيفيَّة استخلاص الفائدة من الغير.
عندما تفقد أعصابك مع شخص وقح أو فظٍّ، لا تسمحْ لفكرةِ تحوُّله إلى عدوٍ أنْ تغزُوَ عقلَك، بلْ فكِّرْ فيْه كشريك تدريب في صالة التمرين على صقل الشخصيَّة؛ حيث تتعرَّض للضغط منهم واختبار حُدودك، ومن ثَمَّ يُسلِّطون الضوء على النقاط الواجبِ تقويتُها. إذا حذونا حذو الرياضيين في استجابتهم لمثل هذه الحالات؛ عندها سنتعلَّم استقبال المشاقِّ والفرص المَوْؤدة بكلِّ امتنان. إنَّها تكشف لنا الأماكن التي تحتاج للصقل، وتمنحنا فرصة التطبيق العمليّ للدروس المُستقاة. أخيرًا، تتجلَّى أهميَّةُ هذه الطريقة في إعادة قَوْلَبَة التحديات والإخفاقات لتتحوَّل إلى فُرص، في دعم المُثابرة المطلوبة للخوض في غمار التطوير الذاتيّ.
وتُلقي هذه الرؤية الرواقيَّة بآثارها على الفلسفة المُعاصرة بوصفها نظامًا. فقد كانت الفلسفة الأكاديميَّة لمئات السنين نهجًا نظريًّا في المقام الأوَّل؛ بتركيزها خلال إجابتها على المُعضِلات الأخلاقيَّة بـ “ماذا”، دون أنْ تتطرَّقَ إلى “كيفيَّة” إحداث التحوُّل الذاتيّ. لكنْ من مُنطلق الدفاع عن الفلسفة ظهرت بعض الاستثناءات البارزة لهذا النهج “النظريّ”؛ مثل حركة الإيثاريَّة الفاعلة، وعديد أنواع أخرى من الفلسفة السياسيَّة الرامية إلى التغيير الاجتماعيّ. ناهيك عن بروز قيمة كُبرى للإجابة على الأسئلة النظريَّة. بَيْدَ أنَّنا لا نريد لقِيمةِ العمل النظريّ أنْ تبقى خاملةً؛ فتطبيق هذه الدروس المُستخلَصَة وترجمتها في حياة الناس وسلوكهم هو مُبتغانا في نهاية المطاف.
إنَّ تعاطيَنا مع هذه الأسئلة حول الطريقة المُثلى للحياة أسوةً بالرواقيين ينعكسُ إيجابيًّا على الفلسفة الأخلاقيَّة والناس عمومًا. إنْ كان الرواقيون -ومعهم “إبكتيتوس”- على حقٍّ، وارتقاءك يُضاهي أيَّة مهارة أو حِرفة؛ بات لزامًا علينا التعاطي مع التطوير الذاتيّ والفلسفةِ على غرار نهج الرياضيين تجاه رياضتهم: التركيز على العمل، والمواظبة على استخلاص العِبَر، والتدرُّب رغم الفشل والأهوال.
[1] “إبكتيتوس” هو أحد روَّاد العصر الثالث من “الرواقيَّة”، التي تُسمَّى بـ”الرواقيَّة الجديدة”. وللتعرُّف عليه أكثر راجِعْ: “الفلسفة الرواقيَّة”، الدكتور/ عثمان أمين. حيث خصَّص له الفصل الثاني، من الباب الثالث. (المُحرِّر)