إن الدور الذي لعبه علم النفس تاريخياً في النظام التشريعي مرتبط بمجالات محددة، ويميل القضاة والمحامون لاعتبارها مجالات نفسية. فعلى سبيل المثال، في نزاعات العلامات التجارية يحاول المتقاضون إثبات مشكلة “حيرة المستهلك” بتعيين خبراء لجمع استطلاعات الرأي العام، التي ستظهر ميل المستهلكين الى الخلط بين علامة تجارية وأخرى. هذا مثال حي على توظيف ” القانون وعلم النفس” بإضفاء الصرامة المنهجية على التحليلات التشريعية التقليدية. مؤخراً، قام عددٌ من علماء “فقه القانون التجريبي” بدراسة القانون من الخارج – وتنظير ما تفعله مذاهبه ونقد ما لا تفعله – وذلك بدلاً من دراسة القانون من الداخل، مما يساهم في تعزيز تحليل القانون التقليدي.
بالإضافة إلى أن هؤلاء التجريبيون اعتادوا على النظم التشريعية التي قد لا ترى على أنها نفسية خصوصا؛ مثل السببية و الموافقة والمنطقية و الملكية و العقاب والعقود وحتى القانون نفسه. ( مثال، ما الذي يجعل من القانون قانونا بدلا من كونه نوع من البنية الاجتماعية[1]) إن هذا النهج الجديد يبتعد عن القانون التقليدي وعن علم النفس من حيث النطاق والتطلعات: إلى أبعد من تقديم منظور ضيق في أمور يصنفّها المحامين كأمور نفسية ( مثل: الاضطراب و الذاكرة و الجنون) يهدف فقه القانون التجريبي إلى تطوير نظرية التشريع بشكل أوسع.
يبحث الفقه التجريبي في كيفية فهم العامة من الناس الذين لا يعرفون الكثير عن القانون للمفاهيم التشريعية الأساسية. ثم يقارن الباحثون هذه المفاهيم مع مثيلاتها التشريعية. على سبيل المثال، باستخدام تجارب استطلاع الرأي، اكتشف علماء النفس أن الأحكام السببيّة عند العامة تتأثر بمنطق الواقع المغاير، والذي يتأثر بدوره بمدى تصرف الفاعل بشكل غير أخلاقي. فعندما ينتهك الفاعل معياراً أخلاقياً سيزيد من صلة الواقع المغاير بحيث يتصرف فيه الفاعل بطريقة تلتزم بالمعايير.
استخدم العلماء هذه النتيجة لإعادة النظر في مذهب قانون الضرر للمسبب المباشر، الذي يحدد أي حدث متداخل “سيكسر السلسلة السببية” بين فعل إهمال أولي وضرر ناجم، بحيث يعفى المرتكب الاوليّ من المسؤولية. على سبيل المثال، في قضية تقليدية لنفي رابط السببية: تترك ورشة سيارات بتقصيرٍ منها المفاتيح في سيارة غير مقفلة، واللص الذي يسرق السيارة يصدم المدعي ليصيبه في حادث إهمال . هل يجب أن تتحمل المحطة المسؤولية لتعويضات المدعي؟ وتبدو هذه القضية غير عادية، إلا أنها بالكاد تكون مستغربة: يُسْتَدَعى القضاة لتحديد الفاعلين المقصرين فهم المسببين المباشرين – ويتحملون المسؤولية في الاخير – للإصابات الواقعة في نهاية السلسلة السببية. بعملهم هذا، يعتمدون على قضايا مثل هذه كسوابق.
المشكلة في الحالات السابقة أنها اتخذت مواقف متغيرة في مسألة نفي الرابطة السببية. وجادل عدد من المنظرين التشريعيين المؤثرين أن أفضل طريقة لشرح هذه التقلبات والتغيرات في قانون السوابق، بالإقرار أن القضاة ببساطة يقررون أي طرف هو الملام اخلاقياً في النهاية، ورصد السببية المباشرة بمقتضى ذلك . غير أنّ المشككين من هذا النهج صرحوا أن السببية المباشرة لا تمثّل شيء أكثر من كونها فوضى قضائية: حيث ينهمك القضاة في الاستدلال بحجج النتائج، التي يعرضونها فيما بعد باستخدام لغة السببية.
لكنّ آخرين ناقشوا أنه بالنظر للبحث التجريبي، سنجد أن السببية التشريعية ليست غامضة أو غير معقولة كما تبدو في مذهب نفي الرابطة السببية الذي يفُسّر أفضل بكونه ليس فوضى قضائية بل أنه يتبع تقريباً الحس العام لفهم السبب. إن هذ الفكرة العادية تتضمن أحكامًا حول موائمة البدائل المختلفة للواقع المغاير، لذا تدخل في أحكام المعايير الأخلاقية، وقد تكون هي السبب لكون قرارات القضاة السببية تبدو كأنها متأثرة باعتبارات اللوم. بهذا الرأي يتضح أن علاقة المذهب بالسببية ليست تخاريف، على عكس ما تذمر منه المشككون . بدلا من ذلك، على ما يبدو، فإنّ قرارات القضاة المتغيرة قد تعكس مفهوم عامة الناس عن السببية.
كشفت تجربة حديثة أن العامة يشعرون بأنّ مفهوما تشريعيا رئيسيا آخر، وهو الموافقة، يتناسب مع أشكال معينة من الخداع. مثلاً، أغلب المشاركين في الأبحاث الأمريكية يؤمنون أن موافقة المريض تتم بقبوله لإجراء طبًي ناجم عن أقوال طبيبه الخاطئة. ونفس الأمر ينطبق حين تسمح إحداهن لضبّاط الشرطة بالدخول لمنزلها لأنهم كذبوا عليها بشأن ما يبحثون عنه. يقر العامة أن المستهدفين المخدوعين هم من سمحوا بنفسهم بالتعدي على أجسامهم وممتلكاتهم. وهذا يختلف عن الفهم المعياري المستقل لمفهوم الموافقة، الذي ينص على أن الموافقة ولكي تكون صالحة لا بد أن تبْنَى على علم ودراية واضحة بشكل كاف. على سبيل المثال، خَلُصت محكمة ما منذ وقت طويل إلى أن المتهم قد يتحمل مسؤولية الاختطاف عندما خدع امرأة شابة للإبحار الى بنما، حيث وعدها بوظيفة معلمة خاصة هناك، في حين كانت نواياه الحقيقية توظيفها في الدعارة. هنا أُبْطِلت موافقتها لركوب السفينة بسبب خداع صاحب العمل لها، فأصبح الأمر كأنها محتجزة تحت تهديد السلاح.
لكن القانون لم يكن دوماً ثابتاً، ويخرج عادة عن المبدأ القائل إن الخداع يلغي الموافقة. بعد عامين من قضية المرأة التي وعدت أن تكون معلمة خاصة في بنما والتي اعتبرت قضية خطف، برزت قضية مشابهة في نفس الاختصاص القضائي انتهت بنتيجة عكسية. خُدِع رجلٌ بركوب السفينة المتجهة للمكسيك ليعمل كموظف سكة حديد براتب شهري يبلغ 35 دولارًا أمريكيًا، وفي الحقيقة، كان سيُدْفَع له دولار واحد بالعملة المكسيكية. خلصت المحكمة إلى أنه لم يخطف، لأن الوعد المضلل للراتب يعتبر “خدعة بالية وليست جريمة”.
التفسير المذهبي التقليدي لهذا التفاوت يصر على أن هناك نوعين من الاحتيال: احتيال فعلي و يخص جوهر النشاط ( مثل الكذب بشأن نوع العمل) والاحتيال بدافع ويختص بالدافع محضا ( مثل الكذب بشأن مقدار الراتب). في العديد من الحالات، يعامل القانون العام الاحتيال الفعلي بأنه يلغي الموافقة حتى وإن كان كلا النوعين من الاحتيال محبطين للمخدوع.
يستطيع بحث فقه القانون التجريبي توضيح هذه المواربات المذهبية المربكة. في إحدى التجارب باستخدام سيناريوهات الموافقة بالخداع التي تتوافق تقريباً مع نوعي الاحتيال حسب القانون العام، قرأ المشاركون عن مستهلكٍ أراد القيام بعملية شراء حتى يكسب نقاط مكافآت للبطاقة الائتمانية التي تخوله لحجز رحلة طيران مجانية. في أحد نسخ السيناريو، كذب الموظف على المستهلك بشأن المنتج الذي يطلبه. وفي نسخة ثانية، كذب الموظف بشأن عما كانت عملية الشراء تؤهله لاكتساب نقاط مكافآت. لاحظ المشاركون أن المستهلك أبدى اهتماماً أكثر بالنقاط من المنتجات التي يريد شراءها، لكن بنفس الوقت اعتبروا موافقته ألغِيت عندما كذب عليه الموظف بشأن المنتج الذي اشتراه. لقد استطاعوا تمييز ما يهم الفرد أكثر، لكن حكمهم على الموافقة تعقّب شيئًا آخرا تماماً: هل تم تضليله عن شيء لدرجة أنه ذهب الى إتمام العملية . حدسهم المتعلق بالموافقة يعكس التمييز بين الاحتيال الفعلي مقابل الاحتيال بدافع الذي يوجد في القانون العام.
يحمل مجال البحث هذا تداعيات الخلاف القانوني المعاصر حول ما يسمى “معضلة الاغتصاب بالخداع” ما الذي يجعل القانون الأنجلو أمريكي يرفض معاملة الموافقة بالخداع لممارسة الجنس اغتصابا، إلا في الظروف القصوى، مثل أن يقوم طبيبا باستخدام الجنس كإجراء طبي أو عندما ينتحل أحدهم شخصية آخر مما يؤدي إلى ممارسة الجنس مع الشخص الخطأ. تعتمد التفسيرات السائدة لحل هذه المعضلة على آراء مثل الجندر إشارةً إلى أن القانون يعاقب النساء باعتبارهن غير عفيفات عند موافقتهن بالرغم من تعرضهن للخداع. يقترح هذا البحث الجديد أن هناك شيء أكثر شيوعاً يحدث. في مجموعة متنوعة من المجالات، يؤيد المشاركون من العامة الحدس القائل أن الاحتيال الأساسي( الاحتيال الفعلي) يلغي الموافقة، وتتبع أحكامهم هذا النمط من الموافقة ليس بالنسبة للجنس فقط، بل ايضاً في الموافقة على الإجراءات الطبية والوشم وعقود البيع.
أثار هذا النهج التجريبي للدراسات التشريعية بعض الجدل. ويتساءل البعض هل سيحدث رأي العامة فرقا، و يعترضون بأن النظرية التشريعية مصادرها لا تكون من استطلاعات عامة. اضافة لذلك، وعلى الرغم من أن سمات بعض المفاهيم التشريعية الدقيقة والمبهرة تأتي من حدس العامة، إلا أن بحث فقه القانون التجريبي كشف عن اختلافات صارخة بين المفاهيم العادية والمفاهيم التشريعية. فعلى سبيل المثال، توضح دراسات جديدة عن المفهوم العادي للعقد أن العامة يشعرون أن الاتفاقيات لابد أن تكون مكتوبة حتى تكون صالحة قانونياً وأن الشروط التعاقدية ستنفذ كما كتبت، وان كانت غير قابلة للتنفيذ أو نتيجة احتيال مادي بسوء نية.
إن من الخطأ الإصرار بأنه عند اختلاف المفاهيم العادية والمفاهيم التشريعية، لابد أن يدحض القانون . حيث أن اغلب التركيبات التشريعية ليست مثل الفحش الذي يعرف بوضوح عند الرجوع لمعايير المجتمع. بالرغم من أن المحاكم مالت قليلا لتقبل نتائج استطلاعات الرأي العام لتحديد مفهوم الكلام الفاحش، إلا أنه لا يعني ذلك استخدام الاستطلاعات لتعريف جميع المفاهيم القانونية . ويجادل نهج آخر بقوة أنه قد يكون هناك سبب وجيه للقانون في بعض المجالات لعدم النظر فقط بالطريقة التي يؤمن بها الناس أو يتوقعونها أو يفضلونها. لذا، وعلى الرغم من كونه تطور مرحب به حين يغامر علماء النفس بشكل يتجاوز حدودهم التاريخية ويحاولون التوسع إلى حقل جديد غير معترف فيه على انه نفسي خصوصا، إلا أنه لابد لهم أن يعترفوا بحدود نهجهم. حيث لا تستطيع التجارب حسم اسئلة معيارية عميقة متنازع عليها بشدة حول ما يجب للقانون أن يكون عليه.
لكن ، حدس الناس العامة يستحق الدراسة. فمن الناحية العملية، في كثير من المذاهب يمكن للناس العادية تحديد ما يعتبر سببية أو موافقة في بعض القضايا التشريعية. وهذه “أسئلة واقعية” تقررها هيئات المحلفين بشكل روتيني. وبالطبع البحث باستخدام سيناريوهات افتراضية للكشف عن تصرفات الأشخاص المتوقعة تكون محدودة. غير أنّ، دراسات الحالات الافتراضية مناسبة نسبيًا للتحقيق في كيفية تقييم الناس للغرباء الذين ليس لديهم مصلحة شخصية في أوضاعهم – حيث تعرض هذه المهمة على أعضاء هيئة المحلفين. تطلب عادةً الدراسات الفقهية التجريبية من المشاركين تقييم السيناريوهات المبنية على قضايا قانونية بدلاً من تقصي الحدس بالتجارب الخيالية.
وبالإضافة إلى تسليط الضوء على قرارات هيئة المحلفين ، يقدم بحث فقه القانون التجريبي رؤى جديدة عن كون القانون بهذا الشكل. ولأن فقه القانون التجريبي يحمل مفاهيم تشريعية واسعة مثل السببية، والعقلانية، و العقود، و الموافقة، فمن الممكن أن يوسع حقل القانون وعلم النفس دوره التاريخي المحدود ويجعل منه لاعب أساسي في المناظرات الفقهية المعاصرة.
ومستقبلاً، متوقع من علماء فقه القانون التجريبي استخدام مجموعة كبيرة من المنهجيات : التصوير العصبي، ولغويات المتون و الحاسوبية، والدراسات العابرة للثقافات، والدراسات التطويرية لمشاركين من كل الأطياف العمرية. ومع ازدياد شعبية الفقه التجريبي، قد يكون يوماً ما منهجا مؤثرا في مجال الدراسات التشريعية وممارساتها، ثم يحتل مكانه بين علوم الاقتصاد والتاريخ وعلم الاجتماع والنظرية النقدية والفلسفة.