مجلة حكمة
العلة الغائية الأرسطية ارسطو و الغائية

العلة الغائية عند أرسطو بصفتها أصلا متأصّلًا في الطبيعة – كريستوفر شيلدز

مقدمة

ربّما لا يختلف اثنان، في الأساس، على القبول بأنّ هنالك عللًا فاعلية تدعم العلّة الأصعب والأكثر إثارةً للجدل من بين العلل الأرسطية الأربع، وهي: العلة الغائية الأرسطية.[xix] لكن تجدر الإشارة، قبل أن نقبل بذلك، أنّ التزام أرسـطو بالتعليل الفاعلي يتلقّى الدفاع عنه من أرسطو نفسه في ما كتبه حول مصطلحاته التي يفضّلها؛ وبهذا فهو يقدّم أكثر ممّا قدّمه الكثير من الفلاسفة الذين تعاملوا مع فعّالية العلّة الفاعلية باعتبارها أمرًا مفروغًا منه. إذ يلاحظ أرسطو أنّه لا شيء ممكن يستطيع أن يحضر نفسه إلى عالم الحقيقة دون الاستعانة بتدخّل علّة فاعلية ذات تأثير حقيقي؛ وهي ملاحظة كان ممّا دفعه إليها نقده لنظرية الصور الأفلاطونية، والتي يعتبرها غير كافية بسبب عجزها عن تفسير التغيّر والتوليد.

وبما أنّ ما هو ممكن يمتلك إمكانيّة تتحدّد بما يتناسب مع نطاق ما للحقيقة، وأنّه لا شيء يصبح حقيقيًا بالاستعانة بذاته وحسب (مثلًا: كومة الآجر لا تنظّم نفسها تلقائيًا لتصبح منزلًا أو جدارًا)، فلا بدّ من طرف فاعل يعمل على مستوى الحقيقة في كلّ مثال من أمثلة التغيّر. وهذه هي العلّة الفاعلية. وهذا النوع من الاعتبارات يميل بأرسطو أيضًا إلى الحديث عن أولوية الحقيقية على الإمكانية: فالإمكانيات تتحوّل إلى حقيقة على يد الحقيقيات، والذي يحدث دائمًا أن تجد الإمكانية مستعينة بحقيقة أو بأخرى. وإنّ عمل حقيقة ما على إمكانية ما هو مثال للعلّة الفاعلية.

العلة الغائية الأرسطية

وبالنظر إلى ما سبق، فإنّ معظم قرّاء أرسطو لا يجدون حاجة للدفاع عن وجود العلّة الفاعلية، لكنّنا نجد أكثرهم، في مقابل ذلك، يعتقد بأنّ أرسطو ينبغي عليه تقديم دفاع عن العلة الغائية. إنّ من الطبيعي والسهل علينا أن نلاحظ عمل العلة الغائية في منتجات الحرف البشرية، فالحاسوب وفتّاحة العلب المعدنية من الآلات المكرّسة لتنفيذ مهمّات محدّدة، وإنّ ميزاتها الصورية والمادّية تُشرَح على أساس وظائفها.

أضف إلى ذلك، فليس من الغوامض علينا أن نعرف من أين تستمدّ الأدوات وظائفها: فنحن من يمنحها هذه الوظائف؛ وغايات الأدوات هي نتائج للنشاطات التصميمية للأطراف الفاعلة القاصدة. إنّ أرسطو يعترف بهذه الأنواع كنوع من العلة الغائية، لكنّه يقوم أيضًا، وبشكل يثير إشكاليات أكثر، بطرح تصوّر لدور أكبر بكثير للغائية في التفسير الطبيعي: أنّ الطبيعة تقدّم الغائية دون تصميم؛ فهو يعتقد، مثلًا، بأنّ المتعضّيات لا تمتلك، وحسب، أجزاء تقتضي تفسيرًا غائيًا (مثلًا: الكلية لتنقية الدم، والأسنان لتقطيع الطعام ومضغه)، بل يعتقد بأنّ المتعضّيات ككلّ، البشر والحيوانات الأخرى، لها علل غائية.

وينكر أرسطو بصراحة أن تكون العلل العاملة في الطبيعة معتمدة على القصد؛ ولهذا الإنكار أهمّية حاسمة. إذ يعتقد بأنّ المتعضّيات لها علل غائية، لكنّها لم تمتلك هذه العلل بتأثير الأفعال التصميمية لطرف فاعل قصدي هنا أو هناك؛ وبهذا فهو ينكر أنّ من الضروري أن يكون الشيء (ش) ناتجًا عن التصميم كي يكون لـ(ش) علّة غائية.

نقد العلة الغائية الأرسطية

ومع أن أرسطو ظلّ يتعرّض باستمرار للنقد بسبب التزامه بهذه الغايات الطبيعية، فإنّ عددًا كبيرًا من الاعتراضات الموجّهة لرؤيته هذه لا يستطيع التأثير عليها، بل إنّ من الواضح أنّه مهما كانت أوجه الجدارة في أكثرها تبصّرًا فإنّ معظم الانتقادات الموجّهة، دون احترام، لأرسطو تفاجئنا بأنّها تجهله على نحو يثير الذهول.[xx] وإليك أحد الأمثلة التي لا تستحقّ التوقّف عندها، وهو ما جاء على لسان عالم النفس الأمريكي الشهير بوروس فريدريك سكينر:

«لقد حاجج أرسطو بأنّ الأجسام الساقطة تتسارع بسبب ازدياد بهجتها وهي تجد نفسها أقرب إلى موطنها» (Skinner 1971, 6).

إنّ كلّ من قرأ كتابات أرسطو حقًا لن يندهش حين يجد سكينر يهمل ذكر المصدر الذي اقتبس منه ما زعمه؛ ناهيك عن أنّ أرسطو يبدو، وفقًا للصورة التي نقلها سكينر، وكأنّه يعتقد بأنّ الصخور موجودات واعية ذات حالات نهائية يسعدها الوصول إليها على نحو يجعلها تتسارع بسبب الإثارة كلّما أصبحت أقرب لبلوغها. إنّ هذه الرثاثة الفكرية لا يمكن أن نجد لها أيّ عذر، خصوصًا عندما نجد العالم الألماني تسيلر يتمكّن من القول في نهاية القرن التاسع عشر، وبدقّة متناهية، بأنّ

«الميزة الأهمّ في الغائية الأرسطية هي: أنّها ليست إنسانية التمحور، ولا هي ناتجة عن أفعال خالق يتواجد خارج العالم أو حتّى مجرّد منظّم للعالم؛ وإنّما هي متأصّلة في الطبيعة دائمًا» (Zeller 1883, §48).

دفاع أرسطو عن استلزامات العلة الغائية

في الحقيقة، لا تكاد توجد حاجة للسخرية من الالتزامات لـ العلة الغائية الأرسطية من أجل تسليط أضواء النقد عليها؛ ففي الحقيقة، يقدّم أرسطو نفسه نوعين من أنواع الدفاع عن الغائية اللاقصدية في الطبيعة: الأوّل يفيض بالصعوبات، إذ يدّعي في كتابه الطبيعة (Physics ii 8):

«لأنّها [أي: الأسنان وكلّ الأجزاء الأخرى للموجودات الطبيعية] وكلّ الموجودات الطبيعية الأخرى تحدث على النحو الذي تحدث عليه إمّا دائمًا وإمّا في معظم الأوقات، وهذا ما لا ينطبق على ما يحدث بسبب الصدفة أو التلقائية. وعليه، فإذا كانت هذه الأشياء نتيجة للصدفة أو من أجل شيء ما، وكان من غير الممكن أن تكون نتيجة للصدفة أو التلقائية، فهذا يستلزم أنّه يجب أن تكون من أجل شيء ما. وعلاوة عليه، فحتّى من يقول بهذا النوع من الادّعاءات [أي: بأنّ كلّ شيء يحدث بالضرورة] سيتّفق مع القول بأنّ هذه الأشياء طبيعية. وعليه، فإنّ ما يحدث ويوجد في الطبيعة هو من أجل ما هو موجود بين الأشياء الحاضرة» (Phys. 198b32–199a8).

وهذه الحجّة، والتي قدّمها العلماء بصياغات متنوّعة،[xxi] يبدو أنّها تعاني من إشكالية مزدوجة.

تحليل

إن أرسطو يبدو في حجّته السابقة وكأنّه يقدّم ظاهرة مفادها أنّ الطبيعة تبدي الانتظام، ولذلك تحدث أجزاء الطبيعة على نحو منمّط ومنتظم. وعليه، يميل البشر، مثلًا، إلى امتلاك أسنان منظّمة على نحو قابل للتنبّؤ، فتتموضع القواطع في مقدّمة الفكّ والأضراس في مؤخّره. ثمّ يبدو أنّ أرسطو يجادل بعدها، طارحًا قضية منطقية فصلية شاملة وحصرية، بأنّ الأشياء تحدث إمّا بالصدفة وإمّا من أجل شيء ما، ليقترح في النهاية أنّ ما “يحدث على النحو الذي يحدث عليه إمّا دائمًا وإمّا في معظم الأوقات” (أي: ما يحدث على نحو منمّط ومنتظم) ليس من المعقول أن يُعتَقد بحدوثه بالصدفة.

ولذلك يخلص أرسطو إلى أنّ كلّ ما يحدث دائمًا أو في معظم الأوقات لا بدّ أن يحدث من اجل شيء ما، وعليه: لا بدّ أن يقبل علّة غائية. ولهذا فإن الأسنان تظهر دائمًا أو في معظم الأوقات بحيث تكون القواطع في مقدّمة الفكّ والأضراس في مؤخّره؛ وبما أنّ هذا يحدث بشكل منتظم وقابل للتنبّؤ فلا يمكن أن يكون بالصدفة. وإذا أخذنا بالحسبان بأنّ كلّ ما هو ليس بالصدفة يمتلك علّة غائية فإنّ للأسنان علّة غائية.

إشكالية العلة الغائية الأرسطية

إذا كان هذا ما تضمّه الحجّة المهيمنة لأرسطو حول الغائية فهذا يعني أنّ رؤيته لا تستند إلى محفّز؛ فهي إشكالية في المقام الأوّل لأنّها تفترض قضية منطقية فصلية شاملة وحصرية ركناها: ما هو بالصدفة وما هو من أجل شيء ما، لكنّ من الواضح أنّ هنالك إمكانيات أخرى، فالقلب لا ينبض كي يحدث ضجّة، لكنّه يفعل ذلك دائمًا وليس بالصدفة. وفي المقام الثاني، وهو أمر محيّر إذا عرضناه بالشكل الصحيح، إنّ أرسطو نفسه على علم بمثال مناقض لهذه الرؤية، بل إنّه مهتمّ بالإشارة إليه بنفسه: إذ يؤكّد على أنّه بالرغم من أنّ العصارة التي تفرزها المرارة صفراء اللون على نحو منتظم وقابل للتنبّؤ، فإنّ صفرتها هذه لا هي بمحض الصدفة ولا هي من أجل أي شيء. وفي الحقيقة، إن أرسطو يورد الكثير من أمثال هذه الأمثلة المناقضة في كتاباته (Part. An. 676b16–677b10, Gen. An. 778a29–b6).

ويبدو أنّ هذا يستلزم، دون أن نصف أرسطو صراحةً بالتناقض، إمّا إنّ تفسير حجّته لم يُقدَّم بالشكل الصحيح، وإمّا إنّه غيّر رأيه بكلّ بساطة حول أسس الغائية. وإذا اعتمدنا الاحتمال الأوّل، فمن الأمور الممكنة أنّ أرسطو لا يحاول، في الواقع، أن (يحاجج) لصالح الغائية على الأساس الذي ورد في الاقتباس السابق من كتابه الطبيعة، واعتبر، عوضًا عن ذلك، أنّ العلل الغائية من المعطيات المسبقة، وحصر نفسه في ملاحظة أنّ الكثير من الظواهر الطبيعية، وخصوصًا: ما يحدث منها دائمًا أو في معظم الأوقات، جديرة بالترشّح لمنزلة قبول التفسير الغائي.

خاتمة: العلة الغائية

بفتح هذا الأمر المجال لنوع أوسع من التحفيز للغائية، وربّما من النوع الذي يقدمه أرسطو في موضع آخر من كتابه (الطبيعة)، عند حديثه حول الحافز للبحث عن ما يفعل فعله في الطبيعة من علل غائية غير معتمدة على القصدية:

«وأوضح ما يكون عليه ذلك في الحيوانات غير الإنسان، إذ تصنع الأشياء دون احتراف أو تحقيق أو تفكير. وهذا، في الحقيقة، مصدر حيرة من يتساءل عن ما إذا كانت هذه الحيوانات تعمل بما يمليه العقل أو أيّة ملكة أخرى، كما هو الحال عند العنكبوت والنمل وما أشبههما. وإذا تقدّمنا في هذا الاتّجاه شيئًا فشيئًا فسيتّضح لنا بأنّه حتّى في النباتات تحدث ميزات مفضية إلى غاية ما، ومثال ذلك الأوراق التي تنمو كي تقدّم الظلّ للثمار.

وعليه، إذا كانت الطبيعة وخدمة الغاية هي من يجعل السنونو يبني عشّه والعنكبوت تنسج شبكتها، والنباتات تنبت الأوراق من أجل الثمار وترسل جذورها في الأرض لا السماء من أجل التغذية، فمن الواضح أنّ هذا النوع من العلّة يصبح عاملًا في الأشياء التي تكون بالطبيعة والتي هي بالطبيعة كذلك. وبما أنّ الطبيعة مزدوجة التكوين، من مادّة وصورة، فإنّ الصورة هي الغاية، وبما أنّ كلّ الأشياء الأخرى موجودة لخدمة الغاية، فلا بدّ أن الصورة هي العلّة، بمعنى أنّ من أجلها تحدث الأشياء» (Phys. 199a20–32).

وكما يلاحظ أرسطو في هذا المقطع، وهو مصيب تمامًا، نجد أنفسنا نتحدّث بشكل منتظم وسهل بالمصطلحات الغائية عندما نذكر خصائص النباتات والحيوانات غير الإنسان. ولا شكّ في أنّ حديثنا هذا ينسجم مع أنّ كلّ اللغة السهلة المستخدمة في هذه السياقات هي لغة تتّصف بالتراخي والطيش، وذلك لأنّها تعتمد المحورية البشرية بشكل غير مبرّر. ومع ذلك فإنّنا قد نطالب بأن يجري اختزال حثيث لكلّ لغة مماثلة إلى عبارات غير غائية عندما نرغب بتطبيق الصرامة العلمية والجدّية التجريبية، وإن كنّا نحتاج أوّلًا إلى استقصاء ما نخسره ونربحه جرّاء محاولة القيام بهذا الأمر. ولقد تناول أرسطو ورفض بعض الآراء المعارضة للغائية في كتابيه: الطبيعة، والكون والفساد.[xxii]


هوامش (العلة الغائية):

[xix]  ليس يوجد إجماع بين المتخصّصين على أنّ العلّة الفاعلية تتّصل بشكل واضح مع الفكرة الحديثة المميّزة للعلّية، وكذلك لا يجمعون على اعتبارها مثالًا لا خلاف عليه للعلّية. ولذلك نجد في (Frede 1980, 218)، مثلًا، إثارة للشكوك حول هذا الطرح. ولمن يرغب بالاطّلاع على نظرة أكثر خلافية حول العلّة الفاعلية، فليراجع (Ross 1923, 75).

[xx]   يقدّم جونسون (Johnson 2005, 15–39) استعراضًا يحيطنا علمًا ببعض الأصوات الأكثر انتقاصًا من أرسطو.

[xxi]  يقدّم إيروين (1988, 522 n. 18) تلخيصًا جليًا لبعض التفسيرات الرئيسية لحجّة أرسطو في الدفاع عن الغائية، والتي وردت في كتابه الطبيعة (Phys. ii 8 198b36–199a5).

[xxii] شهدت العقود الأخيرة مناقشة حيوية للغائية. ولمن يرغب بالاطّلاع على تمهيد أوّلي للقضايا المتعلّقة بهذا الموضوع، فليراجع القسم الرابع من مدخل (أرسطو والعلّية) في هذه الموسوعة. ولمن أراد التوسّع أكثر، يمكنه الرجوع إلى: (Sauvé Meyer 1992)، (Gotthelf 1997)، (Furley 1999)، (Charles 2001)، (Johnson 2005).