الكاتب | حمود الباهلي |
اجتمع كثيراً مع صديقي أحمد، فهو شاب مثقف ولطيف ويحاول جاهداً ألا يجرح مشاعر من أمامه، عرفني في آخر لقاء معه على كتاب: أن تحقق ذاتك: كيف يحارب الخيرون التحيز. للكاتبة الأمريكية دولي تشو.
تعني دولي بالخيرين هنا أمثال صديقي أحمد الذين لديهم وعي بخطورة التحيز، لا يستهدف الكتاب بالتأكيد أي شخص لا يرى في التحيز أي رذيلة.
تنبهنا دولي إلى أن بعض الخيرين يستخدمون عبارات تبدو جميلة وإيجابية لكنها تستبطن تحيزاً، مثلا تقول لصديقك الصيني الذي أحرز درجات متدينة في الرياضيات: غريب أن تكون درجاتك في الرياضات متدنية، فالصينيون معروفون بإجادة الرياضيات.
إن كان ظاهر العبارة إيجابياً إلا أنها تستبطن حكماً مسبقاً يجرد الشخص من إرادة حرة تستطيع أن تختار مساراً لها بخلاف الشريحة التي تُصنف منها.
تدعونا دولي أن نتعامل مع الأشخاص من حولنا على أنهم ذوات مستقلة وألا نقولبهم في أي قالب (جندري-عرقي-ميل جنسي) حتى لو كان برأيك هذا القالب إيجابي، لأنك بهذه الطريقة تسلبه ذاته المتفردة وتتعامل معه كفرد ضمن مجموعة.
تستلهم دولي في كتابها مذهب الصوابية السياسية وهو مذهب له أنصاره ومخالفوه، سوف تتناول هذه المقالة تعريفا موجزاً بالصوابية السياسة ثم تناقش لماذا فشلت في تحقيق أهدافها؟
تاريخ مصطلح الصوابية السياسية
اختلف اليساريون في الغرب في عشرينيات القرن الماضي حول الموقف الصحيح تجاه طريقة إدارة جوزيف ستالين للحرب الشيوعي.
اعتبر بعض اليساريين أن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي هو المرجع الصحيح لتطبيق النظرية الاشتراكية، لذلك دافعوا عما يفعله ستالين حتى وإن كان يظهر للأخرين أنه مجرد دكتاتور يدير الحزب بطريقة تخالف مبادئه مثل المساواة بين البشر، فيما هاجم الاشتراكيون هذه الفكرة معتبرين نقدهم هو الصواب السياسي في الموقف الصحيح تجاه طريقة إدارة ستالين للحزب.
اختفي تداول المصطلح لعقود حتى عاد في فترة السبعينات الميلادية عندما استعمله بعض الليبراليين ممن عرفوا باليسار الجديد في أمريكا كنوع من النقد الذاتي للتيار اليساري.
ثم أعاد استخدامه المحافظون الجدد في مطلع التسعينات لوصف محاولة اليساريين لفرض رؤاهم الثقافية في الجامعات الأمريكية.
ترجع حساسية المصطلح إلى أنه محمل بحمولة نقدية سواء من يتفق مع رؤى المصطلح أو يختلف معها.
ما الصوابية السياسية؟
صادف خلال كتابتي للمقال مشاهدتي لحلقة من مسلسل curb your enthusiasm الموسم الحادي عشر، حيث طلب الممثل لاري ديفيد سائقا لكي يحمل أمتعته ويسوق السيارة من المطار إلى مكان تصوير عمل فني، وصل السائق وتبين أنها فتاة نحيلة بالكاد تقدر على حمل أمتعة لاري.
طلب لاري من الشركة تغيير السائقة، فقالت له الموظفة وهو تستدرجه لماذا هل تريد تغيير السائقة؟ هل تود سائقة أكثر جاذبية (تقاوم الصوابية السياسية تنميط المرأة كإنسان مغري للرجل)
لم يستطع لاري تغيير السائقة مع ذلك لامه زملاؤه كيف لا يساعد الفتاة في حمل أمتعته، رد عليهم لاري بأن الفتاة ترفض ذلك (تقاوم الصوابية السياسية تنميط المرأة كإنسان أضعف من الرجل)
توضح هذه الحلقة بطرافة طبيعة الصراع الثقافي بين مؤيدي الصوابية السياسية وخصومها.
تستلهم الصــوابية الــسياسية منهجية التحليل الماركسي والتي ترى مشاكل العالم من خلال الصراع بين شريحتين، تسعي الأقوى منها لفرض شروطها على الأضعف. والتي تختلف بطبيعة الحال من مجتمع لآخر.
استعانت الشرائح المهيمنة في الماضي بوسائل مادية لفرض شروطها، فيما استعاضت حالياً عنها بوسائل نفسية.
مثلا يرى المناصرون للصوابية السياسية أن شريحة الرجال البيض تهيمن على المجتمع الأمريكي وتفرض رؤاها ومعاييرها على غيرها، وتضع البقية في قوالب ذهنية (المرأة مغرية جنسيا وأضعف من الرجل) الأسود (مجرم وعنيف جنسياً) المكسيكي (مهاجر غير شرعي- يتجر بالمخدرات) المثلي (ضعيف وليس لديه كرامة)
تهدف الصوابية السياسية لتنبيه المجموعة المهيمنة التي تحصل على امتيازات لا يستشعرها أفرادها، أن بقية شرائح المجتمع يعانون من غياب هذه الامتيازات لهم. فمن امتيازات الشريحة المهيمنة أن معايير النجاح مصممة أساساً لهم وليس لبقية شرائح المجتمع، أن الطرائف التي تطلقها على غير من الشرائح الثانية لا تجرح مشاعرهم فحسب، بل تعمل بمثابة قيد خفي عليهم يعيقهم من التقدم.
تبدو الصوابية السياسية مذهبا مثالياً يسعى لمحاربة التحيز وتذليل العقبات أمام الشرائح المهيمن عليها، فما الخطأ في طريقتها؟
الدوغمائية
اختلاف الأفكار بين البشر حقيقة ثابتة في كل تاريخ البشرية، لكن معضلة الحوار مع المتحمسين للصوابية السياسية أنه لا يمكن إجراء حوار مثمر معهم! لسبب واحد فهم يعتبرون ما يؤمون به حقوقا لا يمكن النقاش حولها.
مثلا يرون من حق سيدة حامل أن تمنع عرضا كوميدياً إذا تضمن طرفة عن النساء الحوامل، من حق الأمريكي الأسود الحق أن يسقط تمثالاً لشخصية تاريخية لأنها أساءت التعامل مع أجداده.
ليس هذا فحسب بل إنهم لا يتورعون عن التدخل في نواياك وعقلك اللاوعي، يعتبرون أن فتح الرجل باب السيارة لفتاة يعكس نظرة سلبية ترى في الفتاة كائنا ضعيفا يستحق الدعم أو كائنا جنسيا يُستغفل بالتلطف.
لم تنجح المذاهب المنغلقة فكريا على مدار التاريخ لأن الواقع المعقد يتطلب مرونة فكرية في التعامل معه، ولن تنجح أبداً في حاضرنا لأن تشابك المصالح الآن أشد.
مثلا كيف سوف تتعامل الصوابية السياسية مع صناعة الكوميديا المعتمدة على السخرية من التصورات النمطية؟ تعمل أقسام التسويق في الشركات من خلال استهداف شرائح ضمن قوالب ثقافية واجتماعية، هل سوف تنسف الصوابية السياسية طريقتهم وتطلب منهم التعامل مع العميل كفرد وليس كعينة من شريحة؟
تقوم الأديان والأحزاب السياسية على تصور تصنيف البشر دينيا وسياسيا، كيف تستطيع الصوابية السياسية بحدتها الفكرية التي لا تقبل المساومة أن تتعامل مع عالم شديد التعقيد والترابط؟
التدمير الذاتي
تطمح حالمة التيارات الطهورية لتغيير العالم، لكنها تفشل سريعاً في ذلك، كلما أوغل فرد من التيار في تبني أفكار التيار، كلما زادت خلافاته مع أفراد التيار الذين لا يتفقون معه في نفس درجة تبني الفكرة. الخوارج في التاريخ الإسلامي وقادة الثورة الفرنسي في التاريخ الأوربي مثالان واضحان على القدرة التدمرية للتيارات الطهورية التي لا تعترف بأدنى درجة من الاختلاف معها.
تعتبر الصوابية السياسية مثالاً معاصراً على الحدية الأخلاقية تعود بالضرر على أفراد التيار قبل غيرهم.
لم يتحمس أفراد الصوابية السياسية للتصويت لهيلاري كلنتون عام 2016 لها في نظرهم ل متواطئة مع النظام الذكوري، والنتيجة فوز سهل لترمب الذي يمثل كل ما تحاربه الصوابية السياسية وهو خيار أشد سوء من هيلاري.
كما لم تنجح أفراد الصوابية السياسية من كبح جوردن بترسون المعادي لها، فكتبه الأعلى مبيعاً، فيديوهات حلقاته تصل مشاهداتها إلى الملايين مشاهدة.
يعلل جوناثان كاي وهو يساري مقتنع بتوجهات الصوابية السياسية ذلك بأن أتباعها ينشغلون في خصومات داخلها أكثر من توحيد الجهود ضد خصومها.
ذكر ستيفن فراي وهو يساري إنجليزي يهودي ومثلي جنسياً في مناظرة منك munk debateحول الصـــوابية السيــــاسية: قوة للخير؟ أن صعود التيارات اليمنية في أمريكا وأوروبا لا يرجع إلى كفاءتها وإنما لفشل اليسار في تقديم نموذج جذاب المنشغلة بصراعاتها الداخلية.
السياق أهم من الكلمة
يوجد علاقة بالتأكيد بين اللغة التي نستخدمها ونوعية التفكير، لكن ليس بالقدر الذي يصوره الصوابية السياسية، فالمكان الذي نتخلص فيه من الفضلات مثلا، يسميه البعض بيت الراحة والبعض دورة المياه أو آخرون الحمام، تغير التسميات لا يعني أن تصورنا عنه تغير.
قد أقول عن شخص ما بأنه ذكي وعبقري وأنني أحبه، لا يعد هذا خطأ وفق الصوابية السياسية لكن يعلم الجميع أني أسخر منه، فالسياق والأسلوب أهم من المفردات.
ما البديل؟
إذا لم تكن الصوابية السياسية مقاربة ملائمة للتعامل مع التحيز، فهل يوجد بديل؟
لابد أن نعترف أن التحيز جزء من تركيبة الدماغ البشري وبنائه النفسي، ولا يمكن القضاء عليه تماماً، يوجد أفراد لديهم قدرة أكثر من غيرهم على كبح جماح التحيز، توجد مجتمعات لديها أنظمة وقوانين لمحاربة التحيز أحسن من غيرها، من المهم أن نسعى على الأقل لأن نكون منصفين وعادلين على المستوى الفردي والجماعي ألا يجرنا تحزينا ضد جماعة معينة أن نظلم أحد أفرادها.
أستعمل شخصياً الكوميديا في تقليل حساسية التحيز وتنميطات الثقافية، إذا قابلت شخصا ولمست منه أنه متحيز ضدي لأي سبب (عرقي-مذهبي…) أحاول أن أوجه الحديث نحو طرائف عن الصورة الذهنية السلبية للمجموعة التي أصنف فيها، ليكون الحديث بعدها عن مفارقة الواقع عن الصورة المتخيلة، استفدت هذه الطريقة من تناول الممثل الكوميدي جيري ساينفيليد اليهودي في مسلسله عن اليهود.
هل تناسب هذه الطريقة الجميع، لا أدري.
كما ينصح آلان دو بوتون أن نفصل بين الأدب في مخاطبة الآخرين وتجنب ما يثير حساسيتهم لأي سبب كان وبين الأجندة السياسية التي تصاحب عادة مناصري الصوابية السياسية مثل التغير المناخي ودعم المثلية.