الكاتب | بيير بورديو |
المترجم | حسن أحجيج |
سأحاول عرض ما أود قوله بشكل تدريجي، آخذا بعين الاعتبار تنوع الفئات الحاضرة(1) التي لا يمكن أن تكون مختلفة أكثر مما هي عليه الآن، سواء من حيث التخصصات المعرفية أو من حيث الكفاءة التي يتوفر عليها كل فاعل داخل التخصص المعرفي الواحد، إلخ…، وسأفعل ذلك تحت طائلة أن أظهر تبسيطيا للبعض ومفرطا في السرعة والتلميح للبعض الآخر. سأطـرح في البداية عددا من المفاهيم والمبادئ التي تبـدو لي أساسية، على أمل أن نعود إلى بعض النقط التي يمكن أن أشير إليها بـسرعة من أجل مناقشتها وتدقيقها.
إن ما أريد القيام به أساسا هو أن أوضح نموذجا بسيطا جدا يمكن أن أصوغه على النحو التالي: تطبع(2) لغوي + سوق لغوية = عبارة لغوية أو خطاب. سأشرح على التوالي كل واحد من مصطلحات هذه المعادلة، وسأبدأ بمدلول التطبع. يجب أولا الاحتراس من الميل إلى تصنيم المفاهيم: إذ يتعين علينا أن نتناول المفاهيم بجدية وأن نراقبها، ويجب علينا بالخصوص أن نجعلها تعمـل في البحث تحت الحراسة. بـهذه الطريقة تتطور المفاهيم وليس بواسطة المراقبة المنطقية الخالصة التي تحجرها. إن المفهوم الجيد، كمفهوم التطبع، يدمر كثيرا من المشاكل المزيفة (كالخيار بين النـزعة الآلية والغائية مثلا)، ويستخرج منها مشاكل أخرى كثيرة، لكنها واقعية. فعندما يكون المفهوم مبنيا ومراقبا على نحو جيد، فإنه يميل إلى تحصين نفسه من عدوى الاختزالات.
يتميز التطبع اللغوي عن الكفاءة ذات النمط الشومسكي بكونه من نتاج الشروط الاجتماعية ولكونه ليس مجرد نتاج للخطاب، وإنما نتاج لخطاب خاضع لـ “وضعية” معنية، أو بالأحرى لسوق أو حقل معين. لقد تم الحديث من قبل على مدلول الوضعية باعتباره تصحيحا لكل النظريات التي تشدد فقط على الكفاءة وتنسى الشروط التي تعمل فيها تلك الكفاءة (ومن الذين استحضروا هذا المدلول، هناك برييتو Prieto الذي كـان يلح على أنه لا يمكن فهم عدد كبير من السلوكات اللغوية في استقلال عن الإحالة الضمنية لوضعية معينة : فعندما أقول “أنا”، يجب معرفة أن من يقول “أنا” هو أنا، وإلا فسيكون شخصا آخر ؛ يمكن أن نفكر أيضا في أشكال اللُّبْس الموجـودة بين الضميرين أنا وأنت اللذين تستعملهما القصص الغربية، إلخ).
لقد استعمل مدلول الوضعية خصوصـا للتساؤل حول الفرضيات المسبقة والضمنية للنموذج السُّوسِيري الذي يختزل الكلام (كالكفاءة لدى شومسكي) في فعل التنفيذ، تنفيذ له نفس المعنى الذي يحمله تنفيذ قطعة موسيقية أو تنفيذ أمر ما. ويأتي مدلول الوضعية ليذكرنا بوجود منطق نوعي للتنفيذ، وبأن ما يحدث على مستوى التنفيذ لا يمكن استنباطه من مجرد معرفتنا للكفاءة. لقد انطلقت من هنا للتساؤل عما إذا كان الاحتفاظ بمدلول الوضعية في حالته المجردة لا يعني سوى القيام بما كان سارتر يعيبه علـى نظرية الانتماءات: وهو إعادة إنتاج الملموس من خلال الجمع بين مجردين، وهما الكفاءة والوضعية في حالتنا هذه.
لقد سبق وأن استحضر السوفسطائيون مدلولا يبدو لي مهما جدا، وهو مدلول الكايروس Kairos. إنـهم، باعتبارهم أساتذة للكلام، يعرفون أن تعليم الناس كيف يتحدثـون لا يكفي، وأنه يجب تعليمهم كيف يتحدثون بخصوص شيء ما. وبعبارة أخرى، إن فن الكلام بشكل جيد وصياغة المجازات اللفظية أو الفكرية والتلاعب باللغة والسيطرة عليهـا، إن ذلك الفن إذن لا يساوي شيئا دون فن استعمال ذلك الفن بخصوص شيء ما. فالكايروس يعني في الأصل هدف لوحة التصويب. وعندما تتحدثون بخصوص شيء ما فإنكم تصيبون الـهدف. ولكي تصيبوا الـهدف وتصيب الكلمات مرماها وتكون مربحة وتنتج مفاعليها، لا يجب التفوه بالكلمات الصحيحة نحويا فحسب، بل والكلمات المقبولة اجتماعيا أيضا.
لقد حاولت أن أوضح في مقالي المنشور بمجلة اللغة الفرنسية كيف أن مدلول التقبلية acceptabilité الذي أعيد إقحامه على يد الشومسكيين بقي ناقصا نظرا لأنـهم اختزلوه في مدلول النحوية grammaticalité. في الواقع، لا ترتكز التقبلية المحددة سوسيولوجيا على مجرد الحديث بلغـة صحيحة: ففي بعض الحالات التي يكون الناس يرغبون الحديث بنوع من الاسترخاء، يمكن لشخص فرنسي معصوم من الخطأ النحوي ألا يكون مقبولا. فالتقبلية بمعناها الواسع لا تقتضي فقط امتثال الكلمات للقواعد اللغـوية المحايثة، بل امتثالـها أيضا للقواعد المتحكمة فيها حدسيا والمحايثة لـ “وضعية” معينة أو لسوق لغوية ما. ما هي هذه السوق اللغوية ؟ سأقدم تعريفا مؤقتا على أساس تقديم تعريف معقد فيما بعد.
توجد السوق اللغوية عندما ينتج شخص ما خطابا موجها لمتلقين قادرين على تقييمه وتقديره ومنحه سعرا معينا… ومجرد المعرفة بالكفاءة اللغوية لا يمكن من التنبؤ بالقيمة التي سيحظى بـها إنجاز لغوي معين في سوق معينة. إن الأسعار التي ستتلقاها منتوجات كفاءة معينة في سوق معينة تتوقف على قوانين تشكل الأسعار الخاصة بتلك السوق. ففـي السوق المدرسية مثلا، كانت صيغة نصب الفعل الناقص تحظى بقيمة كبرى في عهد أساتذتي الذين كانوا يوحدون بين هويتـهم الأستاذية وحدث استعماله ـ على الأقل بضمير الغائب المفرد ـ وهو ما يثير الضحك في أيامنا هذه، بحيث لم يصبح ممكنا استعمال تلك الصيغة أمام جمهور من الطلبة، اللهم الإشارة إليها إشارة ما وراء لغـوية من أجل توضيح أنه يمكن استعمالـها مثلما يمكن عدم استعمالـها.
كما أن ما يفسر ميل المثقفين اليوم إلى تفضيل ضعف التنقيح المراقب هو الخوف من الإفراط في التنقيح، ويعتبر هذا الميل، كالميل إلى رفض استعمال ربطة العنق، شكلا من الأشكال المراقبة لعدم المراقبة المرتبطة بمفاعيل السوق. إن السوق اللغوية شيء ملموس جدا ومجرد جدا في آن واحد. فمن الناحية الواقعية، تعتبر السوق وضعية اجتماعية رسمية ومُطَقْسَنَة إلى هذا الحد أو ذاك، إنـها بمثابة مجموعة من المتحاورين الذين يشغلون مواقع عليا إلى هذا الحد أو ذاك في سلم التراتب الاجتماعي.
- حِكاياتُ فتحي عبد الصمد: أَقَاصِيصٌ يَابَانِيَّةٌ بعيونٍ مِصريَّةٍ
- في مديح العدسات السوسيولوجية: قراءة في كتاب “التفكير سوسيولوجيا”
- الأنماط الأفريقية في الكتابة الذاتية
إن هناك عديدا من السمات المدرَكَة والمقيَّمة بطريقة تحت واعية توجه عملية الإنتاج اللغوي بصورة لا واعية. ومن الناحية المجردة، تعتبر السـوق بمثابة نمط معين من القوانين (المتغيرة) التي تحكم تشكل الأسعار المنتوجات اللغوية. والتذكير بوجود قوانين لتشكل السعار، معناه التذكير بأن قيمة كفاءة خاصة ترتبط بسوق خاصة تعمل في أحضانـها، أو على وجه الدقة، ترتبط بحالة العلاقات التي تتحـدد فيها القيمة المسندة للمنتوج اللغوي الخاص بمختلف المنتجين.
كل ذلك يقودنا إلى استبدال مدلول الكفاءة بمدلول الرأسمال اللغوي. فالحديث عن الرأسمال اللغوي يعني وجود فوائد لغوية : إذ بمجرد ما يفتح الشخص المزداد بالدائرة السابعة فمه (هي حالة مجمل الناس الذين يحكمون فرنسا في الوقت الراهن)، فإنه يحصل على أرباح لغوية لا تحمل أي سمة خيالية أو وهمية، كما أوهمتنا بذلك الاقتصادوية التي فرضتها علينا الماركسية الأولى. إن طبيعة لغته (التي يمكن تحليلها فونولوجيا) تقول إنه شخص مرخص له بالكلام بغض النظر عما يقوله.
يمكن للغة ألا تقوم بالوظيفة التي يعتبرها اللغويون محايثة لـها، أي الوظيفة التواصلية، دون أن تتوقف عن القيام بوظيفتها الحقيقية، أي الوظيفة الاجتماعية؛ فوضعيات علاقات القوة اللغوية rapports de force linguistiques هي الوضعيات التي يمكن فيها الكلام دون تحقيق التواصل، كحالة القداس مثلا. وهذا هو سبب اهتمامي بالشعائر الدينية. إنـها الحالات التي يكون فيها للمتكلم المرخص له سلطة كبيرة، والتي تمكنه فيها المؤسسة وقوانين السوق وكل الفضاء الاجتماعي من أن يتكلم دون أن يقول شيئا.
يعني الرأسمال اللغوي التحكم في آليات تشكل الأسعار اللغوية، وكذا القدرة على جعل قوانين تشكل الأسعار تعمل لصالح صاحبه (أي الرأسمال) والقدرة على استخلاص فائض القيمة النوعي. إن أي عمليـة تفاعل، وأي عملية تواصل لغوي، ولوبين شخصين أو بين صديقين أو بين طفل وصديقته، وباختصار، إن كل عمليات التواصل اللغوي هي أنواع من الأسواق الصغرى التي تبقى دوما تحت رحمة البنيات الإجمالية.
توجد في وضعية الصراعات الوطنية، حيث تكون اللغة رهانا أساسيا (كيبيك مثلا)، علاقة تبعية واضحة جدا بين آليات الـهيمنة السياسية وآليات تشكل الأسعار اللغوية المميزة لوضعية اجتماعية محددة. يكون دوما للصراعات الدائرة بين الناطقين بالفرنسية والناطقين بالعربية، في عدد من الدول العربية التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي سابقا، بعد اقتصادي بالمعنى الذي أعزوه لـهذه الكلمة، أي أن المالكين لكفاءة معينة يدافعون على قيمتهم الخاصة كمنتجين لغويين من خلال الدفـاع عن سوق معينة تلائم منتوجاتـهم اللغوية الخاصة.
إن التحليل يتأرجح بين الاقتصادوية والصوفية أمام الصراعات القومية. أما النظرية التي أقترحها، فإنـها تمكن من أن نفهم أنـه يمكن ألا تكون للصراعات اللغوية قواعد اقتصادية واضحة، ويمكن أن تقحم مع ذلك فوائد حيوية للغاية تكون أحيانا أكثر حيوية من الفوائد الاقتصادية (بالمعنى الضيق).
إن إعادة إقحام مدلول السوق إذن يعني التذكير بـهذه الواقعة البسيطة: وهي أنه لا تكون للكفاءة قيمة ما إلا بوجود سوق تعرض فيها. لذلك فإن النـاس الذين يريدون اليوم الدفاع عن قيمتهم كمالكين لرأسمال لا تيني يجدون أنفسهم ملزمين بالدفاع عن وجود سوق اللغة اللاتينية، أي ملزمين بأن يعيدوا إنتاج مستهلكي اللاتينية بواسطة النظـام المدرسي. لا يمكن فهم وجود نوع من النـزعة المحافظة، المرضية أحيانا، في النظام المدرسي إلا انطلاقا من هذا القانون البسيط: وهو أن الكفاءة التي لا سوق لـها تصبح بدون قيمة، أو إن شئنا الدقة، تكف عن أن تكون رأسمالا لغويا وتتحول إلى مجرد كفاءة بمعناها اللغوي الخالص.
لذلك فإن الرأسمال لا يتحدد بما هو كذلك ولا يعمل بما هو كذلك ولا يحقق الأرباح إلا في سوق معينة. والآن، يتعين علي أن أتحدث بشيء من الدقة عن مدلول السوق وأن أحاول وصف العلاقات الموضوعية التي تمنح لـهذه السوق بنيتها. ما هي السوق؟ إن هناك منتجين فرديين (التصور الحدِّي للسوق) يعرضون منتوجاتـهم، وهناك الأحكام التي يصدرها آخرون وينتج عنها سعر السوق.
هذه النظرية الليبيرالية للسـوق غير صحيحة بالنسبة للسوق اللغوية أو لسوق السلع الاقتصادية. ولئن كانت توجد في السوق الاقتصادية احتكارات وعلاقات قوة موضوعية تخلق في البداية تفاوتات بين المنتجين والمنتوجات، فإن نفس الأمر ينطبق على السوق اللغوية. إذ لـهذه الأخيرة قوانين تحْكُمُ تَشَكُّلَ الأسعار وتخلق تمايزات بين مختلف منتجي السلع اللغوية والأقوال. كما أن علاقات القوة، التي تسود في السوق اللغوية وتخول لبعض المنتجين وبعض المنتوجات امتيازات منذ البداية، تقتضي أن تكون تلك السوق موحدة نسبيا.
القوا نظرة على النـص المقتطف من إحدى اليوميات البيارنية والذي نشرته في المقال المعنون: “وهم الشيوعية اللغوية”، وستجدون في بعض الجمل وصفا لنسق علاقات القوة اللغوية. تقول اليوميات بخصوص عمدة بُو Pau الذي يتوجه إلى الجمهور باللغة البيارنية أثناء حفل تكريم شاعر بيارني: “إن هذه الرعاية تؤثر في الحاضرين”. ويتكون الحضور من أفراد يتكلمون البيارنية كلغة أولى، ولذلك “تأثروا” بكون عمدة بيارني يحدثهم بالبيارنية.
- قراءة في كتاب سوسيولوجيا الفن
- المشكلة مع الذكاء: تاريخ قيمته المحملة ومستقبل الذكاء الصناعي
- أدب ما بعد النكبة الفلسطينية: فعل مقاومة
لقد تأثروا بالرعاية التي تعتبر شكلا من أشكال التنازل، ولكي يكون هناك تنازل، يجب أن تكون هناك مسافة موضوعية: فالتنازل هو الاستعمال الديماغوجي لعلاقة قوة موضوعية مادام المتنازل يستخدم تلك العلاقة من أجل إنكارها؛ لكنه يستغل هذه العلاقة أثناء إنكاره لـها (كالشخص الذي يقال عنه “بسيطا”). إنـها حالات تسمح فيها علاقة التفاعل داخل جماعة صغيرة بأن تظهر فجأة علاقات قوة مفارقة. فما يجري بين العمدة البيارني والبيارنيين لا يمكن إرجاعه إلى ما يجري في عملية التفاعل بينهم. فلئن كان ممكنـا أن يبدو العمدة للبيارنيين كشخص يعبر عن اهتمامه بـهم، فذلك يرجع إلى كونه يلعب بالعلاقة الموضوعية القائمة بين اللغتين الفرنسية والبيارنية.
لم يكن للكلام بالبيارنية أن ينتج هذا المفعول “المؤثر” لو لم تكن الفرنسية هي اللغة السائدة، ولو لم تكن توجد سوق لغـوية موحدة، ولو لم تكن الفرنسية هي اللغة المشروعة، أي اللغة التي يجب استعمالها في الوضعيات المشروعة، أي في الوضعيات الرسمية كالجيش ومكاتب الشرطة ومجال الضريبـة والمدرسة والخطابات… إنني أقصد بعلاقات القوة اللغوية العلاقات المفارقة للوضعية (أو المتعالية عليها)، ولا يمكن اختزال هذه العلاقات في علاقات التفاعل كما نمسك بـها في الوضعية. إن هذا التمييز مهم جدا نظرا لأن الكلام على الوضعية يؤدي إلى الاعتقاد بأن الاجتماعي أعيد إقحامه نظرا لأن التفاعل أقحم من جديد.
يصبح الوصف التفاعلي للعلاقات الاجتماعية، الذي لا يخلو من أهمية، خطيرا جدا إن نحـن نسينا أن علاقات التفاعل ليست إمبراطورية داخل إمبراطورية، وكذا إن نسينا أن ما يجري بين شخصين (بين سيدة وخادمتها، أو بين زميلين، أو بين زميل يتكلم الفرنسية وآخر يتكلم الألمانية)، يبقى دوما خاضعا للعلاقة الموضوعية الموجودة بين اللغات التي يتكلمان بـها، أي الموجودة بين الجماعات التي تتكلم تلك اللغات. عندما يتحدث سويسري ناطق بالألمانية مع سويسري ناطق بالفرنسية، فإن السويسرية الألمانية والسويسرية الفرنسية هما اللتان تتحدثان.
لكن يجب أن نعود هنا إلى الحكاية الصغيرة التي سلف ذكرها : لم يكن للعمدة البيارني أن ينتج مفعول التنازل لو لم يكن مبرزا. ولو لم يكن مبرزا لكانت لغته البيارنية لغة فلاحية، وبالتالي لا قيمة لـها، ولو لم يُخَاطَب هؤلاء الفلاحون بـهذه “البيارنية ذات المنزلة الرفيعة” لكان انشغالهم ينصب فقط على الكلام بالفرنسية. لذلك يتم إنعاش البيارنية ذات المنزلة الرفيعة في اللحظة التي يميل الفلاحون أكثر فأكثر إلى التخلي عنها لصالح الفرنسية. يجب أن نتساءل عمن له فائدة في إنعاش البيارنية في الوقت الذي يشعر الفلاحون أنـهم مجبرون على مخاطبة أبنائهم بالفرنسية حتى ينجحوا في دراستهم.
إن الفلاح الذي يقول إنه ” لا يعرف كيف يتكلم” لكي يبرهن على أنه لم يكن ليفكر في أن يصبح عمدة القرية حتى وإن كان سيحصل على أكبر عدد من الأصوات، إن هذا الفلاح يحمل عن الكفاءة المشروعة تعريفا واقعيا وسوسيولوجيا جدا: فالتعريف السائد للكفاءة المشروعة يمارس السيادة لأن كفاءته الواقعية غير مشروعة. (يجب الانطلاق من هنا بغية تحليل ظاهرة الناطق بلسان الحال، وهي ظاهرة مهمة بالنسبة لمن يتكلمون عن اللغة والكلام).
إن ممارسة الرأسمال والهيمنة لمفاعيلهما مشروطة بضرورة أن يكون السوق اللغوية موحدة نسبيا، أي أن تكون كل المتكلمين خاضعين لنفس القانون الذي يتحكم في تشكل أسعار المنتوجات اللغوية؛ ويعني ذلك على المستوى الملموس أن آخـر فلاح بيارني، سواء كان على بينة من ذلك أم لا (وفي الواقع، إنه على بينة من ذلك مادام يقـول إنه لا يعرف كيف يتكلم)، يُقاس موضوعيا بمعيار اللغة الفرنسية الباريسية الموحدة.
وحتى إذا افترضنا أن هذا الفلاح لم يسبق له أن استمع إلى “الفرنسية الباريسية الموحدة” (والحال أنه يستمع إليها أكثر فأكثر “بفضل” التلفزيون) وأنه لم يزر باريس أبـدا، فإنه يكون خاضعا لسيطرة المتكلم الباريسي ويقيم معه علاقة موضوعية في كل وضعيات التفاعل، كمكتب الشرطة أو المدرسة، إلخ… أقصد بتوحيد السوق أو بعلاقات الهيمنة اللغوية ما يلي: تٌمَارَسٌ في السوق اللغوية أشكال من الهيمنة لـها منطقها الخاص؛ وككل سوق للسلع الرمزية، توجد في السوق اللغوية أشكال نوعية للهيمنة لا يمكن اختزالـها إلى الهيمنة الاقتصادية ولا إلى طرق ممارستها ولا إلى الفوائد التي تجنيها فقط.
إن أحد نتائج هذا التحليل يتعلق بوضعية البحث نفسها التي تعتبر، من حيث هي علاقة تفاعل، أحد الأماكن التي تظهر فيها علاقات القوة اللغوية والثقافية والهيمنة الثقافية. لا يمكن للباحث أن يحلم بوضعية بحث “خالصة” من كل مفعول للهيمنة (كما يعتقد أحيانا بعض علماء اللسانيات الاجتماعية). ولكي لا يتخذ الباحث من الوقائع المصطنعة أحداثا واقعية، يجب عليه أن يقحم في تحليله لـ”المعطيات” تحليل الحتميات الاجتماعية للوضعية التي أنتجت فيها تلك المعطيات، وكذا تحليل السوق اللغوية التي تكونت فيها الأحداث المدروسة.
أجريت قبل خمسة عشر سنة بحثا حول اختيارات الناس، أي حول الأذواق بمعناها الواسع، سواء تعلق الأمر بالطعام أو الموسيقى أو الرسم أو اللباس أو الشريك الجنسي أو غير ذلك. وجمعت مجمل المادة الخام عبر التفاعل اللفظي، وتوصلت بعد سلسلة من التحاليل إلى التساؤل حول الثقل النسبي الذي يمارسه كل من الرأسمال الثقافي المقاس بالشهادة المدرسية والأصل الاجتماعي في تحديد الاختيارات، وتساءلت أيضـا عن الكيفية التي يتغير بـها الثقل النسبي لكل من هذين العاملين تبعا لمختلف مجالات الممارسـة ـ وبدا لي مثلا أن الأذواق في مجال السينما أكثر ارتباطا بالأصل الاجتماعـي، بينما ترتبط الأذواق في مجال المسرح بالتكوين المدرسي ـ كان بإمكاني أن أستمر في قياس معاملات الارتباط لو لم يدفعني التنقيح المنهجي المفرط إلى مساءلة الوضعية التي جمعت فيها المعطيات.
أليس أهم متغيرة تفسيرية هي مفعول المميزات الخاصة بوضعية البحث، وهو مفعول يوجد خلف المعطيات نفسها ؟ لقد كنت واعيا منذ بداية البحث بأن مفعول المشروعية، الذي يلعب دورا كبيرا في مجال اللغة أيضا، كان يجعل أعضاء الطبقـات الشعبية المستجوبين يميلون في وضعية البحث، عن وعي منهم أو عن غير وعي، إلى اختيار ما كان يبدو لهم أنه يتطابق أكبر مع الصورة التي يحملونـها عن الثقافة السائدة، بحيث أنني شعرت بأنـهم لا يختارون ما يحبونه بالفعل. إن أهمية لابوف Labov تكمن في إلحاحه على أن وضعية البحث هي إحدى المتغيرات التي يجب على التحليل اللساني الاجتماعي الصارم أن يغيرها.
إن الأصالة التي تميز دراسته للغة الهارليم ترتكز في جزء كبير منها على أنه أخذ في حسبانه مفعول علاقة البحث حتى يرى ما سيحصل عليه الباحث عند ما لا يكون شخصا أبيض ينطق بالانجليزية وإنما عضو من مَنْبَذٍ Ghetto يتكلم مع عضو من منبذ آخر. فإذا ما غير الباحث وضعية البحث، سيلا حظ أنه كلما خفف من حدة توتر المراقبة أو كلما ابتعد عن قطاعات الثقافة الخاضعة لمراقبة شديدة، كلما كان الإنجاز أكثر ارتباطا بالأصل الاجتماعي. وكلما تشددت الرقابة، كلما كان الإنجاز أكثـر ارتباطا بالرأسمال المدرسي. وبصيغة أخرى، لا يمكن لمشكل الثقل النسبي لكـل من العاملين أن يجد حله في المطلق، أي بالإحالة إلى نوع من الوضعية الثابتة ؛ إذ لا يمكن حله إلا بإقحام متغيرة أخرى يجب ربطها بالمتغيرتين : وهـذه المتغيرة هي طبيعة السوق التي ستعرض فيها المنتوجات اللغوية والثقافية.
(غالبا ما تدرك الابستمولوجيا كنوع من الخطاب الواصف المتعالي على الممارسة العلمية؛ وأنا أراها كنوع من التفكير الذي يغير الممارسة تغييرا واقعيا ويؤدي إلى تجنب الأخطاء وإلى عدم قياس فعالية عامل معين وإغفال عامل العوامل، وهو الوضعية التي تخضع فيها العوامل للقياس. يقول سوسير: يجـب على عالم اللغة أن يعرف ما يفعل؛ والابستمولوجيا هي العمل على معرفة ما نفعل).
إن ما يسجله البحث الثقافي أو اللغوي ليس تجليا مباشرا للكفاءة، وإنما هو نتاج معقد لعلاقة قائمة بين كفاءة وسوق معينة، نتاج لا يوجد خارج تلك العلاقة؛ إنه كفاءة في وضعية، كفـاءة من أجل سوق خاصة (يميل عالم اللسانيات الاجتماعي غالبا إلى نسيان مفاعيل السوق نظرا لأنه جمع معطياته في وضعية ثابتة). تتمثل الوسيلة الوحيدة الكفيلة بمراقبة العلاقة في تغييرها عبر تغيير وضعيات السوق، وليس في تفضيل وضعية سوق معينة على وضعيات أخرى (كما فعل لابوف مثلا عندما فضل خطاب أسود من هارليم على خطابات سود آخرين من هارليم) أو في البحث عن حقيقة اللغة -كاللغة الشعبية الأصلية- في الخطاب الذي أنتج في تلك الشروط.
إن مفاعيل الهيمنة وعلاقات القوة الموضوعية الخاصة بالسوق اللغوية تمارس في كل الوضعيات اللغوية: عندما يدخل أحد البورجوازيين الريفيين في علاقة مع أحد الباريسيين فإنه “يفقد قدراته” وينهار رأسماله. لقد اكتشف لابوف أن ما يمسك به الباحث في عملية البحث تحت اسم اللغة الشعبية ليس سوى اللغة الشعبية كما تبدو في وضعيـة سوق تسودها القيم السائدة، أي ليست إلا لغة معطلة.
تعتبر الوضعيات التي تمارس فيها علاقات الهيمنة اللغوية، أي الوضعيات الرسمية، بمثابة وضعيات تكون فيها العلاقات القائمة في الواقع، أي التفاعلات، مطابقة تماما للقوانين الموضوعية للسوق. لنعد إلى الفلاح القائل: لا أعرف كيف أتكلم؛ فهو يقصد أنه لا يعرف أن يتحدث كما يجب الكلام في الوضعيات الرسمية؛ ويقصد أنه لو أصبح عمدة لكان شخصية رسمية مطلوبا منها صياغـة خطابات رسمية، أي خاضعة للقوانين الرسمية الخاصة بالفرنسية الرسمية. إنه لا يعرف كيف يتحدث لأنه غير قادر على أن يتحدث كما يتحدث جيسكار دي ستانغ.
إذن، فكلما زادت درجة السمة الرسمية للوضعية كلما حظي المتكلم بمزيد من الترخيـص. ويتعين على المتكلم أن يكون متوفرا على شهادات مدرسية ونطق جيد، وبالتالي من المفروض أن يكون مولودا في المجال الذي يخول له كل ذلك. وكلما اقتربت الوضعية من الرسمية أكثر كلما كانت القوانين التي تتحكم في تشكل أسعارها أكثر عمومية. وعلى العكس من ذلك، إذا قيل إن هناك هامشا للحرية اللغوية، يمكن للبعض أن يلجأ إليه كما يلجأ إلى الحانة الشعبية؛ يقال: سنخلق جزيرات حرة ومستقلة عن القوانين اللغوية التي مازالت سائدة، الجميع يعرف ذلك، لكننا في حاجة إلى ترخيص.
يمكن للمرء أن يكون لديه كلامه الحر ويمكن له أن يستعمله بلا تردد وأن يتكلمه كما يشاء. فعندما يتم تعليق قوانين السوق، يصبح الكلام الحر بمثابة كلام شعبي في وضعية شعبية. لكن من الخطأ القول بأن اللغة الشعبية الحقيقية هي الكلام الحر. تتمثل حقيقة الكفاءة الشعبية أيضا فيما يلي: عندما تواجه هذه الكفاءة سوقا رسمية، فإنـها تصاب بالعطالة، وعندما تكون مستعملة في ميدانـها فإنـها تصبح كلاما حرا. من الأهمية بمكان أن نعرف كون الكلام الحر يوجد بالفعل، لكن كجُزَيْرةٍ مفصولة عن قوانين السوق، جزيرة يبنيها المرء عندما يمنح لنفسه حصانة وإعفاء معينا.
تُمَارَس مفاعيل السـوق باستمرار، بما في ذلك على الطبقات الشعبية المفروض أنـها خاضعة دوما لقوانين السوق. إن هذا ما أطلق عليه لفظ المشروعية: فعندما أتحدث على المشروعية اللغوية، فإني أقصد التذكير بأنه لا أحد يعذر بجهله للقانون اللغوي. وأنا لا أقصد بذلك أن أعضاء الطبقات الشعبية يعترفون بحسن أسلوب جيسكار. وإنما أقصد أنـهم سيفقدون توازنـهم إذا ما وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع جيسكار، وستصاب لغتهم بالعجز وسيلتزمون الصمت، هذا الصمت الذي يعتبر بمثابة تعبير عن الاحترام.
إن قوانين السوق تمارس مفعولا مهما جدا، وهو مفعول الرقابة، على من لا يستطيعون الكلام إلا في وضعية الكلام الحر والمحكوم عليهم بالتزام الصمت في الوضعيات الرسمية التي توجد فيهـا رهانات سياسية وثقافية واجتماعية مهمة. (إن السوق الزواجية مثلا مجال يلعب فيه الرأسمال اللغوي دورا محددا: أعتقد أن ذلك الرأسمال يعتبر إحدى الوساطات التي يتحقـق عبرها الزواج الطبقي المتجانس). فمفعول السوق الذي يمارس رقابة على الكـلام الحر حالة خاصة من حالات مفعول الرقابة العامة التي تؤدي إلى التلميح : إن لكل حقل متخصص (الحقل الفلسفي والحقل الديني والحقل الأدبي…) قوانينه الخاصة ويميل إلى ممارسة الرقابة على الأقوال التي لا تمتثل لتلك القوانين.
يبدو لي أن العلاقات باللغة أقرب إلى العلاقات بالجسد. وحتى لا نطيل كثيرا، يمكن تقديم المثال التالي: إن العلاقة البورجوازية بالجسد أو باللغة هي علاقة اليسر الخاصـة بمن يوجدون في بيئتهم وتلعب قوانين السوق لصالحهم. إن تجربة اليسر تجربة شبه إلهية. فأن يشعر المرء بأنه على ما يرام، معناه أنه يعيش تجربة مغفرة، وهذا ما يُطْلَب من الدين أن يقوم به. إن إحساس المرء بأنه يعيش كما يجب أن يكون العيش هو واحد من أقصى الفوائد التي يحصل عليها السائدون. أما علاقة البورجوازي الصغير بجسده وبلغته، فإنـها علاقة خجل وتوتر وتنقيح مفرط ؛ فالبورجوازي الصغير، إما أنه يفرط في الخجل والتوتر والتنقيح وإما أنه يغفل ذلك تماما، ولذلك فإنـهم لا يعيشون حياة مستقرة.