مجلة حكمة
إشكالية الحرية والتحرر عند سارتر

إشكالية الحرية والتحرر عند سارتر:سؤال التاريخ، سؤال الراهن

الكاتبسعيد الجابلي

هذا العمل بحث علمي أكاديمي قدّم لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة من كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس بتاريخ 15 جوان 2008. ناقشته اللّجنة الموقرة المتكوّنة من الأستاذ: توفيق الشريف (رئيسا) والأستاذ: فتحي التريكي (مشرفا) والأستاذ: رضا عزوز (مقرّرا). فلهم جميعا جزيل الشّكر. وأسندت له ملاحظة: حسن جدّا.


الإهداء

  • إلى شهداء المقاومة والثّورية في مشارق الأرض ومغاربها….
  • إلى الّذين نذروا أنفسهم في سبيل الحريّة والتحرّر وما مسّهم نصب ولا لُغوب…

إسداء شكر

إلى أستاذي الجليل الدكتور فتحي التريكي، كل عبارات الشكر والتقدير لقبوله الإشراف على هذا العمل ولتنبيهاته وإشاراته القيّمة التي انصبّت على مقتضيات البحث الفلسفي ولصبره عليّ زمنا غير يسير، حتى يبلغ هذا العمل بعض التمام.


تصدير

الحقّ مطلوب لذاته، وكلّ مطلوب لذاته فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحقّ صعب، والطريق إليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحسن الظنّ بالعلماء في طباع جميع النّاس، فالنّاظر في كتب العلماء إذا استرسل مع طبعه، وجعل غرضه فهم ما ذكروه، وغاية ما أوردوه، حصلت الحقائق عنده هي المعاني التي قصدوا لها، والغايات التي أشاروا إليها (…). فطالب الحقّ ليس هو النّاظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه، في حسن الظنّ بهم، بل طالب الحقّ هو المتّهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجّة والبرهان لا قول القائل الّذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان. والواجب على النّاظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصما لكلّ ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه. فإنّه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشّبه.

الحسن بن الهيثم

رسالة الشكوك على بطليموس ص3-4


جدول المحتويات


المقدّمة

"إنّ الإنسان ليس إنسانا إلّا بحريته. فالحرّيّة يصح اعتبارها تعريفا للإنسان. وإنّنا إذ نريد أن نجعل حرّيتنا هدفا نسعى إليه لا يسعنا إلّا أن نعتبر حرّيّة الآخرين هدفا هو أيضا نسعى إليه".

سارتر [الوجوديّة مذهب إنسانيّ]

تعد إشكاليّة الحرّيّة والتحرّر من بين أهمّ المسائل الفلسفيّة التي أرّقت الخطاب الفلسفي عبر مختلف محطّاته التّاريخيّة، ذلك أنّها، قد استأثرت باهتمام متزايد من قبل أغلب الفلاسفة. يكفي أن نشير مثلا على سبيل الذكر لا الحصر إلى الإسهام الديكارتي في مقاربته لمسألة الحرّيّة في هيأتها الأنتروبولوجيّة وكذلك في تجلياتها التيولوجيّة (الإلهية). وهو ما يعني، أنّ الحرّيّة تعتبر أساس الحداثة ورهانها، إنّها مطلب الإنسانيّة الحديثة والراهنة. وهو ما جعلها تحظى باهتمام من قبل مفكري وفلاسفة الحداثة مثل: رونيه ديكارت (1596–1650) وكذلك مع فلاسفة العقد الاجتماعي مثل: توماس هوبز (1588-1679)، جون لوك (1632-1704)، باروخ سبينوزا (1632–1677)، جون جاك روسو(1712–1778) وإيمانويل كانط. (1724–1804) … وغيرهم.

ونلفت الانتباه هنا إلى أمر بدا لنا ضروريا، لئن أولى فلاسفة الحداثة اهتماما بالغا للجانب الميتافيزيقي، فإنّهم لم يقصروا في طرحهم للحرّيّة على هذا الجانب. إذ حظي الجانب السياسي باهتمام لا يقل قيمة عن الطّرح الميتافيزيقي. فما تراهن عليه إنسانيّة الحداثة، هو حريتها ليس في المجال النظري فحسب، وإنما بالأساس في المجال العملي السياسي، أي تحقق حرّيّة الإنسان داخل المدينة، داخل المجتمع، إنّه المطلب الرّئيس لفلاسفة عصر التنوير.

يجب ألّا ننسى المدرسة الفينومينولوجيّة، وحتّى الفلسفة البنيوية. ورغم الاختلاف الجذري بين هذه المرجعيّات في تناوّلها لهذه القضيّة، فإنّ الإشكال المتحكّم بهذه الخطابات، يظل هو ذاته ويعتبر الجذر المشترك الذي نحت فعليا معالم الخطاب الفلسفي. ومثّل بالتّالي، بؤرة صراع الفلاسفة بشأنه. الأمر الّذي يشرّع لنا القول، أنّ هذه المسألة المتطارحة سابقا والمتخاصم بشأنها حاضرا، لتعكس في السّجل الفلسفي برمتّه معضلة فلسفيّة ذات بال. وحسبنا دليلا عمّا نزعم هاهنا، أنّ الاهتمام الفلسفي الوجودي هو الآخر كان متكلّفا بالبحث في هذه الإشكاليّة المحوريّة. لذلك ليس من المصادفة مثلا، أن ينهمّ فلاسفة المدرسة الوجودية الفرنسيّة بهذه المسألة، الّتي اتّخذوا منها نواة مركزيّة لكلّ تفكيرهم الفلسفي وتقديمها على غيرها من المشكلات الفلسفيّة الأخرى.

من هذا المنطلق، انفتح القول الفلسفي مع “جان بول شارل آيمار سارتر” (1905-1980) على هيئة مساءلة لمقولة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن والتي لمثلت جوهر مقاربته الوجوديّة، وإحدى أهمّ المواضيع المميّزة لها. بل أكثر من ذلك، أنّها تتعيّن من أكثر المسائل الجذريّة ضمن الأنثروبولوجيا الوجودية السّارتريّة.

إنّ رائد الوجودية الفرنسيّة الملحدة، يعتبر من بين أهمّ فلاسفة القرن العشرين الّذين تناولوا هذه الإشكاليّة بعمق وعمل على مقاومة كلّ أشكال الاغتراب. ولهذا السبب، فقد جاءت مؤلّفاته مثقلة بها، بل أنّها تمثل قلب الرّحى الذي تدور حوله الفلسفة الوجوديّة السّارتريّة برمتها، التي اتّسمت بأنّها فلسفة الحرّيّة الإنسانيّة، على اعتبار أنّ مركز الثقل في الوجودية عامّة والسّارتريّة خاصّة، هو الوجود الإنساني الذي بوّأته منزلة الصّدارة وسعت إلى وصفه ورصد منعطفاته وفهم معناه، طالما أنّ الإحاطة بالإنسان والكشف عن مختلف أبعاد تجاربه وتجلّياتها في مختلف المجالات مهمّة رئيسيّة لهذا الخطاب الذي اختار أن يكون الإنسان موضوعه الرّئيس وقضيته المحورية.

ذلك هو المنطق الداخلي الذي يشدّ المعماريّة الفكريّة السّارتريّة كما جسدته آليّة الانشغال بإشكاليّة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن، بماهي مكمن الخصوصيّة المميّزة للنّصّ الوجودي لهذا الفيلسوف وانهمام من انهمامات فلسفته. الأمر الذي بمقتضاه، نستشرف الصّلة المتينة بين الإنسان ومقولة الحرّيّة التي لتعدّ في صميمها الخاصيّة الجامعة لكّل مقوّمات الذّات الإنسانيّة.

وعلينا ألّا ننسى، أنّ الرّهان الأساسي الذي يناضل من أجله الإنسان، هو تحقيق أفضل ظروف الحياة ومواصلة البقاء، إن لم نقل أفضليّة ونوعيّة في البقاء تقوم فيه الحرّيّة مقام الشرط الجوهري والمعنى الحقيقي لكينونته. وتقودنا هذه الملاحظة الأخيرة إلى القول، أنّ هذا المطلب بدأت تتأكّد معالمه وقيمته في أفق التحوّلات الجذريّة التي ميّزت الواقع الذي ترعرعت فيه الفلسفة الوجودية مع جان بول سارتر.

بيد أنّ الغائيّة الأساسيّة لمشروع “سارتر” في كلّ اعتماداته الفلسفيّة، إنّما هو معالجة إشكاليّة الحرّيّة، لا في مدلولها الميتافيزيقي فحسب، كما عبّر عن ذلك في كتابه “الوجود والعدم”، حيث قارب هذه الإشكاليّة باعتماده على المنهج الفينومينولوجي، مؤكّدا بذلك أنّ الإنسان كائن حرّ أنطولوجيا: أي أنّ الحرّيّة ملازمة للوجود الإنساني في بنيته الأساسيّة، كما تتنزّل مساهمة سارتر في مقاربته لهذه الإشكاليّة ضمن مجال عملي، من خلال إيمانه بالحرّيّة الإنسانيّة وبقدرة الإنسان على التحكّم في مصيره. ومن هنا تستمدّ هذه الفلسفة في تعبيرتها السّارترية قوتها من مرتكز حقيقي ومهم من خلال انشغالها بوجود الإنسان في العالم وعلاقته بالآخرين. وهو ما جعل الوجود الإنساني مرتهنا بجملة من الشروط الاقتصادية والاجتماعيّة، هذا ما نقف عليه في كتاب “نقد العقل الجدلي” القائم على منهج ديالكتيكي.

ورغم الاختلاف في طبيعة المنهج، إلا أنّ الهدف واحد، ذلك أنّ الفيلسوف الفرنسي قد فهم الفلسفة على أنّها كفاح من أجل الحرّيّة وأنّ الفيلسوف لا يمكنه أن يكون، إلا ملتزما بقضايا واقعه. ومن هنا ينبغي علينا القبول بوجاهة هذا الخيّار السارتري القائم على جدلية أو ازدواجية النظري والعملي في تناوله لمسألة الحريّة والتحرّر. أي يتعلق الأمر بيان المنزلة الأنطولوجيّة والأكسيولوجيّة والسياسية لمقولة الحريّة وكيفية استحالتها إلى مسار تحرّري أو ممارسة فعليّة.

كما ينبغي علينا أن نوضّح، بادئ ذي بدء، أنّه ليس من الممكن القيام ببحث كامل ودقيق يلمّ بمختلف جوانب هذه الإشكاليّة التي نتناوّلها بالبحث والمعالجة، ضمن جميع المصنّفات السّارتريّة، على اعتبار أنّ هذا المفهوم العمدة (أي الحريّة)، قد سجّل حضوره تقريبا في كلّ أعمال “سارتر” سواء الفلسفيّة منها أو الأدبيّة أو المسرحيّة. الأمر، الذي حال دون إعطاء هذه المصنفات حقّها من النظر المتمعن والدقيق. نظرا لكون مثل هذا الأمر يتجاوز حدود البحث ذاته.

وهو ما حدا بنا إلى التركيز في بحثنا على نصوص “سارتر” الفلسفية، دون غيرها من أعماله الأخرى، آخذين في اعتبارنا بآراء الفلاسفة وكبار مؤرخي الفلسفة، الذين كتبوا عن “سارتر”، آملين أن تسعفنا تلك القراءات المختلفة لمشروعه الفلسفي الوجودي من الإحاطة بهذه الإشكاليّة التي تناولها بالبحث لاستنطاقها وسبر أغوارها. وذلك قصد الاقتراب من جوهر المعالجة السّارتريّة، وأن نسجل بالتالي لسارتر ما له وما عليه.

كما يتعيّن علينا، الإجابة بصورة بيّنة عن أسباب اختيارنا لهذا الموضوع. فثمّة سؤال أولي يطرح في إطار معالجتنا لهذه المسألة، ومدار هذا السُؤال هو: ماهي الدواعي التي حدت بنا إلى اختيار إشكاليّة الحريّة والتحرّر سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن في بحثنا هذا؟

ولم دراسة هذه الإشكاليّة عند سارتر بالذّات؟

لعلّنا، لا نجانب الحقّ عندما نقول، أنّ من بين مسوّغات اختيارنا لموضوع “الحرّيّة والتحرّر سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن”، تتمثّل في راهنيّة هذه الإشكاليّة من ناحيّة، ولاعتبار الحرّيّة من جهة ثانيّة، من أهمّ القيم الإنسانيّة، بل ولعلّها أساس إنسانيّة الإنسان، ذلك أنّ “الإنسان الذي يفقد الحرّيّة يفقد في الآن نفسه إنسانيته”([1]).

نتبيّن إذن، أنّ مطلوب الإنسان الأقصى هو الحرّيّة، وأنّ الفلسفة بما يحفل به تاريخها وأنساقها من اهتمام بالإنسان وبالفضاء الذي يعيش فيه، تسعى إلى المحافظة على ما هو إنساني في الإنسان أي الحرّيّة، لذلك فرهان الفلسفة هو الحريّة.

وعليه، ارتأينا أن يكون بحثنا هذا مدخلا لقراءة سارتر ومقدّمة لفلسفته الوجوديّة، وتأهيلا من لّدنّا لتذوق جديد لسارتر، والتذكير به /التفكير به على سطح السّاحة الفلسفيّة، ممّا يعني أنّ تفكيره مازال حقلا ثريّا للبحوث ولم يستفرغ القول فيه بعد. فهذا الفيلسوف الفذّ لم يقصّر منذ أن اكتمل نسقه، لا في خلق الأتباع فحسب، وإنّما في خلق الخصوم أيضا. أفلا يكون ما يطرأ اليوم من كتابات حول سارتر امتدادا متخفيّا لهذا التيّار أو ذاك؟ علما وأنّ ذلك ليتنزل في سيّاق، يُجلي لكذا تقاطعات ممكنة، لهي في مدلولها الأصيل تُرجمانا لمناظرات فكريّة بين سارتر ومرلوبونتي، وهيقل، وفوكو، وماركس وهوسرل، وهيدغير، وكارل ياسبرز، وألبار كامو وجوناص وغيرهم ممّن أشكل عليهم أمر الحريّة والتحرّر نظريّا وعمليّا.

على هذا النّحو، قمين بالتّأكيد على وجاهة السّؤال القائل: هل نحن في حاجة إلى سارتر؟  اعتبارا إلى مقاربته لقضية فلسفيّة ذات بال ونعني مسألة الحريّة والتحرّر، والتي يمكن القول إنّها ما تزال لها راهنيتها. لن نجد عند سارتر الجواب لمشاكلنا، لكنّنا نجد عنده ضربا من هذه الاستشارة العلميّة التي ما فتئ الأقدمون يقدمونها للمعاصرين والتي لا تخلو من حكمة باقية. ناهيك أنّه، صار يمثّل اليوم، بفعل ما   نشهده في تاريخنا المعاصر من تكرّر تراجيدي للهموم والوضعيّات القصوى نفسها، ليس فقط شهادة فلسفيّة نادرة على مسار العصر، بل أيضا، فيلسوفا ذا راهنيّة مثيرة في كلّ مّرة، من قبل أنّه حوّل كوارث القرن العشرين وحروبه العالميّة المتواصلة إلى قضايا شخصيّة وثيمات أدبيّة وإشكالات نظريّة. وذلك في أفق فلسفي ظلّ مفتوحا ونضرا وملتزما على الدّوام. ونأمل من جهتنا أن تفي هذه ببعض من ذلك، وتسوّغ لسارتر في الحضور معنا   لنتأمّل معه بعضا من هذه القضايا التي ما تفتأ تشغل بال المفكرين في واقع مأزوم وعطوب غلب عليه التعقيد وصراع الأضداد، مداره الأساس جدل النّدرة والرّداءة، وسياسات الفساد والإفساد بلا هوادة، وخيارات ونظم مستبدة، جائرة وفاقدة للفضيلة لها حصانة ضدّ التقدّم ومناعة ضدّ الموت في هكذا عبارات مجازيّة، سياسة واقتصادا وتنميّة وثقافة وإنتاجا وتوزيعا للثروات والكرامات.

لا جرم، أنّ مقاربتنا لمسألة الحرّية والتحرّر عند سارتر إنّما تُعزى إلى انهمامنا بقضايا العقل العملي ومباحث الفلسفة العمليّة. “فكلّ فلسفة هي عمليّة، حتّى تلك التي تبدو ولأوّل وهلة الأكثر طابعا تأمّليّا.”([2]) على حدّ عبارة سارتر. ولقد صرّفنا البحث في تلكم الإشكاليّة للإبانة عن المنزع الإنسانيّ صُلب المشروع الفلسفي السّارتري برمته، أين يكون الفيلسوف الوجودي ذاك الّذي يُطوّر المعنى في شموليته، ويختار العقل والحكمة، لا بالمعنى المجرّد، بل بالمعنى الّذي يتجسّم في الفعل كمقولة عليا تلتقي فيها الحقيقة بالحرّية بما هي قيمة القيم وواقعة من وقائع الحياة اليوميّة. وذاك الّذي عن الالتقاء به يكون انبجاس الحقّ في التحرّر على النّحو الّذي بيّنه سارتر نظرا وعملا وتأصّله في الوجود الإنسانيّ الحقّ. وعلاوة على ذلك لا يكون للحريّة وجود في العالم طالما لم يصبح العالم الّذي صنعه الإنسان مسرحا للقول والفعل. كلّ هذه الدّواعي لتعطينا إذن، مشروعيّة الخوض في هذه المسألة، بل تبرّر أيضا الغايات التي نروم الوصول إليها والتي لتتمثّل في محاولة استجلاء خصوصيّة الطرح السّارتري، قياسا ببعض التصورات الفلسفيّة الأخرى.

ولكن، ماذا عن الإشكاليّة والمنهج المتبع في هذا البحث؟ بالإمكان ضبط الإشكاليّة التي يطرحها موضوع البحث في الأسئلة الآتيّة:

أوّلا: إذا علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالتنبيه إلى أنّ كتابات سارتر برمتها، لتُجلي لنا تنوّعا لافتا بخصوص تناوله بالدّرس والتّحليل مسألة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ سُؤال الرّاهن، سيّما من جهة المفهوم والمنهاج والمضامين المعرفيّة، فإنّ ذلك ما يعطينا مشروعيّة التساؤل إذا: أنّى نفهم معنى الحرّيّة في سياقاتها النظريّة والعمليّة على نحو ما تجلّت في كتابات سارتر الأوّل وسارتر الثّاني؟

ثانيا: أليس من الوجاهة بمكان، الإقرار بالتلازم الحتميّ بين جملة الأبعاد الأنطولوجيّة والفينومينولوجيّة وسيكولوجيّة من ناحيّة والأبعاد الأكسيولوجيّة والسياسيّة والماديّة – التاريخيّة من ناحيّة أخرى، للإحاطة بإشكاليّة الحرّيّة والتحرّر في طابعها الموسوعي المركّب، تساوقا مع ما ذهب إليه سارتر في كتاباته الأولى والثانيّة؟

ثالثا: فيم تتمثّل حدود المقاربة الفلسفيّة الوجوديّة السّارتريّة لإشكاليّة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن من منظور موريس مرلوبونتي؟

داخل هذه الأسئلة بحثنا عن مفاهيم الحرّيّة، والتحرّر، والوجود، والمعنى، والذّات، والوضع، والاختيّار، والقلق، والعبث، والعدم، والمسؤوليّة، وسوء الطويّة، والالتزام، والمقاومة، والاغتراب، والندرة، والعمل، والتّاريخ، والماديّة، والثّورة، ونحو ذلك من المفاهيم، وبحثنا عن الخيط النّاظم بينها في مستوى النسق الفلسفي الوجودي السّارتري وظهر جليّا مدى تناسبها واقتضاء بعضها بعضا، لتؤلّف حينئذ  لضرب من الوحدة والتكامل بين أعمال  سارتر الأولى وكتاباته الثانيّة في مستوى المضامين والمقاصد النظريّة والعمليّة، رغم ما يسمها من تنوّع لافت يخصّ المنهج والمنطلقات الفكريّة لهذا الفيلسوف في معالجته لموضوع الحرّيّة والتحرّر ،سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن.

إنّ استنطاقنا لإشكاليّة هذا العمل في دلالاتها وأبعادها الفلسفيّة المركّبة، لاٌقتضت منّا الاستئناس بمنهج تحليلي مقارن، مفاده رصد مواقف هذا الفيلسوف الوجودي في مستوى كتاباته الأولى وكتاباته الثانية وإقامة مقارنة بينها في علاقة بإشكاليّة الحرّيّة والتحرّر. كما ولينا تأمّلاتنا أيضا شطر الأنساق الفلسفيّة الّتي لكان لها امتداداتها وتأثيراتها الواضحة في فلسفة سارتر. ولقد وصّلنا القول فيما نحن طفقنا نجوس فيه، باعتمادنا مقاربة بنائيّة إدماجيّة كشفا للتقاطعات الممكنة بين البعد الأنطو-فينومينولوجي والبعد المادّي-التّاريخي لواقعة الحريّة بما هي تجسيد لمنزلة الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الّذي يوجد لذاته وهو كائن حرّ ومسؤول وعليه أن يختار طريقه بحريّة لدى سارتر الأوّل وسارتر الثّاني على نحو ما تُجليه أبواب البحث وفصوله. وإذ كنّا لا ندّعي فصل الخطاب في المسائل التي طرقناها أشكلة ومفهمة في حدود بحث مُخصّص للماجستير. وإنّما حسبنا أنّنا أشرنا إلى بعض دروب الحرّية التي يمكن ارتيادها في الدّراسات السّارتريّة. ولأمر كهذا، ارتأينا تصريف البّحث في إشكاليّة الحرّيّة والتحرّر عند جان بول سارتر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن على أنحاء مختلفة اقتضت منّا تقليب المسألة على أوجه متعدّدة: أنطولوجيّا وفينومينولوجيّا وأكسيولوجيّا وسياسيّا وأنثروبولوجيّا وسيوكولوجيّا، دون إغفالنا للبعد العمليّ الماديّ–التاريخيّ. وهو أمر لتُجليه أقسام البحث وفصوله، حيث نتناوّل في القسم الأوّل، الموسوم: “سارتر الأوّل والتّأصيل الأنطو-فينومينولوجيّ لسُؤال الحرّيّة”، خصوصيّة الطّرح الوجودي السّارتري لموضوع الحرّيّة مفهوما وإشكاليّة وهو المضمون الأساس للفصل الأوّل. فحين أفردنا الفصل الثّاني، للنظر في القراءة الأنطولوجيّة – السيكولوجيّة لمسألة الحرّيّة. أمّا الفصل الثالث، خصصناه لعرض المنظور الأكسيولوجي والسياسي للحرّيّة لدى سارتر. ونتناوّل بالدّرس والتّحليل في القسم الثاني والأخير من بحثنا، وعنوانه: “سارتر الثّاني والمقاربة الماديّة–التّاريخيّة لسُؤال الحرّيّة”، معالم الأنثروبولوجيّا–الوجودية المعاصرة كما طرحها سارتر وهو المضمون الرّئيس للفصل الأوّل. أمّا الفصل الثّاني، عالجنا فيه مسوّغات الانتقال من سُؤال الحرّيّة إلى إيتيقا التحرّر، بما مكنّنا من التعرّف على الامتدادات العمليّة لفكر ماركس لدى سارتر الثّاني، سيّما حول نظريّة الاغتراب وسياسات التحرّر ضمن الأفق الفلسفيّ–الابستيمي في مستوى أوّل. والتوجّه في مستوى ثان إلى البحث في سبل صلاحيّة الفكر السّارتري راهنا. أمّا الفصل الثّالث والأخير، تضمّن نقد موريس مرلوبونتي للتصوّر الوجودي السّارتري حول إشكاليّة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن.

القسم الأوّل:

سارتر الأوّل والتّأصيل
 الأنطو-فينومينولوجي لسُؤال الحرّيّة

وحدها الحرّيّة يمكن أن تكشف عن شخصيّة ما في جملتها (…). فليست العبقريّة هبة، بل السّبيل التي نخترعها حين نيأس من كلّ شيء“.

سارتر (سان جينيت ممثّلا وشهيدا)


الفصل الأوّل:

مقولة الحرّيّة: المفهوم والإشكاليّة

إن محاولة تحديد ماهيّة الحرّيّة يثير جملة من الصّعوبات، متمثّلة أساسا في تعدّد أبعادها ومعانيها. فنحن إذن، إزاء لفظ يستدعي النّظر لما فيه من ثراء وتعقّد، ينبغي تدبّرها في عدّة مستويات: النّظرية والعمليّة، الخاصّة أو العامّة. فينبغي أن نميّز بين أنواعا من الحرّيات المختلفة باختلاف الأشخاص والسّياقات، لأنّ مفهوم الحريّة شأنه شأن عديد المصطلحات الأخرى: كالسّعادة، الخير، الحقّ، الحقيقة… ذو تفسيرات شتّى.

المسلّمة التي لابدّ من التأكيد عليها هاهنا، أنّ الحريّة تظلّ مفهوما ملتبسا وملغزا، معرّفا باللّا-تعريف، شأنها في ذلك شأن الفلسفة ذاتها أو كباقي المفاهيم الميتافيزيقيّة الأخرى. فهي مفهوم يتمرّد على كلّ محاصرة ويتّنصل من كلّ تعريف محدّد ونهائي. وفي خضمّ ذلك نقول، أنّه لا وجود لحريّة بالألف واللاّم، بل الأصوب القول، بفسيفساء من الحريّات، لأنّه يعسر علينا متابعة رحلة هذا المفهوم في مختلف تجلياته. وهو ما يقودنا إلى سوء الفهم والتّفاهم إزاء مفهوم الحريّة ذاته، الذّي “فاقت معانيه المائتين كما سجّلها مؤرخو الفكر”([3]).

نستجلي من هذا القول، أنّ الخصوصيّة الأساسيّة لهذا “المفهوم المعضلة”، تكمن في طابعه الموسوعي، باعتباره يتحكم في أغلب المجالات ويتنزّل في معظم السّجلات، سواء في هيأته الفلسفيّة أو في تجليّاته السياسيّة أو في أبعاده اللاهوتيّة، أو في تمظهراته الثقافيّة أو في مستوياته التاريخيّة، عموما سيطرته على جميع أنواع الممارسات تقريبا وتحكّمه في مجال الحياة عامة.

هذا الحضور المكثّف على اختلاف سجّلاته، وما يحيل عليه من تنوع وثراء، يكشف انفتاح هذه الماهيّة، (ماهية الحريّة) وعدم انغلاقها في تعريف محدّد، إلاّ ضمن سجّل أو نسق فكري معيّن، وخارج ذلك، تنفتح الماهيّة على دلالات ومعان متنوّعة، مستبدلة الهُويّة بالاختلاف، والحقيقة بالتّأويل، والمطلق بالنّسبي، لنعاين على إثرها حريّة وتحرّر المفهوم نفسه.

ولكن، قد يحملنا الاعتقاد إزاء ماهيّة الحرّيّة، أنّ سؤالا كهذا قد غدا لغوا لا طائل من ورائه، طالما أنّه مفهوم متشعب وضبابي. فهل في استطاعتنا القبض عليه، والحال أنّ جلّ المحاولات تظلّ عاجزة على محاصرته في جوهريّته؟

لعلّ، متابعة هذا المفهوم في دلالاته المعجميّة، هو ما يسعفنا بفهمه على الأقلّ في مرحلة أولى. لذلك لنا أن نتساءل إذن:

  • ماذا نقصد بلفظ الحريّة معجميّا؟
  • ما هو الفضاء الدّلالي للحرّيّة؟

إنّ تعريف مفهوم “الحريّة”، يستوجب منّا أوّلا، استحضار المفاهيم المقابلة له، نخصّ بالذّكر: “كلمة “الضّرورة” (Nécessité)، العبودية (Servitude) أو كلمة “الحتميّة” (Déterminisme)، أو كلمة “القضاء والقدر” (Fatalisme)، أو كلمة “الطّبيعة” (Nature) …إلخ”([4]).

كما تجدر الإشارة، إلى أنّ الدّلالات الاشتقاقيّة لماهيّة الحريّة، تحيل إلى: “اللّفظ الفرنسي “Liberté” مستوحى من اللّفظ اللّاتيني “Liber“. وهذا الأخير، يحيل في الأسطورة اللّاتينية إلى إله الخلق، وهو الإله الذي يتحكّم بمراحل نموّ وتطوّر الكائنات الحيّة بدءا من تكوّناته الجنينيّة الأولى، ومن هذا اللّفظ تأتّت صيغة الجمع “Libeir” للدّلالة على الأبناء، وعلى السّلالة والنّسب”([5]).

بيد أنّ هذا النّهج الذي يكتفي بالمنشأ اللّفظي غير قادر على استيفاء معرفة جوهريّة بماهيّة “الحريّة”. يضطرّنا ذلك إلى استقراء بعض المعاجم الفلسفيّة، علّنا نعثر على إجابة لسؤال “ما الحرّيّة؟”، الذّي يحيل من جملة ما يحيل إليه، معجميّا إلى المعاني التّالية: “الإنسان الحرّ هو الإنسان الذّي ليس عبدا أو سجينا. والحرّيّة هي حالة من يفعل لا ما يشاء غيره، إنّها غياب القسر الخارجي. واٌنطلاقا من هنا امتدّ معنى هذا اللّفظ إلى وجهات ثلاثة مختلفة: أوّلا بالمماثلة والتّعميم نطلق اللّفظ على كائنات أخرى غير الإنسان، بل ونطلقه حتى على الجماد. ثانيّا، يخصّ اللفظ من الوجهة الاجتماعيّة والسّياسيّة حالة معينّة للمواطن أو للذّات في علاقتها بالمجتمع والسّلطة. ثالثا، إذا اعتبرنا أنّ الإنسان يحمل في داخله قوى أو مبادئ فعل غريبة عنه وتجبره أو تغريه، فإنّنا نطلق هذا الّلفظ على استقلاليّة الإنسان الباطنيّة إزاء ما ليس هو الإنسان ذاته على الحقيقة”([6]).

نستخلص من هذا التحديد عدّة معان لمفهوم “الحريّة” منها:

  • المعنى العامّ: تحيل “الحريّة” في هذا المستوى على حالة الفرد الذي لا يخضع لضغوطات أو لسلطات، أي حريّة الأنا الذي يفعل ما يريد بكل حريّة ولا يطيع سوى إرادته وطبيعته. فالحرّية حسب ما ورد تدلّ إذن، على الغياب الكلّي للإلزام أو الإكراه.
  • البعد الاجتماعي والسّياسي: تحيل الحريّة في هذا السّياق إلى غياب كل إلزام أو قسر اجتماعي يفرض على الإنسان الحرّ، الذي يحترم ما يمنعه القانون ويقوم بجملة أفعال تتماشى مع روح القوانين. فالحريّة المدنيّة والسّياسيّة، هي حقّ معترف به للذّات. وهذه الحريّة يضمنها القانون الذي ينظّم الممارسة الاجتماعيّة ويحدّ من سلطة الدّولة ومن تجاوزات الأفراد.
  • البعد النّفسي والأخلاقي: تحمل الحرّيّة هنا على معنى: استقلاليّة الإرادة، وذلك بعدم خضوع الفرد إلى إملاءات الأهواء وسلطان النّزوات. وهو ما يفيد أنّ أفعال الإنسان نابعة من العقل أو نتيجة لتدبّر عقلي وتروّ.

نستنتج أنّ، بعض من هذه المعاني تلتقي مع التّعريف السّارتري لماهيّة الحرّيّة. لذلك حريّ بنا التّساؤل:

  • ما الحرّيّة حسب سارتر؟

حدّد سارتر في كتابه: “الوجود والعدم” مفهوم الحرّيّة على النحو التالي: “إنّ المفهوم التّقني والفلسفي للحريّة، يعني أساسا استقلاليّة الاختيار (…)، الذّي يرادف الفعل”([7]).

ويذهب الفيلسوف الفرنسي إلى القول في مستوى “الموقف الأوّل”: “الحرّيّة واحدة، ولكنّها تتجلى بطرق متنوّعة حسب الحقبات”([8]). إنّ الحرية وفق هذا المنطوق الفلسفي السارتري، لهي حالة الكائن الفاعل الذي يعرف ما يريد ولماذا يريده والذي لا يتصرّف إلّا وفق ما حددته إرادته، وهو ما يفيد أنّ الحرية تقترن لديه باستقلاليّة الإرادة، بحيث تحيل الحرية على حالة الوجود الفردي المتعيّن أو حالة الفرد الّذي لا يعيش عبودية ولا يخضع للضرورة غير ضرورة الحرية.

ما يمكن الإشارة إليه أيضا، تأكيد سارتر على الأساس التّاريخي المفتوح لمفهوم الحرية، أي مدى قابليّة مفهوم الحّريّة اللّامحدودة لاستيعاب الدلالات والتحديدات، دون أن يستوفى في معنى نهائي. ويبقى مقصدنا الأساسي من خلال إثارة هذه الإشكاليّة، أن نبيّن للقارئ أهميّة النظر في هذا الموضوع، رغم طابعه المعضلي الموغل في التعقيد. ولكن، ذلك مدعاة، لكي تستيقظ “الحرّيّة” كمسألة وليس مدعاة للنفور منها، باسم هذا الغموض.

فكيف تتجلّى المنزلة الأنطولوجيّة لمقولة الحرّيّة في السّجل الفلسفي الوجودي السّارتري؟

الفصل الثّاني:

في أنطولوجيّة الحرّيّة

1)     الأنطولوجيا، أيّة دلالة؟

إن لفظة الأنطولوجيا ذات أصل إغريقي، تتركب من حيث مدلولها الاشتقاقي من مقطعين هما: “أنطوس (Ontos)، أي الوجود ولوغوس (Logos) الذي يفيد العلم والكلمة في مجموعها، تعني علم الوجود”([9]).

ولا بدّ، هنا من التنبيه، إلى أنّ مفهوم الأنطولوجيا، يحمل في معناه الاصطلاحي على معنى العلم الذي يدرس الوجود من زاوية ماهيته، خصائصه، غاياته وعلله. والمقصود بالوجود هنا: الوجود الإنساني، وجود الأشياء والوجود الإلهي.

ويمكننا إذا، انطلاقا ممّا سبق أن نقرّ، أنّ ما منه تكون الأشياء وما منه قد قدّت كل الموجودات، إنّما هو الوجود الذي يمثّل الصفة الجوهرية المشتركة بين كل الكائنات.

أمّا فلسفيا، الأنطولوجيا هي: “ذلك العلم الذي يدرس الوجود في كليته وشموليته”([10]). بهذا المعنى، تتماهى الأنطولوجيا إلى حدّ ما مع الميتافيزيقا، بماهي تفكير إشكالي يهتمّ بالمفاهيم ويحدّد ماهيات الأشياء، الأمر الذي يجعل منها علما أسمى كليا، يتعارض مع العلوم التي توغل في التخصص وتفرّط في التناول الأحادي والجزئي لبعد من أبعاد الوجود، لا الإلمام بالوجود في عموميّته. ولكن، ماذا عن التحديد السّارتري لمفهوم الأنطولوجيا؟

لابدّ أن نشير إلى أهمية المسألة الأنطولوجية في المتن الفلسفي السّارتري، ناهيك أنّ العنوان الفرعي لكتاب “الوجود والعدم” هو: “محاولة في الأنطولوجيا الفينومينولوجيّة”.

ومنذ مقدمة هذا الكتاب المعنونة: “بالبحث في الوجود”، يستأنف سارتر البحث في هذه الإشكاليّة. ففي القسم الثّاني منها، المعنون بـ: “ظاهرة الوجود ووجود الظاهرة” يعرّف سارتر “الأنطولوجيا” على النّحو التّالي: “الأنطولوجيا، هي وصف ظاهرة الوجود كما تتجلّى، أي دون وسائط”([11]).

بيّن إذن، أنّ الأنطولوجيا ذات مدلول فلسفي عميق ومبحث مركزي، حتى مع سارتر، باعتبارها، تعني التأمل المصوّب نحو الوجود الإنساني، ما دامت: “الوجودية مذهب إنساني، وهي فلسفة الحريّة”([12]).

لو شئنا الوضوح، يمكننا القول، أنّ الحريّة وفق التناول السّارتري ذات أصول أنطولوجيّة ترتبط بالوجود لذاته (الإنسان).

فالأنطولوجيا التي يعتمدها سارتر، هي أنطولوجيا المشروع والحريّة في ارتباطها بالإنسان. ومن الحكمة القول، أنّ موضوع “الوجود والعدم”، يتمحور حول وصف الحريّة في كلّ أنماطها، أي أنّ سارتر قد سعى إلى إقامة فهما أنطولوجيا للحريّة، ما دامت الحريّة مقولة أنطولوجية، من جهة كونها محددة لماهية الوجود الإنساني ولإنسانية الإنسان عموما.

إنّ خاصيّة الأنطولوجيا السّارتريّة، تتمثل في التركيز على التجربة الوجوديّة للإنسان بوجه خاصّ، الذي هو أولى المسائل بالنظر، أجدرها بالتفكير والبحث والفهم.

ما يمكن استنتاجه إلى حدّ الآن، هو أنّ جوهر فلسفة سارتر الوجوديّة، يتمثل في إقامة أنطولوجيا، تعتبر أنّ الحريّة هي جوهر وجود الإنسان. وهو ما يشرّع لنا القول، أنّ الفلسفة السّارتريّة تتضمن أنطولوجيا، أي نظريّة في الوجود، كما تتضمّن أنثروبولوجيا، أي نظريّة في الإنسان.

هذا التوجّه الأنطولوجي الذي ساد تفكير سارتر في بداياته الفلسفيّة، يتجلّى بصورة أعمق من خلال بحث مسألة الحريّة في علاقتها بالوجود لذاته والوجود في ذاته، وأيضا في مستوى صلتها بالقلق، العدم والموقف.

– فكيف تتجلّى المعالجة السارتريّة لإشكالية الحريّة من جهة علاقتها بأبعادها الأنطولوجية؟

2)    سارتر والخطوة القهقرى نحو هيدغير في سبيل تحليليّة الوجود

لعلّ، جوهر الفلسفة السّارتريّة، هو ما عبّر عنه كتاب : “الوجود والعدم”، المؤشّر عن بواكير نظرة فينومنولوجية للحرّيّة ، ناهيك أنّ العنوان الفرعي لهذا المؤلف هو: “محاولة في الأنطولوجيا الفينومنولوجيّة” والجدير بالملاحظة في هذا المقام، أنّ سارتر، قد وقع تحت تأثير الفلسفة الظاهراتيّة وبالتّحديد فلسفتي “إدموند هُوسّرل” (1859 – 1938) وتلميذه “مارتن هيدغير”(1889 – 1976)، من خلال قضاء الفيلسوف الفرنسي سنة [1933 – 1934] بالمعهد الفرنسي ببرلين، تشبّع  خلالها بمبادئ الفلسفة الفينومنولوجيّة التي كان لها حضورها الفعّال في المتن الفلسفي الوجودي السّارتري.

وتجد هذه الفلسفة امتداداتها النظرية الفلسفيّة في مؤلف 1943 الذي عالج فيه سارتر مسألة الحريّة في بعدها الأنطولوجي، انطلاقا من التمييز الذي قام به بين ضربين من الوجود هما: الوجود في ذاته والوجود لذاته.

  • فكيف ميّز سارتر بينهما؟
  •  ما علاقتهما بالحريّة؟

‌أ)     الوجود في ذاته: (L’Etre – en soi)

المقصود به هو الوجود الظاهراتي المتمثل في وجود الأشياء، وجود العالم ووجود الظاهرة، على أنّ ما يميّز هذا الضرب من الوجود في تقدير سارتر، يكمن أساسا في كونه وجودا غير واع، إضافة إلى أنّه يتصف بالكثافة والامتلاء، أي لا وجود لفراغ فيه.

“الوجود في ذاته يسميه سارتر الهو – هو، لأنّه وجود متطابق مع نفسه دائما، وجود كثيف متماسك، ذو قوام صلب، مظلم غارق في الظلمة، ملاء محضّ، يستمرّ دائما هكذا في ذاته لا يتصدّع ولا يقوى على مفارقة ذاته أو العلوّ عليها، إنّه أي هذا الوجود الماديّ وجود غير مخلوق لا نستطيع أن نردّه إلى علّة ولا نستطيع كذلك أن نفهمه، لأنّه وجود مبهم”([13])

إنّ هذا الضرب الأول من الوجود مساو لذاته من جهة الماهيّة وفق مبدأ الهويّة طبعا. فالوجود الظاهراتي هو إذن، وجود توقف عن الحركة، وهو لهذا يعدّ موضوعا للعلم الطبيعي، كما يخضع إلى حتمية مطلقة. وعلى هذا النحو، نفهم أنّ من السمات المميزة للوجود في ذاته، تتمثل في الكمـــال والثبات، فهو وجود قــــــار وصلب ليس فيه فجــــوات أو ثغرات. وفي هذا الإطار، يعلن سارتر منذ مقدمة “الوجود والعدم” وبالتحديد في القسم السادس والأخير منها الموسوم بــ: “الوجود في ذاته” ما يلي: “الوجود في ذاته يكون هو ما هو ولا يكون ما ليس هو، لا يتضمن أيّة سلبيّة، إنّه ممتلئ إيجابيا ولا يعرف الغيريّة”([14]).

بهذا المعنى، يبدو واضحا من خلال هذا القول الأخير، أنّ الوجود في ذاته مطبوع بطابع الثبات، فهو إذن، وجود ستاتيكي توتولوجي في صميمه. هذا هو إذن، معنى الوجود في ذاته.

  • ولكن ماهي خصوصيات الوجود لذاته وعلاقته بالحريّة؟
  • كيف تبرز الاختلافات سارتريّا بين الما هو في ذاته من ناحية والما هو لذاته من ناحية ثانية؟

‌ب) الوجود لذاته: (L’Etre – pour – soi)

يعدّ الوجود لذاته في تقدير جان بول سارتر البعد الثّاني بعد الوجود في ذاته اللذان يؤسسان للأنطولوجيا الفينومينولوجيّة التي قام عليها كتاب “الوجود والعدم”.

إنّ المقصود بهذا الوجه الثاني للوجود، هو الوجود الإنساني في المقام الأول، تكمن صفاته أساسا في الوعي والحريّة، هذا فضلا على كونه وجود ديناميكي أي خاضع للصيرورة، فهو متحرك، زماني، ينزع إلى المستقبل، متجاوز للماضي باستمرار، الأمر الذي يشرّع لنا القول، أنّ ماهيّته غير متحددة مع ذاتها. ومعنى هذا إذن، أنّه وجود ناقص بالضرورة.

وهذا النقص يحمل على معنى العدم، ما دام الإنسان قادرا على الانفصال عن ذاته وعن الأشيّاء بكلّ حريّة، هذا الانفصال يؤدي إلى المجاوزة التي بمقتضاها يكون الإنسان قادرا على خلق قيمه ونحت ملامح وجوده وماهيته، طبقا للوضعيات المتغيّرة. وبالإمكان إدراك ذلك، ضمن ما أعلنه سارتر في مستوى خاتمة “الوجود والعدم”، من خلال قوله: “الوجود لذاته يظهر كعدمنة حقيقيّة تأخذ أصلها في خضم الوجود، ويكفي بواسطة هذه الملاشاة حدوث انقلابا كلّيا في الوجود في ذاته”([15]).

نتبيّن من هذا القول الأخير، القائم على التحليل الأنطولوجي لما هو لذاته، تأكيد سارتر بأنّ الحريّة هي الإنسان ذاته. فالحدود الموضوعية التي يتكلّم عنها سارتر هي بمثابة الوجود في ذاته، أمّا الإنسان، فإنّه يمثل الوجود لذاته وهو يسأل ذاته. وهذه الصفة تميّزه أنطولوجيا على عالم الأشياء وتجعل منه كائنا يتمتّع بحريّة مطلقة ويخلق ذاته بمطلق حريّته. وفي هذا الإطار، واستنادا إلى هذه المنطلقات الفلسفيّة، تتحدّد وجهة نظر سارتر حول إشكالية الحريّة، بدءا من هذا التمييز الذي أقامه بين هاتين الجهتين الأنطولوجيتين. وهو ما جعلنا نفهم طبيعة القطعية التي رسمها الفيلسوف الوجودي بين الحريّة والحتميّة، ممّا يبرّر أنّ مقولة الحريّة تتأسس على التلقائية أي تلقائية الإنسان في تحديد اختياراته واتخاذ مواقفه بكلّ حريّة.

والآن حسبنا أن نقول، تعقيبا على ما أسلفنا ذكره ما يلــي: “الوجود الإنساني وجود – لأجل ذاته قوامه الانفصال الدائم عن ذاته وعن ماضيه والممارسة الدائمة للحريّة”([16]).

واضح من هذا القول الأخير، أنّ الإنسان في اعتقاد سارتر أفق مفتوح، ومشروع يتحقق باستمرار. فالإنسان وفق المنظور السّارتري هو كائن الانزياح والوجود خارج ذاته، إنّه ملقى به في العالم، خارج ذاته. وبالإمكان إدراك ذلك، ضمن ما أعلنه سارتر: “إنّ الإنسان هو، ما ليس هو، وليس هو، ما هو”([17]).

 نستجلي من هذا القول إذن، أنّ الإنسان هو المشروع الذي يسعى باستمرار إلى أن يكون، إنّه يتخطى ما هو كائن ويتوق إلى ما ينبغي أن يكون. ولو رمنا التكلم بأكثر تدقيق لقلنا، إنّه في حركة نقلة دائمة من طور الإمكان إلى طور التحقق الذي لا تحقق له، أي لا نقف على ماهيّة نهائيّة ومكتملة للإنسان، بل إنّه خاضع إلى مسار متغيّر بصورة مسترسلة. هذا ما نقف عليه في القول التالي:

“إنّ الوعي هو بمقتضى هذا التركيب، انفصال مستمر ومفارقة دائمة، إنّه ليس ماهيّة ثابتة، وإنما هو وجود قوامه الانفصال المستمر عن الأشياء حوله والمفارقة لذاته والتجاوز الدائم لماضيه، وهو ما يتيح للوعي حريّته الدائمة”([18]).

نستجلي من هذا الإقرار، أنّ الوجود الإنساني كمرادف للوجود لذاته، وجود له داخل وخارج، فالإنسان مثلما يذهب إلى ذلك “سارتر” هو قدرة على السلب. إنّ الوصف السّارتري للوعي، بأنّه قدرة على التعديم، هو ما يؤكد هذه الفكرة الأخيرة. فالكائن لذاته حين ينفصل عن ذاته، إنّما يكون في نهاية المطاف في رحلة بحث عن ذاته، أي عن حريّته بالمعنى العميق للكلمة. وهو ما يعني بعبارة أدقّ، أنّ الحريّة تحمل على معنى الإعدام الذي من خلاله يفلت الوجود لذاته من كلّ ماهيّة مسبقة.

وفي هذا السياق بالذات، يسعفنا “سارتر” بقوله: “دون شكّ، الوجــــود لذاته هو التــــعديم أو الملاشاة”([19]). بهذا المعنى، يبدو واضحا، أنّ الوجود الإنساني وجود مرن، الأمر الذي بمقتضاه نستجلي طبيعة هذا الموجود ككائن زئبقي لا يتطابق مع ذاته ولا يستقرّ على حال، فهو دائم الحيرة. ومن ثمّة، فإنّ كل محاولة لتحديد ماهيته أضحت ضربا من المستحيل. لذلك، فلا غرابة أن يعتبر سارتر من خلال حديثه عن الوجود لذاته، كأنما هو ظاهرة عارضة أو بمثابة ثغـــــرة أو تصدّع في صميم الوجود. وفي هذا الإطار، يبدو أنّ سارتر على حقّ، حينما أعلن بصريح العبارة ما يلي: “الوجود لذاته، ليس شيئا آخر سوى التعديم المحض لما هو في ذاته، إنّه كثغرة أو تصدّع كامن داخل الوجود”([20]).

نتبيّن من هذا الإقرار، أنّ الوجود لذاته هو الذي يتسرّب بفضله العدم إلى الوجود، ما دامت الأنطولوجيا السّارتريّة تقرّ أن الوجود لذاته هو حريّة في المقام الأوّل، وهي حريّة تتأسّس دون شك على التعديم أو الملاشاة (Néantisation). إنّ الوجود لذاته في تقدير سارتر إذن، يسلب ذاته باستمرار ويتنصل بذلك من كل ماهية مسبقة. وهذا من شأنه أن ينبّهنا إلى حقيقة هامّة، تتمثل في خصوصية التركيب الأنطولوجي للوعي بما هو قطع وإعدام للوجود في ذاته وتخطّي لما هو معطى وسلب لما يوجد.

إنّ الحرّيّة إذن، في المنظور الوجودي السّارتري ذات طبيعة أنطولوجيّة ترتبط بالوجود في ذاته.

ولا يفوتنا في هذا المستوى من التحليل، لطبيعة التصوّر الأنطولوجي في ثوبه الوجودي السّارتري بين الما-هو في ذاته والما-هو لذاته أن نتساءل إذن:

  • كيف تبرز العلاقة بينهما؟
  • أكثر من ذلك، لأيّ وجود من هذين الوجوديين ينبغي أن تنسب الأولوية أو الصدارة؟

إنّ ما يسترعي انتباهنا، ونحن بصدد دراسة طبيعة العلاقة القائمة بين الجهتين الوجوديتين، اللتين نحتتا معالم الأنطولوجيا السّارتريّة، هو التعارض والتمايز النوعي بين الوجود في ذاته والوجود لذاته. وهذا التصنيف يجد مبرّره الأساسي في قول سارتر الوارد في كتابه “الوجود والعدم”: “نجد نمطين من الوجود متميّزين جذريّا: الما-هو لذاته الذي هو الوجود الإنساني الذي يعني، هو ما ليس هو وليس هو ما هو، والما-هو في ذاته الذي هو ما هو”([21]).

هذا القول الأخير، يساعدنا على استجلاء الاختلافات الجوهريّة في مستوى هذه الثنائيّة الأنطولوجيّة التي انطلق منها سارتر. أوّلا، لابدّ لنا ونحن إزاء هذه المقارنة أن نشير إلى أنّ الوجود لذاته هو إعدام للوجود في ذاته، وشعور بنقص الوجود، والشوق إلى الوجود. على خلاف الوجود في ذاته الذي يكون في حالة عطالة مستديمة، لأنّه بكلّ بساطة هو وجود غير واع، مثلما يعبّر عن ذلك وجود الأشيّاء، وجود العالم ووجود الظاهرة، ويتصف بأنّه ملاء وغير متجزئ أو متضمن لثغرات أو فراغ أو خواء. ومن جهة أخرى، يمنح “سارتر” إلى الوجود في ذاته ضربا من الأولوية أو الأسبقية الأنطولوجية، ناهيك أنّ الوجود لذاته في اعتقاد الفيلسوف الفرنسي، لا يعدو أن يكون سوى تصدّعا عارضا في لبّ ذلك الوجود العام. إضافة إلى ذلك، يعلمنا سارتر أنّ الإنسان باعتباره كائنا حرّا أنطولوجيّا يقوم بإعدام الوجود في ذاته، أي للوجود الذي هو إمكانية خاصة للإنسان في أن يوجد.

نتحسس في هذا المستوى إذن، الخطوط المميزة لنظريّة “سارتر” في الحريّة من الزاوية الأنطولوجيّة، فالحريّة وعي والوعي حريّة. ومن هذا المنظور، فإنّ الجهد السّارتري ينصبّ حول التّأكيد على وجود شمولي والذي يكون من جهة الأشيّاء وفق نمط الوجود في ذاته، أمّا من جهة الوعي فيأخذ نمط الوجود لذاته. واستنادا إلى هذا التّحليل، نستجلي نوعا من الشرخ أو الانقسام داخل الوجود العام، ممّا يؤدي إلى ظهور هذين النّوعين الأساسيين في الوجود. فهما إذن، وجهان لنفس العملة، رغم الاختلافات الصارخة القائمة بينهما. ولهذا كلّه، جاز القول بأنّ:

“الوجود لذاته والوجود في ذاته هما وجهتان أنطولوجيتان متعارضتان تعارض الامتلاء والحتميّة مع العدم والحريّة. فالوجود الإنساني، والإنسان بما هو وجود لذاته، هو الذي يتجاوز وضعه باستمرار، وهو الذي ليس بوسعه إلاّ أن يكون حرّا”([22]).

قصارى القول هاهنا، أنّ نمط وجود الإنسان في العالم يختلف جذريّا على وجود الموضوعات، إذ يدلّ كما يشير إلى ذلك اشتقاق الفعل في اللّغة اللاتينيّة: “ek-sistere” على معنى “البروز إلى الخارج” أو “الانتصاب خارجا” أو “الانبثاق من العدم”([23]).

وعلى هذا النحو، نفهم أنّ وجود الإنسان بما هو وجود لذاته، وجود مزدوج أو له بنية مركّبة، داخليّة وخارجيّة، فالإنسان له ذات، وهو قد يتحوّل إلى ذاته يأخذ منها أو يضيف إليها ويدعّمها، فهو إذن، سلب وإضافة إلى هذه الذات. فالوجود لذاته وفق هذا المعنى، هو الوعي، وهو وجود يمكن ألاّ يكون، فهو كالحادثة سواء، يوجد بلا سبب ويعيش الحياة عن ضعف حيال الحياة ويموت بالصدفة، بينما يتجلّى وجود الموضوع على أنّه ملقى به حولنا في مكان ما، بحيث أنّ الإنسان، إمّا أن يكون شيئا غير ذاته فيندمج في عالم الأشياء ويكون كائنا في ذاته، ويسقط بذلك في وجود مبتذل، أو بعبارة أدقّ في الوجود غير الأصيل، وإمّا أن يكون كائنا لذاته فيحقق أصالته ويحافظ على سموّه الأنطولوجي على سائر الموجودات الأخرى.

إنّ الغرض الأوفى للمشروع السّارتري في هذا المستوى بالذات، التنصيص على أنّ الإنسان مشروع وجود، لكنّه ليس بمنأى عن الموضعة ومأزق التشيّئة، رغم أنّه يدرك عن وعي من هو؟ ومن سيكون؟، وماذا يريد أن يكون؟، أي أنّ الإنسان في اعتقاد سارتر يتميّز بالقدرة على التعالي وتخطّي ما هو عليه، وليست له ماهية ثابتة تحدّده، وهو يلقي بذاته في ممكنات الوجود الموضوعي بصفة دائمة.

يبدو، أنّ غاية الإنسان هو بلوغ وجودا كاملا شأن الأشياء، أن يكون وجودا في ذاته، ولكن ذلك مستحيل، لأنّه ببساطة شديدة، لا يجوز له أن يكون موجودا في ذاته، باعتباره يعيش علاقة صراع مع ذاته بهدف اللحاق بها، ولكنّه لن يتسنّى له ذلك، لأنّه كائن متزّمن بالزمان وخاضع للصيرورة.

وهو ما يعني أنّ الإنسان كائن مفتوح على أفق اللّا-متناهي ويطمح إلى بلوغ المطلق (L’absolu)، ولكنّه دوما يصل إلى الممكن، إلا أنّ رغبته المتجدّدة وإرادته التي لا تقهر وعزيمته القويّة تؤجّج نار الأمل والحلم، ممّا يدفعه إلى إعادة المحاولة وتكرارها، رغم ما يؤول إليه هذا المشهد من عبثيّة مقيتة مميتة ذات أصولا سيزيفيّة صرفة، إلاّ أنّ الرغبة في اللحاق بالذات وتحقيق كلّ إمكانات الوجود هاجسا يؤرق الإنسان باستمرار، بل أضحى رغبة توجّه الإنسان وتسيطر عليه. وهذا ما نبّهنا إليه سارتر في كتابه: “الوجوديّة مذهب إنساني” وذلك بقوله:

“إنّ الإنسان يبقى خارج ذاته. وأنّ الإنسان بارتمائه خارجا عن نفسه وبذوبانه بعيدا عن نفسه، يحيي الإنسان”([24]).

نفهم من هذا الموقف، أنّ البنية الأنطولوجيّة المتعلّقة بالإنسان في تقدير سارتر، تنبني على التجاوز والهوس الذي يتملّك الذات في بحثها عمّا ينبغي أن يكون. فالإنسان السّارتري مسكون بهمّ البحث عن الجوانب أو الأبعاد المفقودة التي من شأنها أن تساهم في بلوغ كينونته ذروتها في التحقّق، أي إرهاص باكتمال المشروع الوجودي. وفي هذا المستوى يعلن سارتر ما يلـــي:

“إنّ هذا التجاوز الذي يحدث في صميم ذاتيّة الإنسان، يدخل في تركيب الكائن نفسه، بمعنى أنّ الإنسان ليس منكمشا على نفسه مقفلا عليها، ولكنّه يعيش دوما في عالم إنساني، هذا ما ندعوه إنسانية وجودية”([25])

إنّه لخليق بالملاحظة، وفق هذا الموقف الأخير، التأكيد على الطابع المنفتح للماهيّة الإنسانيّة. فإذا، علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالقول، أنّ الإنسان ليس كينونة منغلقة على ذاتها ومنعزلة، بل إنّه ذات متطلّعة إلى المستقبل ومتجهة نحو التحققّ باستمرار.

نستخلص من خلال عرضنا للتصور السّارتري لمسألة الوجود في ذاته والوجود لذاته، أي الجانب الأول من البنية الأنطولوجيّة لمقولة الحريّة القول، أنّ طبيعة الوصف الفينومينولوجي لمملكة الحريّة في بعدها الأنطولوجي، لا يتوقف فقط، على التمييز الذي قام به سارتر بين الوجود في ذاته والوجود لذاته، بل يشمل أيضا، تركيز فيلسوفنا على إبراز نوعيّة العلاقة التي تربط مقولة الحريّة بمسألة القلق وكذلك بالعدم والموقف. فإن، جاز لنا القول، يمكننا الحديث على “نسق فلسفي وجوديّ” خاصّ بسارتر، محكوم بمنطق الترابط والتكامل، بدءا من مسألة الوجود في ذاته والوجود لذاته، وصولا إلى مفاهيم القلق، العدم، الموقف، الاختيار، المسؤوليّة، الالتزام، النّدروة، البراكسيس (الفردّي) …إلخ.

إنّ مقاربة مسألة الحريّة، لا يتمّ بطريقة عشوائيّة أو اعتباطيّة، بل يتنزّل دوما، ضمن دراسة هذه الإشكاليّة في علاقة بإحدى المفاهيم المشار إليها آنفا. ولنا أن نتساءل إذن:

  • ماهي ملامح العلاقة القائمة بين الحريّة وتجربة القلق حسب سارتر؟
  • بأيّ معنى يمكن أن تكون الحريّة مدعاة للشعور بالقلق والغثيّان سارتريّا؟

3)    الحرّيّة وتجربــــة القلق: رؤية سيكولوجيّة

يذهب سارتر في معرض حديثه عن المنزلة الأنطولوجية لمقولة الحريّة، إلى القول بصلتها الوثيقة بالقلق. ولكن قبل الشروع في الكشف عن مضامين هذه العلاقة بتحليل أبعادها ومعانيها، يتعيّن علينا الوقوف أولا عند الدلالة المفهومية لمصطلح “القلق”. وفي هذا الموضع بالذات، يجوز لنا، طرح السؤال التالي:

  • ما المقصود بالقلق؟
  • ما دلالة القلق في النّصّ الوجودي السّارتري؟

‌أ)     مفهـــــوم القلق

عندما نباشر النّظر في المعنى الاشتقاقي وصولا إلى المعاني التقنيّة والفلسفيّة لكلمة “القلق” (angoisse)، فإننا نكتشف أنّ منبتها الأصلي وجذورها الأساسية مستمدّة من: “الكلمة اللاتينية: «Angusti»، ومعناها الطريق المحصور أو المكان الضيّق. وقد أستعمل اللفظ اللاتيني للتعبير عن الانحصار والشدة والضيق (Resserrement)”([26]).

يمكّننا القول، أنّ القلق بما هو شعور نفسي، يرتبط أساسا بالفرد دون سواه من الموجودات الأخرى.

ويعرّف جان بول سارتر القلق في كتاب “الوجود والعدم”، على أنّه ذلك الدوار (Vertige) النفسي الذي يؤرق الأنا. هذا المعنى المركزي لهذا المفهوم، نستشفّه في القول التـــــــالي: “إنّ الدّوار هو القلق”([27]).

إنّ القلق شعور ينتاب الذات، لأنّه بنية دائمة للكائن الإنساني. ومن نافلة القول التذكير، بأنّ القلق لا يطابق الخوف، لأنّ الخوف بمعناه النفسي، كما بيّن لنا ذلك سارتر في “الوجود والعدم”، مرتبط بأشياء محددة وأسباب معيّنة (عاطفيّة أو غريزيّة أو اجتماعيّة). بلغة أخرى، يتعلّق الخوف بشيء ما أو بموضوع ما في العالم يكون خطرا على الذات. أمّا في القلق، فإنّ مصدر الخطر متأتّ من الوجود لذاته نفسه. ولكن، السؤال الذي يستوقفنا في هذا السياق بالذات، هو التـــالي:

  • كيف تتمفصل العلاقة بين الحريّة وتجربة القلق؟
  • بأيّ معنى، يمكن أن تكون الحريّة مدعاة للشعور بالقلق سارتريّا؟

‌ب) علاقة الحريّة بالقلق

لم يكن اهتمام جان بول سارتر بالقلق أمرا عرضيّا، بل هو وليد التّصور الذي يخصّ منزلة التساؤل الفلسفي عن الحريّة. ونشير إلى مركزيّة هذه المسألة في التناول السّارتري، الذي لم يهتم بالتحليل النفسي لمقولة القلق، بقدر ما ألقى الضوء على دوره في معاناة تجربة الوجود لدى الفرد، أي فيما يتعلّق بحريّته، وماذا يفعل بها؟ وكيف يمكن أن يحقّق وجوده؟ وما هو اختياره؟ والعبء الذي سيترتّب عليه من تحمّل مسؤوليته أمام حريّته هو بالذات أولا؟

هذه الأسئلة التي تخامر الإنسان تكون مولّدة إذن، للقلق ومعبّرة بوضوح عن الحريّة المطلقة المميّزة للفرد، هذا ما يدعّمه القول التالي لسارتر: “الحريّة تتجلّى بواسطة القلق”([28]). بهذا المعنى، يكون القلق كاشفا لوجود الحريّة، باعتبارها شعورا بالوجود. وفي القلق تكون الحريّة في وجودها موضع سؤال بالنسبة إلى ذاتها. وبالإمكان، للتأكد من شرعيّة هذا الحكم، الاستناد إلى ما أعلنه سارتر بقوله: “إنّ حرّيتي تقلق لكونها الأساس الذي لا أساس له للقيم وتقلق أيضا، لأنّ القيم التي تتجلّى لها بماهيتها، لا تستطيع أن تتجلى من غير الرجوع إلى الحريّة ذاتها”([29]).

إنّ الوجود الإنساني، بما هو وجود حرّ، يعبّر على وجود الذات أمام إمكانات متنوّعة، لابدّ أن تختار بينها، ما دامت ضرورة الاختيار لا تعدو أن تكون، سوى اختيار للحريّة. لكن الوعي يشعر بقلق كبير إزاء هذه الحريّة. فالإنسان ينتابه ذلك الدّوار النفسي عند الفعل، حينما يجد نفسه وجها لوجه إزاء ممكنات والمطلوب اختيار واحدة فقط من بينها. بل إنّ العسير في هذه الوضعيّة، هو غياب مقياس يساعد الفرد أثناء اختياراته. لذلك، يعلن ساتر ما يلي: “القلق هو نمط وجود الحريّة كوعي بوجودها، فبواسطة القلق تكون الحريّة في وجودها مساءلة لذاتها”([30]).

ومن هذا المنظور، يبرز جليّا الخيط الرابط بين مسألة الحريّة والقلق الذي يواجه الوجود لذاته. وليس القلق، إذن، سوى هذا التعثّر الذي يمكن أن يعترض الفرد، أثناء مواجهته للمستقبل المبهم الغير محدّد، أو أيضا في سعيه لاكتشاف دهاليز هذا الذي لم يأت بعد. إنّه محاولة التعرّف على وجوده واللّحاق بكينونته. وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان يتجرّع مرارة هذا الشعور البسيكولوجي المتمثل في القلق.

وفي ذات الاتجاه، يرى سارتر أنّ انفصال الذات عن ذاتها وعن ماضيها ونشدانها المستقبل يقودها إلى عيش لحظات توتّرا، قلقا أو غثيانا، نظرا لأنّ، الحياة والموت تخصّ كلّ فرد في ذاته وبذاته وتتعلّقان بحريّته. وهذا ما يسبب له قلقا دائما. وهنا ذهب سارتر إلى القول: “ينشأ القلق عندما يجد الوعي ذاته مفصولا عن ماهيته بواسطة العدم أو مفصولا عن المستقبل بواسطة حريّته ذاتها”([31]).

بيّن إذن، أن المنبع الرئيسي للقلق يعود ضرورة إلى الحريّة، سواء في اختيار الإنسان لماهيته أو لمصيره، وهنا يكون مسؤولا عمّا يأتيه من أفعال وتصرفات، الأمر الذي يولّد قلقا وجوديا لدى الفرد، لا ينتهي، إلا بانتهاء الحريّة التي لا تنتهي بدورها، إلا عند الموت. وهو ما يبرهن عليه القول التالي: “لا تستطيع أيّة حياة إنسانية أن تفلت من القلق. والقلق كاليأس علامة من علامات الوجود”([32]).

وعلى هذا النّحو، يمكن استخلاص أنّ القلق في تقدير سارتر، هو الأصل في شعورنا، ما دامت الحريّة مرادفة للوجود. وبالتّالي، استحـالة التّخلّـص من هذا الشعور. وهو ما أشار إليـه ســارتر، حينما قـال في كتابــه: ” الوجوديّة مذهب إنسانــي”: “إنّ القلق كما أفهمه هو عدم استطاعتي الاعتماد على أي تبرير لعملي واختياري، والقلق والكآبة هما شعور ناتج عن مسؤوليتي تجاه الآخرين”([33]).

يمكن القول، بأنّ القلق هو شعور المرء، بأنّ لا أحد يستطيع تعويضه في اختياراته، وأنّه مهما حاول، فإنّه محكوم عليه بالحريّة. وليس المرء حرّا في ألاّ يكون حرّا. بهذا المعنى، باستطاعتنا القول إذن، أنّ الاختيار في مدلوله الوجودي الصّرف، يعني ألا تكون مواقف الفرد خاضعة لمقولات العقل أو لتعاليم الدّين، وإنّما هي تصرّف يرتضيه كل فرد دون ضغوطا خارجيّة. هذا ما نقف عليه في القول السّارتري التـــالي: “إنّ اختيار غاياتنا حرّ حريّة مطلقة، ما دام هذا الاختيار يتمّ على غير ما أساس ومن دون أي سند. فليس هناك أسباب تبرّر الحريّة، بل الحريّة هي التي تبرّر كلّ سبب”([34]). بهذا المعنى، تكون هذه الحريّة المطلقة المسؤولة الأولى على تلك المعاناة النفسيّة التي يواجهها الإنسان، حينما يجد نفسه أمام جملة من الإمكانيات وعليه اختيار واحدة فقط. وفي ظل غياب مبدأ للاختيار أو معيارا يمكنه الاعتماد عليه، فإنّ الفرد بذلك، يكون ضحيّة قلق مقيت باستمرار، مبعثه الأساسي عمليّة الاختيار. وفي هذا السياق بالذات أعلن سارتر ما يلــــي: “أنّنا ملزمون بأن نختار ذواتنا باستمرار”([35]).

نستخلص إذن، أنّ الوجود الإنساني مشروع يتحقّق باستمرار، ولذلك فإنّ التحرّر يمثّل قوّة تحرّكه أو تحقّقه ليتحمّل الإنسان من ثمّ ثقل مسؤوليته ومصيره. وهو ما يشكّل أيضا داع من دواعي الشعور بالقلق الذي يعيشه الفرد. وهذا ما يبرز في القول التّالي: “إنّ الفيلسوف الوجوديّ يعلن أنّ الإنسان قلق أي أنّ الشخص الذي يلتزم بذاته لن يستطيع الفرار من شعوره بالمسؤوليّة العميقة وأنّ الذي يكذب ويبرّر ذلك بقوله كلّ النّاس لا يفعلون ذلك هو شخص غير مرتاح الضّمير، فالقلق لابدّ من ظهوره حتى ولو أخفي”([36]).

يبدو وفق هذا الإعلان، أنّ القلق أضحى قدر الإنسان، وبالتّالي لا مهرب منه، بل الأفضل عيش هذا الشعور النفسي والاعتراف به، ما دام لازمة للحرّيّة. غير أنّ القلق الذي يرتبط كذلك بالشعور بالمسؤوليّة، ليس عائقا أمام الفعل.  فالجندي مثلا يمكن أن يخشى مواجهة النّيران لأوّل مرّة، لكن ينتابه القلق تبعا لما يمكن أن يقوم به إزاءها – إنّه الدّوار (Vertige) الذي ينتاب المقابر أو المدمن على الكحول عندما يكتشفان أنّ رغبتهما في التخلي عن اللّعب أو معاقرة الخمرة، لم يؤدّ بهما إلى وضع حدّ للقمار أو الإدمان.

كذلك الشّأن لدى القائد العسكري الذي يشعر بثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، عندما يتّخذ قرارا بالهجوم، يدرك أنّ عددا من الجنود، قد يقتل أو يقع في الأسر، لكن ذلك لا يمنعه من الأمر بالهجوم، فلا يكون الشعور بالقلق دافعا إلى التخلّي عنه. ذلك أنّ الإنسان هو فعل، ليس مجرّد ذات مفكّرة. وبالإمكان إدراك ذلك ضمن ما أعلنه سارتر في كتابه “الوجودّية مذهب إنساني”: “فعندما يتحمّل قائد عسكري مسؤولية هجوم، ويرسل جنوده إلى مواجهة الموت […] فهو لا يستطيع إذا قرّر شيئا ما إلاّ أن يحسّ في أعماقه كآبة ما. وجميع الرؤساء والمسؤولين يعرفون جيّدا هذا الشعور، وذلك لا يمنعهم من العمل، بل على العكس، فإنّه من مستلزمات عملهم”([37]). 

بيّن إذن، أنّ القلق لا يكون مدعاة إلى السكون والخمول، ولا يكون عائقا أمام العمل، بل على العكس يعدّ شرط العمل، لأنّ كلّ من يعيش هذا القلق نتيجة مواجهته لجملة من الممكنات، يكون مجبرا على اختيار واحدة في نهاية المطاف وإعطائها قيمة مرتبطة بالاختيار ذاته.

وفي إطار معالجتنا لهذه المسألة، لا يجب أن نغفل بعض التوجهات الفلسفيّة التي تناولت إشكال القلق، من ذلك ابن مدينة “كوبنهاق” (Copenhague) الدانماركيّة “سورين كيركيغارد” (1813 – 1855) (Soren Aabye Kierkegaard)، حيث ربط الأب الرّوحي للوجودية القلق بالخطيئة. فالقلق في تقدير الفيلسوف الدانماركي يعبّر عن ضياع الإنسان أمام تناقض الفكر الديني ومثالية التفكير العقلي، وقد اعتبره قدر الإنسانيّة المشترك وعدّه علامة حيويّة الذهن وسموّ الذات. فالقلق في تقدير كيركيغارد يعزل الإنسان عن العالم، ويضع الذات المفردة في مواجهة إثمها وخطئها ومن هنا يكون القلق عنده هو: “قلق الإثم وكلّما ازداد الإحساس بالإثم ازداد القلق”([38]).

لكن، إذا كان كيركيغارد، قد ربط القلق بالخطيئة، فإنّ سارتر، رغم أنّه اتخذ من النّظريّة الكيركيغارديّة مرجعه الأول، واضعا نصب عينه البناء عليها، فإنّه من جهة أخرى، قد خلّص هذه الفكرة من رواسبها الدينيّة، ليستحيل القلق بذلك إلى شعور عام مبعثه ضرورة الاختيار نفسها. وفي هذا الإطار، يمكن العودة إلى القول التالي: “لقد أخذ سارتر هذه الفكرة (القلق) عن “كيركيغارد” الذي كان يعني بالقلق دوار الحريّة، باعتبار أنّ القلق لا ينفصل عن إغراء الخطيئة، ولكن سارتر خلّص هذه الفكرة من كلّ طابع ديني، فجعل من القلق شعورا عامّا مبعثه ضرورة الاختيار نفسها، ذلك لأنّ على الإنسان أن يختار، دون أن يكون لديه أي مبدأ للاختيار… فليس القلق هنا عبارة عن خوف من خطر معيّن، وإنّما هو تعبير عن ذلك الشعور الحادّ الذي يغمر الإنسان، حينما يتحقّق من أنّه قذف به إلى هذا العالم، دون إرادته، وأنّه قد حكم عليه بأن يختار دون أن يكون في وسعه أن يتنبّأ بنتائج أفعاله، بل دون أن يستطيع تبريرها” ([39]).

إنّ الدّوار الذي يعيشه الفرد السّارتري حسب هذا النصّ الأخير، مردّه الأساسي فعل الاختيار بكلّ حريّة.

على نفس الصعيد التّأّويلي، يجب الإشارة إلى التّحليل الفينومينولوجي الهيدغيري لمسألة القلق. ومن هنا شرعيّة التساؤل إذن:

  • كيف يبرز تصوّر هيدغير لمسألة القلق؟
  • ماهي دواعي القلق حسب المنظور الهيدغيري؟

يرى الفيلسوف الألماني “مارتن هيدغير”(Martin Heidegger) (1889-1976)، الذي انشغل بمشكلات الوجود والتقنيّة والحريّة والحقيقة، حيث تدور فلسفته حول سؤال ما الوجود؟ أنّ الإنسان يعيش القلق نتيجة وعيّه بأنّه مهدّد في كيانه وأنّ الموت يحاصره من كلّ جانب، بل ما يضاعف من حدّة هذا القلق والجزع والتوتّر الذي بات يؤرّق الفرد، يتمثل في مواجهة هذا الأخير لحتميّة هذا القدر الغاشم. فالفرد إذن، يوجد وجها لوجه أمام الموت وأنّه لا أحد يستطيع تعويضه في ذلك. فهذه الوضعيّة القصوى (الموت) تؤكّد بكلّ قوّة تناهي الإنسان الذي أضحى محاصرا في وجوده بين هذين القوسين “الحياة والموت” ولا مهرب له من المواجهة. “فالموت بالنسبة لهيدغير ليس حدثا عرضيا يأتي من الخارج، بل هو محايث للحياة ويدخل في تركيبة الإنسان ككائن من أجل الموت”([40]).

إنّ الإنسان وفق المنظور الهيدغيري كينونة متناهية، مادام الوجود هو بطبعه وجودا للموت “فبمجرّد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت”([41]).

بهذا المعنى، يمكننا القول، أنّ المبعث الرئيسي للقلق الذي ينتاب الإنسان في تقدير هيدغير، يتمثل في حدث الموت الذي يلتهم الوجود ويحوّله إلى عدم. “فالقلق ينشأ مباشرة من خلال تناهي الإنسان كوجود في العالم”([42]).

هذا القول الأخير، يكشف لنا، أنّ الإنسان كائن الزمانية، أي متزمّن بالزمان، الذي يدخل في تركيبته. “فالزمانيّة هي حالة الكائن المتزمّن بالزّمان”([43]).

ومن ناحيّة أخرى، لا يفوتنا في هذا السياق بالذات التذكير، بأنّ المسألة الأساسيّة في فلسفة هيدغير، هي تحديد: “معنى الكينونة”([44])، وهو محور كتاب (1927)“الوجود والزّمان” ((Etre et Temps (Sein und Zeit) الذي من خلاله سعى الفيلسوف الألماني إلى إظهار معنى الوجود الذي يعد من أكثر الأسئلة جذرّية ضمن الأنطولوجيا الهيدغيريّة.

إنّ أصالة الفكر الهيدغيري، تبرز في مستوى قراءته الفينومينولوجيّة من خلال تحليل الكينونة داخل الكائن أي “الدّازاين(*)“، وهو ما يسميه هيدغير “بتحليليّة “الدّازاين”. ولكن ما الذي يمكن قوله عن هذه الكينونة؟

من السّمات المميزة لهذه الكينونة، هي كينونة في العالم، وهي أيضا توجد مع الآخر في العالم، هذا إلى جانب، أنها كينونة من أجل الموت وأخيرا، هي كينونة لا تدرك، إلاّ في أفق الزّمان، بل إنّ حقيقتها حسب هيدغير هي الزّمان بأبعاده الثلاثة المستقبل، الحاضر، الماضي. ولكن ما علاقة ذلك بمسألة القلق؟

إنّ الكينونة تتجلّى من خلال هذه الأبعاد. فمن خلال علاقتها بالمستقبل، تتمثّل كينونتنا، بماهي كينونة للموت، هذا التمثّل تتولد عنه تجربة القلق التي يتولّد عنها سؤال “المعنى”؟

أي، ما الغاية من الوجود؟ لماذا نحيا؟

وفي علاقتنا بالماضي، ندرك أنّ كينونة الإنسان ملقاة في العالم. وبالتالي، فإنّ القلق الذي ينتاب الإنسان يترجم عن نفسه من خلال نوعيّة الأسئلة التالية: لماذا ألزم بالوجود؟، كذلك حول مسؤوليّة وجود ذواتنا وحول ما نفعل؟

إذا كان الفرد لم يختر وجوده، لماذا يحاسب عن أفعاله؟ وأخيرا في علاقة الإنسان بالحاضر، يدرك أنّه كينونة في العالم. ولكنّها، لا توجد في عزلة، بل تحيا داخل فضاء مشترك، أي تتقاسم الوجود مع الآخرين وتعاشرهم. ولكن ما علاقة ذلك بالقلق؟

إنّ “الدّازاين” في تقدير هيدغير يقلق في حضارة “الهُم” (Le on) أي الداسمـانات (Das-Man)، أو الناس أو أيضا بالإمكان ترجمتها بالأخر أو المبنى للمجهول. ومن هنا شرعيّة القول الهيدغيري في أقوى تمظهرا له: “الدّازاين ملقى به إلى حدّ فقدان ذاته في حضارة الهم”([45]).

مصداقا لمنظور هيدغير، يمكن القول، أنّ حضارة “الهُم” تمارس نوعا من الديكتاتوريّــة أو السلطة على الفرد وتجعله ينصهر وينخرط عفويا في هذه الحضارة. ولكن ماهي تبعات ذلك؟

هذه الهيمنة تؤدي إلى تجريد الفرد من أبعاده وتقحمه في وجود غير أصيل، أي وجود مبتذل وزائف، تغيب فيه المبادرة الذاتية، نتيجة تذويب الذات في عالم عمومي وفي وجود مشترك، حيث يتمّ فرض جملة من القيم والمعايير التي توجه حياة الفرد، الأمر الذي يؤدي إلى تحنيط الوعي وتكليسه بسقوطه في وجود غير أصيل.

 من هذه الزاوية، يمكننا القول مع هيدغير، أنّ الإنسان هو الموجود الوحيد الذي باستطاعته اكتشاف حقيقة وجوده المعرض للضياع والعدم والزوال. ولحظة الوعي هذه تقترن بالقلق والتساؤل والحيرة التي يعيشها الكائن.

قد يتّضح حينئذ، في التنظير الفلسفي الفينومينولوجي مع هيدغير، أنّ القلق لوليد هذا “الهُم” كنتيجة لمكابدة الموجود أوضاع الوجود. وهذا تترجم عنه جملة الأسئلة التي يكون فيها المتسائل هو نفسه موضوع السؤال وواضعه، مادام “الإنسان كوجـــــود في عالم هو قلق أو همّ”([46]). (Le souci).

نتبيّن إذن، بعد هذا العرض الموجز للتصور الهيدغيري لمسألة القلق، أنّ مرجعه الأساسي عرضيّة الموجود الإنساني الذي يواجه قدره، المتمثّل في الموت المعبّر بصورة واضحة على تناهي الإنسان. ويلتقي هيدغير مع سارتر في فكرة الوقائعيّة أو عرضيّة الإنسان. ولكن، ما المقصود بالوقائعيّة أوّلا؟

للإجابة على هذا السؤال، يتعيّن علينا في البداية العودة إلى كتاب “الوجود والعدم” وبالتحديد المحور الأول من القسم الثاني من هذا المؤلف وكذلك المحور الثاني من القسم الثالث وأيضا، يسجّل مفهوم الوقائعيّة
(
La contingence ou la facticité) حضوره في المحور الأوّل من القسم الرّابع.

إنّ تتبع مفهوم “العرضيّة” أو “الوقائعيّة” في هذه المحاور، يسعفنا بالقبض على دلالته، المتمثّلة حسب التقليد السارتري في حال الإنسان من حيث أنّه لا يختار وجوده، لأنّه محدود في اختياره، من ذلك وقائعيّة أنّه لا يمكن للإنسان، إلا أن يكون حرّا، وهذا معنى “وقائعيّة الحريّة”([47]). وبالإمكان، إدراك ذلك، ضمن ما أعلنه سارتر، بقوله: “نحن حريّة تختار، ولكن لا نختار أن نكون أحرار، بل محكوم علينا بالحريّة”([48]).

إنّ الحريّة إذن، تجد جذورها في الوقائعيّة المعبّرة على غياب الأساس أو التبرير الخاص بالوجود. فالوجود الإنساني في العالم لا يفسّر بأيّة ضرورة أو سبب، ولا وجود لأيّ قيمة ما قبليّة معطاة، وهذا له علاقة بالقلق حسب سارتر، حيث يعي الوجود لذاته بعبثيّة وجوده وغياب المعنى.

إنّ الإنسان حسب سارتر، ملقى به في العالم ومهمل داخل وضعيّة. وهذا الموقف يلتقي فيه سارتر مع هيدغير الذي يرى أنّ: “الدّازاين ضحيّة العرضيّة أو الوقائعيّة”([49]).

إنّ الوقائعيّة تعبّر، بمعنى ما عن الفعل التلقائي الذي يقوم به الإنسان من تلقاء نفسه أو بعفويّة خالية من كل قصد أو غاية، فثمّة نوعا من البراءة، إن جاز لنا القول طبعا. ففي ظلّ غياب جملة الدوافع الخارجيّة أو الداخليّة، الماديّة أو المعنويّة تتأكّد قيمة العرضيّة التي تميّز الوجود الإنساني الذي يخلو من كلّ تكلّف أو ضغوطات.

يمكننا القول إذن، إذا كان هيدغير قد اعتبر أنّ القلق كاشفا لوضع الإنسان الأصلي، بما هو كائن ملقى به في العالم وأنّ الفناء هو الأفق الأخير لمشاريعه، فإنّ سارتر، أكّد أنّ القلق هو قلق في مواجهة الحريّة.

قصارى القول إذن، أنّ الوصف الفينومينولوجي للحريّة يقوم على تحليل علاقتها بمسألة القلق، الذي هو قلق الفيلسوف الوجودي سارتر نفسه، إزاء تأزّم الوضع في فرنسا أثناء الحضور الألماني، وما أدى إليه من اغتصاب لحريّات الفرنسيين آنذاك وانتهاك حقوقهم والتّنكيل بالمفكّرين وبكلّ الأصوات الثوريّة التي ترفع شعارات الحريّة وتنادي باحترام سيادة الشعوب والأفراد.

إنّ المعالجة السّارتريّة لمقولة القلق في علاقتها بالحريّة، لا تنحصر في دائرة التناول التجريدي أو السيكولوجي، بل ما نستنتجه ضمنيا، أنّ الدّاعي الرّئيس للشعور بالقلق والغثيان في تقدير سارتر، هو ما يتعرّض إليه، هذا الفيلسوف الذي كان ضحيّة السجن، النفي ووقع التنكيل به، وأيضا ما كان يتعرّض له كلّ فرد فرنسي وكلّ فرد عموما في الفترة المأزومة التي شهدها العالم بين الحربين الكونيتين. ولكن، الحريّة لا ترتبط فقط بالقلق، بل إنّ هذا الأخير، يقودنا إلى العدم. لذلك، ماذا، لو اتّضح أكثر من ذلك، أنّ الحريّة تتجلّى من خلال وضعيّة الإنسان في العالم؟

إنّها، وضعيّة التساؤل، ووضعيّة النفي، وفي الوضعيتين تتجلّى كينونة العدم. وفي هذا السيّاق بالذات، يحقّ لنا أن نتساءل إذن:

  • كيف يطرح سارتر إشكاليّة الحريّة في علاقتها بمسألة العدم؟
  • بلغة أخرى، ما طبيعة العلاقة المفترضة في أفق المدوّنة السّارتريّة بين الحريّة من ناحيّة، باعتبارها الإحداث الفلسفي السّارتري الذي أصبح عنوان فلسفته ومؤشر إضافته ومشكل العدم من جهة ثانيّة؟

4)    الحريّة ومسألة العـــــدم، ما العلاقة؟

قد لا نغالي، عندما نقول، إنّ غاية المشروع الفلسفي الوجودي مع سارتر في كتابه “الوجود والعدم”، يتمثّل في مقاربة إشكاليةّ الحريّة في بعدها الأنطولوجي، معتمدا في ذلك على المنهج الوصفي الظاهراتي.

هذا ما وقفنا عليه، من خلال التمييز الذي أقامه بين: الوجود في ذاته والوجود لذاته، أو في دراسته لعلاقة الحريّة بتجربة القلق. ولكن، أيضا، يتمثّل جوهر هذه الفلسفة السّارتريّة في انشغالها بمسألة العدم وذلك بتأسيس أنطولوجيا، تعتقد أنّ للعدم كينونة فعليّة واقعيّة، مبرزة الصلة بينه وبين الحريّة.

  • فكيف تتجلّى ملامح هذه العلاقة بين مقولة الحريّة ومفهوم العدم؟

قد يحملنا الاعتقاد، على أنّ الفلسفة الوجوديّة، ليست سوى فلسفة وجود فحسب، باعتبارها تأمّلا للوجود الإنساني عامّة وإبراز لقيمة الوجود الفردي خاصّة. هذه المسلمة لا جدال فيها، بل إنّها الحقيقة البديهيّة، التي تأسّس عليها الصّرح الوجوديّ، وهي السؤال المحرّك لهذا الخطاب الذي طرح على نفسه، الانهمام بالفرد وبمشاغله ومطالبه الأساسية، التي من أبرزها مطلب الحريّة. ولعلّ، هذا ما أراد سارتر التعبير عنه، حينما أعلن في كتابه: “الوجود والعدم”: “ما نسميه حريّة هو من المستحيل تمييزه عن وجود الحقيقة الإنسانية. فالإنسان لا شيء أولا ليكون حرّا فيما بعد، لكن لا وجود لاختلاف بين وجود الإنسان ووجوده الحرّ”([50]).

إنّ هذا القول الفلسفي العميق والغني بالدّلالات وبصورة خاصّة، في إقرار سارتر بنوع من التماهي بين الأنا والحريّة التي أضحت جوهر الإنسان وحقيقته الأولى والنهائية. وبالتّالي، استحالة تصوّر فعلي وحقيقي للإنسان في ظلّ غياب شرط الحريّة. هذا الموقف، ليس بالغريب، مادامت وجوديّة سارتر، هي في صميمها فلسفة تؤكد بكلّ قوة ما للحريّة من أهميّة، ما دامت “الأنا الشخصية لكي تكون موجودة، لابدّ أن تكون حرّة، وبالتّالي، الحريّة ليست جزءا من الأنا الشخصيّة، وليست متخارجة عنها، بل هي محايثة لها، بمعنى أنها هي الأصل في الأنا الشخصيّة”([51]).

الأمر، الذي يجعلنا نقف على أنّ سلب الحريّة هو بحدّ ذاته سلب للأنا، أي سلب لوعي الإنسان بذاته، وهو ما يعني، سلب لوعي الأنا بأناه، نظرا لأنّ “الحريّة هي المركز في ديناميكية الوجود الإنساني، فلا وجود من دون حريّة، لأنّ الذات المقيّدة أو الغير ممتلكة لحريّتها لا تستطيع أن تصنع وجودها”([52]).

فليس بدعا أن نقول، أنّ السّارترية قد قامت بتذويب الكينونة الإنسانيّة في مفهوم الحريّة، التي تعدّ مقولة أنطولوجيّة محددة لماهية الوجود الإنساني.

بيد أنّ، اللافت للنظر هاهنا، أنّ الفلسفة الوجوديّة، ليست فقط فلسفة وجود، بل هي في الوقت ذاته فلسفة العدم.

وهذا ما سنحاول شرحه وإبرازه في هذا السياق بالذّات، باعتبار أنّ إثارة مشكل العدم، يمثّل جانبا هامّا في فهمنا للتناوّل السّارتري لمسألة الحريّة في بعدها الأنطولوجي الصّرف. “فالحريّة هي ذلك العدم الذي يحتّم الوجود”([53]).

إنّ تحليلا فلسفيا نادرا يفتحنا عليه سارتر في مقاربته للحريّة ومشكل العدم، حيث نعثر لديه على تخريج وجودي لافت للانتباه من خلال ربطه الحريّة بالعدم. كما سعى سارتر إلى التفكير في العدم، لا على المستوى المنطقي كنتيجة للنّفي أو السّلب، بقدر ما حاول هذا الفيلسوف التفكير فيه (العدم) من زاوية فينومينولوجيّة، أي العدم كشرط للنفي ذاته. وبالتالي، نقف هنا على معنى الأنطولوجيا السّارتريّة التي من خلالها أضحى الوجود لذاته متضمنا سلبية داخلية، حيث أنّه يعدم ذاته بذاته.

إنّ العدم في المنظوريّة الوجوديّة مع سارتر، أصبح كبنية للواقع وهو مصدر السلبية. وفي هذا السياق، يقول سارتر، ما يلي: “العدم هو الإمكانيّة الخاصّة بالكائن، بل إمكانيته الوحيدة”([54]).

إنّ الملاشاة (La Néantisation) في فلسفة سارتر، ترجمانا لفعل العدم الصّرف. ولإبراز منزلة العدم، خصّص الفيلسوف الفرنسي الجزء الأول من كتابه “الوجود والعدم” لتناوّل هذا الإشكال، هذا ما عبّر عنه عنوان ذلك القسم بـ: “مشكل العدم”. ولا بدّ من التّأكيد على أنّ وظيفة التعديم الأساسيّة تتمثّل في الكشف عن العدم وظهوره إلى جانب بقيّة الظواهر الموجودة. فالملاشاة تبيّن أنّ الفرد هو أساس فعل العدم، باعتباره يعدم وجوده الخاصّ، من خلال اتّخاذه لموقف تجاه ما يحيط به، وفي ذلك تعبير واضح عن وضعه الذي يحاول تخطيه بفرض نوعا من القيم ويسائل حضور المعنى في وجوده، وهو ما يؤدي إلى بروز الحريّة. وبالإمكان، إدراك ذلك، ضمن ما أعلنه سارتر بقوله: “الوجود لذاته هو أساس ذاته، وهو انبثاق للسلب”([55]).

إنّ الفرد إذن، يوجد على مسافة من ذاته، لأنّ خاصيّة الإنسان في تقدير سارتر، هو أنّه كائن أنطولوجي، أي كائن يطرح على نفسه مسألة الوجود، كائن يتعالى نحو الوجود انطلاقا من العدم. ومن هنا نكتشف أنّ فكرة التعالي، تعني بوضوح قدرة الإنسان على أن يتجاوز بفكره وضعه المتناهي، المعرّض لكلّ أشكال الضياع. إنّ الإنسان في تقدير سارتر يوجد دائما خارج ذاته، ويحقّق خارج ذاته إمكانيّات وغايات تتمثّل في مقولة الحريّة. لذلك يقول سارتر: “الوجود لذاته هو الكائن الذي يحدّد بنفسه وجوده، باعتباره لا يتماهى مع ذاته”([56]).

إنّ حقيقة الذّات الإنسانيّة تتجلّى من خلال حضورها داخل الوجود “كوجود غير مكتمل”([57])، بل هي تجاوز دائم لما يوجد، بهدف التطابق مع ذاتها. وهذا ما يبرز في إعلان سارتر التّالي: “الحقيقة الإنسانيّة، هي الكائن الذي هو في وجوده ولوجوده الأساس الوحيد للعدم داخل الوجود”([58]).

وفقا لهذا الموقف، نتبيّن، أنّ الإنسان هو أساس العدم الذي هو إعدام لوجوده الخاص وللوجود في ذاته عامة. فالحقيقة الإنسانيّة في اعتقاد سارتر: “هي المشروع الأصلي لعدمها الخاصّ”([59]).

ولو شئنا الدقّة إذن، لوجب علينا القول، أنّ الحريّة تتجلّى من خلال وضعيّة التساؤل ووضعيّة النّفي وفي كلا الوضعيتين تتجلّى كينونة العدم.

ومن هنا شرعيّة القول السّارتري، أنّ العدم ينكشف لنا من خلال ثلاث مظاهر على الأقل، تبرز كما يلي:

المظهر الأول: عدم المعرفة بالنسبة للإنسان الذي يسأل، فالسؤال أو الدّافع إليه، إنّما هو الجهل بالأمر. ففي وضعيّة الإنسان الذي يسأل ينكشف لنا العدم على هيئة صفر المعرفة.

المظهر الثاني: الإنسان الذي سيجيب على السؤال، قد يجيب بالإثبات وقد يجيب بالنّفي، إجابته بالنفي تضعنا أمام مظهر ثاني للعدم، إنّه سلب الوجود، باعتبار أنّ موضوع السؤال هو الوجود، والإجابة بالنفي، تعني نفي الوجود أو سلب الوجود.

المظهر الثالث: موضوع السؤال وهو بالأساس الوجود الإنساني، ولكي نفهم هذا الموقف، ارتأينا العودة إلى كتاب “الوجود والعدم” حيث يسعفنا “سارتر” بجملة من الأمثلة، مثلما وردت بوضوح في الجزء الثاني من المحور الأول المعنون: “بأصل النفي”، حيث يعرض سارتر مثال أول، على النّحو التالي: “إذا تعطّبت سيارتي، فإني أتساءل هل يكون ذلك العطب في المحرّك أم في جزء آخر”([60]). ويضيف الفيلسوف الوجودي مثالا آخر، وهو: “إذا توقفت ساعتي عن الاشتغال، فإنّ ذلك يجعلني أسأل ساعاتي عن أسباب ذلك التوقف”([61]).

ما يهمّنا في هاذين المثالين، الإجابة التي يفترضها سارتر ففي المثال الأوّل، حول التساؤل عن مصدر العطب. فإنّ السؤال يتضمّن وجود العدم وقيامه قياما موضوعيّا، إمّا في المحرّك أو في أي جزء آخر من السيّارة.

وبعبارة أدقّ، فأنا أتوقّع أيضا ألّا أجد العطب في المحرّك على نحو ما افترضت للوهلة الأولى، إلا أنّه بتساؤلي عن العدم، أكون قد شرعت لوجوه. ففي حديثنا عنه نكون قد منحناه وجودا. وبالتالي، المفارقة تكمن، أنّنا في البداية كنّا أمام اللاوجود الذي بحديثنا عنه أضحى وجودا.

وفي مثال آخر، كان قد أشار إليه سارتر في “الوجود والعدم” “هل أنّ “بيار” (Pierre) في المقهى؟”([62]).

في قولنا، ليس “بيار” في المقهى، لذلك نسلب عنه وجوده، ذلك هو المظهر الثاني لسلب الوجود أو بالأحرى، انكشاف العدم على هيئة سلب. لذلك يقول سارتر: “إذا دخلت المقهى أبحث عن “بيار” الذي هو في انتظاري، فإنّ اتجاه تفكيري متّجه نحو صورة هذا الصديق، وهو ما يجعلني لا أرى في المقهى كلّه، بما يحتويه من كراسي وطاولات وأشخاص، إلا صورة هذا الصديق”([63]).

نستجلي من هذا المثال السّارتري، أنّ توقعي رؤية صورة “بيار”، تجعلني أقوم بإلغاء وجود الأشيّاء ووجود الأشخاص الذين يزخر بهم المقهى. وعمليّة هذا الإلغاء تؤكّد تضمن الوجود للعدم.

هذا الوصف لغياب “بيار” (Pierre) عن المقهى، يبدو أنّه يحمل معه عدم وجود المقهى كلّه ويذهب صاحب “الوجود والعدم” إلى القول: “أنّ عدم حضور “بيار”، يتراءى وكأنّه قائم قياما موضوعيّا في المقهى”([64]).

إنّ الغرض النهائي من هذا المثال، هو التأكيد على أنّ لحظة التساؤل تكشف عن حضور فعلي للعدم وقيامه موضوعيا في الوجود، بل الأجدر القول، أنّ العدم هو الأساس الذي يبرز من خلاله الوجود، أي الأسبقية الأنطولوجية للعدم بما هو أصل الوجود.

وانطلاقا، ممّا ورد ذكره من أمثلة سارتريّة، نخلص إلى أهميّة التساؤل أو الموقف التساؤلي في حديثنا عن مشكل العدم.

يبدو، أنّ سارتر كان محقا في توجيه أنظارنا إلى أهميّة السؤال، باعتباره من مقوّمات الخطاب الفلسفي برمّته. وهو في هذا، لم يكن سوى تلميذا وفيّا لهيدغير الذي غرس فينا محبّة السؤال، فجعله تقوى الفكر، بل اشترط الفيلسوف الألماني لممارسة فعل التفلسف معرفة فعل السؤال، أي معرفة الانتظار ولو حياة كاملة.

ومن المهمّ أن نشير من جهة أخرى، إلى أنّ العدم لا يأتي قبل الوجود، ولا يأتي بعده، وليس خارجه، بل هو يسكن الوجود، إنّه بعد من أبعاده. وفي هذا الموضع بالذات، يقول سارتر بصريح العبارة في: “الوجود والعدم” ما يلـي: “الإنسان هو الكائن الذي يحلّ معه العدم في العالم”([65]).

لا يدع لنا مثل هذا التصريح السّارتري مجالا للشكّ، بل يمكننا من الوقوف على طبيعة العلاقة التي أقرّها الفيلسوف الوجوديّ الفرنسي بين الحريّة ومفهوم العدم. فالإنسان في تقدير سارتر، هو الكائن الوحيد الذي بفضل حرية الانفصال عن ذاته وعن العالم يقحم العدم داخله.

إنّه لخليق بالملاحظة القول، أنّ العدم سارتريّا، يعاشر الوجود ويطيل الإقامة بينه ووسطه، ويستمع إلى همسه في تعاطف ودّي، بل إن جاز لنا القول، أنّ العدم ينخر قلب الوجود، إنّه تصدّع يصيب صميم الوجود، أو هو يفتح ثغرة في الوجود تنبثق من خلالها الحريّة. وفي هذا الإطار بالذات، يرى سارتر: “أنّ العدم ليس فقط باطنا في نسيج الوجود، بل يرى أنّه سابق على كلّ الوجود. فالأصل هو العدم والوجود مقتبس من العدم”([66]).

نخلص إذن إلى القول، أنّ العلاقة التي رسمها “سارتر” بين الوجود والعدم، هي علاقة شرطية، تلازميّة، شأنها في ذلك شأن تلازميّة الليل والنهار أو “كثنائيّة النّور والظلمة”([67]).

هكذا نتبيّن، أنّ الوجود يولد من رحم العدم، فثمّة لحظة مخاض، بما تنطوي عليه من ازدواجية الممتع المؤلم في التباس مأساوي، يؤدي إلى نتوء أو انبثاق الحريّة التي من خلالها يحلّ العدم في العالم.

وبناء على ذلك، يعدّ العدم كبنية للواقع هو منبع أو مصدر السلبية. وههنا، نصل إلى الأنطولوجيا السّارتريّة التي أضحى فيها الكائن لذاته متضمنا سلبية داخلية، حيث أنّه يفني ذاته بذاته. وبالتالي، نصل إلى المظهر الثالث: وهو العدم الذي يتجلّى من خلال فعل التحديد وهو ما يتجسد باللغة. فبواسطة الجواب نحدّد مجالات معيّنة ونقصي مجالات أخرى، أي سلبها أو إعدامها. وهو تأكيد واضح على دور النفي أو السلب الذي يؤسس العدم. ويلاحظ سارتر في كتابه “الوجود والعدم”، أنّ العدم يتجلّى من خلال فعل النفي (أدوات اللغة التي تفيد السلب: ليس، لا، لم). وهو ما يطرح مشكلا هو التّالي: العدم هل له كينونة فعليّة أم أننا نفترض وجوده من خلال وعينا بقدرتنا على النفي، نفي الأشياء ونفي الآخرين؟

ندرك أنّ لنا قدرة لغويّة على سلب الأشياء، من هذه القدرة نشتق الوجود الفعلي للعدم. ولكن، الأهمّ من كلّ ذلك، أنّ هذا التصوّر الأخير يعتبره سارتر جزئيا. ففي تقديره، أنّ العدم لا يوجد داخل اللغة فحسب، بل له وجودا موضوعيا، بالاستقلال عن اللغة، إنّه ينكشف في حالة الانتظار. “فالإنسان الذي يسأل ينتظر من الآخر الإجابة. وهذه الأخيرة قد تكون بالسلب والنفي”([68]). ومعنى ذلك أنّ الذي ينتظر الجواب بالسلب ينتظر عد ما. وأوّل ما نبادر إليه في هذا المضمار إذن، أنّ العدم في تقدير سارتر ينكشف في الوجود الإنساني على هيئة “هشاشة” بعبارة سارتر، بمعنى هشاشة الوجود الإنساني، أي قابليته إلى أن ينكسر ويتهشم.

ذلك، ما يتجلّى، من خلال الوعي الإنساني بعبثيّة الوجود، أي غياب المعنى. وهو ما يبرّر، ذلك الشعور المرير الذي يعيشه الفرد بعد وعيه، بانعدام وجود أيّة غاية للعيش والوجود. وأنّ الصدفة هي التي تتلاعب بمصير الإنسان.

الإنسان الذي يعي بعبثيّة وجوده، هو إنسان يعيش العدم ويعيش فراغ المعنى، مادام الإنسان سارتريّا، هو الكائن الذي يحمل معه العدم إلى العالم، عبر السؤال والنفي وعلى هيئة غياب المعنى. هذا الموقف السارتري من مسألة الحريّة والعدم، يحيلنا ضرورة إلى المرجعية الفينومينولوجية في صيغتها الهيدغيرية، ناهيك أنّ السارتريّة، قد انفتحت على التصور الفينومينولوجي للعدم مع هيدغير. وبالتالي، لنا أن نتساءل إذن:

كيف تتجلّى المعالجة الهيدغيريّة لمسألة العدم؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال تحتاج منّا العودة إلى ما ذكره سارتر في “الوجود والعدم”، حينما خصّص بعض الصّفحات للحدّيث على التناوّل الهيدغيري لمسألة العدم. ونقف على ذلك بوضوح في القسم الرّابع من المحور الأوّل من كتاب “الوجود والعدم”، المعنون “بالتصوّر الفينومينولوجي للعدم”. ولكن، أيضا لابدّ من العودة لبعض نصوص “هيدغير” ونخصّ بالذكر محاضرته الافتتاحيّة بجامعة فرايبورغ تحت عنوان: “ما الميتافيزيقا؟”، التي ألقاها هيدغير يوم 24 جويلية 1929، بمناسبة تعيينه أستاذا بها خلفا لأستاذه هوسرل. وقد تضمنت هذه المحاضرة تساؤلا عن العدم، وشرحا لمفهوم القلق، وبيانا لصلة العدم بالسلب، ودفاعا غير مباشر عن الميتافيزيقا، التي قال عنها “هيدغير”، أنّه لا يمكن تعريفها، إلا من خلال الاشتغال بمسألة من المسائل التي أثارتها الميتافيزيقا تاريخيّا ومن بينها مسألة العدم وعلاقة هذا الأخير بالوجود.

إنّ انهمام هيدغير بإشكاليّة العدم يشرّع لنا، استدعاء مقاربته التي رأينا فيها الإرهاصات الأولى على أساسها أمكن لسارتر تحديد تمشيه من خلال تبني المنهج الفينومينولوجي في “الوجود والعدم”.

إنّ التوغّل في الاستدعاءات الهيدغيريّة لمحاولة فكّ رموزها هو الكفيل الوحيد لتحديد خطوط التمايز والالتقاء لكلا المرجعيّتين في تناول علاقة الحريّة بمشكل العدم. فأوّل ما يطالعنا به “هيدغير” في محاضرة “ما الميتافيزيقا؟” إقراره بضرب من التلازم بين مقولة القلق ومسألة العدم. هذا ما يتجلّى من خلال القول التالي: “القلق يكشف عن العدم”([69]).

وعلى ذلك، فإنّ القراءة الظاهراتيّة للفيلسوف الألماني تؤكّد، أنّ العدم ليس فكرة وليس تجريدا ذهنيا، بل هو جزء من تسمية الواقع الإنساني. فالعدم في تقدير هيدغير إذن، ليس فكرة نكونها، وليس موضوعا موجودا قائما بذاته إلى جانب الموجود بوجه عام، بل هو عنصر جوهري أصيل يدخل في مقوّمات الوجود. والعدم يكشف عن نفسه في حالة القلق التي تجسّد الحالة الوجوديّة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.

نتحسس في هذا المستوى إذن، الحظوظ المميّزة لنظريّة هيدغير في مقاربته لمسألة العدم. ولعلّ، الإضافة الفينومينولوجية الهيدغيرية، تكمن في الانتقال من معالجة العدم كفكرة إلى مستوى الظاهرة.

والآن، حسبنا أن نقول، تعقيبا على ما أسلفنا مع هيدغير: “دون التمظهر الأصلي للعدم، لا وجود للكائن الإنساني ولا للحريّة”([70]).

بين من خلال هذا الموقف، أنّ العدم يمثل أصل الحريّة، بما أنّ الذاتية أو الفرديّة تقتضي الحريّة كنتيجة ضروريّة لها.

يشدّد هيدغير إذن، على أنّ العدم، يمثل عنصرا جوهريّا مكوّنا للوجود، لأنّه يدخل في تركيبته. وبذلك لا يمكن القول أنّه ضرب من الوهم، ولا شرعيّة للاستهجان به ومصادرته بتعلّة أنّه غير موجود، ناهيك أنّ “العدم حسب هيدغير يحمل الوجود في أحشائه”([71]). بهذا المعنى، يبدو أنّ العدم هو الذي يفتح لنا العالم، لأنّه وحده الذي يعطينا إمكان الإقامة بالوجود. وكلّ كائن لا يمكن أن يكون، إلّا في معبد الوجود. وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأنّ هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبّر عن نفسه.

إنّ العدم إذن، بيت الوجود، الذي يسكنه الإنسان وفيه يتخذ كلّ شيء مكانه. وتكون الحريّة هي التي تؤسس لكينونة الكائن. لذلك، يرى هيدغير، أنّ العدم هو أصل الحريّة، بما أنّ الإنسان يراهن على الحريّة باستمرار. ومن هنا، سعى هيدغير إلى التأكيد على الصلة الوثيقة بين الوجود والعدم. إذ أنّ العدم يقول الوجود، كما أنّ القاضي يقول القانون. ومن هذا المنطلق، يتراءى لنا، أنّ العدم يقوم بعمليّة شرخ في مستوى الوجود، مما يساعد على انبثاق الحريّة من خلال تلك الفتحة الأنطولوجية التي تمثل الوسط الذي منه تنبثق الحريّة.

يذهب هيدغير إلى الإقرار، أنّ العدم هو ما سيكون، وهو ما لم ينكشف بعد من كينونة الإنسان أو ماهيته. فالحياة الإنسانيّة. بهذا المعنى، حركة داخل العدم، بل بعبارة أدقّ، يجوز لنا القول، أنّ الحياة هي الوجود الذي يلتهم العدم أو بالأحرى العدم الذي ينكشف وفي انكشافه يصبح وجودا. “إنّ العدم داخل في تكوين الوجود، باعتباره شرط تحققه، ولذلك يعتبر هيدغير، أنّ العدم جزء من الوجود”([72]).

نفهم من هذا القول الأخير، أنّ الحياة الإنسانية بهذا المعنى، حركة داخل العدم بما هو الأفق الذي لم يدرك بعد، أي لم يصبح بعد وجودا. وموقف الإنسان غالبا إزاء العدم هو القلق، الرّعب، الحيرة، التوتر، الارتباك، التذبذب، كلّ ذلك إذن، يعبّر عن منزلة الموجود هناك في علاقته بكينونته وفي علاقة بما لم ينكشف بعد منها. فالواقع الإنساني في اعتقاد هيدغير يلفه العدم، يسبقه ويحدّده في شكل قلق والإنسان ينتبه إلى منزلته باستمرار من جهة ماهي منزلة داخل العدم والفلسفة ليست سوى تأمّل في الواقع الإنساني، التأمل في منزلة الدّازاين أي الموجود هناك في العالم في تمزقه بين الوجود والعدم، بين ما هو وما ليس هو. ولكن، المقاربة الأنطولوجية لمقولة الحريّة، لا ترتبط فقط بالعدم، بل لها صلة وثيقة بالوضع.

  • فما الوضع في النصّ الوجودي السّارتري؟
  • على أيّ نحو تفهم طبيعة العلاقة القائمة بين الوضع والحرّيّة سارتريّا؟ 

5)    الحرّيّة والوضع، كيف؟

أكّد سارتر على صلة الحريّة بالوضع، فهي لا تتجلّى فقط من خلال العدم أو تجربة القلق، بل تبرز في جملة وضعيات أو مواقف، على أنّ السؤال، الذي يطرح هنا، هو التالي: ما الوضع حسب سارتر؟

‌أ)     في دلالة الوضع: (La situation)

يرى سارتر، أنّ الوجود لذاته، يوجد دوما في وضع، بفعل علاقات التواصل الممكنة، بينه وبين الآخرين، سواء أكانوا ذواتا أخرى مقابلة، أو بيئة أو تاريخ…إلخ.

ولقد يكون من المفيد، قبل أن نناقش جزئيّات التصوّر السّارتري، حول القرابة القائمة، بين قيمة الحريّة والوضع، أن نتوقف قليلا عند معنى الوضع أوّلا.

يثير الفيلسوف الفرنسي هذه المسألة بالذات، في القسم الرّابع، من مؤلف: “الوجود والعدم”، وتخصيصا في المحور الأول المعنون: “الوجود والفعل: الحريّة”. وتدقيقا في العنصر الثاني منه، تحت عنوان: “الحريّة والوقائعيّة: الوضع”، حيث عرّف سارتر الوضع، بقوله: “الوضع هو وقائعيّة الحريّة”([73]).

يبدو أنّ، انخراط الوجود لذاته في العالم، وفق المنظور السّارتري، هو نتاج الوقائعيّة وطريقة الفرد في قبول عرضيته والتأثير فيها. كما، نعثر في محاضرة “الوجوديّة مذهب إنساني”، على تحديد واضح لمفهوم الوضع، حيث يشير، في اعتقاد سارتر، إلى أنّ: “كلمة وضع تعني مجموع الحدود القبليّة، التي ترسم وضعيّة الإنسان الأساسية في الكون”([74]).

وممّا ورد، نخلص إلى أنّ الوضعيات، حسب التحديد السّارتري، يفيد جملة الظــروف أو البنى العينيّة: المكانيّة والزمانيّة، التي تحدّد وجود الإنسان في العالم. ويذهب سارتر، إلى القول، في ذات المحاضرة: “الوضع هو مجموعة ظروف مادية وتحليليّة نفسيّة وهذه المجموعة تستطيع في عصر معيّن أن تحدّد مفهوم الوضع”([75]).

ويشدّد سارتر في إثارته، لهذا المشكل على حقيقة هامّة مفادها، الاختلاف أو التنوّع، الذي يطرأ على الوضعيّات التاريخيّة. فالإنسان، في تقدير هذا الفيلسوف الوجودي، يمكن أن يولد عبدا في مجتمع وثني أو نبيلا إقطاعيّا أو بروليتاريّا، ولكن، الشيء الثابت، هو اضطراره إلى أن يكون كائنا في العالم، منخرطا في العمل وإلى أن يعيش فيه مع الآخرين وأن يكون فانيا. ومن هذا المنطلق، أعلن سارتر، ما يلي: “الحدود تكون موضوعيّة، لأنّنا نلتقي بها في كلّ مكان وقابلة للمعرفة، وهي ذاتيّة، لأنّها تعاش، وهي لا تعني شيئا، إذا لم يعشها الإنسان”([76]). نتبيّن من هذا الإعلان السّارتري أنّ جملة الحدود أو المواقف هي في نفس الوقت ذاتيّة وموضوعيّة، بمعنى أنّ هناك دائما موقف اختياري ذاتي ما حيال موضوعيّة تلكم الحدود، يتمثل في تطويرها أو التأقلم معها أو نفيها والثورة عليها. يروم سارتر من خلال ما ذهب إليه التنصيص على انعدام طبيعة بشرية قارة تكون مرجعا عاما مشتركا لتحديد السلوك الأمثل والفعل الأفضل والخيار الأضمن أكسيولوجيا. فالإنسان في تقدير سارتر مشروع وماهيّة تاريخية مكتسبة من خلال الفعل والحياة والمغامرة وأنطولوجيا العلاقة.

 إنّ الوجود لذاته لا يتعيّن كائنا حرّا في وجوده، إلّا من جهة علاقته بهذه الحدود أو الوضعيّات، التي يعيشها ويكون في مواجهة مباشرة معها. وهذا، ما أشار إليه سارتر، بقوله: “لا قيمة لأيّ مشروع أو أيّة فكرة، إذا لم يُحيّها الإنسان بأن يعيشها (…)، لذلك، فإنّ أيّ مشروع، مهما بلغ من الذاتيّة، فإنّه يحافظ على قيمة عامـّـــة أو كونيّة”([77]). نستجلي من هذا الإقرار أنّ كلّ مشروع مهما كان فرديا إنّما يحوز وجوبا قيمة كونيّة، بمعنى أنّ كل مشروع هو قابل لأن يفهم من طرف أي إنسان.

استنادا إلى التّحديدات الواردة، يبرز الوضع، على أنّه بنية مزدوجة تخصّ الفرد، مادام الوضع هو وضعي أنا، أي قرار خاصّ بالفرد وكذلك يستوجب الوضع حدودا موضوعيّة. فالفرد، لا يتّخذ موقفا هكذا بعفويّة وفي فراغ ممكن، وإنّما، لابدّ من توفر حدّا وجوديّا تصطدم به الذات. وهو، ما يقودها إلى اتخاذ قرار بشأن الوضعيّة التي توجد فيها.

هذا هو إذن، معنى الوضع في المنظور الوجودي السّارتري. ولكن، الجدير بالملاحظة في هذا المقام، هو عدم التغافل عن الخيط الرابط بين الوضع والحريّة. فالأسئلة، التي تؤرقنا هنا، هي التاليـة:

  • ماهـي بنــى الوضع؟
  • ما مدى مشروعيّة حدّ الحريّة بالوضع حسب التحليل الوجودي السّارتري؟
  • أليس من الخلف تقييد الحريّة بالوضع والحال أنّ حريّة الفرد سارتريّا مطلقة لا حدود لها سوى الحريّة نفسها، أم أنّ الوضع هو ما يمنح حريّة الفرد معناها؟

‌ب)  في بُنى الموقف وعلاقتها بالحريّة

أولى سارتر بنى الوضع في ترابطها بمقولة الحريّة، اهتماما لا يقلّ شأنا عن باقي المسائل الأخرى. وذلك انطلاقا من قوله: “الإنسان كائن في مواقف – في العالم – وأنّه يدرك الواقع محدّدا نفسه بالنسبة إلى الوضع”([78]).

في تقدير سارتـر إذن، الفرد هو دوما في وضع خـاص أو موقف معيّـن، مادامت: “الوجوديّة كما تعرّف هي فلسفة الوضعيّات يبزغ فيها السلوك تلقائيّا”([79]).

يحلّل سارتر بدقّة كبيرة بُنى الوضع المختلفة في نفس المحور، الذي أشرنا إليه سابقا. وبالإمكان، ذكر تلك البنى، كما أوردها فيلسوفنا في كتاب: “الوجود والعدم”. وهي تتوزّع كالآتـي:

  • مكاني: (Ma place)
  • ماضيّ: (Mon passé)
  • محيطي: (Mes entours)
  • قريبي: (Mon prochain)
  • موتي: (Ma mort) *

أوّل ملاحظة نخرج بها، هو أنّ هذه البنى تمثّل حدودا موضوعيّة للوضع، تعبّر عن الوجود في ذاته كجهة أنطولوجيّة أولى من جهات الوجود العّام.

لنتوقف قليلا عندها، واحدة بواحدة، رغبة منّا، في حدّها وتبيان علاقتها بالحريّة.

  • مكاني: (Ma place)

والمقصود به، الإطار الجغرافي، الذي ينشأ فيه الإنسان. ويحدّد سارتر مكونات المكان (كالوطن، تربته، مناخه، ثرواته…).

فالفرد إذن، يشغل حيّزا في المكان. وهذا ما عبّر عنه سارتر بقوله: “لا يمكن ألاّ يكون لي مكانا في العالم، وإلّا أكون في موضع تحليق”([80]).

يؤكّد سارتر على أنّ الفرد في تواصل مع الإطار المكاني. ومن هنا، فإنّ التجربة الوجوديّة للإنسان، تبرز بوضوح أنّ الوجود لذاته يتجسّد في العالم ويتّخذ منه مجالا للإقامة ومنه ينطلق نحو لقاء الآخرين ومعاشرتهم. وينضاف إلى المكان دور الماضي بما هو شاهد على تجربة الفرد في الوجود.

فكيف يتجلّى تصوّر سارتر للماضي كبعد من أبعاد تاريخ الوجود لذاته؟

  • ماضيّ: (Mon passé)

يمثّل الماضي في اعتقاد سارتر، الجذور والرواسب والتراكمات القيميّة والأبنية النفسية، اقتصاديّة – اجتماعية. ويتكوّن كذلك من نمط أسروي ونظم سياسيّة، قيم، عادات، تقاليد وجملة المعتقدات الأسطوريّة والدينيّة، إضافة إلى تراث فنّي وأدبي…

إنّ هذه الجذور من حيث هي متغلغلة في أعماق الفرد والشعوب، تبرز هذا الثقل والطابع السلطوي للماضي على الإنسان. ولكن، بإمكاننا التساؤل مع سارتر:

إلى أيّ حدّ يكون من المشروع التسليم بهذا التصوّر لعلاقة الإنسان بتاريخه وماضيه؟

إذا كان التسليم بهيمنة الماضي على الفرد يؤدي إلى إحباط المبادرة الإنسانيّة وإلى تبرير اليأس والقنوط، وهو ما يجعله يمارس سلطة وضغطا موضوعيّا على حاضر الأفراد والمجتمعات، فإنّ التصور الوجودي مع سارتر يؤكّد على قدرة الوجود لذاته في تحقيق وعيا نقديا بماضيه، يسمح له بالتحكم في حاضره ويرسم الآفاق المستقبليّة لسيرورة تحرره. وفي هذا الإطار، فإنّ الماضي لا يشكّل محدّدا موضوعيا من محدّدات حاضرة، بل لا يتعدى كونه كائنا في ذاته بمستطاع الإنسان (فردا أو مجموعة) أن يتّخذ منه موقفا ما، كأن يعدم ماضيه ليصنع نفسه على نحو آخر، تبعا لمشروع مغاير. ومن هنا قال سارتر: “الحريّة اختيار وتغيير”([81]).

ندرك هكذا، أنّ الحكم في إشكاليّة علاقة الإنسان بماضيه مرتبط بتصوّرنا لإشكاليّة الحريّة عامة. وأنّ هذا الأخير مشروط بدوره في نهاية التّحليل بالتصوّر الأنطولوجي الذي قام به سارتر عن الإنسان والوجود عامّة. وهذا ما يتوضّح أكثر في علاقة الفرد بمحيطه.

  • محيطي: (Mes entours)

يحذّرنا سارتر من مغبّة الخلط بين ما يحيط بنا من أشياء وظواهر طبيعيّة وبين المكان الذي يحتله الوجود لذاته. ويعمد سارتر إلى إبراز الفوارق الجوهرية بين هذه الحدود باعتبارها وضعيّات يعيشها الإنسان ومسألة الحريّة.

فالفرد باعتباره حريّة، بإمكانه إعدام هذه الحدود وتجاوزها بتغيير مكانه، أو اتّخاذ مواقف مغايرة. على خلاف الأشيّاء التي تحيط به، فهي محكومة بحتميّة كونيّة وبنظام سببي ثابت وقار.

يؤكّد سارتر أنّ انفصال الوجود لذاته عن جملة الأشيّاء والظواهر التي تحاصره هو ما يمنح الوجود العام معناه. يقول سارتر: “لا حريّة دون وضع، ولا وضع، إلاّ بالحريّة”([82]).

  • قريبي: (Mon prochain)

يحدّد سارتر دلالة قريبي على أنحاء عدّة فهو يقصد بها: الآخر، أدوات الاستعمال، آليات التواصل، المهنة، الإقليم، الوطن، العائلة. ويؤكد سارتر استقلاليتها عن الإنسان، بل يذهب إلى الإقرار بنوع من المقاومة التي تميز الأشياء والآخر عموما. ويركّز سارتر بالخصوص على قيمة اللغة، بماهي أداة تأمين التواصل. ولكن، ما يهمنا من كل ذلك هو أنّ هذه الحدود التي تعدّ وضعيات تواجه الوجود لذاته، لا تقف عائقا أمام حريته.

يتعلّق الأمر إذن، بالنظر والحكم في قضيّة أساسيّة هي إشكاليّة الحريّة في بعض من أبعادها: علاقة الإنسان بمكانه، ماضيه، محيطه، قريبه، وأيضا بحدث الموت.

  • موتي: (Ma mort)

يعدّ الموت البنيّة الأنطولوجيّة للوجود، بل وجهه الآخر، اعتبارا أنّ الإنسان يوجد بين الحياة من ناحية والموت كحدّ ثان. ولكن يفاجئنا سارتر بموقف فيه من الغرابة والطرافة على حدّ السواء. فهو يعترض بوضوح على التوجه الهيدغيري القائل بأنّ الموت هو الإمكانيـّة القصوى الخاصّـة “بالدّازايـن”. وذلك انطلاقـا، من موقفه القائــل: “الدّازاين بقدر ما هو موجود – متجه – نحو الموت لا يستطيع إلّا أن يقاسي الموت كإمكانيّة للمستحيل بدون حدود للوجود”([83])نفهم من هذا الموقف الهيدغيري بأنّ الوجود، هو وجود للفناء (Sein-Zum Tode)، بمعنى أنّ قدر الإنسان هو الموت. وكأنّه خلق ليفنى ولا لغاية أخرى. وبالتالي، تبدو الحياة هي حياة للموت، وأنّ الوجود برمّته هو وجود للموت كأعلى إمكانيات الوجود. وهذا من شأنه أن يقلّل من حريّة الفرد ويعدمها تماما. لذلك يتساءل “سارتر” قائلا: هل يشكّل الموت عائقا أمام حريّتي؟

يرى “سارتر” خلافا لمعهود التّأويل الـهيدغيري أنّ الموت حدث عرضي، رغم أنّ الوجود الإنساني لا يفلت من التناهي. وبالتّالي، فإنّ الموت واقعة جائزة، مرتبطة بوقائعيّة الوجود لذاته، بما هو كائن موجود دون سبب ولا أساس. أمّا التناهي، فهو البنية الأصليّة للذّات. لذلك لا يجب التفكير في الموت ولا انتظاره، ولا حتّى اتّخاذ موقف تجاهه. بهذا الموقف الأخير، يريد سارتر تحصيننا من القلق إزاء واقعة الموت وذلك بتعليق الحكم تجاهها بمعناه الرّيبي حتى ننعم بالطمأنينة أو السّكينة (Ataraxie).

نخلص إذن، أنّه بين أنطولوجيا الحياة وميتافيزيقا الموت تتشكّل حريّة الفرد. وقد نتوهم أنّ المواقف المختلفة تبدو للوهلة الأولى مجالات لاغتراب الذات وضياعها، إلّا أنّ سارتر يكذّب ذلك، من خلال تأكيده على تعالي الذات وانتصارها على المواقف بفضل الحريّة. وعليه، خلافا لإنسان الفلسفات المثاليّة الكلاسيكيّة (كانط) تنظر الفلسفة المعاصرة إلى الإنسان على أنّه دائما في وضع ( (en situationويتعيّن عليه أن يتحمّل فيه مسؤوليته وينجز المهامّ المطروحة عليه بكلّ حريّة. والوضع في تقدير سارتر لا يكون موضوعيّا خالصا بل يكتسب معناه وحتّى واقعيته من حريّة الذّات التي تعيش فيه. ذلك أنّه لا معنى للعالم، في فلسفة سارتر الوجودية، دون فعاليّة للذّات، وفي فلسفة مثل فلسفة سارتر، فإنّ الذّات هي التي تمنح العالم معنى. اعتبارا من كون الإنسان هو فعل بالدّرجة الأولى، وأنّ هذا الفعل في المحيط يتماهى مع فهم هذا الأخير كما هو. أو بألفاظ أخرى هو في ذات الوقت كشف للواقع وتحويل له.

خليق بالقول أنّ التصوّر الوجودي السّارتري، يستقي جذوره من موقف الفيلسوف الألماني “كارل ياسبرز”. فكيف يتحدّد الموقف الوجودي الياسبرزي من قضيّة الحريّة والوضع؟

 في تقدير الفيلسوف الوجودي الألماني ابن مدينة أولدنبرغ “كارل ياسبرز”، (karl jaspers) (1883-1969)، الإنسان هو دوما في وضع خاص وموقف محدّد، بوصفه جسما معيّنا وينتمي إلى ماضي معيّن. وكذلك يواجه الفرد مواقف نهائيّة أو حديّة بلغة “ياسبرز”: الموت، العذاب والصّراع. وهي مواقف لا يمكن أن يفلت منها الإنسان. وفي هذا الصّدد، قال “ياسبرز” ما يلي: “الموقف النّهائي الأوّل هو بلا شكّ الوجود في وضع”([84]).

لقد كان التّأثير الفلسفي الياسبرزي، واضحا على الأطروحة السّارتريّة، وذلك من خلال التقاء كلا المرجعيتين في تأكيدهما على أنّ الحريّة لا تنمو، إلّا في ظلّ وضعيّات، بفضل حريّة الاختيار التي يتمتّع بها الوجود لذاته.

وقول “ياسبرز” التّالي، يبرهن على صحّة ما أوردناه: “لكي تكون الحريّة ذاتها، ينبغي أن تندمج في العالم، وأن تتخذ على عاتقها وضعيات لم يكن لها حقّ اختيارها، وأن تنمو بالاستناد إلى هذه الوضعيّات”([85]).

يثمّن “ياسبرز” دور الفرد الذي يسهم بكلّ حريّة في إنتاج تاريخ العالم، باتّخاذه مرتبة أسمى من الوضعيات التي يمكن أن يسجن بينها، ليكوّن تصورا خاصّا وذاتيّا حول الحياة. وهنا قال “ياسبرز”: “احتمال هذه الوضعيات النهائيّة (Situations – limites)، والتمسّك بها طواعيّة واختيارا، تتعالى عليها الحريّة وتتجاوزها في الوقت نفسه الذي تحقق فيه ذاتها. وهذه سمة الوجود الأصيل”([86]).

هذا هو، مضمون تصوّر “ياسبرز” لعلاقة الحريّة بالوضع. لقد اجتهد كفيلسوف وجودي، في ترجمة محنة الوجود الأساسية التي تتجلى في تجربة الفشل، الشرّ والعذاب… باعتبارها وضعيات قصوى تشهد على نقص في الوجود. وعلى هذا المنوال، يتحدّد الموقف الوجودي الياسبرزي كمرجع نهل منه سارتر.

ونقترح تأويلا فلسفيا ثانيا لعلاقة الحريّة بالموقف أو الوضع. فمن خلال وصفه لجملة البنى، ألا يكون سارتر ساعتها هذا الفيلسوف الفينومينولوجي بامتياز، الذي وضع نصب عينيه وصف تجربة الوجود لذاته وصفا ظاهراتيّا صارما؟

ففي تأكيده على طبيعة الحوار المتجدد بين الأنا والآخر، بين الإنسان وعالمه، ألا يكون سارتر عندها قد طبّق بعض المفاهيم المميزة للتيار الفينومينولوجي ونقصد بذلك: أولويّة الإدراك والوجود المتجسد، من خلال علاقة التفاعل والمشاركة بين الفرد وباقي الموجودات الأخرى.

ألا يظهر هنا، على أنّه هوسرليّا دون منازع؟

ألم يذهب إلى التأكيد، ولو بصورة ضمنيّة على أهميّة “القصد” (intention)، الذي يحكم علاقة الوجود لذاته بالأشياء الخارجيّة، على نحو ما قال به إدموند هوسرل: “كلّ حالة وعي هي وعي بشيء ما”([87])، أي هو وعي قصدي، يتحدّد باعتباره توجّها نحو العالم والأشياء، وذلك بانفتاح الذات على عالمها الخارجي.

ذلك هو معنى التصوّر الفلسفي السّارتري لأنطولوجيا الحريّة، القائم، كما سبق وأن حلّلنا ذلك، على نفس فينومينولوجي كان على إثره سارتر متعقبا خطى هوسّرل، وهيدغير… فكيف يبرز المنظور الأكسيولوجي والسياسي للحريّة عند سارتر؟

الفصل الثالث:

في المنظور الأكسيولوجي والسياسي للحرّيّة

1)      الحرّيّة أساس كل القيم؟

التناوّل الفلسفي الوجودي لإشكاليّة الحرّيّة، يأخذ معناه من حيث قناعتنا بأنّ الحرّيّة سارتريّا، ليست فقط إشكالا مفهوميّا، بل هي أيضا، ذات أهميّة قصوى، باعتبارها رهان كلّ ممارسة. فنحن نراهن على الحريّة في كلّ نشاطها وفي كلّ أوجه حضورنا العملي في العالم: العمل، الأخلاق، السياسة… إنّ الحرّيّة لتبدو إشكالا فلسفيّا، من حيث أنّها قيمة أساسيّة نراهن عليها في كل ممارسة عمليّة، ذلك أنّنا ننشد من خلال كل وضع خاصّ الحرّيّة من أجل الحرّيّة.

إذا أردنا، أن نتعمّق أكثر في مستوى بحثنا في الحرّيّة وعلاقتها بالمنظور الأكسيولوجي، فحقيق أن نسأل عن مدار المشكل القائم في الأسئلة التّاليّة:

  • أيّة علاقة تربط الحريّة والقيم؟
  • أيّ إنسان هذا الذي تقوم حياته على أساس قيمي؟
  • بأيّ معنى يمكن أن تكون الحريّة المرجع الأصلي لأخلاقيّة الفرد؟
  • هل فعلا يمكن العثور لدى سارتر على مؤلف فلسفي مدار اهتمامه المسألة الخلقيّة؟

لو تخيرنا، أن نبدأ من حيث انتهينا، قلبا لمنطق التمشي المعهود، سلاحنا في ذلك حريتنا التي تروم التحرّر من المألوف، متوخين منهج ديالكتيكي دائري المسار، يمكننا القول، أنّ ما هو جدير بالملاحظة وملفت للانتباه، أنّ الفيلسوف الوجودي الفرنسي قد طالعنا في خاتمة كتابه “الوجود والعدم”، بالتوّجه المعلن لــ “عمل قادم” يحدد كماهيّة له تأسيس أخلاق وجوديّة، لم يصلنا في الواقع شيئا من هذا القبيل، بل قد لا يكون من التعسف القول، بأنّ ما كتبه في الحقيقة كان أقرب إلى التاريخ ومنه إلى علم الاجتماع. ونقصد بذلك كتابه “نقد العقل الجدلي”،
 المؤلف سنة 1960. ولكن، لا ينفي أنه قدّم محاولة من خلال كتابه الذي نشـر بعد وفاته بعنــوان “كراسات لأجل الأخلاق”
 (ِ
Cahiers pour une morale)، التي كتبها خلال سنتي 1947 – 1948. ومن جهتنا، ارتأينا الاستناد إلى مؤلّف 1943. وكذلك حاولنا العودة لمحاضرة: “الوجوديّة مذهب إنساني”.

إنّ ما ينبغي أن نترصّده في حواف هذه المسألة، هو أنّ السؤال عن العلاقة بين الإنسان والقيم، يستدعي سؤالا يدعو إلى فحص فعاليّة الذات في هذه المجالات أو في البعض منها. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي تخيّر لأفعاله أساسا قيميّا بكلّ حريّة. وهو ما أشار إليه سارتر ذاته في “الوجود والعدم”، حيث قال: “إنّ حريتي هي الدعامة الوحيدة للقيم، فليس ثمّة شيء يمكن أن يلزمني بأن أتخذّ هذه القيمة أو تلك…”([88]).

يظهر جليّا، أنّ الإنسان الواضع للقيم قد آمن بأنّ مصير الإنسان بيد الإنسان وأنّ الذات الإنسانيّة ليس لها خيارا، سوى تأسيس وجودها النوعي والسمو بذاتها إلى منزلة تكون فيها جديرة بإنسانيتها. هذا المطلب، يرتهن كليّا بشرط الحريّة التي تمنح الوجود عامة معناه، ممّا يدعونا إلى القول بأكثر تدقيق أنّ: “الحريّة توجد في مستوى الوجود الإنساني، وهي التي تمنح الإنسان معنى وجوده”([89]). 

ونحن نرى أنّ الفلسفة الوجوديّة مع سارتر حاولت ملاقاة ذاتها، من خلال إعادة الاعتبار للقول الأخلاقي عبر الواقع الإنساني للفرد. وذلك أنّ هذا الفيلسوف قد قارب هذه الإشكالية على طريقته وبفنّه الفلسفي الخاص من خلال بعض الشّذرات أو الإيحاءات المتناثرة، التي عثرنا عليها في بعض مؤلفاته، من ذلك موقفه التالي المعلن عن نفسه في محاضرة: “الوجوديّة مذهب إنساني”، حيث يقول سارتر: “عندما أعلن أنّ الحريّة – عبر كلّ ظرف ملموس – لا يمكن أن يكون لها من هدف سوى أن تزيد ذاتها – ومادام الإنسان قد أقرّ بأنّه يضع قيما بلا سند، فإنّه لا يستطيع أن يريد شيئا آخر سوى حريّته، باعتبارها أساس كلّ القيم”([90]).

إنّ غرضنا من هذا القول الأخير، أنّ الأخلاق الحقّة في صيغتها الوجوديّة مع سارتر، لا تكون، إلا بعودة الإنسان لذاته وتحقيقه لإنسانيته. وبما أنّ جوهر الإنسان هو الحريّة، فلا غروى، أن يكون الواجب الأخلاقي السّارتري استجابة لمبدأ الحريّة.

ما يراهن عليه سارتر إذن، أنّ الفرد ليرى بواجب أخلاقي متموضع خارج ذاته، وإنّما هو ملزم بدافع أخلاقي مستقر في كنهه ذاته. وهذا ما نتبيّنه في موقف سارتر حين يطرح المسألة ضمن ما يسميه بأخلاق الظرف. وهو ما يتوضح في الإقرار التالي: “إنّنا ننشد – من خلال كلّ ظرف خاصّ – الحريّة من أجل الحريّة”([91]).

وعلى هذا الأساس، ألا يحقّ لنا، أن نعتبر مع سارتر، أنّ المسألة الخلقيّة، إنّما هي في نهاية المطاف مسألة الحريّة ذاتها، التي تعتبر شرطا للحديث عن فضاء أكسيولوجي. ومن هذا المنظور، يلغي سارتر كلّ مرجع لقيمة كليّة حيث يقول: “هذا فإنّني أفعل لا طبقا صوّر وعي أخلاقي متموضعة، وإنّما طبقا لما أنا أقرّه بشكل حرّ ما عليّ الالتزام به. ومن هنا أجدني آخذ عليّ مخاطر ما أنجز من فعل وفي هذه الحالة أكون مبتدعا للقيمة الأخلاقيّة لفعلي”([92]). 

إنّ مصدر القيم هي الذات وتكون هذه القيم نسبيّة، عدا قيمة الحريّة، التي تضفيها الذات على ذاتها، حيث تعتبرها الغاية القصوى: “الحريّة من حيث هي تعريف للإنسان”([93]).

وتبعا لذلك، يتجلّى واضحا، أنّ الفضاء الأكسيولوجي يبقى مشروطا بحريّة، هي في ذات الحين غاية قصوى، فتصبح قيمة قصوى (الحريّة). فالفعل الأخلاقي هو فعل مشروط بالحريّة، أي أنّه فعل حرّ، مادام الإنسان في أفق التصوّر الوجودي السّارتري ذات حرّة وإرادة مستقلّة، ولأنّه كذلك، فهو يصنع عالمه ويجسم بذلك كينونته الإنسانيّة الحقّة. فالإنسان حسب سارتر، قد تخيّر بناء سلما قيميا، اعتمادا على إرادته الحرّة، وهو تأكيد على قدرة الذات المبدعة التي تستطيع أن تضفي على أحداث الحياة معنى بوضعها نموذجا قيميّا يتوافق مع الحياة ذاتها ويبرهن بجلاء على تسامي الإنسان عن حياة الغريزة التي يشترك فيها مع الحيوان، ليرقى إلى مستوى الوجود الإنساني الحقّ، الذي يضمن له سموّه الأنطولوجي بفضل الحريّة.

وعليه، يتحوّل سارتر من الطرح المفهومي لمشكل الحريّة إلى الطرح الوجودي له. ولكن، يبقى علينا أن نشير إلى الملاحظة التاليّة: إذا كان الفرد يختار قيمه بكلّ حريّة، فإنّ ذلك يعمّق من مسؤوليته ومواجهة ما يترتّب عليها من عبء.

فالحريّة اختيار، والاختيار مسؤوليّة، والمسؤوليّة ضرب من الالتزام، تلك هي إذن، بعض الخطوط الكبرى التي سوف نعمل على تتبعّها في بعض عناصر بحثنا. ومن هنا، شرعي لنا أن نتساءل:

  • كيف يبرز الموقف الوجودي لسارتر من مسألة الحرّيّة في علاقتها بالمسؤوليّة؟
  • هل في اعتبار الإنسان كائنا حرّا، ما يتعارض مع كونه مسؤولا؟ 

2)      دُرُوبُ الحريّة وإيتيقا المسؤوليّة بيـن سارتر وجُوناص

‌أ)     ما المسؤوليّـــة ؟: (La Responsabilité)

تعدّ المسؤوليّة واحدة من الأفكار التي تتألّف منها النظريّة الأخلاقية، مثل، القيمة، الواجب، الضمير الأخلاقي، الحساب، الجزاء، الثواب، الفضيلة والسعادة، التي تمثّل النسيج الأخلاقي. ومن جهة ثانية، لابدّ من الإشارة إلى أنّ مقولة المسؤوليّة تتخذ وجهان: وجها مدنيا يتعلّق بالقضاء ووجها أخلاقيا يتعلّق بأفعالنا الخاضعة للمعايير الأخلاقية. ويحظى هذا المفهوم بمكانة مركزيّة في فلسفة سارتر الوجوديّة ذلك أنّ: “أوّل ما تسعى إليه الوجوديّة هو أن تضع الإنسان بوجه حقيقته، وأن تحمّله بالتالي المسؤوليّة الكاملة لوجوده”([94]).

واضح من خلال هذا القول، أنّ فكرة المسؤوليّة ترتبط بالتّصور الفلسفي الذي نكوّنه عند الإنسان، باعتباره حريّة أو لا يكون. وهذا ما شدّد عليه سارتر في قوله التالي: “إنّ الإنسان لا يمكن أن يكون تارة حرّا وطورا عبدا، إنّه دوما وبأسره حرّ أو لا يكون”([95]).

وينبغي أن نشير إلى ملاحظة هامة، أنّ من أبرز الشروط التي تفترضها المسؤوليّة هي: الحريّة، إذ لا يمكن أن نتكلّم عن المسؤوليّة، إلّا إذا اقترنت بالحريّة، أي أن يكون الإنسان عاقلا، راشدا ومالكا لحدّ أدنى من المعرفة، مثال معرفة بالمبادئ الأخلاقية، لقيم اجتماعية لما هو خير ولما هو شرّ. وبالتالي، فإنّ انتفاء فكرة الحريّة يقود إلى انتفاء فكرة المسؤوليّة.

لو رمنا التكلّم بدقّة وبأكثر وضوح، يمكننا القول، أنّ سارتر تناول بالدرس والتحليل مقولة المسؤوليّة في القسم الرابع من كتابه: “الوجود والعدم”، وبالتحديد في المحور الأوّل منه المعنون بـ “الوجود والفعل: الحريّة”، وبأكثر تدقيق في الجزء الثالث من ذات المحور الحامل لعنوان “الحريّة والمسؤوليّة”.

والجدير بالأهميّة هاهنا، أنّ الفيلسوف الفرنسي يذهب إلى تعريف مقولة المسؤوليّة، بقوله: “نحن نفهم لفظ “المسؤوليّة” في معناه المتداول بماهي وعينا بكوننا بلا منازع الفاعلين لحدث ما أو لموضوع ما”([96]).

يعتبر سارتر أنّ الفرد مسؤول عمّا يحدثه من أفعال، فهو مسؤول مسؤوليّة مطلقة، مادام الإنسان في اعتقاده: “قد حكم عليه بأن يكون حرّا، يحمل على عاتقه ثقل العالم بأسره، فهو مسؤول على العالم، ومسؤول على نفسه، باعتباره كيفيّة في الوجود”([97]).

إنّ فكرة المسؤوليّة إذن، هي اعتبار الفرد الحرّ مسؤول أمام ذاته عن تصرفه واختياره، واعتبار سلوكه مسؤوليّة عظمى، لكونه محدّد وجوده الذاتي ومحدّد الوجود الإنساني عموما. فالمسؤوليّة تفترض أنّ الفعل له سبب وأنّ هذا السبب مصدره ذات فاعلة، أي الإنسان، لذلك فهو يتحمّل تبعات أفعاله. وهو المسؤول الأوّل والأخير عنها. وفي هذا المستوى بالذات، أعلن سارتر ما يلي: “إنّني مسؤول عن كلّ شيء، باستثناء عن مسؤوليّتي ذاتها، لأنّني لست أساس وجودي”([98]).

بيّن، أن المسؤوليّة تفيد البحث عن هويّة صاحب الفعل وتحميله مسؤوليّة نتائج أفعاله، ليكون بذلك موضوع محاسبة سلبا أو إيجابا. وهو ما يبرّر الارتباط الحاصل بين فكرة المسؤوليّة وفكرتي الثواب والعقاب.

إنّنا نجازي أو نعاقب صاحب الفعل، أي ذاك الذي صدر عنه الفعل بكلّ حريّة ووعي وإرادة. وهذا يعني، افتراض ضربا من الهويّة الثابتة لدى المسؤول. بل، الطريف في الأمر، أنّ سارتر يصعّد من مسؤوليّة الفرد ليصل بها إلى أقصى درجاتها، وقوله التالي، يدعّم ذلك، إذ قال سارتر: “فأفظع وضعيات الحرب، وأقسى أشكال التعذيب لا تخلق حالات لا إنسانيّة، بالخوف وبالهروب وباللجوء إلى السّلوكات السحريّة وحدها أقرّر ما يكون لا إنسانيّا. لكن هذا القرار هو إنساني وأتحمّل، مسؤوليّته التامة”([99]).

لقد أقام سارتر ترابطا أنطولوجيا بين الحريّة والمسؤوليّة في بنية الموجود الإنساني. وبالتالي، فإنّ الوجود لذاته مسؤول مسؤوليّة مطلقة لا حدود لها سوى المسؤوليّة ذاتها، رغم أنّه ذات مهملة في عالم بلا معنى، إلا أنّه مجبر على اختيار ما سيكون عليه وجوده بنفسه دون عون خارجي، باعتباره حريّة في جوهره. ومن هنا، يرفض فيلسوفنا كل أنماط التبريرات، أو التشكّي، ممّا يحدث، لأنّه حسب سارتر: “لا معنى إذن، للتفكير في التذمّر، بما أنّه لا شيء غريب عنّا قد قرّر ما نشعر به أو ما نعيشه أو ما نحن عليه”([100]).

نصل إذن، إلى القول، أنّ الإنسان في نظر سارتر لا يفلت من المسؤوليّة، ما دامت الحريّة ماهيته وقدره الأزلي الذي لا مهرب منه. وهذه الفكرة تتجلّى بأكثر شفافيّة في تحليل فكرة المسؤوليّة من خلال عمليّة الاختيار. هذا ما سنسعى إلى مقاربته وإبرازه في العنصر الموالي. وعليه، فإنّ الإشكال الذي يستوقفنا هنا، يتمثّل كالآتــي:

  • ماهي ملامح العلاقة القائمة بين حريّة الاختيار وفكرة المسؤوليّة حسب المنظور الوجودي السّارتري؟
  • أكثر من ذلك، إلى أيّ مدى، يمكن الإقرار مع سارتر أنّ الإنسان حرّ دوما في اختياراته؟

‌ب) في تلازم حريّة الاختيار والمسؤوليّة

لمّا كانت حريّة الفرد، تكمن فيما يختاره لذاته من مشاريع، وهو أمر يضع الفرد أمام أعسر الاختيارات، فإنّ صعوبة الاختيار هي التي تحدد مسؤولية الفرد تجاه الإنسانيّة جمعاء. وفي هذا الإطار بالذات، ذهب سارتر إلى القول: “عندما نقول أنّ الإنسان يختار نفسه بنفسه، نعني بالتالي، أنّ الإنسان الذي يختار نفسه، إنّما يختار تبعا لذلك جميع البشر”([101]).

إنّ الإنسان وفق المنظور الوجودي السّارتري، هو المسؤول وحده عن اختياراته وتحديد المصير الذي يريده لنفسه، ولا يوجد معه من يتحمّل تبعات أفعاله أو أسباب فشله. ومن هنا، يبدو واضحا، أنّ الفرد في تقدير سارتر، قد ترك لنفسه، ووجوده قد أودع بين يديه، وما حريّته، إلا تلك القدرة الذاتيّة على تكوين نفسه واختيار أسلوبه في الحياة. وذلك أنّ: “الاختيار أو الحريّة هو الفعل الأصلي الذي به ينبثق الوجود الفردي، هو فعل العلوّ الذي تخرج به “الأنا” إلى العالم لتضع نفسها في مجال أصيل تبدع فيه نفسها”([102]).

ولهذا، فالحياة الإنسانيّة، ليست سوى اختيار مستمرّ للذات في كل لحظة من لحظات وجودها. وهذا ما أبرزه سارتر في قوله التالي: “إنّ الاختيار ممكن وهو الشيء الذي لا نستطيع إلّا أن نفعله”([103]).

وعلاوة على ذلك، نلاحظ أنّ الاختيّار في تقدير سارتر، يرادف الحريّة. وعندما يختار الفرد، فهو يفعل، وكلّ اختيار مسؤوليّة منوطة بعهدة الإنسان وعليه تحمّل أعباءها. ما دمنا: “لسنا أحرار في ألّا نختار أو في عدم اختيار الحريّة، بما أنّ الحريّة ذاتها اختيار”([104]).

لا يسعنا هنا، إلّا أن نوافق جان بول سارتر، فيما ذهب إليه، من تأكيد على قيمة الفرد وعلى أنّ أسمى مثل يجب أن يحقّقه هذا الأخير، هو حريّته في تحديد مصيره وخلق قيمه. ولا يجب علينـــا أن ننسى من جهــة أخــرى، أنّ “الاختيـــار قــدر أو حتميّة([105]). مفاد هذا القول الأخير، أنّ الحريّة التي نتخيّرها هي قدرنا، إنّنا لسنا أحرار في أن نختار، لأنّه ببساطة كبيرة، إنّ عدم الاختيار هو اختيار.

واضح إذن، أنّ الاختيار (Le choix) في أفق المرجعيّة الوجوديّة السّارتريّة يعني ألّا تكون مواقف الفرد خاضعة لمقولات العقل أو لتعاليم الدين وإنّما هو تصرّف يرتضيه كلّ فرد دون ضغوطات خارجيّة أو داخليّة. وهو ما يعمّق من مسؤوليّته، لأنّه لا وجود لأي مرجع قيمي يستطيع الإنسان التعويل عليه لتحقيق القيمة الخلقيّة لأفعاله أو لتبريرها، بل إنّ الإنسان هو المشرّع الأساسي لقيمه والمحدد الفعلي لقراراته واختياراته عموما. فالإنسان، إذن، ذات حرّة وإرادة مستقلّة، ولأنّه كذلك فهو يصنع عالمه ويجسّم بذلك كينونته الإنسانيّة الحقّة بعد أن تحرّر كليّا من سلطان القدر الميتافيزيقي (الإله) ومن سلطان الميل الغريزي. وفي هذا الموضع بالذات أعلن سارتر ما يلي: “ليس معنى الحياة إلّا نتيجة لاختياري”([106]).

إنّ حريّة الاختيار في مدلولها السّارتري، تعني أساسا الاختيار دون رويّة أو تدبّر عقلي، ودون رسم هدفا أو معرفة مسبقة أو ما قبليّة بالغاية التي يرمي إليها الإنسان من وراء أفعاله. ومن ناحية ثانية، ليس بمستطاع أحد أن ينهض بممارسة حريّتي عوضا عنّي، بل أنا مسؤول عن نفسي، ولا مجال للتستّر بجملة من الأعذار والتبريرات للتخلي عن حريّتي، لأنّ تلك الحريّة هي وحدها أساس وجودي باعتباري كائنا ملقى به في العالم ومهمل دون إرادته وحكم عليه أن يختار ويتحمّل نتائج هذا الاختيار. ولكن، الاختيار سارتريّا، هو اختيار الإنسان لماهيّته ولجملة قيمه الأخلاقيّة داخل حدود النوع الإنساني. فهو لا يستطيع أن يختار أن يكون زهرة أو حصانا. فالاختيار هو اختيار لموقفه، أن يكون شجاعا أو جبانا أو ثوريّا. والحريّة تشعره بالمسؤوليّة. وفي هذا السياق، أعلن سارتر ما يلي: “إنّي أمام موقف محدّد يجب أن أختار (…) وباختياري لهذا الموقف أتحمّل مسؤوليّة الاختيار”([107]).

فالإنسان في نظر سارتر ليس شيئا آخر سوى ما يخلق من نفسه. ولهذا، فهو يحاول دائما تجاوز ذاته، باعتباره كائنا موجودا في ذاته إلى كائن موجود لذاته. ولذلك يستطيع ممارسة حريّته بواسطة اختياراته لأفعاله ومواقفه والتزاماته. فالحريّة كما علّمنا سارتر إذن، هي ذلك الفعل التلقائي الذي يعبّر عن ماهيّة الذات أثناء اختيارها لأفعالها وخلقها لمصيرها. ولهذا فالإنسان يتحمّل وحده مسؤوليّة اختياراته. وهذا ما يتوضّح من خلال القول السّارتري التّالي: “إنّني لمسؤول عن كلّ شيء، مسؤول إلى أبعد الأعماق عن الحرب كما لو كنت أنا الذي أشعلتها”([108]).

نستجلي من هذا القول الأخير، أنّ الفرد الحرّ مسؤول أمام ذاته عن تصرّفه واختياره، واعتبار سلوكه مسؤوليّة عظمى لكونه محدّد وجوده الذاتي ومحدّد الوجود الإنساني عموما. فالموقف الذي يختاره الفرد لنفسه ينسحب على كلّ البشر، لأنّ اختيار الإنسان لذاته هو اختيار للإنسان، أي لنموذج الإنسان المطلوب. ولهذا ما دام المجتمع ولا أيّ شيء آخر لم يتدخل في تحديد حريّتي، كذلك لا يجوز أن أحمّله مسؤوليّة نتائج اختياراتي. ومردّ هذه المسؤوليّة المطلقة عند الوجوديين عامّة والسّارتريّة على وجه أخصّ، هي نتيجة تفكيرهم في حريّة مطلقة منبثقة من ماهيّة الإنسان، متمثّلة في خلق الإنسان لقيمه ولذاته. وهذا ما يتجلّى على نحو رشيق، في قول سارتر التالي: “فأنا أستطيع أن أريد الانتساب لأحد الأحزاب، أو أريد تأليف كتاب أو أريد الزواج، وكلّ ذلك ليس إلا مظهرا من مظاهر اختيار أصلي (choix original)”([109]).

وبيت القصيد في هذا المضمار، أنّ الإنسان هو الذي يخلق قيمه ويضفي معنى على العالم بفعله وإرادته. فالإنسان رغم أنّه يشترك كما سبق وأن قلنا مع بقية الموجودات في صفة الوجود، إلا أنّ خصيصته أنّه يختار وجوده، فهو وجود لذاته، على عكس المنضدة أو أي شيء آخر لا تختار وجودها. فالإنسان يختار لها وجودها. وذلك مصداقا لمنظور سارتر القائل: “الإنسان يختار أخلاقه”([110]).

وفي ذات الاتّجاه يضيف الفيلسوف الفرنسي قائلا: “إنّ الإنسان وحده خالق القيم وباعث الحياة في كلّ ما يختاره من أعمال بكامل حريّة”([111]).

والأهمّ هنا، أنّ حريّة الاختيار، قد تجلّت بشكل واضح في النصّ الوجودي السّارتري من خلال الوضعيّة الحرجة التي واجهها تلميذا طلب النصيحة من سارتر، زمن الحرب إن كان عليه أن يلبي واجب الوطن ويلتحق بالجبهة أو أن يبقى إلى جانب أمّه المريضة التي لا سند لها سواه. ولكن، سارتر لم يسعفه بحلّ، بل ترك له حريّة الاختيار إزاء هذا الموقف المحرج. ولكن، السؤال المقلق والمحيّر، الذي يداهمنا في معرض حديث سارتر عن حريّة الاختيار في علاقتها بالمسؤوليّة هو:

  • كيف تعامل سارتر مع جملة الحتميّات السيوكولوجيّة والسوسيولوجيّة التي تواجه الفرد أثناء عمليّة الاختيار؟

إذا شئنا، طرح السؤال من زاوية أخرى أكثر وضوحا، حريّ بنا القول:

  • ما منزلة الدوافع الذاتيّة والموضوعيّة أو الفيزيقيّة والميتافيزيقيّة، إذا علمنا أنّ الحريّة السّارترية لا تقيم وزنا لمختلف أشكال هذه الحتميّات واستخفافا بواقع الإنسان الملموس؟

لو تخيّرنا الإجابة عن هذا المشكل المطروح بكلّ وضوح، بعيدا عن منطق التعقيد والتكلّف، بإمكاننا القول إذن، أنّ صورة الإنسان الوجودي على نحو ما قال بها سارتر بدت متحرّرة من شتّى أنواع الحتميّات. فلا هو كائن خاضع لسلطان قيمي ميتافيزيقي، كأن يسلم الفرد بضرورة الخضوع إلى سلطة لاهوتيّة. ولا هو، أيضا كائن خاضع لسلطة القيم الاجتماعيّة، ولا يوجّه بالحتميّة السيوكولوجيّة المتمثّلة في ضغط الغرائز وجملة الدوافع اللّاواعيّة. وقد لا نشطّ إذا قلنا أنّ: “الحريّة الوجوديّة هي في نهاية الأمر دائما عبارة عن “اختيار” – هي اختيار من المحال تبريره بواسطة بواعث أو دوافع، ولكنّه يؤكّد نفسه ويصنع ذاته بوصفه علّة نفسه في الفعل الذي يعبّر عنه”([112]).

ما يسترعي انتباهنا، أنّ وجوديّة سارتر ترفض كليّا الضغط على الفرد، وذلك بمصادرة كلّ قيد وكلّ ضرورة خارجيّة أو داخليّة (الله، الطبيعة، الجسم، المجتمع، اللّاوعي…)

فهي تقطع مع مختلف أشكال الوصايا والتبعيّة ومع جملة الإملاءات التي ترى فيها نفيا لحريّة الإنسان وتقييدا لإرادته وسلبا لإنسانيته، بتجريده من القدرة على الفعل والخلق. وعلى هذا النّحو: “بغير حريّة الاختيار، لا وجود للحريّة”([113]). هذا من شأنه، أن يساعدنا على الظفر بالصورة الحقيقيّة للفرد الذي حلم به سارتر، وذلك من خلال وعينا: “أنّ الإنسان مقيّد بالحتميات، والضرورات، ولكنّه يندفع إلى فرض حريّته عليها، فيتعانق في داخله الحتمي والاختياري والقدر والحريّة، عناقا رهيبا رائعا هو شرف الإنسان وخاصّته دون سائر المخلوقات”([114]).

يبدو لنا إذن، بعد هذا التحليل الذي قمنا به، أنّ الحريّة هي وجه من وجوه التعبير عن مسؤوليّة الفرد في إبداع ذاته وصنع تاريخه والقطع مع أشكال الاستعباد المتربّصة به. كما يتسنّى لنا أيضا، الوقوف على دور الإرادة بماهي قوام اختيار أفعالنا بكلّ حريّة. وفي ظلّ غياب الإرادة أو الرّغبة والعزيمة في إنجاز الفعل، لا نستطيع بلوغ أهدافنا وغاياتنا. ولعلّ ما يؤكّد هذا الموقف الأخير قول سارتر في [الوجود والعدم]: “إنّ هذه الصّخرة مثلا لن تكون عائقا بالنسبة إليّ، إذا كنت أريد – مهما كان الثمن بلوغ قمّة الجبل”([115]).

نستنتج من هذا القول ملاحظة أساسيّة، وهي قدرة الوجود لذاته على التحدي بفضل حريّة إرادته التي لا تقهر، من أجل تحقيق مشاريعه، مادام: “الوجود وجود أفعال، والأفعال لا تحدّث بغير اختياري”([116]).

لعلّه، بالإمكان الآن، وفي هذا المستوى من التحليل استشراف خصوصية القراءة السّارترية لهذا الإشكال، الذي استوجب ضربا من إعادة النظر في التصورات القائمة على قناعة مفادها: أنّ الأفعال النّاجمة عن الأهواء هي أفعال لا إراديّة وغيرة حرّة. وأيضا، مدرسة التحليل النفسي كما تجلّت مع “فرويد” القائل بحتميّة سيوكولوجيّة. وبالتّالي نأتي هاهنا إلى النقطة التّاليّة، ولعلّها النقطة المركزيّة.

خلافا لهذه المواقف الباحثة عن مشروعيّة فلسفيّة لجملة من الحتميّات، نستجلي في المتن السّارتري إدانة واضحة لها. فكلّ أفعال الإنسان في تقدير سارتر، سواء كان مرجعها الإرادة أو الغرائز، أي أن تكون واعية أو لا واعية، هي بالضرورة أفعالا حرّة.

ومن جهة أخرى، يذهب سارتر إلى القول بالتحليل النفسي الوجودي كما عبّر عن ذلك في المحور الثاني من القسم الرابع من [الوجود والعدم]، حيث يهتمّ بالفرد في علاقته بالوجود في ذاته في تجليّاته المختلفة.

وفي إطار تناولنا لمسألة حريّة الاختيار في علاقتها بمقولة المسؤولية، لا يفوتنا استحضار بعض المرجعيّات الفلسفيّة التي اهتمت بهذه الإشكاليّة، حتى نقف على طبيعة التقارب أو الاختلاف الحاصل بينها وبين القراءة الوجودية مع سارتر. ولعلّ، أجلى إثباتا تاريخيا، لما نذهب إليه، هو التّصوّر الدّيكارتي، الّذي يتنزل ضمن سجلّ فلسفي ميتافيزيقي في تحليله لإشكاليّة الحرّيّة التي تتجسّد حسب فيلسوف الحداثة في عمليّة الاختيار.

إنّ ما كان يرمي إليه الفيلسوف والرّياضي والفيزيائي الفرنسي رونيه ديكارت (René Descartes) (1596-1650) أساسا، يكمن في تثمينه لقدرة الإنسان على اختيار أفعاله بشكل غير ملزم، على اعتبار أنّه كائن الوعي والإرادة. وإذا صحّ ما ذهبنا إليه، أمكننا القول، أنّ ديكارت ينتصر للقول، بأنّ الاختيار يجب أن يقوم على الوعي بأسباب ذلك الاختيار. ومن هنا، فإنّ أحطّ مراتب الحريّة في اعتقاد هذا الرجل، هي التي تكون مصحوبة بجهلنا لأسباب الاختيار، أو في اللامبالاة، بمعنى عدم القدرة على الاختيار. وهذا ما يصطلح عليه بحرية استواء الطرفين، أو عدم الاكتراث (La liberté d’indifférence). وهي أدنى مراتب الحريّة ديكارتيا. وبهذا الفهم، يمكننا أن ندرك، أن الحريّة الحقّ في المنظور الديكارتي، تفيد الإفلات من كلّ منع خارجي، أو ضغط نفسي أو جهل. والاحتكام إلى القرار الذاتي المعبّر عن استقلالية الأنا. وليس أدلّ على ما ذهبنا إليه، من أنّ الإنسان كائن عاقل، فهو إذن، قادر على تأسيس قيم عقلية تكون مقياسا لانتظام السلوك والتحرّر من سلطة الأهواء والانفعالات. فالحريّة حسب ديكارت، هي إرادة لا متناهية، من مظاهرها: القدرة على الشك، الرّفض والقدرة على الاختيار والاختيار المضاد.

فبفضل الحريّة يكون بمستطاع الفرد اختيار مشروع وجوده. وأفضل ما يساق عن آرائه حول هذا التصور، هو ما أورده في قوله التّالي: “في الاستعمال السيئ لحريّة الاختيار يقع الحرمان الذي هو قوام صورة الخطأ”([117]).

إذا سلمنا بسداد هذا الموقف الذي يحدد خصوصية الرؤية الدّيكارتيّة، باستطاعتنا القول إذن، أنّ حريّة الإرادة عندما لا تستنير بنور العقل، تقودنا إلى الوقوع في الخطأ. ومن هنا، فإنّ اختيار الأشياء، لابدّ أن يكون في حدود تناهي الذهن.

يدافع ديكارت في هذا الصدد عن أطروحة مركزيّة مفادها: ذوبان الحريّة في الاختيار. بيد أنّ مزيدا من التقصّي في شأن هذه المسألة، سوف يطلعنا على أنّه ليس ببعيد عن هذا التصور الفلسفي الميتافيزيقي. نجد أنّ الفيلسوفان الوجوديان: كارل ياسبرز وغابريال مارسال يتفقان على القول: “بدافع ديني للفعل الحرّ، يكون هو المحرّك الحقيقي للاختيار”([118]).

ثمّة إذن، سند ميتافيزيقي متعال، وقول بلحظات اشراقيّة يتجلّى من خلال حضور التدخّل الإلهي في توجيه الفعل الإنساني. هذا من شأنه أن يحدّ من حريّة الذّات ويفقد الفرد روح المبادرة والاستقلاليّة عموما. وفي ذات السياق، خليق بنا التعرّض إلى خصوصيّة مقاربة هانص جوناص لمبحث المسؤوليّة في صلتها بالحرّيّة، تلمّسا من لّدّنا لأوجه التلاقي أو التعارض الّتي يسمها والقراءة الوجوديّة السّارتريّة.

فما المقصود بإيتيقا المسؤوليّة وأبعادها الفلسفيّة عند جوناص؟

طفق ابن مدينة “مونشنغلادباخ”(Monchengladbach) الفيلسوف الألماني هانص جوناص (Hans Jonas) (1903-1993) في بحث معنى المسؤوليّة في مؤلفه، الموسوم: “المبدأ المسؤوليّة”
(
Le principe responsabilité)، والمتكوّن من ستة فصول حيث ألفيناه يهتمّ في الفصل الأوّل منه بالتغيّرات الخاصّة بماهيّة الفعل الإنسانيّ والتي على إثرها انبجست أبعادا جديدة للمسؤوليّة ويشتمل الفصل الثاني على دراسة المسألة التأسيس والمنهج تبحث في الأساس الأنطولوجي للمسؤوليّة. ويعرض الفصل الثالث لغايات الفعل الإنساني، وفي الفصل الرابع اهتم جوناص بمعنى الخير في إطار ما يقتضيه الوجود من نظريّة في المسؤوليّة، ليصل في الفصل الخامس إلى طرح معنى المسؤوليّة اليوم في ظل ما يتهدّد مستقبل الإنسانيّة جرّاء فكرة التقدّم وانعكاساتها على مستقبل الإنسان والطبيعة. يقول جوناص :”لقد انقلب وعد التقنية الحديثة إلى تهديد، وهو تهديد يتجاوز مجرّد المعاينة لخطر فيزيقي : فترويض الطبيعة المقدر لإسعاد الكائن البشري قد جلب بموجبه عدم السيطرة على نسق نجاحه والذي يطال اليوم الطبيعة الإنسانيّة ذاتها كذلك، أعظم تحدّ للإنسان”([119]).

ينتهي جوناص في الفصل السادس والأخير من كتابه إلى نقد اليوتوبيا في ضوء إتيقا المسؤولية. هذا مصداقا لقوله: “إنّ الأرض الجديدة للممارسة الجماعيّة التي ولجناها بالتكنولوجيا المتقدّمة جدّا هي كذلك أرض بكر لنظريّة إيتيقيّة”([120]).

إنّ التمشي الذي اختاره جوناص إذا لهو وقائي تحذيري، إذ لابدّ للتفكير الإيتيقي في تقديره أن يتيح للإنسانيّة التحكم في التقدّم التكنولوجي المؤذن بجرّها إلى مزيد من الكوارث. ولذلك، تصوّر جوناص مسؤوليّة الإنسان في علاقة بالطبيعة وبالأجيال القادمة، لأنّ التغيّر الكيفي الطارئ على الفعل الإنساني جرّاء القدرات التكنولوجيّة الجديدة للإنسان، أضفى على فعله بعدا جماعيّا، أي يهمّ المجموعة برمتها، وهو بعد لم تعرفه الإيتيقا القديمة.

يقول جوناص في ذلك: “إنّ خطر الكارثة المتضمّن في حلم السيطرة على الطبيعة (…) عن طريق التقنية العلميّة مرتبط بحجم تحققه”([121]).

إنّ الفعل الإنساني في نظر جوناص أضحى قادرا على أن يضع موضع خطر بقاء الطبيعة والإنسان معا. هذا ما أعلنه جوناص بقوله: “يتواصل استنزاف الأرض بشكل هو دائما أكثر فظاعة حتى اللحظة التي تعلن فيها هذه الأخيرة حكمها وتمتنع عن الاستغلال المشطّ. كم من انقراض وإبادة نوعيّة تصحب تلك الوضعيّة؟ يتجاوز ذلك كلّ تصوّر لقوانين التوازن البيئي…إنّ معرفة كيف يمكن بعد ذلك، للبقيّة المتبقيّة من الإنسانيّة على أرض جرداء أن تبدأ مجدّدا، أمر يتعذر على كلّ تأمّل”([122]).

لقد عمل جوناص على تأصيل الإيتيقا في الأنطولوجيا وذلك بأقلمة المسؤولية مع القدرات الجديدة وترسيخها في قدرة الإنسان المعاصر على الفعل. إنّ التحكم في القدرة على الفعل ومنذ البداية هو ما يؤمن البقاء للطبيعة والإنسان. يقول جوناص في ذلك: “اعمل بحيث تكون نتائج عملك موائمة لاستمراريّة حياة إنسانيّة أصيلة على الأرض، أو للإعراب عنه بالسلب: اعمل بحيث لا تكون نتائج فعلك مدمّرة لإمكانيّة تلك الحياة مستقبلا، أو ببساطة: لا تعق شروط البقاء اللّامحدود للإنسانيّة على الأرض، أو كذلك وقد صيغ بالإيجاب مجدّدا: ضمّن خيارك الحاضر حياة الإنسان في المستقبل كموضوع ثان لإرادتك”([123]).

قمين بالإشارة إلى أنّ هانص جوناص لم يكن حبيس التصور الوجودي السّارتري القائم على اعتبار الحريّة الأساس الأنطولوجي الذي تبنى عليه المسؤوليّة، وما يترتب عن ذلك أنّنا لسنا مسؤولين إلا عمّا نحن أحرار فيه أو عمّا هو، لسبب أو لآخر، من اختيارنا بمجرّد الوعي به كفعل أو كحدث أو نمط وجود إنسانيّ غير أصيل. وقد أقام سارتر ترابطا أنطولوجيا بين الحريّة والمسؤوليّة في بنية الموجود الإنساني. ولكن، بتشريعه لإيتيقا المسؤولية أحدث جوناص منعطفا حاسما في الفلسفة المعاصرة، تساوقا في ذلك مع ما ذهب إليه إيمانويل ليفيناس من قبله، حيث لا تفترض المسؤوليّة الإيتيقيّة الحريّة كأساس أو شرط لها بأيّ وجه من الوجوه. إنّها مسؤوليّة غير مختارة، مسؤوليّة بلا حريّة([124])، ومسؤوليّة إزاء أفعالنا الماضية والحاضرة والمستقبليّة. إنّها بالنهاية مسؤوليّة شاملة وكليّة. وسيكون لهذا التصوّر الفلسفيّ لكلّ من إيمانويل لفيناس([125]) وهانص جوناص امتداداته في عصرنا الرّاهن، حيث يشهد التفكير الإتيقي اليوم استئنافا وحضورا مكثفا مرده الرئيس صعوبات الوضع الرّاهن المتعلق بالاختيارات العمليّة والحياتيّة المتصلة بالممارسات الفردية والمهنية وذلك لغاية البحث عن حلول معياريّة. وهذا الحضور، ليتجلى في الحضور المكثف لإتيقيات يعبّر بعضها عن اهتمام بالقضايا الفرديّة والجماعيّة مثل قضايا التحرّر الجنسي والحقوق الفرديّة، أو النزاعات المتصلة بمراكز النفوذ الاجتماعي. كما يتجه اهتمامها بوجه خاصّ إلى تقييم التطوّر العلمي والتقني خاصّة في مظهره السلبي المهدّد للإنسان ومحيطه الطبيعي وفي هذا المجال نذكر، على سبيل المثال، الدراسات المتعلقة بالإيتيقا الطبيّة التي تهدف إلى صياغة أخلاقيّة مهنة الطبيب على نحو يواكب التحوّلات الحاصلة في التقدّم العلمي والتقني.

نفهم بعد هذا العرض الموجز لبعض النماذج الفلسفية، أنّ السجال السّارتري، الدّائر ضد هذه المقاربات، ليس له من غاية سوى تحرير إرادة الفرد من أسر الحتميات: سواء كان السند سوسيولوجيا، بسيكولوجيا، أو حتى تيولوجيا (فكرة الضمان الإلهي مع ديكارت وليبنيتز). وحجّة سارتر في ذلك، أنّ التعلّل بهذه الحتميات، باتّخاذها كذريعة من شأنه أن يساعد الفرد على التّحلل من كل مسؤوليّة ويفلت من مواجهة القلق الوجودي الذي ينتابه إثر عمليات الاختيار. وهذا السلوك الجبان يوقع الفرد فيما يسمى: “بسوء النيّة” أو “سوء الطويّة” (La mauvaise foi).

  • فما المقصود بهذا المفهوم الفلسفي الذي سجّل حضوره بشكل واضح في بعض نصوص سارتر الفلسفيّة؟
  • ماهي تجليّات سوء النيّة حسب سارتر؟
  • ما معنى أن يكون الفرد سيئ النيّة؟

3)    الحريّــة وسوء النيّـــة، لماذا؟ ومتى؟

‌أ)     في مفهوم سوء النيّة: (La mauvaise foi)

يسجل مفهوم سوء النيّة حضوره في مرحلة أولى في كتاب “الوجود والعدم”، وبالتحديد في المحور الثّاني المعنون: “سوء النيّة”، من القسم الأوّل المخصّص لمشكل العدم. ويعرّف سارتر هذا المفهوم على النحو التالي: “إنّ سوء النيّة هو كذب على الذات”([126]).

ويردّد سارتر ذات التعريف في محاضرة 1945. وممّا لا ريب فيه، أنّ الكذب ليس سلوكا دخيلا أو مفروضا على الذات من الخارج، بل هو موقف سلبي يتخذه الفرد تجاه ذاته ضد ذاته. فهو في ذات الحين الضحيّة والجلاّد. ويمكننا، للتحقق من هذا الأمر، يكفي العودة إلى ما ذكره سارتر: “إنّ سوء النيّة لا يصدر من خارج الحقيقة الإنسانيّة”([127]).

لعلّ، أهم استنتاج يمكن أن نخرج به، في ضوء هذه التحديدات، أنّ سوء النيّة، يفيد حسب المنظور السارتري، كذب الذات على ذاتها.

هذا، هو معنى سوء النيّة سارتريّا.

– فماهي تجليّاته؟

– أيّ علاقة تربط الحرّيّة وسوء النيّة حسب سارتر؟

‌ب) في تجلّيات سوء النيّة وصلتها بالحرّيّة

إنّ البحث في تخوم هذه المسألة، يجعلنا نتبيّن، أنّ سوء النيّة يتمثّل في “اللّا-أصالة” (Inauthenticité)، ذلك أنّ الفرد الذي لا يستطيع الاضطلاع بالمسؤوليّة التي تفترضها الحريّة، يعمد في معظم الأحيان إلى الهروب من مواجهة هذا القلق الذي ينتابه بفعل حريّة اختيار نمط وجوده وآداب تصرّفاته وأفعاله. فالهروب من الذات والخوف من الحريّة تقود الإنسان إلى التفويت في ذاته وفقدانه لحريّته ولتعاليه، حيث ينزل من مرتبة الوجود لذاته إلى منزلة الوجود في ذاته. وهذا، ما أورده سارتر في القول التّالي: “ليس الموجود الإنساني هو ذلك الذي تنكشف من خلاله السلبيات في العالم فحسب، بل هو أيضا الموجود الذي يستطيع أن يبدي مواقف سلبيّة تجاه ذاته…” ([128]).

يمكننا أن نقول دون خوف من المبالغة، أنّ تقنّع الإنسان بتبريرات واهمة للتستّر عن أفعاله وتحلّله من وطأة المسؤوليّة يجعله في موضع سوء النيّة. وبلغة أدقّ، إنّ غياب الإرادة الفاعلة يجعل الفرد يعيش حالة خضوع واستسلام لجملة الحتميات التي تطوق الوجود وتحاصره من كلّ جانب. وإزاء هذا الحضور السلبي يتحصّن الفرد إذن، بعدم الاكتراث واللامبالاة وهو ما يوقع به في شراك سوء النيّة. وعلى هذا الأساس، قال سارتر ما يلي:”كلّ إنسان يهرب من حريّته، ولا يتحمّل مسؤوليّة اختياره كاملة، كلّ إنسان يلقي التبعيّة على مختلف العوامل، كلّ إنسان من هذا النّوع هو سيء النيّة”([129]).

غنيّ عن البيان، أنّ سوء النيّة ضرب من الرياء والإخفاء والتمويه والخداع، إنّه أيضا، نفاق وغشّ بخلق سلوكات سحريّة بفعل الإنسان ضدّ ذاته. وهو ما يؤكّد لنا حقيقة هامّة، مفادها، أنّ سوء النيّة لا يحمل على معنى مفهوم اللاشعور، مثلما هو الأمر مع فرويد، بل إنّه سلوك واع. وفي هذا الصدد أعلن سارتر: “أكون سيء النيّة، إذا ادّعيت أنّ هناك قيما ومبادئ وجدت قبل أن أوجد، وأنّ هذه القيم مفروضة عليّ، وأنّني أختارها اختيارا حرّا في نفس الوقت”([130]).

إنّ في كلّ عمليّة تهميش واستهجان الإنسان لوجوده مع نفسه كفعل والتزام وحريّة ومسؤوليّة، يكون في مأزق سوء النيّة حسب سارتر. وبالتالي، لا مجال للاستقالة والقبول بالتبعيّة، بل يراهن الفيلسوف الوجودي على إرادة الإنسان في التحدّي وقهر مجمل العوائق التي تكبّله، بهدف إثبات سموّ الذات وتعاليها.

وتخلق بذلك من الضّعف قوّة ومن العجز معجزة، لأنّه في كلّ حالة تذويب للذات وانصهارها العفويّ والهجين إعدام لها. ومن جهته سعى سارتر إلى تقديم بعض الأمثلة على سوء النيّة، في المحور الذي أشرنا إليه آنفا، حيث تتجلّى في الخوف المرضي والأحلام وزلات اللسان والتمثلات الغامضة، وتظهر في الأحاسيس الباردة لدى النساء فاترة العاطفة، وفي سلوك نادل المقهى والرّجل المخنث الذي يعاني من العهر في الفكر والسلوك والمرأة اللعوب التي تتمنّع وهي راغبة.

وفي هذا السيّاق، قال سارتر:”إنّ شرط إمكان سوء النيّة هو أنّ الحقيقة الإنسانيّة في وجودها المباشر تكون ما ليس هي ولا تكون ماهي عليه”([131]).

هذا الموقف السّارتري يحمل في طياته مسلّمة هامة، وهي أنّ الحرّيّة هي الشعور بالوجود ذاته. وإذا سعى الإنسان إلى خداع نفسه فيتوهّم بأنّه سجين حتميّات، عندئذ يعمد إلى الاعتذار عن أسلوبه الإنساني في الحياة، ليحيا حياة الموجود في ذاته، لذلك، فإنّ اختلاق أي ذريعة مهما كانت درجة اقناعها، لا تمثّل قلعة آمنة لحماية الفرد، بل الأصوب في اعتقاد سارتر عيش هول القلق الوجودي ومواجهة الحريّة بكلّ نديّة، حتى لا تقع في سوء النيّة، الذي قال عنه سارتر: “إنّ سوء النيّة لا يعدو أن يكون في جوهره كذبا وخداعا، لأنّه يخفي حريّة الانضواء أو الالتزام كاملة”([132]).

ولكن، ما الحصيلة التي يمكن أن نخرج بها في نهاية هذا التأمّل الفلسفي الدائر حول تلازم حريّة الاختيار والمسؤوليّة؟

إنّ ما يمكن استنتاجه من تحليلنا هذا، هو أنّ الحرّيّة في تقدير سارتر، تقترن بالمسؤوليّة، باعتبارها بعدا أساسيا في الوجود الإنساني، إلاّ أنّ المسؤوليّة المقصودة لدى سارتر، ليست من طينة المسؤوليات الهجينة التي ترسّخها فينا الأعـراف الأخلاقيـّـة أو تغرينا بها المصالح الشخصيّة أو تضبطها لنا القوانين المدنيّة، بل المسؤوليّة الوجوديّة، التي يكون فيها الإنسان، عاريا وماثلا أمام فعله ومصيره دون سند أو عون، هي مسؤولية هذا الوجود الحرّ، عن حريّته، مسؤوليّة الحريّة نفسها التي لا يمكن مصادرتها، لأنّ الذي يخشى الحريّة، فهو إمّا الجبان الذي يمتنع عن مغامرة الفعل والممارسة، أو المستبد الذي يسعى لحرمان الآخرين من موضوعيّة شروط تحرّرهم، عبر محاصرتهم بقوانين جائرة أو تهديمهم بقوّة عمياء.

هكذا إذن، يؤكّد سارتر، على أنّ الإنسان يختار ذاته بكامل حريّة، لذلك يعدّ مسؤولا فعليّا عن وجوده. وهو ما يعني، التقاء الحريّة بالإرادة والمسؤوليّة. وهذا ما اختزله شعار الوجوديّة، الذي رفعه سارتر: “كن حرّا ومسؤولا بشكل إرادي”، وهو عمل الفلسفة الوجوديّة. فالإنسان يكون بما ينجزه من أعمال ومشاريع وما يأمله بإرادته بكلّ حريّة.

إنّ ماهيّة الوجود حريّة، والحريّة مسؤوليّة، والمسؤوليّة التزام. لذلك، إذا كان الاختيار ضرورة أنطولوجيّة، فإنّه لا يتحقّق، إلا عبر الممارسة والالتزام بكلّ أشكاله. وهذا ما سنحاول تفصيل القول الممكن فيه لاحقا.

وهو ما يدفعنا إلى التساؤل إذن:

  • بأيّ معنى يمكن أن يكون الالتزام مطلبا إتيقيّا وعمليّا؟
  • ما طبيعة العلاقة القائمة بين مقولة الحريّة بماهي جوهر الإنسان ومفهوم الالتزام كبعد من أبعادها حسب المنظور الوجودي السّارتري؟ ما مُسوّغات النقد الفوكوي لتجربة الالتزام الفلسفي عند سارتر من جهة محدّداتها ومداراتها؟

4)    الحرّيّة وتجربة الالتزام: نحو فلسفة المقاومة

يعدّ مفهوم الالتزام (L’engagement)، أحد الثوابت الأساسيّة في فلسفة سارتر الوجوديّة، بماهي فلسفة ملتزمة بقضايا الفرد وبمشاغله وهمومه الحياتيّة. وهو ما سوّغ لنا القول: “إنّ جوهر الالتزام عند سارتر هو الحريّة (…). فالحريّة ّأصيلة في هذه المهنة وعليه أن يبثّ الوعي بالحريّة”([133]).

ويحمل مفهوم الالتزام على دلالات ومعان مختلفة، فهو يعني الارتباط بمشكلات العصر الاجتماعية والسياسية والوعي بها، والسعي إلى التأثير فيها والكشف عنها (تناقضاتها ومظاهر الأزمة فيها)، بغرض تغييرها، بما يساهم في تحرير الإنسان. ولعلّ، النّداء السّارتري، خير دليل على ذلك: “يجب أن ألتزم إلى أقصى حدّ ممكن”([134]).

هذا القول السّارتري إذن، على حصافته البينة وعمقه، الّذي لا سبيل إلى أنكاره، فيه دعوة ملحّة من طرف سارتر، نحو الاضطلاع بهذه المهمة النبيلة. إنّ الالتزام، رسالة ذات غايات وأهداف معياريّة وعمليّة. ومن جهة ثانية، فهو يعبّر بصورة بيّنة عن وجه من وجوه المسؤوليّة، التي يتعهّد بها المفكّر أو الفيلسوف الحقيقي، الذي يرسم علاقة عضويّة مع واقعه، بهدف تشخيصه وإيجاد الوصفة السحريّة، التي من شأنها القضاء على جملة الأمراض المتفشية فيه.

وعلى هذا النحو، يتبدى الالتزام في فلسفة سارتر، على أنّه الارتباط بتعديل الحاضر لبناء المستقبل، ولا يتحقّق ذلك، إلا بالحريّة بماهي القدرة على الالتزام والسعي لفهم الوضع السائد والعمل على تغييره. كما نشير إلى أنّ الالتزام في صيغته السارتريّة، يرتبط إلى حدّ ما بفنّ الأدب، ما دامت: “الكتابة صورة من صوّر إرادة الحريّة، فإنّ كلّ من أخذ على عاتقه مهمّة الكتابة، سرعان ما يجد نفسه، سواء أراد أو لم يرد منخرطا في معركة الحريّة، ملتزما بالدّفاع عن حريّته وحريّات الآخرين”([135]).

يبرز هذا الموقف الأخير، أنّ المفكر يلتزم بالدّفاع عن حريّته ويناضل من أجل حريات الآخرين، ناهيك، أنّ سارتر، يذهب في محاضراته الثلاثة التي ألقاها “بطوكيو وكيتو” (Tokyo et Kyoto)، في سبتمبر وأكتوبر، سنة 1966، تحت عنوان: “دفاعا عن المثقفين”. وكانت بمثابة المساحات التي قارب فيها فيلسوفنا مسائل، من قبيل: “وضعيّة المثقف”، أو ما المثقف؟ وهو المضمون الجوهري للمحاضرة الأولى، أمّا المحاضرة الثانية، تعلقت بـ: “مهمّة المثقف”. وأخيرا، تمحورت المحاضرة الثالثة، حول إبراز الاختلاف بين الكاتب والمثقف، من خلال سؤال، أجاب عنه سارتر بوضوح، وهو: هل الكاتب مثقف؟

ويقول سارتر، معرّفا المثقف: “إنّ المثقف بالنسبة إليّ، هو هذا المنتمي لتجمع سياسي أو اجتماعي، ولكنّه لا يتوقف على نقده (…)، إذا ما كان هناك انتماء أو إيمان، دونما انتقاد، فإنّ هذا لا يعني شيئا. وبذلك، لن يكون هناك أحرار”([136]). ومن هنا، فإنّ: “المثقف هو من يشتغل بما لا يخصّه”([137]).

نفهم وفق المعتقد الوجودي السّارتري، أنّ الالتزام ذو دلالات عميقة، متعلقة بالسجل السياسي أو بالمبحث الفلسفي، وكلها تصبّ في خانة واحدة: إمّا الدفاع عن الحريّة، أو التأسيس الفعلي لها. وفي هذا السياق بالذات، بإمكاننا القول أنّ: “أحد معتقدات سارتر الرئيسيّة هو أنّ (عدم الالتزام)، ليس إلا سخرية من الحريّة، هو في الواقع شكل من التهرّب من الحريّة”([138]).

يتوجّه سارتر بالنقد إلى صنف من المثقفين الذين لا يلتزمون بقضايا الأفراد، وينصرفون إلى خدمة أغراض ذاتية بحتة أو تبرير هيمنة إيديولوجيا ما. وهنا، قال سارتر: “إنّ العدوّ المباشر، هو من أسميه المثقف الزائف، وهو ما أسماه “بول نيزان” “كلب حراسة”، وهو المدفوع من طرف الطبقة المهيمنة من أجل الدفاع عن إيديولوجيا مصالحها الخاصة بحجج تدعي الصرامة وتظهر كنتاج لمناهج دقيقة”([139]).

بهذا الموقف الأخير، يرفض سارتر المثقف الزائف الذي لا يدرك القيمة الحقيقيّة لدوره وخيانته للرسالة الموكولة له. ومن هنا، فإنّ سارتر يقــول، بالمفكّر الحقيقــي أو المثقف العضوي، على نحو ما قال به “أنطونيو غرامشي”، الذي يقاسم الأفراد مشاغلهم ويضطلع بمسؤوليّة كبرى تجاههم. وفي عرضه لبرنامج “مجلة الأزمة الحديثة” الصادرة في أكتوبر 1945، قال سارتر: “ليس المثقف حارسا، ولا ملكا خياليّا، بل هو منخرط في العناء، مهما فعل، متورّط فيه، حتى في أقصى خلوته”([140]).

هذا القول السّارتري، يمكن فهمه بسهولة، إذا عرفنا أنّ الالتزام، يفيد تحويل النظري إلى ممارسة عبر الانخراط في قضايا ومشكلات العصر، أي الانطلاق ممّا هو كائن والتنظير إلى ما ينبغي أن يكون. وبالتّالي، ارتباط الالتزام من جهة وسائله بالغايات. هذا إذا وضعنا على الأقل في اعتبارنا حقيقة ارتباط الحريّة بماهي مطلب أسمى للإنسان بفعل الالتزام كممارسة لازمة لبلوغ هذه الغاية. وهذا ما نقف عليه في المنطوق السّارتري: “الحريّة لا تنكشف إلاّ في الفعل، وهي والفعل شيء واحد”([141]).

فحوى هذا القول، أنّ الالتزام الوجودي في تقدير سارتر، ممارسة فعليّة وترجمة صريحة على صدق هذا الفيلسوف ومدى تضحيته ونضاله من أجل الفوز برهان الحرّيّة.  هذا مصداقا لقوله: “الفعل الثوري يخلق الحرّيّة”([142]).

بل، يذهب الفيلسوف الفرنسي إلى أكثر من ذلك من خلال قوله: “إنّ الانقطاع عن الفعل هو انقطاع عن الوجود”([143]).

إنّ جان بول سارتر، هو نموذج الفيلسوف والمفكّر الشجاع والمثقف الحرّ الذي يرافق كفاح المضطهدين والمستعمرين والمقموعين، باعتبار أنّ الالتزام كشف للواقع، أيّ فضحه عبر الكلام كفعل. وذلك من خلال الإيمان بأنّ الكلمة سيف، فعل سلطة قادرة على إحداث أثر في المجال الذي تحلّ فيه. ومن هذا المنظور، يكون الالتزام تأثيرا وتغييرا من خلال إقحام المفكّر كطرف مسؤول، حتى لو اختار الصمت (الالتزام السلبي). يمكن فهم الالتزام على أنّه ضرب من التعاقد الذي يبرمه الفيلسوف عن وعي ودراية تجاه واقعه.

وبإمكاننا التوقف عند السيرة الذاتية لهذا الفيلسوف الوجودي، حتى ندرك مظاهر الالتزام بصورة بيّنة. إنّ سارتر رمز لمفكّر واع وفاعل في نضالات مجتمعه من أجل الحريّة، حيث تجده في المكان الذي تنتظره فيه: (الشارع، المقهى، السجن،).

لقد وقع أسيرا في يد الألمان سنة 1940، أثناء الحرب العالميّة الثانية، وأطلق سراحه في أبريل 1941. شارك في أحداث الثورة الطلابيّة والاجتماعية التي شهدتها فرنسا في ماي 1968. ومن الأحداث الأخرى البارزة في المغامرة النضالية لسارتر، نذكر أيضا، أنّه ألقي القبض عليه سنة 1970 جراء مساندته للقضايا المتصلة بحريّة التعبير والكلمة: مساندة مجلّة (La cause du peuple)، كما قام بإنشاء مجلّة “الأزمنة الحديثة” (Les temps modernes) صحبة مرلوبونتي سنة 1945.

ناهض سارتر الاستعمار الفرنسي للجزائر ونقد بشدّة مختلف العمليات العسكريّة وجملة الممارسات اللّا-إنسانيّة المرتكبة في حقّ الشعب الجزائري. وأدان التدخّل السوفياتي في المجر وتشيكوزلوفاكيا. وشارك إلى جانب “ريمون آرون” في “محكمة رسّل”، وهي محكمة شكّلها برتراند رسّل لمقاضاة مجرمي حرب الفيتنام. كما ناصر حركات التحرّر في العالم. هذا إلى جانب مشاركته صحبة ميشال فوكو في مظاهرة أمام مصنع رينو بتاريخ 28 فيفري 1972 لمساندة المهاجرين، انتصارا لقضاياهم، هذا إضافة إلى تعاطفه مع الحزب الشيوعي الفرنسي. كما زار مصر وألقى محاضرة بعنوان: “دور المثقف في المجتمع المعاصر”. ويبقى الموقف الأبرز في حياة هذا الفيلسوف، رفضه تسلّم جائزة نوبل للآداب في أكتوبر 1964 احتجاجا على القيم البورجوازية التي تمثلّها والمصالح الاقتصادية والسياسيّة المهيمنة عليها.فقد علّق سارتر عند رفضه لجائزة نوبل قائلا: لو منحوني إيّاها أثناء حرب التّحرير الجزائريّة لقبلتها شاكرا([144]). إنّ هذه الأعمال التي أقدم عليها سارتر، تبرز أنّ الالتزام فعل في المقام الأول. وهذا ليس بغريب على جيل سارتر، ريمون آرون، بول نيزان، دانيال لاقاش، ألبار كامي وغيرهم…

إنّ الحريّة تستوجب التضحية والممارسة العمليّة، لأنّ: “الحريّة لا تمنح، بل تكتسب”([145]). ولقد وسمت فلسفة سارتر قرنا كاملا من الزّمن، إذ هي الفلسفة الأكثر التصاقا بالواقع، والأكثر اعتناقا من قبل الجماهير، ولم يكن ذلك مجرّد صدفة وإنّما هو سيتند إلى اعتبارات مركزية أملتها عليه فلسفة البراكسيس، البراكسيس الّذي هو فرضته مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانيّة([146]).

من مقتضيات الالتزام كمعنى إيتيقي: الشجاعة، الجرأة، المغامرة، النقد، التحدّي… إنّ سارتر إذن، يقدّم لنا ولكلّ مفكّر درسا في الالتزام والمسؤوليّة الفعليّة. وهو بذلك يعادي نموذج المثقف الانتهازي الذي لا يطرح بديلا ثقافيا حقيقيا. وكذلك البراغماتي الذي لا ثوابت أخلاقيّة أو سياسية له سوى، الشهرة وجمع المال والاكتفاء بتبرير الواقع والوقوع تحت تأثير سلطات الإيديولوجيات السائدة مهما كان لونها.

 ولأّنّ المقاومة في تقدير سارتر لا تطلب لذاتها، فقد عمل منذ 1945، وبعد ترسيخ الوجودية كأفق أخلاقي جديد لجيل ما بعد الحرب، على تشكيل ملامح تجربة وعي يتحول فيها المرء من القلق، والعدم، إلى منخرط في مسارات المقاومة لصنوف الأزمات الاجتماعية القاتلة. ففي ثلاثيّة “طرق الحريّة”، قصد سارتر إلى بيان التحوّل من شخصيّة ما قبل الحرب المتعطّشة إلى حرّية بلا قيود، كما ألفيناه في مستوى المجلّد الأوّل “سنّ الرشد” 1945، إلى شخصية الناس تحت الحرب، حيث تنصهر الفرديات المعزولة مع فوضى العالم، كما ألفيناه في المجلّد الثاني الموسوم بـ “تأجيل التنفيذ” 1945، لينتهي، في المجلّد الثالث المعنون بـ “الموت في الروح” 1945، إلى الاجتهاد في مساعدة شخصية ما بعد الحرب على رسم وضعيات وجود مركبة بين ثقل التّاريخ وشرائط الحرّيّة في آن.

جليّ إذن، أنّ الفلسفة الوجوديّة فلسفة التزام بامتياز وأنّ الحريّة التي تنادي بها، ليست حريّة مبتذلة، أو فارغة دون محتوى، بل على العكس، هي حريّة مسؤولة وملتزمة أساسا. ذلك، أنّ فضوليّة هذا التوجه الوجودي سارتريّا، تكمن في الارتداد إلى الوجود لذاته ومشاركته جميع مشاغله وقضاياه الوجوديّة، مادامت: “وجوديّة سارتر تقوم على فكرة الإيمان بالقيمة العليا للوجود الإنساني متمثلا في الفرد (…) وتؤكّد هذه الفلسفة على أنّ وجود الإنسان الفرد هو أكبر قيمة داخل الوجود الجماعي وفي إطار الموجودات الماديّة”([147]).

نستجلي من هذا القول، أنّ الفكر الفلسفي الوجوديّ مع سارتر، يتّخذ من الفرد موضوعه المركزي ويلتزم بصورة مطلقة بوجوده. وبالتحديد المطالبة بالحريّة باعتبارها حجر الزاوية في الوجود. ولكن، ماذا لو اتّضح أنّ التصّور السّارتري لمسألة الالتزام قد شكّل موضوع مراجعة فلسفيّة نقديّة من طرف ميشال فوكو. فكيف ذلك؟

5)     فوكو قارئا سارتر حول نظرية الالتزام ومهمّة الفلسفة

قام الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984) بإخضاع التصوّر الوجودي السّارتري حول موضوع الالتزام إلى مراجعة نقديّة، نظرا لارتباط فعل الالتزام بالانخراط في مشروع جماعي، لأجل تحقيق مجتمع الحريّة والعدالة. وهذه النزعة الإنسانويّة، في حديها الماركسي والوجودي السّارتري والقائمة على مصادرة المجتمع العادل والحرّ بإطلاق، هي التي دحضها فوكو، لأنّها مجرّد أوهام ويوتوبيات حالمة. فكل ما يمكن فعله في تقدير فوكو، لهو مواجهة ضروب الهيمنة في مجالات معينة ومحدّدة. هذا ما عبّر عنه فوكو بقوله: “إنّ فكرة الالتزام شديدة الارتباط بضرب من ضروب الفلسفة الوجوديّة حتّى أقبلها على علاتها”([148]).

نستجلي من هذا الموقف الفوكوي أنّ فعل الالتزام لا يتصل بمشاريع كونيّة وعامّة بقدر ما يتعلق رأسا بأداء أدوار دقيقة وجزئية في مستوى علاقات السلطة.

وفضلا عن ذلك فإنّ ما يعيبه فوكو على نظريّة الالتزام السّارتريّة عدم قدرتها على الربط بين ما هو نظري وما هو عملي سياسي: لقد بالغت في الانشغال بالفعل السياسي ولم توفر له الأساس النظري، ويعني البحث فيما هو نظري البحث في تقنيات السلطة والتحقيق في مسارات تكونها وكيفيّة عملها، لذلك يعتبر فوكو “أنّ تحليلا نظريا ودقيقا للطريقة التي تعمل وفقها البنى الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية هو أكثر الشروط ضرورة بالنسبة للفعل السياسي عينه”([149])،

لقد قيل لفوكو ذات يوم في إطار مقابلة معه للرّد على سارتر: “إنّ فلسفة مثل الوجوديّة تشجع المرء بشكل ما على الالتزام والفعل، وثمّة من يعيب عليك موقفا مضادا لذلك”، فأجاب فوكو: “أجل يعاب عليّ ذلك، ومن الطبيعي أن يفعلوا، ولكن لنقل مرّة أخرى إنّ الاختلاف لا يكمن في كوني فصلت السياسي عن النظري، بل على العكس من ذلك فأنا أرفض هذه السياسات التي ينتهجها الجهل الثاقب وهي ذات السياسات لما سمي التزاما”([150]).

والحقيقة أنّ الفرق بين سارتر وفوكو هو فرق بين المثقف الكوني والمثقف النوعي بحسب تعبير فوكو نفسه: إنّ المثقف الكوني هو ذاك الذي ينشغل بـ”المثالي” و”العادل والحقيقي بإطلاق”، ولقد “كان هذا المثقف مجسدا حتى الآن، وبامتياز في صورة المؤلف، فالمؤلف هو الضمير الكوني والذات الحرّة”([151])، وهو مجسد على وجه التحديد في المؤلف اليساري وفقا لمنظور فوكو، حيث يقول :”لفترة طويلة تكلم المثقف المسمّى يساريّا، وقد عرف بامتلاك حق الكلام كسيد للحقيقة والعدل، ولقد كان النّاس يصغون إليه أو هو ادّعى أنّهم يصغون إليه كممثل للكونيّة، فأن يكون المرء مثقفا هو أن يكون ضمير الجميع”([152]). ولكن “منذ سنوات عديدة لم يعد ثمّة من يطلب من المثقف أن يقوم بهذا الدّور، فلقد تمّ إرساء نمط جديد من العلاقة بين النظريّة والممارسة واكتسب المثقفون عادة الانشغال، لا بمجال “الكوني” و”المثالي” و”العادل والحقيقي بالنسبة للجميع”، بل بقطاعات محددة وفي مجالات دقيقة تحدّد مواقفهم إمّا ظروف العمل أو ظروف حياتهم كـ (السكن، المستشفى، المحتجز، المخبر، الجامعة، الروابط العائلية أو العلاقات الجنسية). لقد اكتسب المثقفون بذلك وعيا ملموسا أكثر ووعيا مباشرا بضروب الصراع، وقد صادفوا هناك مشكلات خصوصيّة لا مشكلات كونيّة”([153]). ذلك ما أسميه “المثقف النوعي في مقابل المثقف الكونيّ”([154]).

يرى فوكو أنّ دور المثقف لا يتمثل في قيادة أشكال المقاومة بقدر ما يكمن في تقديم أدوار التحليل والدّعم: “على المثقف إذن ألا يلعب دور من يقوم بتقديم النصائح. إنّ تحديد المشروع والأساليب والأهداف التي يجب تعيينها هو من مشمولات الذين يكافحون، أمّا ما يمكن للمثقف فعله فهو تقديم وسائل التحليل والاضطلاع حاليا بدور المؤرخ”([155]).

إنّ المهمّة المنوطة بعهدة الفلسفة والفيلسوف بوصفه ضمير عصره وطبيب الحضارة كما يراها فوكو، “ليس أن تكون قولا كليا في الأشياء”([156])، فتُجلي لنا ماهيّة الحياة والموت وماهية الحرية و”ما إذا كان الله موجودا أم لا”([157])، ذلك أنّ ادّعاء الكليّة قد تلاشى اليوم كي تصبح الفلسفة منشدة أكثر إلى الحدث: “أنا لست فيلسوفا بالمعنى التقليدي للعبارة، وقد لا أكون فيلسوفا بالمرّة أو على الأقل فيلسوفا جيدا، وعلة ذلك أنّني لا أنشغل بالأبدي وما لا يطرأ عليه التغيّر وما يظل هو هو خلف تبدّل المظاهر بل أنشغل بالحدث”([158]).

يؤكّد فوكو وفقا لهذا القول على ضرورة انهمام الفيلسوف بقضايا عصره الراهنة وانشغال الفلسفة بالحاضر وبالحدث، أو إن شئنا “أنطولوجيا النّحن التّاريخية”([159]).

ولكن، ما الذي نغنمه من هذا المجهود السّارتري؟

لقد أكّد سارتر، أنّ ميزة التفلسف الحقيقي، رفض الانقطاع عن هموم الإنسان اليوميّة أو التعالي على الواقع. وأنّه يراهن بجديّة على الانخراط المسؤول بمهمّة الفعل في العالم والالتزام العملي بتحرير الإنسان من كلّ أشكال الاغتراب.

وهكذا، فإنّ أهمّ ما يحدّد التفكير الفلسفي الوجودي مع سارتر، هو انبثاقه من الذات وعودته إليها، فهو نشاط قريب إلى حميميّة الوجود الإنساني، منفتح عليه باستمرار. وبهذا يكون الخطاب الفلسفي السّارتري، فعلا ذاتيا يحرّرنا من منطق العنف والقهر والجور.

كما أنّ صورة المثقف الملتزم الذي يلزم نفسه بالتدخل في أحداث عصره من أجل الدفاع عن الحريّة، كما جسدها سارتر، تعيد إلى الأذهان صورة الفيلسوف اليوناني: “سقراط”، الذي يعدّ مثالا يحتذى به في تاريخ الفلسفة وعلى مرّ العصور. يكفي، أنّه أوّل من أعلن ميلاد مفهوم الالتزام وحرص على تطبيقه بصورة فعليّة وآثر الموت، انتصارا لمبادئه، التزاما بتعاليم الآلهة، احتراما لقوانين أثينا ووفاء للحقيقة.

لقد عاش فلسفته كفكر حيّ، بدلا من التعامل معها كفكر ميّت ومحنط. كما كان يدعو إلى التفلسف، العدالة والفضيلة. وهو ما جعله حيّا لا يموت في أذهان المتفلسفة عامّة. ولذلك، ألا يمكن اعتبار “سارتر” “سقراطا” جديدا كان يقيم بيننا؟

ألا يجد هذا السؤال الأخير، بما ينطوي عليه من حكم شرعيّته من خلال ما ذهب إليه “آلان رينو” إلى أنّ: “سارتر هو آخر فيلسوف”([160]).

إنّنا، لا نجد حرجا في ظمّ صوتنا إلى صوت “فرانسيس جانسون”، القائل “سارتر، الفيلسوف الكبير الذي أنجبه هذا العصر”([161]). أو هو أيضا: “فولتير القرن العشرون”([162]). على حدّ وصف الجنيرال “دوغول” (De Gaulle).

لقد كان سارتر بحقّ، ابن زمانه وفيلسوف عصره، لذلك فلا جدال أن يكون “القرن العشرون هو بلا منازع قرن سارتر”([163]).

كلّ هذه الشهادات، تؤكّد المنزلة المرموقة التي يحظى بها هذا الفيلسوف الوجوديّ الملتزم.

كما حاولنا على طريقتنا الخاصّة، القيام بهذا الرسم التوضيحي، رغم طابعه الاختزالي المبسط، لنلخّص علاقة الوجود لذاته بالحريّة ومقتضياتها التي سنعرضها في هذا الرسم، على النّحو الآتي:

في علاقة الوجود لذاته بالحريّة ومقتضياتها:

هذا الرسم البياني، يبرز أنّ الوجود لذاته يختار نمط وجوده ويحدّد ملامح حياته ويبني ماهيته بنفسه. فيكون بذلك، المسؤول الوحيد على أفعاله، ممّا يشعره بالقلق الذي يكشف عن العدم.

 وهذا الأخير، من خلال التجويف الذي يحدثه في صميم الوجود العام، يساعد على نتوء الحريّة، التي هي ضرب من الالتزام والمسؤولية سارتريا.

6)    الحريّة وسؤال المعنى، أو بعيدا عن عبثيّة الوجود

عرّف سارتر مفهوم العبث في مستوى رواية “الغثيان”(La Nausée)، بقوله: “لقد نشأت الآن كلمة عبث تحت قلمي، ومنذ حين، لمّا كنت بالحديقة، لم أجد هذه الكلمة، لكن لم أبحث عنها أيضا ولم أكن بحاجة إليها: بل كنت أفكّر بدون الكلمات، في الأشياء، مع الأشياء. (…) ومن غير أن أصوغ أي شيء بوضوح، فهمت أنّني عثرت على سرّ الوجود(…): إنّ عالم الأسباب والعلل ليس عالم الوجود، فالدّائرة لا توجد عبثا، بل يصحّ تفسيرها بدوران خطّ مستقيم حول أحد طرفيه. بيد أنّ الدّائرة لا توجد حقا. أمّا هذا الجذر، فهو على العكس موجود، وهو موجود بقدر عجزي عن تعليله”([164]).

إنّ العبث في تقدير سارتر وكذا الأمر لدى ألبار كامو، لهو التجربة الأولى للوجود كما يعيشها الإنسان، ولقد تجلت هذه التجربة على هيئة قلق وضيق وحصر عند هيدغير، وفي الشعور المرير بانعدام وجود أيّة غاية للعيش والوجود سارتريّا، وفي غموض وضعنا الإنسانيّ وعبثيّته على نحو ما يرى كامو، وفي الإحساس بالفشل والإحباط المحتوم وفقا لكارل ياسيرز.

وعليه، يحمل مفهوم العبث لدى الوجوديين المعاصرين على معنى استحالة تقديم تبرير ذي معنى لوجود الإنسان ولوجود الأشياء عموما. ولكن، أنّى للإنسان أن يتحرّر من عبثيّة الوجود؟

يرى سارتر على إثر الفيلسوف الوجودي والكاتب والمسرحي والروائي الفرنسي -الجزائري ” ألبار كامو (1913-1960) (Albert Camus)، أنّ العمل هو الملجأ الوحيد والحيلة الوحيدة ضدّ عبثيّة الوجود، إن أردنا أن نعطي لهذا الوجود معنى. وفي هذا السياق، جعل كامو من: “أسطورة سيزيف” موضوعا لتأملاته، وهي أسطورة رجل حكم عليه من قبل الآلهة برفع صخرة إلى قمّة جبل فتتدحرج الصّخرة في كلّ مرّة إلى الأسفل ويعيد سيزيف من جديد حملها نحو القمّة باستمرار، دون أن ينجح نهائيّا في إبقائها هناك. وهذه الأسطورة تعبّر عن عبثيّة الوجود الذي يتطلب منّا مجهودا مستمرا وإرادة متواصلة بدون هوادة، إلا أنّ هذا المجهود لا طائل من ورائه، ممّا يولد في المرء شعورا بالتمرّد([165]).

لا جرم في القول، أنّ سارتر قد ثمّن قيمة الفعل بلا هوادة، معتبرا أنّ الانقطاع عن الفعل هو انقطاع عن الوجود، بل أنّ الوجود ليختزل في الفعل عينه، ومن هذا المنطلق، فإنّ الحريّة والفعل والوجود لشيء واحد وفقا للمنظور الفلسفيّ السّارتري، بما يؤكد وجاهة موقفه القائل أنّ العالم خال من كلّ معنى وأنّ الإنسان لهو الكائن الوحيد الذي بمستطاعه أن يضفي على العالم معنى وما يرتضيه من قيمة من خلال حريّة الإرادة والقدرة على الفعل والثورة والرغبة في التجاوز. هذا مصداقا لقوله: “إنّ الحياة لم يكن لها أدنى معنى أو قيمة قبل أن أوجد، وأنّ المعنى الذي يصبح لها فيما بعد ليس إلّا من نتاجي أنا…ليس معنى الحياة إلّا نتيجة لاختياري. وهكذا تجدون أنّه في الإمكان خلق طريقة خاصّة لمعيشة مجتمع بشري”([166]).

نستجلي من هذا القول، أهميّة الفعل أو الممارسة العمليّة داخل الفلسفة الوجوديّة السّارتريّة، من جهة كونها فلسفة تقوم على تصوّر مادي للعالم، سيّما وأنّ سارتر، يعتبر أنّ “الإنسان هو فعل بالدّرجة الأولى، وأنّ هذا الفعل في المحيط يتماهى مع فهم هذا الأخير كما هو. أو بألفاظ أخرى، فإنّ الفعل هو في ذات الوقت كشف للواقع وتحويل له”([167]).

يتراءى لنا على هذا النحو من النظر، البعد العملي للحريّة من خلال علاقتها بالفعل وبالوجود العيني الملموس على نحو ما قال بها سارتر، مشدّدا على ضرورة تحويل وجهة هذه القيمة الإيتيقيّة من إطارها المتعالي إلى إطارها المحايث، عسى أن يضفي ذلك معنى على الوجود الإنساني بعد تحريره من ضروب العبثيّة، ما دام المعنى في تقدير سارتر، ليس إلا التجسيد الأمثل للحريّة وقد استحالت إلى فعل تحرّر عمليّ. يقول سارتر “يبرز المعنى الذي تكتسيه الأغلال المكبلة للعبد على ضوء الغاية التي سيختارها: إمّا البقاء على هذا الوضع أو المخاطرة والانعتاق (…) وأنّه لا وجه للمقارنة بين وضع العبد السيّد، إذ لا يكتسي كلّ واحد من هذين الوضعين معناه الخاصّ إلا بالنسبة إلى ذات الشخص الذي يعيش وضعا يختار فيه أهدافه بكامل الحريّة”([168]).

يروم سارتر من خلال هذا الإقرار الدّائر حول جدليّة العبد والسيّد، تقريظ القدرة على الفعل لتحصيل الحريّة وإضفاء المعنى بالنهاية على وجودها الذاتي والجماعي.

ما العلاقة المفترضة بين الحريّة والوجود الإنساني سارتريّا؟

كيف تتجلى ملامح المقاربة المادية – التّاريخيّة لموضوع الحرّية والتحرّر عند سارتر؟ أنّى لنا تمثّل امتدادات الفكر الفلسفي الماركسي في المنجز الفلسفي لسارتر الثاني؟

القسم الثّاني: سارتر الثّاني والمقاربة
الماديّة-التّاريخيّة لسُؤال الحرّية

“في خضم فوضى التحرير وآماله، اكتشفنا وأعدنا اكتشاف كلّ شيء: كافكا، الرّواية الأمريكيّة، هوسّرل وهيدغير، توضيح المواقف الذي لا ينتهي مع الماركسيّة، الاندفاع نحو رواية جديدة …وكلّ شيء مرّ عبر سارتر، ليس فقط لأنّه كان يملك، بصفة الفيلسوف، عبقرية العرض الشمولي، بل لأنّه يعرف كيف يخترع الجديد. إنّ العروض الأولى لمسرحيّة الذباب، وظهور الوجود والعدم، ومحاضرة الوجودية مذهب إنساني، إنّما كانت أحداثا كبرى: كنّا نتعلّم من بعد ليالي طويلة كيف يتماهى التّفكير والحرّيّة”.

جيل دولوز، (“كان معلّمي”، في: الجزيرة الخياليّة ونصوص أخرى)

الفصل الأوّل: الأنثروبولوجيا-الوجوديّة عند سارتر

1)     في بحث خصائص الحرّية الإنسانيّة

يبدو أنّ إشكاليّة “الحرّيّة” سارتريّا، تحيل – ضمن ما تحيل عليه – على البحث عن الماهيّة التي تحدّد الوجود لذاته. كما يجوز لنا القول، أنّ سارتر قد أسّس موقفه الفلسفي الوجودي على أنتروبولوجيّا مخصوصة للإنسان، باعتباره كائن حريّة في جوهره. هذا ما يتجلّى بوضوح في قوله التالي: “أنا كائن قد حكم عليه بالحريّة، ومعنى هذا أنّه ليس في الإمكان أن نجد للحريّة حدودا أخرى، غير وجودها ذاته، أو بعبارة أخرى: نحن لسنا أحرارا في أن نتخلّى عن حرّيتنا”([169]).

إنّ ما يكتسب أهميّة خاصّة في مقولة سارتر، تتمثّل في الإقرار، بأنّ الإنسان محكوم عليه بالحريّة، بحيث صارت حريّته معطى تكوينيّا أنطولوجيّا، وتحديدا ماهويا لا فكاك له منها. لتكون بذلك، وفق التصوّر السارتري: “ماهيّة الإنسان مرتبطة بحريّته”([170]).

لم يكن القصد من هذا الإعلان، سوى المراهنة على قيمة “الحرّيّة”، كمحدّد جوهري لماهيّة الإنسان. ومن هذا المنطلق، نتبيّن، ما للحرّيّة من أهميّة في المعجميّة السّارتريّة. وهي بذلك، مكمن الخصوصيّة التي يحويها النصّ الفلسفي السّارتري. ولعلّه، لأمر كهذا، كانت تلك الحريّة المطلقة معبّرة إلى حدّ كبير على انعتاق الفرد كليّا من جميع المفاهيم والقيم التي تكبّله، وتفرض عليه من الخارج، كما تعني ضمنيّا وبالتوازي اتجاه الذات إلى إنشاء وجودها، إنشاء نابعا من ذاتها في تجاربها الفعليّة. ومن ثمّة، كان المجهود الفلسفي السّارتري إذن، منصبا على تأكيد هذه الحقيقة والمراهنة عليها، ما دامت الحريّة، هي التي ترتقي بالفرد إلى مصاف الوجود الإنساني الحقّ. فهي، تسمو به إلى درجات يتميّز بها بالنوع عن درجات الحيوانيّة. فإذا كان، بمستطاعنا تعريف الإنسان كحيوان عاقل، أو كحيوان ناطق، أو أيضا، كحيوان سياسي… فإنّه، يجوز لنا تعريفه سارتريّا، بكونه كائن الحريّة كماهيّة مقوّمة لوجوده. وهذا ما يتأكّد، في قول سارتر التّالي: “ليست الحريّة ميزة تنضاف إلى ماهيّتــي، أو صفة من صفاتها، بل هي النسيج المؤلف لكياني”([171]).

بيّن إذن، حسب هذا القول، أنّ الحريّة أساس الوجود الإنساني، بل، قد يدفعنا تصوّر سارتر إلى حدّ الإقرار، باستحالة الحديث عن وجود إنساني بالمعنى العميق للكلمة في ظلّ غياب قيمة الحريّة. وممّا لا شكّ فيه، أنّ كلّ الرحلة الفكريّة في صورتها الفلسفيّة السارتريّة، هي تأكيد هذا المعنى، وهو أنّ: “الإنسان حرّ، بل الإنسان حريّة”([172]).

من هذا المنظور، يرى سارتر، أنّ الإنسان ليس حرّا في التخلي عن حريّته وهو ما يؤكّد بكلّ شفافيّة الفكرة القائلة، بأنّ الإنسان محكوم عليه أن يكون حرّا حريّة مطلقة، وهو بذلك ليس حرّا في ألاّ يكون حرّا. وهذا ما قصده سارتر، بقوله: “إنّ قولي “أنا موجود”، مرادف تماما لقولي “أنا حرّ”، لأنّ الحريّة هي الشعور بالوجود نفسه”([173]).

يُماهي سارتر بين الوجود والحريّة، فهو يؤسس “لكوجتو” على طريقة فيلسوف الحداثة “ديكارت”. ولكن، بشكل مغاير تماما. فكوجتو سارتر هو التالي: “أنا حرّ، إذن أنا موجود”، أي تذويب الكينونة الإنسانيّة في مقولة الحريّة. فثمّة أسبقيّة أنطولوجيّة للحريّة على حساب الوجود، إضافة إلى إقرار سارتر، بضرب من العلاقة الشرطيّة بين الحريّة والوجود، أضحى بمقتضاها هذا الأخير، مرتهنا بالحريّة أو لا يكون. وفي هذا الإطار، قال سارتر: “الإنسان مضطرّ أن يكون حرّا، وقد حكم علينا بالحريّة”([174]).

هذا القول الأخير، فيه تأكيد على مطلب الحريّة التي تطبع صميم الذات الإنسانيّة. ويذهب الفيلسوف الفرنسي إلى أبعد من ذلك، في تأكيده على أنّ الحريّة كلّ لا يتجزّأ، بل هي مطلقة، لا تحتمل زيادة ولا نقصان. ومن هنا، أعلن سارتر: “أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون حرّا تارة، وعبدا تارة أخرى، لأنّه، إمّا أن يكون حرّا حريّة مطلقة دائمة، وإمّا ألاّ يكون حرّا على الإطلاق”([175]). إنّ ما يمكن استجلاؤه من هذا الموقف، أنّ سارتر ينفي أن تكون للحريّة درجات، فيكون الإنسان أحيانا قليل الحريّة، أو له حريّة ضئيلة، بينما يكون مطلق الحريّة في حالات أخرى. وبالتالي، فإنّ جدّة المقاربة السّارتريّة تتجلّـــى في: “أنّ الحريّة لا تحتمل التفاوت في أقدارها أو درجاتها”([176]). نستخلص إذن، خصوصيّة التصوّر الوجودي السّارتري، فيما يخصّ مقولة الحريّة، التي لا تكترث بالحتميات التي تطوق الوجود الإنساني، ولا بجملة العوامل المحيطة بالذات في مباشرتها لوجودها في العالم. فهي، بهذا المعنى، حريّة مطلقة، عصيّة على كلّ قيد، لا حدود لها سوى الحريّة ذاتها.

وهذا ما أشار إليه، “جان فال”، من خلال قوله: “إنّ ما يتردّد في فلسفة سارتر من أصداء رواقيّة المنزع، ولاسيّما فكرته القائلة بأنّ الحريّة كل لا يتجزّأ، ولا يعتريها أي نقص، حتى عندما نكون عبيدا أرقاء”([177]).

في ظلّ هذا التصوّر السّارتري، نستخلص ضربا من المعادلة المنطقيّة مفادها، أنّ الوجود لذاته، إمّا أن يكون حرّا حريّة مطلقة، قارّة وثابتة، وإمّا أن يكون شيئا في ذاته. ومن هذه الزاوية، يبرز الطابع الأصيل لوجوديّة سارتر بوصفها فلسفة حريّة بامتياز، إذ لا وجود للعظمة الإنسانية، إلا في الحريّة، التي يبني بها الإنسان لنفسه منزلة في الوجود هو جدير بها. ولكن، في أفق هذا الطّرح السّارتري لإشكاليّة الحريّة الإنسانيّة والوقوف عند مميّزاتها، حريّ بنا، البحث على بعض المرجعيات الفلسفيّة، التي أثّرت في مشروع سارتر هذا، وتأثر بها. وأول ما يستوقفنا هاهنا، بادئ ذي بدء، أبو الحداثة “ديكارت”، الذي كان قد هيمن على الفلسفة الفرنسية، وكان له حضوره في المتن الفلسفي السّارتري. لذلك، بات من الشّرعي لنا، أن نتساءل:

  • ماهي نقاط الالتقاء وأوجه الاختلاف بينه وبين سارتر؟

يبدو أنّ سارتر لم يجانب الصّواب، عندما اعتبر، أنّ الإنسان مطلق الحرّيّة، وهو بهذا التوجّه يساير “ديكارت”، فيما ذهب إليه، عندما أقرّ أنّ: “الحرّية أساس الوجود (…)، وهي لا حدود لها سوى الحريّة الإلهيّة”([178]).

إنّ أبرز استنتاج نخرج به من هذا القول الأخير، أنّ التصوّر الديكارتي رغم تشديده على قيمة الحرّية وإطلاقيتها، إلاّ أنّها، تظلّ محدودة بالحريّة الإلهيّة، باعتبارها لا متناهية. أمّا الفيلسوف الوجودي، فإنّه يخالف هذا الموقف الديكارتي، حينما قال بإطلاقيّة حرية الذات الإنسانيّة. وهو بهذا المعنى، ينتزع الحريّة المميزة للإله مع ديكارت، لتصبح حكرا على الإنسان. عود على بدء، يبدو أنّ سارتر قد ثمّن إلى حدّ ما التوجه الديكارتي، الذي قال باستقلاليّة الإرادة وحريّتها. وهو ما أفصح عنه، بقوله: “هكذا نكتشف أولا في مؤلفات ديكارت، إثباتا إنسانيا للحريّة الخلاقة، التي تؤسس الحقّ قطعة قطعة، وتستشعر أو تقيّم في كلّ لحظة العلاقات الحقيقيّة بين الماهيّات وذلك بإنتاجها للفروض وللرسوم التخطيطية، التي هي متساوية بين الإله والإنسان، وبين جميع البشر، وهي مطلقة ولا محدودة”([179]).

هذا القول، يبرز إعجاب سارتر بالتصور الديكارتي، فيما يخصّ الحريّة الإنسانيّة. فالمعتقد الخاص بديكارت حسب الفهم الوجودي السّارتري، يتمثّل في أنّ: “مفهوم الحريّة يشدد على استقلالية مطلقة، وأنّ فعلا حرّا هو إنتاج جديد بإطلاق، لا يكون أصله موجودا في حالة سابقة للعالم. وبالتّالي، فإنّ الحرّيّة والخلق شيء واحد”([180]). ولكن، الملاحظ وفق سارتر، أنّ فيلسوف الحداثة كان الأسبق في تأكيده على قيمة الحريّة، بماهي جوهر مقوّم لإنسانيّة الإنسان. وهو بذلك، قد فهم أنّ: “ديكارت قد سبق هيدغير، في تأكيده، أنّ الحريّة هي الأسـاس الوحيد للوجـود. والاختـيار الحرّ يرتبط بالسالبيّـة أو السلب”([181]).

ننتهي إذن، إلى القول، أنّ التمثّل الوجودي في صيغته السّارتريّة، إن كانت له جذورا ديكارتيّة، وهذا منطقي ومعقول، مادام الفكر السّارتري قد نشأ في مناخ ديكارتي. ولكنّ، سارتر، لم يكن مقلّدا أو سجينا للنصّ الديكارتي، بل حاول أن يفكّر مع ديكارت وضد ديكارت وذلك بتفجير الأطروحة الدّيكارتيّة، باستحداثه لحديث يلتقي مع القول الديكارتي حينا ويختلف معه أحيانا أخرى. إنّهما يلتقيان في القول بقيمة الحريّة المبدعة والخلاّقة ولكنّهما، يختلفان جذريّا، من خلال اتّخاذ ديكارت للإله كضامن لصحّة معارفنا، وأنّ حريّة الذات تظلّ محدودة مقارنة بحريّة الإرادة الإلهية، أمّا سارتر، يرفض كلّ سند أو ضمان، من خلال قوله، بإطلاقيّة الحرّية الإنسانيّة. ويبدو، أنّ خصوصيّة الموقف الوجودي مع سارتر، سيتبلور بوضوح، في مستوى العنصر الموالي، المتضمن للجانب الأكثر خصوصيّة في الفلسفة الوجوديّة عامة، من خلال محاورة بعض المسلّمات، التي قامت عليها الأنساق الفلسفيّة في ثوبها الميتافيزيقي.

  • فكيف تبرز خصوصيّة الفكر الوجودي السّارتري؟
  • ما الذي يشرّع للخصومة الوجوديّة السّارترية ضدّ الأنساق الميتافيزيقيّة؟

2)    مفهوم الإنساني من منظور سارتر: قراءة ما بعد ميتافيزيقيّة؟

أساس الفلسفة الوجوديّة عامّة والسّارتريّة خاصّة، مصادرة مفادها: “أنّ الوجود يسبق الماهيّة”. وهذا ما أقرّه سارتر، في قوله:”إنّ الأمر المشترك بين الوجوديين جميعا هو ببساطة اعتقادهم أنّ الوجود سابق على الماهيّة، وأنّ المنطلق يجب أن يكون من الذاتيّة”([182]).

إنّه، لمن الأكيد إذن، أن نفهم، أنّ المدرسة الوجوديّة بكلّ معانيها، تتفق على القول بهذه القاعدة. وبناء عليه، فإنّ الماهيّة حسب الموقف الوجودي تسبق الوجود في جميع موضوعات العالم، باستثناء الإنسان، الذي يسبق وجوده ماهيته. فالإنسان يوجد أولا، ثمّ يصير هذا أو ذاك، وهو الذي يبدع قيمه ويخلق ماهيته بنفسه بعد أن يوجد ويمكننا، استكشاف قيمة هذا التصور، بالنّظر إلى ما أعلنه سارتر: “الإنسان هو خالق نفسه، لأنّه وحده متصوّر لها”([183]).

 من شأن هذا القول، أن يكشف لنا مضمون أطروحة سارتر المتعلّقة بثنائيّة الوجود والماهيّة. فقد ذهب الرّجل، إلى كون الإنسان، قد قذف به في العالم وعليه أن يصنع ماهيته، أي جملة اختياراته وأفكاره وقيمه. فالإنسان السّارتري، هو حرّ ومسؤول عمّا يفعله وعمّا يحدّثه. وهذا المعنى، هو الذي قصده الفيلسوف الفرنسي، حيث قال: “إنّ الإنسان يوجد قبل كلّ شيء، يصادف ويظهر في الطبيعة والكون، ومن ثمّ يحدّد ويعرف”([184]).

صورة الأمر هاهنا، أنّ الخصوصيّة الأساسيّة للوجود الإنساني في اعتقاد سارتر، هي العرضيّة (La contingence).

فالإنسان قذف به أو هو “مهمل” (Délaissé) بعبارة “هيدغير”، في عالم بلا معنى وأنّه لا يمكنه أن يكون دون أن يختار بنفسه صيغة معيّنة لوجوده، بما يضفي على حياته معنى. وما يهمّنا في هذا الموقف، الفارق الجوهري بين الإنسان والأشياء. وهذا ما فسّره بوضوح كبير في: “الوجوديّة مذهب إنساني”، من خلال مثال شيء مصنوع قد حدّد في ذهن صاحبه في البداية، ثمّ جسّمه وفق ذلك التصوّر المسبّق، وهو ما ينطبق أيضا، على وضع الإنسان في أفق التصوّرات اللاهوتيّة بالأساس. فالفرد هنا، هو مخلوق يرجع وجوده إلى خالق حدّد طبيعته وماهيته على نحو قبلي، فماهيّته سابقة إذن، على وجوده. أمّا، مع الوجوديّة السّارتريّة ينتفي ذلك، لأنّ الوجود لذاته ببساطة صانع ذاته بذاته، وهو ما أعلنه سارتر صراحة بقوله: “وهكذا يصحّ الاعتقاد أنّه لا توجد طبيعة إنسانيّة، لأنّه لا يوجد إله خالق ليتصوّرها في ذهنه، ومن ثمّ يعمد إلى خلق الإنسان بناء على تصوّره لتلك الطبيعة”([185]).

مقاصد هذا القول، أنّ الإنسان لا يكون إنسانا، إلاّ متى لم يخضع، إلاّ لمشيئته الذاتيّة، أي لقيم وأفعال سنّها بنفسه. وهو ما يبرهن، أنّ ماهيّة الذات مشروع مؤجّل باستمرار، وذلك لكونها، غير قابلة للامتلاك أو التحقق، باعتبارها ماهية مفتوحة لا تعرف التحديد المسبق. ومن هنا، فإنّ الوجود لذاته في تقدير سارتر مشرّع لذاته، ولا يخضع لقيم خارجة عن ذاته. ولكن، هذا الموقف السّارتري الأخير، قائم على قناعة مستوحاة من الأديب الروسي “دوستويفسكي”، القائل: “لو كان الإله غير موجود، لأصبح كلّ شيء مباح”([186]).

يبدو أنّ الإضافة السّارتريّة، تكمن في تحويل هذه الفرضيّة من مجال الإمكان إلى طور التحقّق، حيث أجهز سارتر على الإله، وعلى كلّ سند ميتافيزيقي أو لاهوتي. وذلك بهدف تثبيت حريّة الذات المطلقة. لهذا، سعى الإنسان إلى تأسيس كيانه وصنع قدره، نافيا العجز عنه، من خلال صراعه المزدوج العمودي / الأفقي، برفضه لشتى أنواع القيود، باستثناء قيد الحريّة. ويريد من ذاته، أن تكون مركز الكون. وهو ما يجعلنا، بمقتضى ذلك، نستشرف ميزة المشروع السّارتري، بما هو مشروع ربوبي أفقي وليس عمودي، هدفه تسييد الإنسان على الكون، من خلال قدرة هذا الأخير على تغيير ملامح هذا العالم بكلّ حريّة.

ومن زاوية أخرى، يمكن القول من منظور سارتري، يكون الفرد قادرا على خلق ماهيّته وبناء ذاته. وبالتّالي، تكون تجاربه الوجوديّة تعبيرا عن ماهيّته، التي هي الحريّة في مدلولها العميق والأصيل. وهذا ما نبّهنا إليه سارتر، بقوله: “إنّ الحياة لا تنطوي قبليّا على أيّ معنى، بل لابدّ أن تأتي الحريّة فتخلع عليها ما ترتضي من معنى، وتضفي عليها ما تشاء من قيمة”([187]).

نفهم من هذا الموقف، أنّ الحريّة هي أساس الوجود، ويؤكد سارتر بذلك، على المنزلة المتميّزة لقيمة الحريّة، بماهي المعنى العميق للحياة.

إنّنا، لنخطو خطوة عظيمة في اكتشاف المقاصد الكبرى التي تقوم عليها الأطروحة الوجودية مع سارتر، حينما ندرك المبدأ السّارتري، القائم على مسلّمة، تقول: “الحريّة الإنسانيّة تسبق ماهية الإنسان وتجعلها ممكنة”([188]).

بعد هذه الاعتبارات المدخليّة، الخاصّة بوجهة نظر سارتر حول علاقة الوجود بالماهية، يجوز لنا القول، أنّ الرّهان الأساسي من وراء ذلك، هو الرّد على جملة المواقف، لاسيّما المثالية منها، القائمة على قناعة مفادها: “أسبقيّة الماهيّة على حساب الوجود”. فالفلسفة الحديثة، انطلاقا من ديكارت ووصولا إلى هيغل، كانت مشروعا عقلانيّا طموحا، مرجعه الرئيسي، هو الإنسان بوصفه وعيا حرّا وقوّة فاعلة في العالم والتّاريخ، وذاتا منتجة للقيم والرموز، قادرة على تملّك الطبيعة، وتدشين التطابق المأمول بين العقل والعالم. وبالتالي، فإنّ مركز ثقل القول الفلسفي الوجودي، يتمثّل، في مقارعة جملة المصادرات التي تأسّس عليها الخطاب الميتافيزيقي بأنساقه العقليّة المفرطة في تعاليها وكبريائها، ولقوالبه المفهوميّة، من خلال إجلاله للعقل واستهجانه بكلّ ما هو مادي ومحسوس.

إنّ مزيّة الفكر الفلسفي السّارتري، تتجسّد في تفجير مزاعم الفكر الميتافيزيقي وكشف النقاب على جملة الأقنعة التي يتستّر خلفها، وذلك بفضح أوهامه والتّظنّن على الثوابت والأوثان والمطلقات الزائفة. فالسّجال الوجودي السّارتري الدائر ضد الميتافيزيقا، يهدف إلى ردم الهوّة المفتعلة بين الفيلسوف وأصله. ومن هنا، شرعيّة إخضاع التوجّهات المثالية المغرقة في الصوريّة والتأمّل المتعالي إلى زلزلة تدميريّة نظرا لأنّ الفيلسوف الميتافيزيقي، يرفض الانخراط في عالم الحياة اليوميّة ويخشى من تلوّث يديه بالوحل، لأنّ مثل هذا الإنسان لا تسيطر عليه سوى فكرة بعينها، ألا وهي فكرة الصعود وسُكنى ساحة المفهوم. ولكن، يرفض الفيلسوف الوجودي، جملة المبادئ المؤسّسة لحقيقة التفكير الميتافيزيقي المنتصر للثبات والسكون، الذي جمّد ماهيّة الإنسان وحدّدها في بعدها العقلاني على نحو ما قبلي. لذلك فإنّ المناظرة الوجوديّة ضدّ الميتافيزيقا، تطمح إلى إثبات الطابع المتجدّد والمتغيّر والمنفتح، الذي يميّز حقيقة الذّات والوجود عامة. ومن هنا، أعلن سارتر: “أنّ الوعي مقضي عليه بالحريّة، لأنّه ليس حاصلا على ماهيّة ثابتة يتحدّد بمقتضاها سلوكه وترسم في نطاقها أفعاله، وهو ليس حاصلا على ماهيّة ثابتة، لأنّه انفصال دائم لا يتيح أن يستقرّ على حال ثابتة”([189]).

إنّ النزعة الإنسانيّة الوجوديّة، تتأسّس على مفهوم “التجاوز” (Le dépassement)، الحاصل في صميم ذاتيّة الفرد، مادام هذا الأخير خارج ذاته باستمرار. وهذا التجاوز حسب سارتر يدخل في تركيب الوجود لذاته، لأنّ مجال الوجود الإنساني، مجال حركة وتغير. ويبدو، أنّ سارتر على حقّ، لمّا ذهب إلى القول: “الإنسان ليس قبل كلّ شيء، إلا مشروعا، وهو مشروع يعيش بذاته ولذاته. وهذا المشروع سابق في وجوده لكلّ ما عداه”([190]).

يتجلّى واضحا، أنّ الإنسان في تقدير سارتر مشروع وجود. وتستمدّ خصوصيّة كينونته من حيث أنّه يدرك عن وعي من هو؟، ومن سيكون؟، وماذا يريد أن يكون؟، أي أنّ الوجود لذاته يتمتّع بالقدرة على التعالي، وتجاوز ما هو عليه، وليست له طبيعة ثابتة تحدده، وهو باستمرار يلقي بذاته في ممكنات الوجود العيني، وهو حرّ في اختياره لكيانه ومصيره وأفعاله. وهذا ما قصده الفيلسوف الفرنسي، من خلال قوله: “ليس هناك فرقا بين أن يكون الإنسان حرّا، أن يكون مشروعا، أن يكون وجودا يختار جوهره وبين أن يكون كائنا (مطلقا) شاملا”([191]).

إنّه لخليق بالملاحظة، في هذا المقام، التركيز على فكرة أساسيّة طبعت التصور السّارتري، وهي فكرة “الإنسان مشروع”، أي أنّه، ينحت كيانه ويبني ماهيته تدريجيا، من خلال انصهاره في الوجود أوّلا، ثم ينطلق في تأسيس ذاتيته ثانيا. ويكفي، دليلا على ذلك، قول سارتر:”إنّ الإنسان يبقى دوما خارج ذاته. وإنّ الإنسان بارتمائه خارجا عن نفسه وبذوبانه بعيدا عن نفسه يحيي الإنسان…” ([192]).

نستخلص من هذا القول الأخير، أنّ الوجود الفردي الخاصّ، ينطوي في جوهره على رصيد لا نهاية له من الإمكانات، من خلال سعي الأنا إلى تجاوز ذاته، في خضمّ عالم آهل بالمتطلبات وإزاء مشاريع بصدد الإنجاز. ونشير في هذا الصّدد، إلى الموقف التالي لسارتـر: “نعتبر أنّ الأنا هاهنا، لا هو صوري، ولا هو مادي في الوعي: إنّه في الخارج، في العالم، كائن في العالم كلأنا الآخر”([193]).

نفهم من كلّ ذلك، أنّ سارتر يتخذ من الوعي، بما هو موجود في العالم منطلقه. وهو بذلك، يقرّر أولويته الفينومينولوجيّة كحضور مباشر في الوجود. إنّ إنسانيّة الإنسان في تقدير سارتر، هي وقائعيته المتجدّدة، أو هي مشروع يتحقّق باستمرار، فالوعي عند هذا الحدّ، حركيّة تاريخيّة متجدّدة ومنفتحة، وهو ما يدفعنا، إلى حدّ الإقرار، أنّ الفرد ليس له ماهيّة ثابتة، وإنما له تاريخ. وهنا، لابدّ من الإشارة إلى أنّ الفيلسوف الفرنسي، قد تبنّى قول “بونج” (Ponge): “الإنسان مستقبل الإنسان”([194]).

الجدير بالملاحظة، أنّ علاقة الإنسان بذاته، ليست معزولة عن علاقته بالآخر. فالذات حسب سارتر، لا توجد، إلا بمعيّة الآخرين. من هذا المنطلق، يوجد الإنسان في العالم، ضمن علاقات تفاعل مع الآخرين.

رغم أنّنا، نجد سارتر في كتابه “الوجوديّة مذهب إنساني”، يتبنّى جانبا من الفلسفة الديكارتيّة، يتمثّل “الكوجتو” (Le Cogito) (أنا أفكّر، إذن أنا موجود)، بما هو إقرار بأهميّة وعي الذات بنفسه في إدراك حقيقته. ولكن، سارتر، يتخطى ذلك، ببيان دور حضور الآخر في وجود الذات. هذا ما أقره سارتر، بقوله: “ليس ثمّة حقيقة أخرى، يصحّ الانطلاق منها غير هذه الحقيقة: “أنا أفكّر إذن أنا موجود”، تلك هي الحقيقة المطلقة التي تمثل لوعي انتهى إلى الوعي بذاته (…). لكن الذاتيّة التي نبلغها، ههنا كحقيقة، ليست ذاتيّة فرديّة خالصة”([195]).

يقرّ سارتر، أنّ الإنسان ليس مفهوما مجرّدا أو ماهيّة محدّدة تتعالى على التّاريخ، وإنّما هو مشروع، يتحقّق من خلال تجارب ملموسة تضعه في علاقة مع الآخرين. فهو، في هذا السياق، يواصل القول بالتقليد الفينومينولوجي الهُوسّرلي في قوله “بالبين -ذاتيّة”، بما هي فضاء تداخل الذوات وتفاعلها ضمن حوار: “أنا – أنت”، فالذات تقرر ذاتها، ولكن ضمن واقع معطى وفي علاقة بذوات أخرى، تحمل أفكارا وتصورات. ومن هذا المنظور، تبرز علاقة الحريّة بالمسؤوليّة في تحقيق الذات لذاتها: علاقتي بالآخرين، تجعلني مسؤولا، لا عن مجرّد فرديّتي، بل عن الإنسانيّة جمعاء، ويذهب سارتر إلى الإقرار: “ولكي أحصل على حقيقة ما عن ذاتي، لزمت وساطة الآخر. فالآخر ضروري لوجودي، قدر ما هو ضروري من جهة أخرى لتحصيل المعرفة التي لي بذاتي. إنّ اكتشافي لحميميتي وفق هذه الشروط – يكشف لي في ذات الوقت عن الآخر، بما هو حريّة ماثلة قبالتي، لا يفكّر ولا يريد، إلا من أجلي أو ضدّي”([196]).

تحقّق الذّات ماهيتها في تقدير “جان بول سارتر”، ضمن علاقتها بالآخرين، بماهي ذات حرّة بمعية ذوات أخرى حرّة في عالم بينذاتي: يعيش الإنسان ضمن المجموعة، لكنّه، ليس سجين رؤيتهم له، إذ بإمكانه أن يقرّر ضدّهم، وأن يحدّد ماهيته على النحو الذي يريد. وهكذا، يقول سارتر: “نكتشف عالما نسميه عالم “البين-ذاتيّة”. وفي هذا العالم بالذات يقرّر الإنسان ماهيته وماهيّة الآخرين”([197]).

يبرز هذا القول، القيمة المركزية للآخر، بما هو شرط لازم لوجود الذات ولوعيها بذاتها. ويرى سارتر، أن الإنسان لا يكتشف، أنّه فطن أو قاس أو حسود، إلا من خلال علاقته بالآخرين. وحسبنا، أن نقول مع سارتر: “إنّنا لا نكتشف أنفسنا في عزلة ما، بل في الطريق، في المدينة وسط الجماهير، شيئا بين الأشياء، أناسا بين البشر”([198]).

بهذا الموقف، يسوّغ سارتر لنفسه، التّظنن على حقيقة الإنسان، بما هو وعي ويتجاوز عندها، التعارض بين الإنيّة والغيريّة والذاتية والمعيّة والوجود مع الآخر والحريّة. يقول سارتر: “الغير هو الآخر، بمعنى الأنا الذي ليس أنا”([199]).

لقد تجاوز سارتر الرؤية الاقصائيّة، ليؤكد الترابط بين الأنا والآخر والأنا والعالم. وهو ما يجعلنا، نقف على ما أنتجته هذه الإحداثات من أزمة لفلسفات الوعي، تحول بمقتضاها، هذا الأخير، من مستوى البداهة إلى الإشكال، من اليقين إلى الحكم المسبق ومن وضعية الحقيقة إلى الوهم. وترافق ذلك، مع تغيير قبلة التفكير صوب بدايات أخرى، متمثلة في التشريع الوجودي عامة والسّارتري تخصيصا، للأسبقيّة الأنطولوجيّة للوجود على حساب الماهية.

بيد أنّ المشروع الفلسفي السّارتري في هذا المستوى بالذات يعود في إرهاصاته الجنينيّة الأولى، إلى إسهامات الأب الرّوحي للوجوديّة، سورين كيركيغارد. لقد قام سارتر إذن، باستئناف محاورة المأثور الميتافيزيقي، هذا المشروع الذي دشنه “كيركيغارد”. وبالتالي، حقيق بنا، إثارة جملة الاستفهامات التالية:

  • ما الذي يعيبه “كيركيغارد” على التوجه المثالي في صورته الهيغليّة؟
  • ما هي مآخذ وحدود الفكر الفلسفي الميتافيزيقي كما تجلى هيغليا وفق المنظور الكيركيغاردي؟
  • ما هو البديل الذي قدّمه الفيلسوف الدانماركي؟

يعتبر الفيلسوف الدانماركي “سورين كيركيغارد”، ناقدا مناوئا للميتافيزيقا، ولكلّ المثل والقيم والأوهام، التي تأسست على عوالم ما ورائية، ووجدت سندها في وعي الذات وتطابق الأنا مع نفسه. إنّ المناظرة الكيركيغاردية للأنساق الفلسفيّة والمعرفيّة الكبرى، على غرار النّسق الفلسفي مع “هيغل”، الذي راهن على بلوغ المطلق وتهميش ما هو جزئي، بإلغاء ما هو أساسي في الإنسان، وهو كينونته الشخصيّة وتركيبته الداخليّة القلقة، وتفاصيل وجوده الحائر. من هذا كلّه يتّضح لنا، أنّ رفض الوجوديّة للتوجه الهيغلي، يعود بالأساس إلى إنكار الفكرة القائلة: “إنّ العالم ذاته يكون نسقا”([200]).

الجدير بالملاحظة، أنّ الفكرة المحوريّة، التي تكمن وراء هذا القول، أنّ المذهب العقلاني في الفلسفة عاجز على تقديم تفسير سليم لمعنى الوجود الإنساني. فالهيغليّة إذن، “اتّجاه نظري جاف، يكاد لا يترك لانفعالات النفس مجالا.”([201]). ولهذا يقول كيركيغارد بضرورة العودة إلى ما أسماه “بالأحوال الوجوديّة للتفكير”([202])، أو بطرق التفكير الوجوديّة، التي تنفد إلى باطن الأشيّاء، وتهتّم بالتجربة الحيّة في حقيقتها الداخليّة. “فالمشاعر النوعيّة الخاصّة، لأيّ فرد، لا يمكن أن تفهم، إلا وجوديّا”([203]).

لا يجد كيركيغارد صعوبة في تفنيد النسق الفلسفي لـ “هيغل”، ليتهاوى بأكمله، بعد أن تزعزعت مرتكزاته الأساسيّة. وعلينا الآن، استجلاء بعض السّمات الرئيسيّة لهذا التوجّه الهيغلي، لنفهم أكثر شرعيّة تقويضه والإطاحة به من طرف الوجودي “كيركيغارد”. وهنا، نسوق القول التالي: “إنّ النسق الفلسفي الهيغلي مغلق وكامل، بما أنّه قد استوعب العالم داخل المفهوم والفكرة وكيّفه ليتماشى ومتطلبات الفكرة، بحيث أصبح الواقع عقلا والعقل واقعا”([204]).

ينبغي علينا أن نلاحظ، من خلال هذا القول، جملة نقاط هامّة: أولها، أنّ الوجود مع “هيغل” هو الفكرة، التي تجسّد وحدة الذاتي والموضوعي. وثانيها، اختزال الفيلسوف الألماني للحقيقة التاريخية في مستوى المفاهيم، أي رفع الموضـوع إلى مرتبة المفهـوم أو الفكرة، بماهي المطلق في تقدير هيغل.

فالمطلق (L’absolu)، هو الذات الكليّة، التي تستوعب كل شيء، وجميع الأشياء، لا تعدو أن تكون في نهاية المطاف، إلا تطورا ديالكتيكيّا عن الفكرة الأصلية، باعتبارها سابقة على العالم، كما لو كانت سببه، إنّها السبب الأول بإطلاق. وهـــذا ما يبرّر، في القول التّالي: “نفهم من كلّ ذلك، أنّ هيغل قد حاول فهم الحقيقة والواقع ككلّ، فأسّس الوحدة الديناميكيّة بين التفكير والوجود داخل الفكرة: ولا ننسى أنّ الروح يظهر في قالب أفكار عينيّة، لا تمثل الواقع وتعبّر عنه فقط، بل تكون هي الواقع نفسه (…)، حتى اندمج حقيقة في المفهوم ([205]). على هذا الأساس، ذهب “كيركيغارد” إلى نقد التوجه الهيغلي المغالي في مثاليته، ليؤكّد الفيلسوف الوجودي على استحالة إقحام الفرد قسرا في النسق، معلنا بذلك أن الوجود يسبق الماهيّة ومن هنا، كانت الذاتيّة هي النغمة المهيمنة في فلسفته. وهذا ما يترجم عنه، الموقف التالي: “أن يعرف المرء بعقله كلّ شيء، إلا ذاته فهذا هو المضحك تماما… فما جدوى بناء المرء قصورا فخمة، حافلة بالمنطق والوضوح، إذا كان سيضطر إلى أن ينام بعد ذلك في المخزن المجاور! ([206]).

 يراهن كيركيغارد على أهميّة الفرد ودوره في الوعي بذاته وتأسيس كيانه بصفة شخصيّة وحرّة. وهذا ليس بغريب على فيلسوف وجودي يضع من الوجود الذاتي أولى اهتماماته. وبالتّالي، تكتسي ردّة فعله حيال الفكر المثالي عموما وخصومته ضد هيغل خاصة شرعيّة: “لقد هاجم هيغل بصفة خاصّة وأصرّ كيركيغارد على ألّا تكون الفلسفة تجريديّة، بل تقوم على التجربة الشخصيّة، وعلى الموقف التاريخي الذي يجد المرء نفسه فيه…”([207]). بهذا المعنى، تبرز وشائج الالتقاء بين سارتر وكيركيغارد، في تأكيدهما على أولويّة الذّات. وخلافا لجملة المواقف الميتافيزيقية، الباحثة عن مشروعيّة فلسفيّة للقاعدة القائلة بأسبقيّة الماهيّة على حساب الوجود، نستجلي في المدوّنة الفلسفيّة الوجوديّة، إدانة واضحة لها، ومحاولة للقطع معها، ذلك هو إذن، المنطق الداخلي، الذي يشدّ معماريّة الفكر الوجودي، على نحو ما ألفيناه في تلكم المسلّمة الوجودية التي مفادها: “أسبقيّة الوجود على حساب الماهيّة”.

ولعلّ، الأسئلة المركزية، التي تحرّكنا من وراء كل هذا، هي التّاليّة:

  • هل يكون كافيا مجرّد الشعور، بأنّنا أحرار، للبرهنة على كوننا أحرار؟
  • ألا يكون ساعتها هذا الإقرار هشّا، بافتراضه أنّ الحريّة معطى مسبقا؟
  • أليست الحريّة مطلبا إنسانيّا، يأخذ معناه كاكتساب، أي أنّنا نطلب الحرّيّة ونراهن على التحرّر كممارسة عمليّة؟



الفصل الثّاني: الوجودية مذهب إنساني: من سُؤال الحرّية إلى إيتيقا التحرّر لدى سارتر

1)     الاغتراب مفهوما

لا شكّ في أنّ إثارة هذه المسألة، تعني فيما تعنيه، الانتقال من مطلب الحريّة بوصفه مطلب عام، إلى المجالات التي يتنزّل فيها فعل التحرّر: من الحريّة إلى مجالات الحريّة. وإذا اعتبرنا موضوع “الوجود والعدم” هو وصف الحريّة في كلّ أنماطها، فإنّ ذلك يعني بالأساس أنّه دراسة للإنسان. أمّا في “نقد العقل الجدلي” يتحوّل سارتر من الحريّة العفوية المطلقة إلى حرية كائن اجتماعي تاريخي. معنى ذلك أنّه يتخلى عن وجهة النّظر المثاليّة السّائدة في “الوجود والعدم” ليتحدّث عن حريّة “محدّدة بحرية”. تفترض هذه المسألة إذن تناوّلا لكلّ المسألة الإنسانيّة، لكن ذلك لا يعني تصوّر الحرّيّة باعتبارها خاصيّة لماهيّة الإنسان، إذ أنّها في الواقع ليست سوى اكتمال حادث أو عرضي يجعل هذه الماهيّة ممكنة([208]).

إنّ المتتبّع لتطوّر الفكر السّارتري، يدرك دون عناء الاختلاف أو إذا أردنا القطيعة التي تسم تصوّره للعديد من المسائل الفلسفيّة، وبتحديد أدّق، للقاعدة الأساسيّة لفلسفته، الحريّة من حيث هي أساس أنطولوجي في مرحلة أولى، ثمّ التحرّر في مرحلة لاحقة باعتباره فعلا إنسانيّا مشروطا من قبل العالم المادي الّذي ينتجه باستمرار([209]).

إنّ المتأمل إذن، في مشروع سارتر، يستخلص استحالة الحريّة إلى نشاط ومسار تحرّري. فهو، لم يكتف بوصفه الحريّة، دون الاكتراث بتأسيسها. بل إنّه، قد اضطلع بهذا المطلب في جانبه العملي، وذلك من خلال موقفه الوجودي، حول الاغتراب المهدّد لحريّة الوجود لذاته وطرحه لآليات التّحرر منه.

– فما الاغتراب أوّلا؟

إنّ الاغتراب: (Aliénation) مفهوم متعدّد الدّلالات، بقدر تعدّد حقول اشتغاله واختلاف استعمالاته. يحسن بنا، أن نتعرّض أوّلا بشيء من التّفصيل والتّدقيق لحياة لفظة: “الاغتراب” من جهة الأصل الايتيمولوجي والمدلول الاصطلاحي.

* لغة: يرد الاشتقاق اللّفظي للمصطلح الفرنسي (Aliénation)، إلى “اللّفظة اللاّتينية (Alienatus)، وتعني الذي لا يمتلك ذاته”([210]).

فالاغتراب، يفيد حالة الفرد الذي يعيش تبعيّة، بفعل سلطان الغير. إذن بدلا من حصر لفظة “الاغتراب في معنى جزئي واشتقاقي، لنحاول تحديد الدّلالة الأساسية، التي بها: تلتحق كل المعاني التي تتضمنها.

لنتعرض، فيما يلي للتّعاريف الاصطلاحيّة “للاغتراب” في بعض المجالات.

* اصطلاحا: “في المعنى الحقوقي، “الاغتراب”، هو التّنازل عن الملكيّة لصالح الآخر، ويعني في الطّب الاضطراب العقلي، الذّي يجعل الإنسان غريبا عن ذاته ومجتمعه ونظرائه. أمّا، في الفلسفة، فيشير إلى غربة الإنسان عن جوهره، وتنزّله عن المقام، الذّي ينبغي أن يكون فيه. فالاغتراب نقص وتشويه وانزياح عن المعنى الصّحيح”([211]).

ويعود الفضل لهيغل ومن بعده ماركس في بلورة هذا المفهوم. فإذا كان، الاغتراب هيغليا، يعبّر عن اغتراب الرّوح، فإنّه ماركسيّا ذو طبيعة اقتصاديّة ماديّة واجتماعيّة، ممّا يجرّد الذّات الإنسانيّة من أبعادها المميّزة وترتدّ إلى منزلة الشّيء. وليس ببعيد عن هذه التّحديدات، يتنزّل الموقف السّارتري من الاستلاب أو الاغتراب، كحالة ينقلب فيها الإنسان إلى شيء ويكفّ عن أن يكون ملك نفسه، ويفقد حريّته واستقلاله الذّاتي، بفعل تأثيرات جملة من العوامل المتنوّعة. وهذا، ما سنتكفّل بتوضيحه في العنصر الموالي. وهنا، قد يكون من المستحسن بنا، إذا، إثارة الاستفسارات التّاليّة:

  • ماهي دواعي الاغتراب سارتريّا؟
  • فيم تتمثّل شروط إمكان التحرّر من مخاطر الاغتراب على نحو ما ألفيناها لدى سارترعلى إثر ماركس؟

2)    في التّلقي العملي السّارتري لفكر ماركس حول نظريّة الاغتراب وسياسات التحرّر: (الماركسيّة بوصفها فلسفة للإنسان وللتّاريخ)

إذا تدّبرنا أمر الفكر الفلسفي لسارتر، فينبغي أن نؤكّد، أنّ الاغتراب يعزى في مرحلة أولى إلى علاقة الأنا بالآخر، على نحو ما عبّر عن ذلك، في القسم الثالث من كتابه: “الوجود والعدم”، المعنون: “الما-هو للغير”. يؤرّخ سارتر للاغتراب الأنطولوجي، النّاجم عن التقاء الأنا بالآخر، من خلال فعاليّة “النّظرة” (Le regard).

ومن هذا المنظور، فإنّ فحص الخيارات النظريّة الأساسيّة لهذه العلاقة، كما بلورها سارتر، تبرز الفضاء الصّراعي أو الصّدامي بين الذّوات. يقول سارتر: “إنّ الخطيئة الأصليّة، هي وجودي في عالم فيه الآخرون”([212]).

إنّ المغزى الجوهري لهذا الموقف، يبرهن على استحالة قيام تواصل بين الأنا والآخر، مادام هذا الأخير، في تقدير سارتر، لم يوجد، إلا لسلب حريّتي وتجميد نشاطي الحرّ. ويتدرّج الفيلسوف الفرنسي، أكثر فأكثر في عمليّة سبره للمضامين الأساسيّة والأبعاد العميقة لهذا الوجود على أرض مشتركة، تلتقي فيها الذّات بذوات أخرى مقابلة لها.

ينطلق سارتر في تشخيصه للمنابع الأساسيّة للاغتراب من ثنائيّة مفادها: إمّا أن أجعل من نفسي “ذاتا”، فأحيل الآخر إلى موضوع، وإمّا أن أنظر إلى الآخر على أنّه ذات، فأمنحه فرصة إحالتي إلى “موضوع”. بهذا المعنى، فإنّ العلاقات التي يمكن أن تنشأ بيني وبين الغير، محكوم عليها بالفشل مسبّقا، مادام هذا اللّقاء بالآخر، سيكون مدعاة للاغتراب، بانحدار الذّات إلى مستوى الشيئيّة وسقوطها في عالم الموضوعات الماديّة وتنازلها عن وجودها الحقيقي والأصيل. إنّ الآخر، على هذا النحو، حينما يراني، يحيلني إلى شيء كبقيّة الأشياء الموجودة في العالم. ولعلّ، قول سارتر الوارد في: مسرحيّة الجلسة السّريّة: “الآخرون هم الجحيم”، خير شاهد على موقف هذا الفيلسوف من الغير. إضافة إلى ذلك، ينبغي علينا، أن ننبّه إلى ملاحظة على درجة عالية من الأهميّة، مضمونها، أنّ خصوصيّة تصوّر علاقة الأنا بالآخر سارتريّا، هي ذات رواسب هيغليّة من خلال جدليّة السيّد والعبد. ولكن، ألا يجدر بنا القول، أنّ سارتر، قد أسّس لجدليّة وجوديّة طرفاها: الأنا والآخر. وأنّ النّظرة رغم ما تضطلع به من دور الوساطة بين الطّرفين، فإنّها من جهة أخرى، أضحت فعل عدمنة، ومحرّكا أساسيّا للجدل والصّراع بين الذّوات، أثناء مباشرتها للوجود.

يستثمر سارتر تجربة الخجل، كمثال إجرائي، للتّعبير على هذه الجدليّة الصّراعيّة الاصطراعيّة، بيني وبين الآخر المسؤول على اغترابي، من خلال تقييده لحريّتي، بفعل نظرته تجاهي. ففي شعوري بالخجل، يقول سارتر: “أخجل من ذاتي أمام الآخر”([213]).

يذهب سارتر إلى حدّ القول، أنّ قيام الذّات بأفعال وتصرّفات منافية للأخلاق، أثناء غياب الآخر، فإنّها لا ينتابها الخجل. ولكن، بافتراض أنّ شخصا ما كان من المحتمل، قد شاهدها فينتابها الخجل. وهذا مصداقا لقول سارتر: “إنّ الخجل هو بالطّبيعة اعتراف بأنّي أكون، كما يراني الآخرون”([214]).

من الجدير بالملاحظة هنا، أنّ خضوع الوجود لذّاته لأحكام الآخرين ولنظرتهم، يكون سببا جوهريّا في انتهاك حريّته، والإجهاز على تعاليه وسموّه الأنطولوجي. وهكذا، يصبح من الممكن، في إطار نظرة سارتر إلى الاغتراب، كنتيجة مباشرة للقاء الأنا بالآخر، عبر فعاليّة النّظرة، استنتاج أنّ ضمان حريّة الذّات، تتوّقف عبر سلب الآخر لحريّته بنظرتي إليه، كعبد أو أداة لتحقيق أهدافي ولحريّتي.

ويعود الاغتراب أيضا، حسب المنظور الوجودّي السّارتري إلى الجسد. ففي المحور الثّاني الموسوم بـ: “الجسد”(Le corps)، من القسم الثالث: “الما هو للغير”، من كتابه: “الوجود والعدم”، تناول سارتر بالتّحليل، ظاهرة الاغتراب الجسدي، من خلال تركيزه على صُورٍ متنوّعة، معبّرة على تمظهر الجسد.

فثمّة جسدي على نحو ما أحياه، وهو ما أكّده سارتر:”أنا أوجد جسدا”([215]).

 والصّورة الثانيّة للجسد، تكمن في جسدي كما يراه الغير.

إنّ هذه الثّنائيّة الجسديّة، تُبرز أنّ هويّة الجسد تتأسّس على وجهين اثنين لذات العملة، فيكون الجسد عندها، هو الذّات وغير الذّات. وخصيصة العلاقة به، تتجسّد على هيئة علاقة هُويّة ولا هُويّة، ممّا يفرز استلاب الذّات، أثناء لحظة انشطارها، مادام وجودها من أجل الغير. فهذه الغيريّة تصادر هويّة الذّات بإحالتها إلى موضوع، أو كعلوّ متعال عليه.

وتسعفنا، العودة إلى المحور الثالث من القسم المشار إليه آنفا، من التطلّع بأكثر وضوح للظّاهرة الاستلابيّة، التي تسمّ علاقة الأنا بالغير. خاصّة وأنّ سارتر، قد خصّص هذا المحور بالذّات، للحديث عن: “العلاقات العينيّة مع الغير” (Les relations concrètes avec autrui)، من خلال تمييزه، بين نمطين من هذه العلاقات. الأوّل، تناول فيه مواقف مثل: الحبّ، اللّغة والمازوشيّة. والموقف الثّاني تجاه الغير، يكمن في: اللّامبالاة، الرغبة، الكراهيّة والسّاديّة. ومن جهتنا، سنحاول توضيح القراءة السّارتريّة، بتحليل بعض من هذه المواقف.

إنّ تجربة الحبّ مثلا، حسب سارتـر، تعبّر على رغبة المحبّ في امتلاك المحبوب، كما يُمتلك الشّيء. إنّه استعبــاد للغيـر بتجاوز علوّه وامتــلاك حرّيّتــه. يقول سارتـــر: “يدرك المحبّ المحبوب “كآخر– موضوع”، من بين الآخرين، إنّه يدركه في العالم، ويعلو عليه ويوّظفه (…). فالمحبّ هو النّظرة”([216]).

ويوّظف سارتر مثال المداعبة (La caresse)، المعبّرة على الرّغبة، مثلما تكون اللّغة تُرجمان الفكر، بالمعنى الدّيكارتي. فالرّغبة ضرب أوّلي من العلاقات مع الآخر كجسد مرغوبا فيه. والمداعبة تكشف بدورها عن جسد الغير، بوصفه جسدا لي وللغير. وفي تحليله للغة في طابعها السّلطوي، يرى سارتر أنّ: “اللّغة تكشف على حريّة الذّي أستمع إليه في صمت واحترام، أي على تعاليه”([217]).

ومن جهة أخرى، يرى سارتر أنّ السّاديّة (Sadisme)، لتُحيل على تعذيب الغير، والرّغبة في تطويعه وامتلاكه، لأجل بلوغ غايات نفعيّة. وهو ما يفضي، إلى استعباده، كنتيجة لاستثماره الأداتي والمصلحي. ويعود فشل السّاديّة إلى: “عدم التوافق الكبير بين إدراك الجسد، باعتباره لحما وتوظيفه الأداتي”([218]).

كما نشير، إلى أنّ المازوشيّة (Masochisme)، في اعتقاد سارتر، تدلّ على التلذّذ بعذاب الذّات لذاتها، من خلال قمع الرّغبات الجسديّة وصدّها، بازدراء الجسد وقتل الشهوات بعدم تلبيتها. والاستمتاع بآلام الذات كنتيجة لفعل الحرمان. يرى سارتر أنّ: “المازوشيّة، هي مجهود مستمرّ لعدمنة ذاتيّة الأنا، بجعلها متماثلة مع الآخر”([219]). ويضيف الفيلسوف الفرنسي في معالجته لهذا السّلوك في علاقته باغتراب الذّات، قائلا: “إنّ المازوشيّة رذيلة، والرّذيلة من حيث المبدأ حبّ الفشل”([220]).

رغم الاختلاف القائم بين المواقف التّي أوردناها، فإنّها تبرز، أنّ الصّراع هو المعنى الحقيقي للوجود مع الغير: “ففي الوقت الذي أبحث فيه على استعباد الآخر، الآخر بدوره، يبحث على استعبادي”([221]).

إذا سايرنا سارتر، فيما ذهب إليه من مواقف، ترجمتها إدانة الآخر المتسلّط الذّي يهدّد الكيان الأنطولوجي للذّات، عبر تعنيفها واغتصاب حرّيّتها وتذويب هويّتها. فإنّه، حرّي بنا التساؤل:

  • كيف تتحدّد ملامح الموقف السّارتري من “الإله”، باعتباره آخرا؟
  • على أي نحو تفهم علاقة الأعلى بالأدنى (الإله والإنسان) حسب سارتر؟

لقد كانت إجابة فيلسوفنا واضحة في مقاربته لهذه المسألة، حيث يعود الاغتراب إلى أسباب لاهوتيّة. “الإله” حسب سارتر، هو الآخر المطلق الذي يرى الأنا، دون أن يكون بمستطاع هذا الأخير أن يراه.

وإذا سلّمنا مع الفيلسوف الوجوديّ، أنّ العلاقة القائمة بين الوجود لذاته والإله، تكلّف الأوّل، التّضحية بحريّته، بل وفقدانها كليّا. هذا ما يبرهن أنّ الإله له القدرة والإرادة اللّامتناهيّة على إحالة الذّات الإنسانيّة إلى موضوع، دون قدرتها على ردّ الفعل. هذا ما كان سارتر، قد نبّه إليه، بقوله: “أوجَدُ مغتربا (…)، بفعل خجلي أمام الله، وهو اعترافي بشيئيّتي أمام ذاتا، لا يمكن أن تكون موضوعا أبدا”([222]).

إنّ الاغتراب حسب هذا القول الأخير، يعود إلى سبب لاهوتي، ومرّة أخرى يكون الآخر على اختلاف هويّته مسؤولا على اغتراب الوجود لذاته. وللخروج من هذا المأزق، ارتأى سارتر إنكار الوجود الإلهي، مادام الإله تركيب أنطولوجي يناقض بعضه بعضا. فهو ثنائيّة تجمع بين الوجود في ذاته من جهة الامتلاء والثّبات والوجود لذاته، مأخوذا على أساس الوعي أو الشّعور. ولمّا، كان التّوفيق بين هذين الضّربين من الوجود مُحالا، فإنّ نتيجة ذلك، يُصبح وجود الإله مُحالا، رغم ما في موقف سارتر من إلحاديّة بيّنة.

لا يجب، أن يحملنا الاعتقاد، على أنّ الاغتراب يتوّقف على مُسوّغات اجتماعيّة كانت أو لاهوتيّة، بل يعود أيضا، إلى المجال الاقتصادي، مثلما ذهب إلى ذلك سارتر في كتابه: “نقد العقل الجدّلي، المجلّد الأوّل”.

يعود الاغتراب، وفق التّناول السّارتري إلى مبدأ “النّدرة” (Rareté). ولكن، كيف تكون “النّدرة” سارتريّا طريقا إلى الاغتراب؟

لقد ربط سارتر مفهوم الحاجة (Le besoin) بمفهوم النّدرة، فذهب إلى القول أنّه ليس هناك ما يكفي من أشكال المادة لإشباع متطلبّات الحاجة. وينبغي، ألّا يغيب عن أذهاننا، أنّ الحاجة، بماهي مجرّد دافع فيزيولوجي يُحدث لدى الفرد توتّرا باطنيّا. فهي، تعبّر على الضّرورة التي لا يستطيع الإنسان تجنّبها أو الابتعاد بذاته عنها، مهما كان من أمر قدرته على تغيير استجابته لها.

ويمكن القول، بمعنى معيّن، إنّ هذا ليس شيئا غريبا على الإطلاق، مادامت الحاجة تحيل في أبعادها الأساسيّة إلى ما ينقص الكائن، حتى يحافظ على وجوده ويضمن حياته العضويّة. ولكن، الذّي يهمّنا أكثر من غيره في قراءة سارتر لهذا الجانب، هو تلكم التّبعات الخطيرة المنجرّة على النّقص الفادح في مستوى المواد والحاجات الأساسيّة، ممّا يؤدّي إلى تنامي الصّراعات بين البشر بفعل النّدرة. لذلك، يصرّح سارتر، قائلا: “إنّ المخاطرة البشريّة كُلّها، هي كفاح يائس ضدّ النّدرة”([223]).

إنّ المسألة الجوهريّة في هذا المستوى، تخصّ أساسا ظاهرة النّدرة، التي أضحت تتعيّن وفق المنظور الوجودي السّارتري، ضرورة تسودُ الواقع. وهنا، يمكن العودة إلى ما أعلنه سارتر، بقوله: “يتجلّى كلّ شيء في إطار الحاجة”([224]).

يبدو أنّ الندرة، هي فضاء تفاعل بين الذّوات، مادامت علاقة “الأنا-بالغير”، محكومة بهذا المبدأ. والنّتيجة المباشرة لذلك، هي الصّراع، المنافسة، بهدف إشباع الحاجات البيولوجيّة. فتكون العلاقات مبنيّة على التّصادم، ويصبح كل إنسان مهدّدا في وجوده بالموت، بفعل النّدرة. بهذا المعنى، يتجلّى واضحا، أنّ الإنسان يحيا في عالم النّدرة، تحت وطأة العنف المتبادل، ممّا يساهم في استلابه.

ويرى سارتر من جهة ثانيّة، أنّ النّدرة، تعدّ السّبب الرئيس الذّي يحفّز الأفراد على النّهب، الهجرة، اليأس وسوء التّغذية في عالم محكوم بالضّرورة، وكذلك، من جهة أنّ الإنسان يعتبر مادّة عضويّة، يُحتّم عليه تلبية حاجاته وميولاته الجسديّة.

إنّ مثلث: الأنا، الآخر، والنّدرة، هو المفسّر الوحيد للحروب والصراعات بين الأفراد والجماعات، ناهيك أنّ ظهور الآخر، يعني مؤشرّا على موت الأنا، وهذا الأخير بالمثل، يشكّل خطرا على وجود الآخر. فالنّدرة، هي المحرّك الفعلي المغذّي للتّطاحن والصّراع. ومن هنا، يُبرّر العنف على أنّه ردّة فعل ضدّ عنف مضادّ، بهدف الوقاية من عنف الآخرين. ففي اعتقاد سارتر، كلّما كانت هناك النّدرة وعدم تحقيق الحاجات، كلّما أجّج ذلك، الصّدامات الوحشيّة والحروب الدّمويّة بفعل المادّة، ليستحيل معها التّاريخ الإنساني لا إنسانيّا. وهكذا، تتحوّل “المجموعة المنصهرة” (Groupe en fusion) إلى مجموعة إكراه، إنّها: “الأخوّة–الرّعب”، (Fraternité–terreur) بمعناها السّارتري الأصيل.

فالنّدرة، بماهي خاصيّة المادّة، تحتّم على الذّات العيش في تاريخ مضادّ أو براكسيس مضادّ (Anti–Praxis، Anti-Histoire) فالنّدرة حسب الموقف الوجودي السّارتري، هي التّي: “تشرّع قيام التّاريخ الإنساني”([225]).

الخلاصة التي ننتهي إليها من هذا كلّه، أنّ سارتر كان يهدف إلى الكشف عن مبدأ المعقوليّة الذّي يشدّ حركة التّاريخ، فوجده في النّدرة، تعلّق الأمر بندرة في مستوى المنتوجات، ندرة في المستهلك أو ندرة في الزّمن ذاته. وباكتشافه لهذا المبدأ، برهن سارتر على إيجاده شروط إمكان التّاريخ، على الشّاكلة الكانطيّة، الباحثة على شروط إمكان المعرفة في مؤلّف:”نقد العقل الخالص”. فإنّ الفيلسوف الوجودي، قد بحث على شروط قيام التّاريخ، من خلال نقد العقل بطريقة جدليّة، مؤسّسا بذلك التاريخ الإنساني، بدءا من الوجود العيني للفرد، مادام التّاريخ في نظره ينبني على صراع أفراد عاملين ضدّ المقاومة الماديّة السّائدة في واقعهم المادّي في مناخ تسوده: “الحاجة والنّدرة” معا[226].

فالمجتمع الذّي لا تستعبده الحاجة الماديّة، هو الذّي يكون وحده مجتمع فلسفة الحرّيّة.

لنلاحظ، في هذا الصّدد، أنّ التحوّل الجذري الذي صاحب القراءة السارتريّة في تناولها لمشكل الحرّيّة، بين مؤلّف (1943) ومؤلّف (1960).

لقد بدت فلسفته في مؤلفه الثّاني، فلسفة عمليّة يشغلها وجود الإنسان في العالم وعلاقته بالآخرين، خلال فضحها لأشكال الاغتراب في صوره المتنوّعة.

ولكن، ماهي شروط إمكان التّحرر من الاغتراب على نحو ما يفترضها سارتر؟

إذا كان التّحرّر من الاغتراب فرض عين لا فرض كفاية، فإنّ بلوغ هذا الرّهان يستلزم – فيما يستلزم، حسب التصوّر السّارتري، حضورا فاعلا للخطاب الفلسفي، ما دامت: “كلّ فلسفة هي عمليّة، حتّى تلك التّي تظهر في البداية أكثر تأمّليّة، إنّ المنهج سلاح اجتماعي وسياسي”([227]).

لقد أكّد سارتر على مستطاع الفلسفة إزاء الواقع المباشر للفرد، حيث راهن على قدرتها في تغيير ملامح الوجود البائس. وهو ما بيّنه الفيلسوف الفرنسي، عندما أقرّ، بضرورة ارتباط الفلسفة بتطلّعات الجماهير، حتى تتغلغل فيهم، وتصبح أداة انعتاق وتحرّر من الاغتراب على اختلاف صوره. وفي هذا الإطار بالذّات، قال سارتر: “هكذا تظلّ الفلسفة ناجعة، طالما يبقى حيّا البراكسيس الذّي أنشأها والذي يحملها وتنير له الفلسفة السّبيل. إلاّ أنّها، تتحوّل وتفقد فرديتها وتتجرّد من محتواها الأصلي والمحدّد زمانيّا، بقدر ما تتغلغل شيئا فشيئا في الجماهير، لتصبح فيها وبها أداة جماعيّة للانعتاق”([228]).

نستجلي من هذا القول، أنّ الفلسفة المقصودة سارتريّا، هي الفلسفة العمليّة، الواعية والمتميّزة بالمبادرة والفعل، حيث يشارك الفرد، بكلّ حريّة واستقلاليّة في انتاج تاريخ العالم. ويساهم بشكل فعّال في تكوين تصوّرا خاصّا وذاتيّا حول الحياة. ولنلاحظ، في هذا المقام، تثمين سارتر للبراكسيس الفرد، الذّي يُسهم في إنتاج تاريخ العالم. وهو برهنة، كون الفلسفة عنده، ليست فقط، مجرّد تمثّلا سلبيّا للعالم، وإنّما هي فعل يسعى إلى التّغيير. لقد ذهب سارتر إلى القول، في هذا الصّدد: “إنّ الفلسفة اليوم، نزلت إلى السّوق واختلطت بالجماهير”([229]).

على هذا النّحو، تتمحور إشكاليّة الفكر السّارتري، حول الفلسفة، كممارسة تاريخيّة، وهي تتعلّق بالتحرّر كمضمون عيني تاريخي. فالحريّة الملموسة، ترتبط بأفراد عينيين حقيقيين. وهو ما يحدّد، الأفق الإيديولوجي، الذي يوجّه حركة الفكر الوجودي مع سارتر، باعتباره حاملا لإمكانيّة تحرّر الفرد، عن طريق الفعل الثّوري التّغييري في مقاصده الإنسانيّة النّبيلة وغاياته التحرّريّة.

غير أنّنا، إذا عدنا القهقرى خطوة خطوة إلى قراءة سارتر لسبل التحرّر، لا نلبث أن نكتشف قيامها على قناعة ماركسيّة المنزع في نسيجها العام. لا ننسى، أنّ سارتر، يرى في: “الماركسيّة هي الوحيدة التي تطرح على بساط البحث المشاكل العميقة التّي يعانيها العصر.” ([230]).

يبدو أنّ حضور النّفس الماركسي في المتن الوجودي السّارتري، له مبرّراته، اعتبارا للقيمة المتزايدة للفكر الماركسي، الذّي قام على سيادة البراكسيس الجماعي: أي الطبقة البروليتاريّة المرشّحة آنذاك لتغيير منطق التّاريخ وتحقيق مجتمع يقوم على المساواة، متحرّرا من الاستلاب والهيمنة، التّي كانت تفرضها النّخبة البورجوازيّة على الطبقة الشعبيّة. وبالتّالي، فإنّ الفلسفة مع “كارل ماركس”، كانت عمليّة إلى أقصى حدّ، ناهيك أنّ الصّراع القائم بين القوى الاجتماعيّة: البروليتاريا والبورجوازيّة، هو صراع كمّي، لكنّه أفضى إلى تحوّل نوعي، تمّ بموجبه الانتقال من نوع مجتمع يقوم على الاستغلال، الاستعباد، العنف، الاستثمار المصلحي والتّوظيف الأداتي للأفراد، إلى بروز مجتمع جديد، قوامه الملكيّة الجماعيّة لوسائل الإنتاج وتعمّه المساواة وقيم الحريّة والحقّ. إنّه انتقال إذن، من نظام رأسمالي إلى نظام اشتراكي.

سعى “ماركس”، إلى التّأكيد على طبيعة التّفاعل الجدلي بين البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة. “ليس الوعي هو الذّي يحدّد الحياة، بل إنّ الحياة هي التي تحدّد الوعي”([231]). هكذا تكلّم الفيلسوف الألماني.

إنّ جملة الظّروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، هي التّي تحدّد طبيعة تفكيرنا، كما أنّ الممارسة، بماهي نشاط مادّي للبشر وللعلاقات الماديّة، التي يقيمونها مع بعضهم البعض داخل مجموعة إنسانيّة، تراوح بين ما هو نظري وما هو تطبيقي. فالماركسيّة، بماهي إيديولوجيا عمليّة، أو بعبارة أدقّ، نظريّة علميّة في التّاريخ والمجتمع أساسها قوانين الدّيالكتيك: (وحدة الأضداد وصراعها، قانون النّفي ونفي النّفي، قانون تحوّل الكمّ إلى كيف). تجد أسلحتها الماديّة في الطّبقة الكادحة. وهذه الأخيرة بالمثل تجد في النّخبة المفكّرة أسلحتها النّظريّة، التي تنير لها الطّريق.

فلا جدال، أن يقول سارتر بشأن الماركسيّة: “إنّ الماركسيّة هي فلسفة عصرنا، التي لا يمكن تجاوزها”([232]).

فالماركسيّة في اعتقاد سارتر، تظهر اليوم بمثابة الأنتروبولوجيا الوحيدة الممكنة، القادرة على أن تكون في ذات الوقت تاريخيّة وبنيويّة. وأنّها الوحيدة، التّي تفكّر في الإنسان في كليّته، أي انطلاقا من وضعه المادّي. يقول سارتر: “إنّ أساس الماركسيّة، بما هي أنتروبولوجيا تاريخيّة وبنيويّة، هو الإنسان نفسه، بما أنّ الوجود الإنساني وفهم الإنسانويّة غير منفصلين”([233]).

يردّد سارتر مع الماركسيّة قولها، أنّه لا وجود، سوى للأفراد وللعلاقات الواقعيّة بينهم. ومن هذا المنظور، فإنّ المعنى الحقيقي للمجموعة، هو جملة العلاقات، وعلاقات بين هذه العلاقات. إنّ الحرب هي التّي أيقظت سارتر من سباته الفينومينولوجي ووضعته على طريق الماركسيّة. ومن مشكل فردي يتعلّق بحرّيّة الذّات، استحال البحث في الوجود إلى مساءلة للشّروط “البين – ذاتيّة” للحرّيّة الإنسانيّة بوصفها هذه المرّة مشكلا جماعيّا على نحو جذري. ومن كذا مصهر، خرج ثاني كتبه النّسقيّة الكبرى، “نقد العقل الجدلي”، بجزأيه “نظريّة المجموعات العمليّة” (1960) و”معقوليّة التّاريخ” (1962). لقد تفطّن سارتر في آخر الأمر إلى أنّ الوجود الإنساني هو جملة معقدّة من التّشكيلات الجماعيّة الصّانعة للتّاريخ بواسطة الحرّيّة، حرّيّة هي أبعد ما تكون عن شوق فردّي يعاني من عجزه الأصلي عن خلق وجوده بنفسه، من فرط أنّها حريّة مشتركة ومفتوحة وتاريخيّة. إنّ الإنسان مصنوع من المادّة الإنسانيّة التّي هي جزء منها. ولأنّ كلّ مادّة لها عطالتها الخاصّة، فليس الفعل البّشري غير العمل المضني على التحرّر من داخل العطالة التّي نحملها سلفا في ذواتنا التّاريخيّة بما هي معطى اجتماعي جذري. ولذلك ليس المجتمع متواليّة من الأفراد الذّين يعانون من اغتراب أصلي، بل هو “مجموعة عمليّة” لا تكّف عن خلق نوع من “ذات–النّحن”، تلك “النّحن” التي كان الوجود والعدم قد أساء الطّريق إليها من فرط الاحتكام إلى منطق الأنا والآخر الفرديين، وجاء نقد العقل الجدلي لاحتمالها بشكل مثير، سواء من حيث المراهنة شبه الوجوديّة على الماركسيّة كأفق نظري لا يمكن تجاوزه في عصرنا أو من حيث التّحويل الذّكي والطّريف لمقولات الوجوديّة إلى أدوات بحث سوسيولوجيّة طريفة([234]).

لا يسمح المجال هاهنا للتعمّق أكثر في هكذا مبحث أو للتّوقف عند كلّ منعطفات الفلسفة الماركسيّة، التزاما من لّدنّا بمقتضيّات المناسبة، وحتّى لا نثقل المتن بشواهد وأفكار نقدّر أنّها متوّفرة لكّل منهمٍّ بالفلسفة الماركسيّة. غير أنّه، علينا أن نشير، إلى أنّ هذا الاتّفاق بين سارتر وماركس، لا يجب أن يحجب عنّا الفوارق الأساسيّة بين فلسفتيهما. ففي اعتقاد سارتر، أنّ الخطأ الأكبر الذي وقع فيه الكثير من الماركسيين، هو سعيهم إيجاد ديالكتيك دون الإنسان. فقد اهتمت الماركسيّة بالكلّ وأغفلت الجزئي، أي راهنت على الطّبقة دون الاكتراث بالمحتوى الدّاخلي لها. الأمر الذي قادها إلى الوقوع في الجمود والتحجّر. فالماديّة الجدليّة الوحيدة التّي تنطوي على معنى، كما يراها سارتر، إنّما هي، تلك الماديّة التاريخيّة، التي تنبع من داخل التّاريخ الإنساني، بوصفه علاقة حيّة للإنسان بالمادّة. ومن هنا، يعيب الفيلسوف الفرنسي على الماركسيّة، إغفالها البعد الوجوديّ للفرد، واقتصارها على تناول الحقيقة البشريّة، بطريقة علميّة مجرّدة. والنّتيجة، انتهاؤها إلى أنتروبولوجيا لا إنسانيّة لغياب الإنسان نفسه، باعتباره الدّعامة الأساسيّة لكلّ تفسير. يقول سارتر في هذا الصّدد: “إنّنا نعيب على الماركسيّة المعاصرة رفضها لكلّ المحدّدات العينيّة للحياة الإنسانيّة (…) والنتيجة فقدانها لمعنى الإنسان”([235]).

لقد حرص سارتر على ربط الفردي بالكلّي، الجزئي بالكوني، العنصر التاريخي بالعنصر الفردي، من خلال البراكسيس الفرد، كنشاط هادف في بناء نظريّة ديالكتيكيّة للتّاريخ. وذلك، بفضل: “منهج التّقدم – الارتدادي”([236]) [La méthode progressive – régressive].

صفوة القول إذن، لئن مثلّت الماركسيّة بالنّسبة إلى سارتر، الأرضيّة الفكريّة لفلسفته الوجوديّة، فإنّه، قد سعى إلى تنشيطها، بتخليصها من التّقوقع والارتجال وانتشالها من التّكلّس والتهرّم الذّي أصابها. وهو ما جعل من الوجوديّة نفسها، تكون بمثابة إيديولوجيا داخل فلك الماركسيّة، من خلال هذه المصالحة بينهما، باعتبارها مصالحة الإنسان مع التّاريخ ومع نفسه في نهاية التّحليل، بعد تحرّره من مخاطر الاستلاب المتربّصة به.

لعلّه، بالإمكان الآن وفي هذا المستوى من التّحليل، بلورة الملامح العامّة، المتعلّقة بمقاربة سارتر لصور التحرّر من خطر الاغتراب. فإذا كان فيلسوفنا في كتابه الأوّل، قد ذهب إلى أنّ الفعل نشاط ذاتي حرّ، يقوم به الوجود لذاته، من خلال إثبات حريّته والبرهنة عليها في وجه حريّة الآخرين، فإنّ فعل البراكسيس في كتابه الأخير، أضحى يمثّل عنده نشاطا ماديّا واقعيّا، يقوم به كائن اجتماعي تاريخي، يسعى إلى التحرّر. وإذا، أقرّ سارتر أنّ التّواصل بين الوجود لذاته والآخر، يكاد يكون متعذّرا، لأنّ الآخر لم يوجد، إلاّ لسلب حريّتي. فإنّه، أصبح في كتابه: “نقد العقل الجدلي”، يبيح هذا التّواصل، في سياق الظّروف الاجتماعية والتّاريخيّة. وبالتّالي، شرعيّة التخلّي عن المنهج الفينومينولوجي لصالح الدّيالكتيك، باعتباره الأساس الذّي تقوم عليه فلسفة البراكسيس السّارتريّة، بوصفها بناء تأليفي، يستند إلى العقل الجدلي المؤلّف بين التّجربة الحيّة والمعرفة المحضة.

ويرى سارتر، أنّ التّحرّر من الاغتراب، يتطلّب انصهار البراكسيس الفرد داخل براكسيس جماعي، يروم القطع مع كلّ أشكال العطالة التي تلحق بالذّات. وضمن محاولة التحرّر هذه، يتوحّد الأفراد، وعن توحّدهم وتكتلهم هذا ينشأ التّاريخ. وهنا، يذّكرنا هذا الموقف الوجودي لسارتر، بنظريّة التّعاقد الاجتماعي، على نحو ما قال بها: هوبز، روسو، مع الفوارق الجذريّة طبعا بين هذه المرجعيّات. وهنا، يتنزّل القول التّالي:”الانصهار الحقيقي داخل تجمّع عملي، يؤسّس انصهارا، لا يكون مغتربا”([237]).

جليّ إذن، أنّ لحظة الانصهار يحرّكها فعل التحرّر من الاغتراب. وهذه اللّحظة، هي أساسا البراكسيس الثّوري، القادر على استرجاع الحريّة المستلبة، التي لا يتسنّى مصادرتها، لا من قبل الآخر، ولا بفعل النّدرة ولا صراع الطبقات.

وتبعا لذلك، يمكن اعتبار وحدة المجموعة المنصهرة وتشكّلها عمليّا، ردّة فعل ضدّ حالات العجز والخنوع واليأس، التي يواجهها التسلسل، كتجمّع إنساني في بداياته الأولى. ونلفت الانتباه، إلى التّفرقة السّارتريّة بين السّلسلة (La série) والمجموعة المنصهرة (Groupe en fusion). فالذّين هم بصدد انتظار قدوم الحافلة يعيشون حالـة السّلسلـة
(La Sérialité). ولمّا، يصبح هذا الوضع غير مقبول ويتجمّعون للمطالبة بحافلات أخرى وتوقيتا آخر، فإنّهم يشكّلون مجموعة. إنّ ما يميّز المجموعة حسب سارتر، هو انبجاس الحرّيّة دون اغتراب.

بيد أنّ، تنظيم المجموعة وهيكلتها، يتمّ بواسطة القَسم (Le serment) والرّعب (Terreur) كآليات للحفاظ على تماسك المجموعة وبناء علاقات تواصل لتحقيق أهدافا مشتركة أو مصلحة عامّة. يقول سارتر: “إنّ السّمة الأساسيّة للمجموعة المنصهرة، هو التجلي المفاجئ للحريّة”([238]).

ننتهي إلى القول مع سارتر، أنّ تحقيق التحرّر من الاغتراب، يتطلّب حضورا فاعلا للبراكسيس الفردي المُنظم ضمن المجموعة المنصهرة. ولأمر كهذا، ليست الفلسفة لدى سارتر إذن تأمّلا، وإنّما هي حاصل البراكسيس، أو هي – إن شئنا نتيجة للإستتباعات التي تأخذ بعين الاعتبار الانسجام الموجود بين النّظريّة والممارسة. ولعلّ فهم سارتر للفلسفة على هذا النّحو هو الّذي أملى عليه الانخراط الفعلي في الواقع لمحاولة تغييره. وإذا كانت الحريّة براكسيس بالدّرجة الأولى، فبإمكاننا القول أنّ سارتر هو فيلسوف البراكسيس، حيث نجده هنا، مع الطبقة العاملة في نضالاتها، مع المضطهدين في كلّ العالم، ومع كلّ القضايا التي تهمّ حريّة الإنسان – الفرد([239])

إنّه ببساطة كبيرة، نداء موجه للفرنسيين آنذاك، للتوحّد وتجنّب الانشقاقات لدرء الأخطار الخارجيّة والداخليّة. فما أحوجنا نحن اليوم إلى إيتيقا المجموعة المنصهرة والمُنظمة، المعبّرة على فعاليّة البراكسيس الجمعي للتحرّر من الاغتراب السّائد نظريا وعمليّا.

3)    سارتر وسُؤال الرّاهن أو في أنطولوجيا الحدث هل من مشروعيّة؟

إنّ الدواعي الفعليّة، التّي تُشرّع لنا، القول بحضور سارتر اليوم، تتمثّل خاصّة في هيمنة اللّامعنى وسيادة اللّامعقول، ممّا جعل الإنسانيّة المعاصرة، تعيش أزمات معياريّة خانقة وإفلاسا قيميّا وإغراقها في مستنقع من البربريّة والوحشيّة. ولا أدّل على ذلك المشهد الرّاهن للعديد من البلدان نخصّ بالذّكر، فلسطين والعراق، بفعل الظّلم والغطرسة، لبعض القوى العالميّة، المسكونة بهاجس العدوانيّة والسّلب. ونتيجة ذلك، مصادرة حقوق الانسان وتسويقها كبضاعة لا تختلف على باقي البضائع الأخرى، بل يجدر بنا القول، أنها عملة فاقدة لصلاحيّة التّداول والعمل بها. فقد وقع الرّمي بها عرض الحائط.

والدّوافع الأساسّية والمباشرة أيضا، متمثلة في استفحال التطوّرات التكنولوجيّة، من خلال استثمارها في جوانب لا إنسانيّة، مما جعلها تحمل في طياتها بذور انهيار إنسانيّة الإنسان، وتشظي كيانه. فالآلة في واقعنا الرّاهن، أضحت آلهة الإنسان المعاصر. وأنّ هذا التّأليه، يعبّر عن موقف إيديولوجي، لا يختلف في جوهره عن الإيديولوجيا الأسطوريّة والدينيّة والسّحريّة، من حيث هي وعي زائف تبريري، يراهن على التّقدّم التّقنيّ وينتظر منه معجزة، متمثلة في تخليصه من الهيمنة الطبيعية والاغتراب الاجتماعيّ.

ولكن، الوجه الآخر، لهذه العقلانيّة التقنيّة، تمثّل في تفشي العنف والصّراعات والحروب الدمويّة بين الشعوب. ومن هنا، بات مطلوبنا الأقصى الاحتراز من خطر الانبهار بالتقنيّة والافتتان الأعمى بمنجزاتها. فلا يجب، أن تغرينا الثّورات التكنولوجيّة بمكاسبها ونجاحاتها، دون التفطّن، إلى ما في صميمها من جوانب سلبيّة، بفعل التّوظيف السّلبي واللّا-إنساني من طرف الإنسان نفسه. ينضاف إلى جملة المسوّغات التي أشرنا إليها آنفا واقع العولمة اليوم، بما هو إيذان بنهاية الحرّيّات ومنظومة القيم الإنسانيّة في بعدها الكوني الإنساني. فبالعودة إلى سياقها التّاريخي والمفهومي تتحدّد العولمة، بما هي ظاهرة مركّبة يتداخل فيها الاقتصادي بالسياسي وبالثقافي. أو تحديدها عبر التّمييز بين ما تدعيه من تطلّع لإلغاء المسافات والحواجز بين الشّعوب في اتّجاه تحويل العالم إلى فضاء حرّ لتبادل المنتجات المادّية والرّمزية وما يكشفه راهن العولمة من نزعة سلطوية تجسد سعي الأقوى إلى تحويل خصوصيته إلى نموذج يجسّد كونيّة مزعومة باعتبارها مثلا أعلى. وعليه، تتمظهر مخاطر العولمة وتهديدها للحرّيّة وللإنساني عموما في مجالات مختلفة منها:

 المجال الاقتصادي: تتعيّن العولمة باعتبارها القناع الأيديولوجي للهيمنة الاقتصاديّة الرّأسماليّة التي تستهدف تطويع الشّعوب لخدمة أغراض لا إنسانيّة، وذلك بفرض نموذج اقتصادي رأسمالي متوحش والانزياح بدلالة الكوني إلى العولمي، واختزال وحدة الإنسانيّة في وحدة السّوق الاقتصادية. وهيمنة الشركات العابرة للقارات ونهب ثروات الشعوب وإثقال كاهلها بالديون وإلحاقها بمؤسّسات غرضها الأوحد: الرّبح. أمّا في المجال السياسي، فنعاين تحكّما في مصير العالم وخرق سيادة الدّول وتكريس تبعيّة الدّول المحليّة وتغذية الحروب. ومن مظاهر تنميط العولمة للمجتمعات الرّاهنة أيضا: طمس خصوصيات الشّعوب تجسيما للمركزية الثقافيّة أو الترويج لنمط عيش أو وجود لا يعترف بالتنوّع الحضاري والاختلاف، أو إنشاء مجتمعات استهلاكيّة تابعة. وتكريس الانبتات الثقافي وتفقير الإنساني، بخلق التّماهي ونمذجة الثقافات المحليّة وإلغاء الخصوصيات وإخضاعها للنّمط الثقافي المعولم. هذا إلى جانب، سيادة المنفعة /سلعيّة القيّم في المجال الإيتيقي، واتّساع الفجوة الرقميّة وهيمنة الافتراضي وتأزّم التواصل، رغم الّثورة الاتّصاليّة والمعلوماتيّة في المجال الاتّصالي. ولأمر كهذا، فإنّ تحويل العالم إلى قرية كونيّة، ليس سوى مظهر من مظاهر استعادة التحكّم في المصير: الفكري والعلمي والثّقافي للإنسانيّة في زمن القبضة الواحدة، بما يلغي كلّ علامة من علامات التنوع والاختلاف على الصّعيد الكوني. وهو ما سمح للإمبراطوريّة “الأمريكيّة –الصهيونيّة”، من اقتحام عديد الدّول، على غرار، أفغانستان، لبنان، العراق، فلسطين ومنطقة الخليج العربي عموما… وذلك بتعلّة إنقاذ تلكم الشعوب من مخاطر الأنظمة السياسيّة المستبدّة، الجائرة، وبناء هُويّات جديدة، بالاستعاضة عن أشباه الهُويّات.

ولكن، الاحتجاب وراء الأقنعة وسراب الطّمأنة المُمَوَّهة والوعود الكاذبة، لا يكفي لتغطية المطامع والنّوايا الخبيثة، لهذا “المارد – الطّاغية”. فهو مدفوع، برغبة جارفة، نحو تحقيق مآربه، من خلال ستار شعارات نظريّة وأسطورة الفردوس الأرضي المزعومة. وآخر المبرّرات الزّائفة، اختلاقها لمقولة “الإرهاب” (Le terrorisme)، كحجّة تمنحها التّأشيرة، لغزو ما تريد من الدّول، بغية تحقيق مصالحها وغاياتها.

– فأيّ إرهاب تقاومه، والحال أنّها تمارسه في أبشع صوره، من خلال، أقسى أشكال التّعذيب والاستغلال المفرط والتّنكيل والاستبداد؟

ألا يمكن القول، أنّها بشّرت بعودة الأنظمة الدّيكتاتوريّة الطّاغية، لاكتساح السّاحة العالميّة من جديد، بل إنّها–هي ذاتها نظام كلياني وقد عاد في ثوب جديد وصورة أكثر فظاعة وقتامة، من خلال مصادرة حرّيات الأفراد واحتكارها أحقيّة التصرّف في العالم، بسلبها لاستقلاليّة الدّول وتجريدها من مختلف حقوقها وفي مقدمتها حقّ تقرير المصير؟

حتّى الحروب التي تخوضها هذه “الإمبراطوريّة – الجديدة”، تبعث على الغثيان، بالمعنى السّارتري العميق للمصطلح، لأنّها فاقت كلّ التّوقعات، من حيث حجم الأسلحة المستخدمة، كمّا وكيفا. وأيضا من حيث جسامة الخسائر الماديّة والمعنويّة، ممّا أفرز كوارث إنسانيّة خطيرة. وحسبنا دليلا عمّا نقول جرائم حرب لإبادة الجماعيّة والتطهير العرقي والمحرقة التي لا تبقي ولا تذر التي يقوم بها الكيان الصهيوني الغاصب بكل وحشيّة وبربريّة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانيّة في حق سكّان غزة العزل من المدنيين: الأطفال، النّساء والشيوخ والصحفيين ومراسلي القنوات التلفازية والإعلاميّة…فضلا عن تدمير المنازل والمساجد والكنائس والمدارس والمستشفيات وكلّ أسباب الحياة ليتركوها خاوية على عروشها. رغم بسالة وصمود حركة المقاومة حماس في صد العدوان بلا هوادة، آناء اللّيل وآناء النّهار وما مسهم نصب ولا لغوب على نحو ما جسده طوفان الأقصى (7 أوكتوبر2023) عنوان الثورة الكبرى والنّصر المبين، والمنجز التّاريخي الّذي كتب بدماء الأبطال من الشهداء. ويجب أن يكتب أيضا، بماء العين تخليدا لذكراه. عسى أن تتطلع عليه الأجيال القادمة. وفيه عبرة لأولي النّهى. ولأنّ الحريّة كما يقول منتسكيو هي أشدّ الأشيّاء إلزاما. فإنّ ذلك ما يسوّغ لنا التنبيه إلى جملة الأسئلة الحارقة التي لا تفتأ تراودنا اليوم في عالم بلا ضمير لهي: 

  • ما الذي، يحوّل بعض الدوّل إلى ساحات حرب وتشييد لمئات من المقابر التّي ترقد فيها حشودا غفيرة من الجماهير على اختلاف أجناسهم؟
  • ما معنى أن تدمّر مدنا وقرى وأحياء برمّتها؟
  • لمن تعود المسؤوليّة عن موت الملايين من البشر؟
  • ما معنى أن تشيّد معاقل وسجون كفضاءات للتّعذيب والتّشريد واعتقال آلاف الألوف المؤلفة من الأبرياء؟
  • هل، ما يزال للمشروع الدّيكارتي، المتمثّل في أن يصبح الإنسان كمالك وسيّدا على الطّبيعة معنى في حياتنا المعاصرة؟

جملة هذه الأسئلة، تبقى يتيمة الجواب، نظرا لبعض المساعي والجهود المحتشمة، التّي يقوم بها بعض المثقفين والمسؤولين وأشباه دعاة السّلام في العالم، أملا منهم في إيجاد مخرجا من هذا المأزق الذّي تورّط فيه الإنسان المعاصر. وهي محاولات في اعتقادنا، ظلت مبتورة وعقيمة الجدوى، شأنها في ذلك، كصرخة تائه في الصّحراء فقد الأمل في إدراك طريق العودة.

زد على ذلك، إغراق المنظّمات الدوليّة في الشّكلانيّة واستقالة مخجلة للمفكرين، جرّاء وقوعهم تحت ضغوطات الإيديولوجيات، وهو ما عمّق الأزمة وأدّى إلى طمس لجملة الخصوصيّات والمعاني النّبيلة، وكلّ القيم السّامية، التّي تؤسس لكينونة الإنسان.

إنّ حاجتنا إلى إقامة مصالحة مع ذواتنا ومع عالمنا، بردم الهوّة المفتعلة والبون الشّاسع، الذّي يفصلنا عن هُويّتنا، يستلزم حضورا فاعلا وإيجابيّا، لا لسارتر فقط، بل لنخبة كاملة من الفلاسفة، أمثال: سقراط، أفلاطون، الفارابي، ابن رشد، ماركس، فوكو، نيتشة، نيزان، غرامشي، كامو، دريدا والقائمة طويلة…

فلعلّ، لقاء هؤلاء الفلاسفة ودعوتهم الصّريحة، إلى كونية الأمن والسّلام، كبديل عن شيوع الاستعباد والحرب. ومناداتهم بقيم الحريّة، المساواة، العدالة والالتزام إلى آخر رمق بقضايا الإنسان ومشاغله الوجوديّة، وذلك، بفضح كل أشكال التسلط والدّعوة إلى ثقافة السّلم أو اللّاعنف، لكفيل بحلّ العديد من الأزمات، التّي باتت تؤرقنا وتهدّدنا في كياننا، خاصّة في عالم، تزداد فيه الفجوات التنمويّة، الاقتصاديّة، العسكريّة، الثقافيّة، والرقمية المفتعلة اتساعا، يوما بعد يوم. وما يفرز ذلك، من تنامي الفوارق بين الأمم.

وهو ما يغذّي، فعل الهيمنة وسيادة منطق القوّة ولغة السّلاح، لصالح الدّول ذات النّفوذ والسّيادة، على حساب بلدان أخرى، مازالت تبحث عن مخرج من أزماتها وعجزها.

لا ريب، في الانتهاء إلى التّأكيد على حاجة اللّحظة الرّاهنة، إلى فلسفة مؤمنة بفعاليّة الإنسانيّة وكونيّة الحقّ وقيمة الالتزام.  فلسفة مضطلعة من موقع التزامها بالإنسان – بالتّأسيس لمطلب الحرّيّة وما يقتضيه من بلورة لأنتروبولوجيا فلسفيّة جديدة، تتجاوز مخاطر القول: “بموت الإنسان”، وتؤسس الحرّيّة، تأسيسا تاريخيّا، يجعل منها مطلبا، يراهن الفرد من خلاله، على الانعتاق من مظاهر الاستلاب والعنف، بمواجهة استبداد اللاّمعقول في تجلّياته الخطيرة والرّاهنة، كشرط لتحقيق صفته الإنسانيّة وردم المسافة بين وجوده وماهيته. اعتبارا إلى أنّ إنسانيّة الإنسان، بما هي جملة مقوّمات تتعيّن في الوعي والحرّيّة والإرادة، ليست معطى طبيعيا، بل هي إنشاء تربوي اجتماعي وسياسي، تشترط الوعي بحقوقه ومقاومة كلّ أشكال اغترابه عن ذاته نتاج أسباب سياسية أو اقتصادية أو عرقيّة ونحو ذلك.

هذا الهاجس الحارق نجد له صدى في جملة الشعارات التي رفعتها بعض الشعوب العربيّة التي عرفت ثورات، بدءا بالثورة التونسيّة: 17 ديسمبر/ 14جانفي 2011، من خلال مطالبة الجماهير الثائرة بتحصيل قيم الحرّية والكرامة والعدالة وسائر الحقوق الطبيعيّة والمدنيّة ضمن ممارسة سياسيّة ديمقراطيّة فاضلة، لا تكون فيها السّلطة تسلّطا ولا ينقلب فيها الحكم إلى استبداد، رغم ما تعرفه هذه الثورات العربيّة من تعثرات وتحديات داخليّة وخارجيّة في مستوى مساراتها، الأمر الذي يجعل منها ثورات لم تكتمل بعد.

وتجدر الإشارة، إلى أنّ كلّ تصوّر، لا يخلو من جملة مزايا وهكذا ثغرات في آن الأمر الذّي بموجبه، لنثير السّؤال الآتي في علاقة بالمنظور الوجودي السّارتري لقضيّة الحرّيّة والتحرّر:

 ما تكون إذا استتباعات أو حدود التّصوّر الفلسفي الوجودي السّارتري، فيما يخصّ موضوع الحرّيّـة والتّحــرّر في تقدير موريس مرلوبونتي؟

الفصل الثالث:
مرلوبونتي ناقدا سارتر حول إشكاليّة الحرّيّة والتحرّر

إن القيمة الفلسفيّة لمشروع سارتر الوجودي، تجسدّت في مقاربته لإشكاليّة على غاية كبيرة من الأهميّة. ونقصد بذلك موضوع: الحرّيّة والتّحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن. ووجاهة هذا الخيار السّارتري، تجلّت في آليات المعالجة، التّي تراوحت بين الوصف الفينومينولوجي والمعالجة الوجوديّة ذات المنحى العملي.

ولكن، ذلك، لا يحجب عنّا بعض الثّغرات أو التّردّدات أو المزالق، التّي وقع فيها سارتر، أثناء تناوله بالدّراسة والتّحليل، لتلكم المسألة. وأوّل مأخذ محيّر وداع للاندهاش، إقراره بأنّ الوجود لذاته حرّ حرّيّة مطلقة، لا حدود لها، سوى الحرّيّة ذاتها. وهنا، كان فيلسوفنا مغاليا في قوله بضرب من الألوهيّة الإنسانيّة.

وعليه، إلى أيّ مدى يمكن أن نوافق سارتر في اختزاله لجوهر الإنسان وكينونته وإنسانيته في قيمة الحرّيّة؟

  • ألا يمثّل الإعلان عن الحرّيّة كخاصيّة جوهريّة لماهيّة الإنسان تبشيرا بظهور قدرا جديرا يحكم الإنسان: أي إذا لم يكن الإنسان حرّا، فهو ليس إنسانا؟
  • زد على ذلك، هل من الحكمة، القول أنّ الحرّيّة تحمل على معنى الغياب المطلق، لكلّ الضّغوطات الدّاخلية والخارجيّة؟

ألا يبدو هذا الموقف، محفوفا بالمخاطر، لما ينطوي عليه من دعوة لمغامرة وجوديّة غير محسوبة، قد تؤدّي إلى تدمير الذّات بدل أن تجعل منها حرّة. إضافة إلى أنّ الوجود الإنساني، لا يمكن تصوّره إلّا في سياق من الضّغط والتّنظيم. فعوائق الحرّيّة متنوّعة، منها ما هو داخلي وما هو خارجي، وهي بمثابة الضّغوطات التّي تمارس على الإنسان لتحّد من حرّيته.

  • ما هو داخلي: غرائزه ورغباته وحاجاته الطّبيعيّة، التّي تعتبر ضرورات لا يمكن تجاوزها وأنّ عدم التّحكم فيها، يوقعنا في عبوديتها (حتميّة الغرائز).
  • ما هو خارجي: الإنسان في حياته اليوميّة وفي سلوكاته وأفعاله، لا يقف على إرادته الحرّة فحسب، بل إنّه يواجه سلطات متنوّعة وحتميّات مختلفة.

 كالحتميّة الثّقافية، أي القيم بمختلف أنواعها، كذلك الحتميّة الطّبيعيّة، كالموت، الحياة، الطبيعة وقوانينها. ثم إن الفرد يتصرّف داخل وسط معيّن، وتحت أسباب خارجة عنه وتحت ثقل الماضي. وفي محيط اجتماعي، وما يميّز الواقع الاجتماعي العام من قهر وإلزام، يجعلنا نتبيّن أنّ الفرد ليس حرّا بصفة مطلقة، بفعل القيود السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. عموما، ما يصطلح على تسميته بالحتميّة السببيّة.

يبدو إذن، من عدم الوجاهة، إعدام تأثيرات هذه الظّروف في الوجود العيني والحيّ للإنسان. ومن هذا المنظور، فإنّ الحرّيّة غير معزولة على واقعها، لأنّ الذّات الإنسانيّة، واقعة تحت فعل عوامل ذاتيّة وأخرى موضوعيّة، يجب أخذها بعين الاعتبار. وفي تقديرنا، أنّ النزعة الإلحادية للفيلسوف الفرنسي، قد دفعته إلى اتّخاذ مواقف، بدت غير مقبولة في بعض الأحيان. ممّا جعل، البعض من تصوّراته متهافتة إلى حدّ ما.

لقد ارتأينا، اعتماد قراءة موريس مرلوبونتي (1908-1961)، الفيلسوف الفرنسي المعاصر، وأحد أهمّ فلاسفة الفينومينولوجيا، ورفيق درب سارتر لفترة طويلة، قبل أن تتأّزّم العلاقة بينهما. فقد خصصّ مرلوبونتي، الفصل الأخير، من كتابه: “فينومينولوجيا الإدراك الحسّي”، المعنون: “بالحرّيّة” للنّظر في مستوى تصوّر سارتر للحرّيّة. ولئن سايره في البعض من مواقفه على غرار قوله، بأنّ الحرّيّة هي أساس الوجود الإنساني. فإنّه، قد عاب عليه تصوّره، القائل بحرّيّة مطلقة. فـ مرلوبونتي، يرى أنّ الحرّيّة لا تنفصل عن الحتميّة فلا وجود لحرّيّة، إلّا إذا كان هناك شيئا تنبثق منه. يقول مرلوبونتي: “إنّ فكرة الموقف تلغي الحرّيّة المطلقة”([240]).

لا وجود إذن، لحرّيّة مطلقة ومنعدمة الصّلة بالعالم وبالآخرين. وهذا ما كان مرلوبونتي، قد أشار إليه، بقوله: “أفقد حرّيّتي، عندما أسعى إلى مجاوزة وضعيّتي الطبيعيّة والاجتماعيّة، رافضا تحمّلها أوّلا، بدلا من الرّبط من خلالها بين العالم الطّبيعي والإنساني”([241]).

إنّ الحرّيّة وليدة الظّروف السّائدة وتتحقّق باستمرار، عكس التصوّر السّارتري، حيث كانت مطلقة متجاوزة حركة التّاريخ نفسه. وذلك بفعل تحققها منذ الوهلة الأولى، ممّا جعلها حرّيّة ذات نفس ميتافيزيقيّ بالأساس. ويذهب مرلوبونتي إلى تعريف الحرّيّة، على النّحو التّالي: “ما الحرّيّة؟، إنّها ولادة في نفس الوقت في العالم وولادة للعالم. إنّ العالَم مُتشكّل سلفا، ولكنّه أيضا غير متشكّل أبدا بالكامل. فضمن العلاقة الأولى نحن محلّ ارتياد، وضمن العلاقة الثّانيّة نحن منفتحون على عدد لا محدود من الممكنات. إلّا أنّ هذا التّحليل يظّل مجرّدا لأنّنا نحيا ضمن هاتين العلاقتين في ذات الوقت. إذن لا حتميّة أبدا ولا اختيّار مطلق أبدا(…). ولست شيئا أبدا ولا وعيا خالصا أبدا(…). ولا نستطيع أبدا أن نقيم في أنفسنا ملاذا لا ينفذ إليه الوجود، دون أن تتخذّ الحرّيّة فورا، لمجرّد أنّها معيشة، شكل كينونة وتصير داعيا وسندا”([242]).

نستجلي من هذا القول المرلوبونتي أنّ الحرّيّة في تقديره ليست نتاجا قحّا لفرد تحرّر من جملة الحتميّات الأنطولوجيّة والاجتماعيّة. وإنّما لتتحقّق في فضاء عالم حسّي. ناهيك أنّ الذّات لا تدرك في هذا الأفق معطى طبيعيّا فحسب، بل تدرك الآخرين أيضا. فالعالم الذّي يستوجب من خلاله أن نفكّر في الحرّيّة ليس طبيعيّا فقط، وإنّما لهو اجتماعي أيضا. وعلى هذا النّحو ليُفهم معنى الجمع حيث لَتَتَعيّن الحرّيّة في وضعيّات عينيّة وتدخل في علاقة مع حرّيّة الآخرين على نحو ما علّمنا مرلوبونتي. وخلافا لمعهود التّأويل السّارتري الّذي لم يقبل بالدّوافع اللاّواعيّة، من خلال اعتباره، أنّ كل أفعال الذّات شروع ومبادرة، والقول بأعذار والتعلّل بحتميّات يوقعنا  في مأزق “سوء النيّة”. بدا مرلوبونتي أكثر اعترافا بجملة الأهواء التّي لا تُناقض الحرّيّة على حدّ زعمه. يقول مرلوبونتي: “البواعث لا تلغي الحرّيّة”([243]).

ومن ناحيّة أخرى، إنّ التّمييز الّذي أقامه سارتر بين الوجود في ذاته والوجود لذاته، ليس مقنعا حسب مرلوبونتي الّذي يرى أنّ سارتر، قد بقي سجينا لهذه الثّنائيّة التّي تفتقد إلى وساطة. ويجد مرلوبونتي الحلّ في تجربة الجسد، التي تسوّغ للقول بجنس ثالث من أجناس الوجود، غفل عنه سارتر، وهو: “الوجود في العالم”.

رغم أهميّة هذه المراجعة النقديّة المرلوبونتيّة للتصوّر السّارتري لموضوع الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن، فإنّ ذلك لا ينقص مطلقا من جديّة تصوّره وقيمته. فقد قارب فيلسوفنا إشكاليّة على غاية من الأهميّة في حياة الإنسان، بل إنّ فقدانها، يعني فقدان الشّرط الأنطولوجي، الذّي يحدّد وجودنا في العالم. والحرّية أيضا، الخصيصة الملازمة للفرد، باعتبارها جوهره، لأنّ الذّي فقد حرّيّته فقد إنسانيّته. وهو ما يجعلها، رهان الإنسان ماض وحاضر ومستقبل. فالحرّيّة كما سبق وأن حدّدها سارتر، ليست ميزة تنضاف إلى ماهيتي، بل هي النّسيج المؤلّف لكياني رأسا.

وفي هذا المستوى، قال سارتر: “إنّ كلّ ما حاولت أن أكتبه أو أفعله خلال حياتي، كان القصد منه هو توكيد أهميّة الحرّيّة”([244]).

الخاتمــة

“إنّ الفلسفة التي تزيح الإنسان لفائدة وجود آخر غيره، هي فلسفة لا يمكن لها أن تجني سوى حقد الإنسان”.

جان بول سارتر [نقد العقل الجدلي]

يبدو أنّ، من أهمّ النتائج الجوهريّة، وأقواها بلا ريب، من خلال مقاربتنا لإشكاليّة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن وفق المنظور الوجودي السّارتري، تكمن أساسا، في جملة المزايا التّاليّة:

– أوّلا: انهمام هذا النمط من التفكير، بالفرد في وجوده العيني وفي تجربته الحياتيّة المباشرة. وهو ما يعني، بعبارة أدقّ، أنّ الفلسفة الوجوديّة عامّة والسّارتريّة على وجه التخصيص، كانت تدور في فلك الوجود لذاته. وحينئذ، يصح القول: إنّ الوجودية هي فلسفة الإنسان قبل أن تكون فلسفة إنسانيّة. إنّه الإنسان في وجوده الذّاتي والاجتماعي والأخلاقي…هذا الإنسان المسكون بهوس الأسئلة حول العالم، الإله، التّاريخ، المعرفة، الموت…وهو يطرح تلكم الأسئلة تجاه كذا موضوعات بقدر علاقتها به. ولأمر كهذا يقول سارتر:”…إنّ الفلسفة التي تزيح الإنسان لفائدة وجود آخر غيره(…)، هي فلسفة لا يمكن لها أن تجني سوى حقد الإنسان”([245]).

لا يتوانى الفيلسوف الفرنسي، في الانتصار إلى الفرد، إلى الحريّة، وبالتّالي، إلى هذا الكائن المتعدّد الأبعاد، وهذا مصداق لمنظور سارتر، القائل: “يجب أن نبدأ من ذاتيّة الفرد”([246]). إنّ مبدأ الذاتيّة(Subjectivisme)الذي يعتمده سارتر هنا قد مكنه من إعطاء المكانة الحقيقيّة للإنسان داخل العالم وداخل التّاريخ، بوصفه ذاتا حرّة قادرة على تأسيس الفعل في منأى عن أيّة قوّة ميتافيزيقيّة([247]).

ينبغي أن نفهم إذن، أنّ غاية المشروع الفلسفي برمته مع سارتر في اتّجاهاته العميقة وأبعاده الرئيسيّة، يروم تأصيل أنتروبولوجيا وجوديّة، تعتبر الإنسان كائنا حرّا أنطولوجيا، أي انطلاقا من الفكرة القائلة، ملازمة الحريّة للوجود الإنساني في بنيته الأساسيّة، ملازمة الظلّ للجسم. فالإضافة الفلسفيّة، التي قدّمها هذا الفيلسوف، تتمثّل في اعتباره الحرّيّة محدّدا لماهيّة الإنسان، تلك هي، أوّل مقولة تطفح على السطح. إنّ زخم الأحداث التي عاصرها سارتر قد جعلت منه فيلسوفا، ولكن على نحو آخر. ذلك أنّه لم يكتف بالكتابة الفلسفيّة وإنّما نحن نجده يكتب في كلّ المجالات، ولعلّ غزارة إنتاجه الأدبي والمسرحي تشهد له بذلك. وإذا كان سارتر يكتب بكلّ الطرّق والمناهج، فإنّ هدفه الرّئيسي قد استمر واحدا: الحرّيّة الإنسانيّة. وهنا، تؤكّد مجمل مؤلّفات سارتر على هذا التوجه، الّذي ينطلق من اعتبار الإنسان حريّة بالأساس، وهو ما دعا بعض الشراح إلى اعتباره “فيلسوف الحريّة” دون منازع([248]).

– ثانيّا: ما نقف عليه أيضا، من خلال التوجّه الوجودي السّارتري، هو المكانة المحوريّة، التي تحظى بها مقولة الحرّيّة، باعتبارها المطلب الأقصى، والشعار الأسمى، الذي نادى به سارتر وباقي الفلاسفة الوجوديون. الأمر الذي بمقتضاه، أضحت الفلسفة السّارتريّة، من أقصاها إلى أقصاها، فلسفة الحرّيّة بامتياز. كما أنّ، لقاءنا بسارتر، من خلال الاشتغال على البعض من نصوصه الفلسفيّة، جعلنا نستجلي خصوصيّة موقفه من مسألة الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن حيث كان سارتر في لحظة أولى، فيلسوفا ظاهراتيا دون منازع، من خلال ما أقدم عليه، من مقاربة أنطولوجيّة، ذات المنحى الوصفي في أبعاده الفينومينولوجيّة لمسألة الحرّيّة، تعلق الأمر، بعلاقتها بأبعاد الوجود عامّة، أو من خلال تركيزه على صلتها بتجربة القلق أو العدم، وصولا إلى قرابتها بالاختيّار والالتزام والمسؤوليّة. فسارتر يعتبر الإنسان كائنا بين العدم الذي هو أصله ومصدره والوجود الذي يعيش فيه وهو مقابل للحقيقة المجرّدة والنظرية. وهو في ذات الوقت سبب القلق والغثيان. وغير بعيد عن ذلك يعتبره هيدغير قائما على الإحساس بالقلق والضيق المترتبين عن إدراك أنّ الكينونة معدة للموت باعتبارها أفق الزمنيّة.

– ثالثا: يتّجه سارتر أيضا، إلى التشديد على فكرة أساسيّة، وهو أنّ الحريّة، مطلب قيمي متأكّد وشرط جوهري، لتحقيق الإنسان لصفته الإنسانيّة. وفي ذات السّياق، يرى هذا الفيلسوف الوجودي، أنّ السمات الأساسيّة للحرّيّة، هي كونها، حريّة محض، عفويّة ونشيطة. إنّها، بالتالي، الماهيّة الجوهريّة المقوّمة للوجود لذاته.

والحقيقة الأبرز، في القراءة الوجوديّة مع سارتر، تمثّلت في إيمانه بالفرد وبإرادته اللا- متناهيّة. فالوجود لذاته، على نحو ما يرى سارتر، خالق ذاته ومؤسّس لكينونته وفق ما يرتضيه، سنده في ذلك، حريّته المطلقة، التي لا تتأثّر بضروب الحتميّات أو الضرورات، التي تلتقي بها. وهنا، تتبدى النزعة الإنسيّة لوجوديّة سارتر، بوصفها فلسفة تأليه الفرد وتسييده على الوجود.

ولمّا، كان الفرد يختار نمط وجوده، ويضفي عليه، ما يشاء من معنى بكلّ حريّة، فإنّه سارتريّا، مسؤول مسؤوليّة مطلقة أيضا. واستنادا، إلى هذا الموقف الأخير، بمستطاعنا القول، أنّ الشحنة الداخليّة لمقولة “الحرّيّة”، يمكن اختزالها على أساس كونها، حريّة واعيّة، ملتزمة ومسؤولة.

– رابعا: إنّه لقمين بنا التّأكيد على حقيقة هامّة، مفادها، استحالة الحّريّة مع سارتر، إلى فعل ممارسة عمليّة في الواقع. إنّها، ببساطة كبيرة، فعل تحرّر، أو لا تكون.

فالفيلسوف الوجودي، بتشخيصه لجملة الآلام والأمراض وجميع المشاكل المتفشية في واقعه، فهو في مرحلة أولى، قد عبّر على التزام بذلك الواقع، من خلال وعيّه العميق، بمدى خطورة، تلك الأزمات واستتباعاتها على مصير الفرد والبشر عموما.

وفي مرحلة ثانيّة، فإنّ هذا الانهمام، لهو دليل قاطع، على انفتاح الفلسفة على واقعها، وأنّ الفيلسوف “العُضوي” بعبارة غرامشي، ومن بعده سارتر، هو الذي يطرح على نفسه، مهمّة التفكير في شروط إمكان التحرّر، وكذلك إيجاد استراتيجيات للتواصل وبيداغوجيا للتعايش السّلمي المشترك بين البشر، رغبة في تحقيق وجودا نوعيّا، قوامه: الحرّيّة، العدالة، الكرامة، الفضيلة، التسامح، الحوار، الاعتراف المتبادل، احترام حقّ الاختلاف والتنوّع والمساواة والفهم والتفاهم المتبادل. والدّليل الواضح على قولنا هذا، ما أورده سارتر، بإعلانه: “إنّ الوجودي، يجب أن يرهق نفسه من أجل هذه الفلسفة، وأن يعيشها، لا أن يعرضها في كتب جافة”([249]).

هذا الموقف السّارتري، لئن تضمّن إلزام الفيلسوف، بضرورة مواكبة مشاغل الفرد الوجوديّة، فإنّه ضمنيّا، يعادي كلّ موقف يستهجن بقيمة الخطاب الفلسفي، بتهمة التّعالي وغربته على الواقع وعدم الاكتراث بالإنسان وبقضاياه في الحياة.

لا ريب، في أنّ الوجوديّة، قد نشأت من رحم أزمات سياسية واقتصاديّة خانقة. فلنرجع القهقرى، بالمعنى الهيدغيري، في قراءة استرداديّة للتّاريخ، نتبيّن على إثرها، أنّ أوروبا والإنسانيّة عموما، قد عاشت على وقع حربين عالميتين، تخلّلتها أزمة اقتصادية سنة (1929)، دون نسيان الأنظمة الكليانيّة (كالفاشيّة بإيطاليا والنّازيّة بألمانيا)، وما صاحب تلكم الأوضاع الكارثيّة، من اغتصاب لحريّات الأفراد وتنامي رهيب لموجات الحركات الاستعماريّة، لاسيّما من قبل القوى الصنّاعيّة الكبرى، للدول الناميّة والضعيفة، كالبلدان الإفريقية ودول أمريكا اللاتينيّة وبعض الأقطار الآسياويّة.

جملة هذه التحوّلات، التي عرفتها الإنسانيّة، خلال القرن العشرون، لئن مثلت عاملا محرّكا لعجلة التّاريخ، فإنّها في جانبها الآخر، قد ضاعفت من مسؤوليّة المفكّرين والفلاسفة عامّة، في إيجاد المخرج، لانتشال الإنسانيّة من بوتقة الاستلاب، التدجين والتهميش.

ومن هنا، فإنّ الفلسفة الوجوديّة، قد انهمّت بهذه القضايا، وجعلت منها، مواضيعها الأساسيّة، لتكون بذلك:

“فلسفة القرن العشرون… إنّها صرخة الإنسان، من أعماق أعماقه، في وجه القدر. إنّها صورة عن مأساته في هذه الدنيا العابثة”([250]).

خامسا: لعلّ، الدّرس الفلسفي، الذي تعلّمنا إيّاه السّارتريّة، ليتمثّل في حتميّة النّضال، من أجل الحرّيّة، كقيمة إيتيقيّة وعمليّة يستقيم بها الوجود الإنساني. ولا بدّ أيضا، من تجسيم ممارسة فعليّة لهذا المطلب على أرض الواقع. وبالتالي، يمكننا القول، أنّ تاريخ الفلسفة، يمثّل جهدا متواصلا، لاتّخاذ موقفا تجاه الواقع، إن واقع الذّات أو واقع الآخر، في مستوى تجلّياته المختلفة. إنّه موقف، يحمل في طياته، هدف ترسيخ الذّات المفكّرة، النافذة والفاعلة، إنّه هدف التحرّر في أقوى تمظهراته، على نحو ما جسّده سارتر وغيره من الفلاسفة. وعليه، قمين بالإشارة في ثنايا الطرح الوجودي السّارتري لموضوع الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ سُؤال الرّاهن إلى طبيعة التلازم الحتمي بين كتابات سارتر الأولى وكتاباته الثانيّة. ناهيك أنّ مؤلّفه “الوجود والعدم “(1943)، ليؤكّد في غير مرية رغبة سارتر في القطع مع تكوينه المثّالي والعقلاني نتيجة تلقيه لفكر المدرسة الفينومينولوجيّة الألمانيّة على نحو ما ألفيناه لدى إدموند هوسّرل وتلميذه مارتن هيدغير خاصّة. فحين أنّ مؤلّفه “نقد العقل الجدلي”(1960) ،إنّما أنجز تحت ضغط الواقع والأحداث العمليّة  السّائدة في فرنسا وفي العالم برمته .وكذا ،نتيجة تلقيه الواضح  لتعاليم الفلسفة الماركسيّة، بوصفها فلسفة العصر التي لا يمكن تخطيها في تقدير سارتر. بهذا المعنى، فإنّ الماركسيّة تتعيّن كفلسفة للإنسان وللتّاريخ وتشكّل بالنهايّة وفقا للمنظور الوجودي السّارتري المرجع النظري الذي لسوف يمكّنه من تأصيل مرتكزات “الأنثروبولوجيّا-الوجوديّة”. الأمر الّذي بموجبه يتسنى لنا الإقرار بمشروعيّة الحدّيث عن موضوع التحرّر كمبحث رئيس في كتابات سارتر الثّاني خاصّة في مؤلّفه “نقد العقل الجدلي”، مادام التحرّر ليتحدّد سارتريا هاهنا، كسيرورة شموليّة لمشروطة بجملة المقوّمات والوضعيّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة. وعلى هذا الأساس، فإنّ مبدأ الذاتيّة (Subjectivisme) الّذي راهن عليه سارتر من خلال مشروعه الفلسفي الوجود، لمكّنه من منح المنزلة الحقيقيّة للإنسان في فضاء العالم وداخل التّاريخ بوصفه ذاتا حرّة لقادرة على إتيان الفعل بمعزل عن أيّة قوّة ميتافيزيقيّة. وتساوّقا مع ما بيّناه آنفا، طفق سارتر في تحليل البراكسيس الفردي الذّي مكّنه من تبيّن بشكل ما أنّ معقوليّة هذا الأخير، لتكمن تحديدا في قيمة الحرّيّة بوصفها الخاصيّة الجامعة لكلّ مقوّمات الذّات الإنسانيّة سارتريّا. فالحرّيّة والفعل والوجود شيء واحد في تقدير سارتر، مادام الانقطاع عن الفعل هو انقطاع عن الوجود. فالوجود يُعزى إلى الفعل. وفي ذات السّياق من النّظر، إذا علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالقول أنّ الذّاتيّة في تقدير سارتر لتعني الحرّيّة، فإنّ العقل بدوره لتعبير عن الحرّيّة الفرديّة.

– سادسا: لا يمكّننا فهم المقاربة الوجوديّة السّارتريّة لموضوع الحرّيّة والتحرّر، سُؤال التّاريخ، سُؤال الرّاهن من جهة منطلقاتها النّظريّة ومداراتها العمليّة، إلاّ بالعودة إلى النسق الفلسفي برمته لهذا الرّجل وتبيّن الخيط النّاظم بين كتاباته الفلسفيّة الأولى وكتاباته الثّاّنيّة مع ما يستوجبه ذلك كلّه من دراية  بالمصادر الفلسفيّة التي استفاد منها سارتر ومدى تلقيه النظري والعملي لبعض المتون الفلسفيّة الهامّة التّي وسمت بوضوح معالجته الوجوديّة لكذا قضايا تخصّ الإنسان ومن أبرزها قضيّة الحرّيّة والتّحرّر التي لا يمكن تمثّلها، إلاّ من جهة علاقتها بمقولة المسؤوليّة وتجربة الالتزام وسوء الطويّة  وفعل المقاومة  ومفهوم الوضع والوقائعيّة والإرادة والاختيار والقلق والعدم والنّظر والعمل والوجود والذّات والاغتراب والعبث والثورة، مع ما يفترضه ذلك من استحضار للسّياقات الذّاتية والموضوعيّة ومفهومي: البراكسيس والتّاريخ  في بعديهما الواسع وسائر الممارسات الإنسانيّة. لنكون حينئذ إزاء نظريّة للحرّيّة ضمن نسق فلسفي وجودي مركّب يشدّ بعضه بعضا.

استحالت الوجودية بمقتضى ما أسلفنا إبانته جزءا مهمّا من التراث الإنساني ومكّن شيوعها في تغيّر تصورات النّاس للحياة ولمنزلتهم فيها أين غذّت لديهم الوعي بالحريّة والذود عنها. كما كان لها وقع مهمّ على مجالات وحقول معرفيّة مختلفة كعلم الاجتماع وعلم النّفس وعلوم التربيّة…ونحو ذلك. تأثيرها كان بارزا في المجال الأدبي كالرواية والقصّة والشعر والمسرح والفنون الأخرى حتّى صار دارجا الحدّيث عن أدب وجودي مفعم بالأنفاس السّارترية، والنيتشوية وغيرها…بل تحدّث البعض عن الوجودية بما هي مدرسة ومنهج من مناهج النقد الأدبي به تقرأ القصّة ويقرأ الشعر. إنّ امتداداتها تخطت حدود الثقافة الغربيّة لتشمل أيضا الثقافة العربيّة فزخر عالم الرواية العربيّة بروح التفكير الوجودي وظهر جليا لدى عديد الأدباء نخصّ بالذكر منهم: جبران خليل جبران حين بدا متأثرا بفلسفة إرادة القوّة عند نيتشه في كتابه: “العواصف” فأشاد بقدرة الإنسان على الفعل. ونستحضر أيضا أدب الأستاذ محمود المسعدي الذي كشف عن تجربة وجودية عاشها غيلان في “السدّ” وعاشها أبو هريرة في “حدّث أبو هريرة قال”. وحين نعود إلى الأدب المصري مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، لن نجد كبير عناء للعثور على نزعات وجودية عبّر عنها مثلا الحمزاوي (بطل رواية الشحاذ لمحفوظ). أضف إلى ذلك ما تأثث به الشعر العربي من إضاءات وجودية فكان حمّال قضايا توزعت بين إرادة الحياة والقدرة على الفعل حينا والقلق والعجز والفشل أحيانا أخرى على نحو ما تجليه قصائد: الشابي ومن بعده أدونيس وبدر شاكر السيّاب.

سابعا: ومهما يكن من أمر، ألا يجوز لنا، تنشيط مطلب الحريّة مجدّدا، ومناداتنا بفعل التّحرّر، لأنّ ما ينقص عالمنا الراهن وما يحتاجه الإنسان اليوم من تحرّر، من أشكال الاغتراب، التي يعيشها في مختلف تلويناتها، خاصّة في عصر استفحلت فيه المنجزات التقنيّة، وما أفرزته، من تنامي لصيغ الهيمنة والاستحواذ والعنف المقنّع، لبعض الإيديولوجيات، الرّاغبة في تحقيق غاياتها النفعيّة وأهدافها المصلحيّة الضيّقة، ناسفة بذلك، لكلّ مقوّم إيتيقي، بلا شفقة ولا رحمة حتّى وإن تعلّق الأمر، بقيمة الحريّة ذاتها، من خلال فنون المغالطة وألاعيب التضليل المتنوعة. وكلّ هذا، يتمّ بواسطة التّستر خلف أقنعة والاختفاء وراء شعارات منمّقة ومتناقضة، أو جملة مساحيق إيهاميّة استهاميّة من حيث مضامينها وأبعادها من ناحية. وتزايد فعل التباين الصارخ  بين المبدأ والواقع، بفعل النّوايا المبيّتة، من الجانب الآخر. وما ساعد على تفشي هذه الممارسات، “سوء النيّة”، بمعناه السّارتري الصّميم، المسيطر على الفرد، ممّا جعله ضحيّة نفاقا وجبنا وكذبا على ذاته بذاته. وهو، ما غيّب لديه إرادة الفعل والرّغبة في ردّة الفعل. ومن هنا، راهنيّة مشكلة التّحرّر، في زمن السيطرة على العقول، وتخدير النّفوس وقولبة السّلوك وصناعة الأفكار والخوف من الحريّة.

ويبدو، سارتر على حقّ، حين قال: “إنّ الإنسان يصيّر نفسه جبانا أو يصيّر نفسه بطلا. إنّ أمام الجبان إمكانيّة التحوّل عن الجبن وإنّ أمام البطل، إمكانيّة عدم البقاء بطلا”([251]). ولا أظنّه، يقصد أمرا بعيدا عن هذا، إنّ الحرّيّة، هي العامل الأساسي، المساهم في لعبة تبادل الأدوار، ولا مجال، حسب سارتر، للقول بالقدريّة والمصير المحتوم. ليتحدّد الإنسان عندئذ وفق المنظوريّة الوجوديّة السّارتريّة كمشروع وجود، مثقل بالحرّيّة، والاختيّار والمسؤوليّة.

ثامنا: لا نجد بأسا في القول أنّ الحرّية لتحمل على معنى مملكة الكائنات العاقلة وقيمة القيم التّي ليناضل المرء في سبيل تحصيلها، سيّما إزاء تزايد فعل التبخيس السّافر لمنظومة حقوق الإنسان والمواطن على رؤوس الأشهاد والخلائق، كنتيجة لممارسات بعض النظم السياسية الجائرة والفاسدة من جهة. وتبعا لما يشهده العالم اليوم من تحوّلات جيو-سياسيّة، تتعيّن رأسا في تنامي المدّ الثوري المجسّد لرغبة الشّعوب المضطهدة في الانعتاق والتحرّر وذلك عبر مقاومتها بلا هوادة لمختلف أشكال الاستبداد والاستعباد والطّغيان ومجمل صُوّر الهيمنة والتسلّط والاغتراب من جهة ثانيّة. هذا ما تُجليه الثورات العربيّة راهنا وإن كانت ثورات لم تكتمل بعد من جهة مساراتها ومداراتها في علاقتها بمطالب الشعوب الثائرة .ولكن، لا يقودنا ذلك إلى شيطنتها أو التنصل منها، بل ما يشكّل مدعاة إلى تحصين تلكم الثورات من كل المؤامرات المتربصة بها حتّى، لا تنزلق في متاهات الثورات العفوية التي سرعان ما تنقلب إلى فتن شعبيّة مدمرّة في عبارات آسرة وبليغة الأبعاد للمصلح العربي عبد الرّحمن الكواكبي ذات مرّة.

– تاسعا: خلاصة القول، ألا تتأكّد حاجتنا الماسّة اليوم إلى تقريظ قيمة الحرّيّة ومطلب التحرّر، ومدى حاجة الإنسان في العصر الرّاهن إلى التّفكير في القيم وإنشاء المعنى. اعتبارا إلى تنامي مخاطر العنف الثّاوي داخل الوجود الإنساني، مردّها الأساسي تزايد ظاهرة الهجرة نحو الدّول المتقدّمة وما حفّها من ممارسات وسلوكيات عنصريّة وعنيفة لا تؤمن بحقّ الاختلاف والتنوّع، بفعل استشراء الصراعات الهووية المفتعلة، وهيمنة التعامل الأداتي مع الإنسان، بما يهدّده بالتشيّؤ والموضعة والإخضاع، الأمر الذي يُفقد الإنساني المعنى ويسقطه في ضرب من العدميّة (فراغ القيمة والمعنى)، التي لألفيناها استفحلت زمن العولمة راهنا، خاصّة إذا علمنا فضلا عمّا أسلفنا بالقول سابقا، أنّ العولمة، لتدفع باتّجاه تأسيس سياسة عالميّة وفق منطق الغلبة  للأقوى اقتصاديا وماليّا وعسكريّا وإعلاميّا، فتصبح سيادة الدّول وكلّ الخصوصيّات الثقافيّة والدّينيّة واللّغوية والإتنيّة والطائفيّة وفق هذا التصوّر عائقا يجب تحييده وإخضاعه لآلة السّوق والاستهلاك ودورة رأس المال. كما أنّ العولمة تحدّ من سيادة الدّول، إذ تطرح إيديولوجيا العولمة حدودا أخرى غير مرئيّة ترسمها الشّبكات العالميّة قصد الهيمنة على الاقتصاد والأذواق والفكر والسّلوك([252])، ممّا يستدعي التّفكير في شروط إمكان العيش معا. وعليه، فإنّ تثبيت الحرّيّة وإيتيقا التحرّر عينيّا، لا يكون ممكنا في تقديرنا المتواضع، إلّا من خلال توفر الإرادة الصّادقة من لّدن الجميع على صياغة مضامين دستور أخلاقي كوني ملزم لجميع البشر أفرادا وشعوبا، والعمل على إيجاد جملة الآليّات الّتي يقتضيها والتّفكير في شروط نجاعة الهيئات الدوليّة والإنسانيّة الضّامنة لحسن تطبيقه معموريّا دون مفاضلة عنصريّة أو حسابات نفعيّة وأيديولوجيّة ضيّقة.

 إنّ تحصيل هذا الرهان النبيل ليرتهن أيضا في نظرنا بتصحيح السّياسات الدوليّة، وترسيخ تقاليد أنظمة سياسية فاضلة تحصّن مواطنيها من براثن الاستبداد والتسلط. مع ضرورة ردّ الاعتبار إلى العلوم الإنسانيّة والأنثروبولوجيّة: الثقافيّة والفنيّة والدّينيّة، وعلوم التّربيّة، وعلوم الاتّصال والتّواصل، ومنحها المكانة الّتي تستحق، وهي مهمّة منوطة بعهدة الساسة والفنانين والمبدعين والفقهاء وجميع النّخب المثقفة من خلال طرحهم لمقاربات فكريّة ورؤى إصلاحيّة هادفة، عساها تمكّننا من إنجاح مسارات ثورات ثقافيّة إنسانيّة / كونيّة، وتُسهم في فعل التوعيّة والتّثقيف والدّربة على نواميس العيش سويّا وبيداغوجيا التواصل بين الأمّم والأديان والحضارات. والمراهنة في ذات السياق، على مقاربة نقدية ترصد صلاحيّة العولمة وحدودها. ذلك أنّ الإنسانيّة في عالمنا الرّاهن، بمستطاعها إنتاج مضادات إيتيقيّة تقينا من مخاطر العولمة بالتّفكير في شروط تلازم بعديها التّقني–الاقتصادي والإنساني. ولكي يكون هذا المشروع ناجزا، فلابد من ردّ الاعتبار إلى قيمة الفلسفة ودور الفيلسوف الحقيقي القادر على تشخيص أمراض الواقع وكشفه الأقنعة عن السّلطوي، بما هو مصدر اغتراب الإنساني في تفرّده وتنوّعه. وتنميّة التّواصل في أبعاده الإيتيقيّة والإنسانيّة، عسى أن يقلّص ذلك من البعد الآداتي ويسهم في بناء رؤيّة تمكّن الإنسان من أن يكون قادرا على بناء مشاريعه واضطلاعه بمسؤوليته إزاء الإنساني، بما يضمن العيش معا الحرّ والمتحرّر.

الأمر الذي بموجبه، نتبيّن الطّابع المركّب للمسؤوليّة، بوصفها مسؤوليّة مُعمّمة يشترك فيها كلّ من العالم والسّياسي والفيلسوف ورجل الدّين والفنّان وصاحب المشروع. وأنّ هذه المسؤوليّة لتندرج ضمن رهان فلسفي وإيتيقي ينتصر للمعنى في مقابل الانتصار للمردودية وجملة المصالح البراغماتيّة، بما يمكّننا في النّهاية من تحصيل الخير العامّ الّذي يسعى إليه الجميع، لأنّ النّاس تراودهم رغبة واحدة ألا وهي كراهيتهم للظلم، ويطلبون المزيد من الحرّيّة والحقّ في الحقّ ضمن الفضاء العمومي، وما ذلك علينا بعزيز. ولأمر كهذا، خليق بنا التساؤل: ألم يأْنِ لأعداء الحرّية في عالمنا الرّاهن من الطّغاة والمستبدين أفرادا كانوا أو أنظمة أو دولا ممّن هم أعداء الإنسان والإنسانيّة الذين طغوا في الأرض فأكثروا فيها الفساد ويحسبون أنّهم يحسنون صنعا أن تصحى ضمائرهم الميّتة ويعترفوا بقيمة الحرّيّة نظرا وعملا؟ وهل أتاهم نبأ الحرّية والتّحرّر بعدُ أم هُم في طغيانهم ليعمهون وبهذا الحديث ليؤفكون ويمترون؟ في استعادة منّا لبعض العبارات الفرقانيّة الآسرة.

المراجع

1) المصادر والمراجع باللّسان العربي

أ) المصادر

  • ساتر (جان بول) :
  • الوجوديّة مذهب إنساني، ترجمة : كمال الحاج، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 1983.
  • الماديّة والثورة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 1980.
  •  تعالي الأنا موجود، ترجمة وتقديم وتعليق د. حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 2008.

ب) المراجع

  • إمام (عبد الفتاح إمام): كيركيغارد رائد الوجوديّة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 1982.
  • إبراهيم (زكريا): مشكلة الحريّة، مكتبة مصر، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة، 1972.
  • برلين (إيزايا): حدود الحريّة، ترجمة: جمّانا طالب، دار االسّاقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1992.
  • بن ذريل (عدنان) : الفكر الوجودي عبر مصطلحه، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1985.
  •  بن هلال (الطاهر) : قضايا فلسفيّة معاصرة الحريّة – المسؤوليّة، منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس، الطبعة الأولى، 2013.
  • بدوي (عبد الرحمان): دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1980.
  • الزمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1973.
  •   بودريار (جان) : السّلطة الجهنميّة، ترجمة: د.بدر الدّين عرودكي تحت عنوان “عنف العالمي” ، مجلّة الفكر العربي المعاصر، عدد  134- 135 ، مركز الانماء القومي، بيروت- لبنان، 2006 .
  • التّريكي (فتحي): العقل والحريّة، تبر الزمان، تونس، 1999.
  • قراءات في فلسفة التنوع، الدّار العربيّة للكتاب، 1988.
  •   تودروف (تزفيتان) : روح الأنوار، تعريب حافظ قوبعة، دار محمد علي للنّشر، صفاقس – تونس، الطّبعة الأولى، 2007.
  • الجوّة (محمد): مسائل فلسفية، مركز النشر الجامعي، تونس، 2000.
  • جوليفيه (ريجيس): المذاهب الوجودية من كير كيغارد إلى جان بول سارتر، ترجمة: فؤاد كامل، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1988.
  • جيد (أندريه) : دوستويفسكي مقالات ومحاضرات، ترجمة : إلياس حنّا، بيروت – باريس، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1988.
  • الدّيدي (عبد الفتاح): الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1985.
  •  فلسفة جان بول سارتر مع ترجمة أعماله، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، مصر، 1946.
  • داستور (فرانسواز): هيدغير والسّؤال عن الزّمان، ترجمة: د. سامي أدهم، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والتوزيع، بيروت – لبنان، الطبعة الثانيّة، 2002.
  • رسّل (برتراند) : حكمة الغرب، الفلسفة الحديثة والمعاصرة، الجزء الثاني، ترجمة: فؤاد زكريا، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، 1983.
  • الشابي (نور الدّين): أنطولوجيا الرّاهن: مسألة الالتزام من منظور ميشال فوكو، الفكر العربي المعاصر عدد 169، مركز الإنماء القومي، بيروت – لبنان، السنة الخامسة والثلاثون، خريف 2015.
  • الشاروني (حبيب): فلسفة جان بول سارتر، منشأة المعارف بالاسكندرية، مصر، (د.ت).
  • الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، بحث لنيل شهادة الدّراسات المعمّقّة في الفلسفة، إشراف، د. فتحي التّريكي، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، 2002.
  • فال (جان): الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر، ترجمة: الأب مارون خوري المخلصي، منشورات عويدات، بيروت – باريس، الطبعة الرابعة، 1988.
  • قيوسي (محمد إبراهيم): الوجوديّة فلسفة الوهم الإنساني، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1983.
  • كامل (فؤاد): أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1993.
  • محمد سليمان (حسن): دراسات في الفلسفة الأوروبيّة، منشورات دار علاء الدّين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 1988.
  • معلوف (أنطوان): التراجيديا والفلسفة المأساوية، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1982.
  • موريس (كراستون): سارتر بين الفلسفة والأدب، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 1983.
  • هويدي (يحيى): دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 1990.
  • لوبياس (فريديريك): الحريّة، تعريب محمود بن جماعة، دار محمّد علي الحامي للنشر، صفاقس – تونس، الطبعة الأولى 2009.

2) المصادر والمراجع باللسان الفرنسي

أ) المصادر

  • Sartre (Jean-Paul) :
  • L’Être et le Néant, Paris, Gallimard, 2001.
  • L’Existentialisme est un Humanisme, Présentation et notes par Arlette El Kaim – Sartre, Paris, Gallimard, 1996.
  • Les situations philosophiques, Paris, Gallimard, 1990.
  • Questions de méthode, Paris, Gallimard, 1957.
  • Critique de la raison dialectique I, Paris, Gallimard, 1960.
  • La transcendance de l’Ego, Esquisse d’une description phénoménologique, introduction, notes et appendice par Sylvie le Bon, Paris, J. Vrin, 1996.
  • Les Mots, L’écriture de soi, Paris, Ellipses, 1966.

ب) المراجع

* Amselek (Paul) : Science et déterminisme, éthique et liberté, Paris, P.U.F, 1988.

* Aron (Raymond) : Essai sur les libertés, Paris, Éditions Librairie générale Française, 1976.

 * Beaufret (Jean) : De l’Existentialisme à Heidegger, Paris, Librairie philosophique, J. Vrin, 1986.

* Contat (Michel), Raybalka (Michel) : Les écrits de Sartre, Paris, Gallimard, 1970.

* Châtelet (François) : La philosophie au XXe siècle (Tome 4), Paris, marabout.

* Descartes (René) : Les Méditations métaphysiques, troisième méditation, Paris, P.U.F, 1968.

* Foucault (Michel) : Dits et Ecrit, Paris, Gallimard, 1994.

* Heidegger (Martin) : Qu’est-ce que la métaphysique, traduction : Henry Corbin, Paris, Nathan, 1985.

* Hyppolite (Jean) : Les figures de la pensée philosophique, Tome II, Paris, P.U.F, 1971.

* Husserl (Edmund) : Méditations Cartésienne, Paris, J Vrin, 1966.

* Jeanson (Francis) : Sartre dans sa vie, Paris, Éditions du Seuil, 1974.

* Jonas (Hans) : Le principe responsabilité, Cerf, 1990.

* KierKegaard (Soreen) : Miettes philosophiques le concept de l’angoisse traité du désespoir, traduit par : Knud Ferlor et Jean-Jacques Gâteau, Paris, Gallimard, 1994.

* Marx (Karl) : critique de l’économie politique, Paris, Éditions sociales, 1957.

* Merleau Ponty (Maurice) : La phénoménologie       bbbb de la Perception, Paris, Gallimard, 1945.

الدوريات والمجلات

  • مجلة عالم الفكر، بعنوان: “جان بول سارتر”، المجلد الثاني عشر – العدد الثاني، الكويت، يوليو، أغسطس، سبتمبر 1981.
  • مجلّة الفكر العربي المعاصر، العدد 132 – 133، الجزء المعنون بـ: “شخصيّة الموسم الفلسفي، قرن بعد ولادة سارتر”، مركز الإنماء القومي، 2005.
  • مجلة أوراق فلسفية، بعنوان: “سارتر في الذاكرة العربية”، العدد 14، 2005.
  • مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 134 – 135، الجزء المعنون بـ: “احتفاء بمأوية جان بول سارتر”، بقلم صلاح الدّاودي، 2006، ص.ص 138 -143.
  • المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 40 – 41، تحت عنوان: “سارتر المتعدّد”، تونس، قرطاج، 2006.

المعاجم والموسوعات  الفلسفيّة

  • باللّسان  العربـي :
  • سعيد (جلال الدّين): معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة، دار الجنوب للنّشر – تونس، 2004.
  • الموسوعة الفلسفية العربية، المجلّد الثّاني: الاصطلاحات والمفاهيم، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986.
  • موسوعة لالاند الفلسفية، المجلّد الأول، تعريب: أحمد خليل، بيروت – باريس، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1966.
  • باللّسان الفرنسي:
  • Jacob (André) : Dictionnaire des notions philosophiques, Tome I, Paris, P.U.F, 1998.
  • Lalande (André) : Vocabulaire technique et critique de la philosophie, Paris, P.U.F, 1988. (1ère Éditions, 1926).
  • Russ (Jacqueline) : Mémo Références, philosophie, les auteurs, les œuvres, Paris, Bordas, 2003.
  • Encyclopaedia Universalis : (Jean-Paul Sartre : p1367 -1376), Paris, Éditions Albin Michel, 2001.

(1) التّريكي(فتحي): العقل والحرّية، تبر الزمان، تونس، 1998، ص62.

لمزيد التعمّق حول مفهوم الحرّيّة وأبعادها الإشكاليّة، نحيل القارئ إلى المؤلفين التّاليين:

  • بن هلال (الطاهر): قضايا فلسفيّة معاصرة الحريّة – المسؤوليّة، منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس، الطبعة الأولى 2013، ص 3-93.
  • لوبياس (فريدريك): الحريّة، تعريب: محمود بن جماعة، دار محمّد علي الحامّي للنشر، صفاقس – تونس، الطبعة الأولى 2009، ص 7-35.

[2]  Sartre, Questions de méthode. Ed. Gallimard. Paris. 1960. PP. 9-10.

([3]) برلين (إيزايا): حدود الحريّة، ترجمة: جمانا طالب، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992، ص11.

([4]) إبراهيم (زكريا): مشكلة الحريّة، الفصل الأول، معنى الحريّة، مكتبة مصر، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1972، ص18.

([5]) Amselek (Paul) : « Science et déterminisme, éthique et liberté », Paris, P.U, F, 1988, pp 97-98.

([6]) Lalande (André) : « vocabulaire technique et critique de la philosophie », Paris, P.U.F,1988 (1er Édition 1926) pp558 – 559.

([7]) Sartre (Jean Paul Charles Aymard) : « L’Etre et le Néant », Paris, Gallimard, 2001, pp528 – 529.

([8]) Sartre (Jean Paul Charles Aymard) : « Situation philosophique », «La liberté cartésienne », in : situation I, Paris, Gallimard, 1990, P61.

([9]) Jacobe (André) : « Les notions philosophiques, Tome2 », Paris, P.U.F, 1998, pp. 1804, 1805, 1806.

([10]) Jacobe (André) : « Les notions philosophiques, Tome2 », Paris, P.U.F, 1998, pp. 1804, 1805, 1806.

([11]) Sartre (Jean Paul) : « L’Etre et le Néant », p.14.

 ([12]) سارتر (جان بول): الوجودية مذهب إنساني، ترجمة: كمال الحاج، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 1983، ص97.

([13]) هويدي (يحيى): دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1990، ص468.

انظر أيضا، سارتر (جان بول): تعالي الأنا موجود، ترجمة وتقديم وتعليق: د. حسن حنفي، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت -لبنان، 2008.

([14]) L’Etre et le Néant, p.33.

([15])  L’Etre et le Néant, p.666.

([16]) الشاروني (حبيب): فلسفة جان بول سارتر، منشأة المعارف بالإسكندرية، (د.ت)، ص153.

([17]) Hyppolite (Jean) : «Les figures de la pensée philosophique », Tome II, Paris, P.U.F, 1971, p.761.

([18]) الشاروني (حبيب): فلسفة جان بول سارتر، ص262.

([19]) Sartre (Jean Paul) : « L’Etre et le Néant », p.669.

([20]) Ibid, p.665.

([21]) L’Etre et le Néant, p.665.

([22]) الجوّة (محمد): مسائل فلسفيّة، مركز النشر الجامعي، تونس، 2000، ص191.

 ([23]) Beaufret (Jean) : « De L’Existentialisme à Heidegger », Paris, Librairie philosophique,J.Vrin, 1986, p.58.

([24]) سارتر (جان بول): الوجودية مذهب إنساني، ص88.

([25]) المصدر نفسه. “في الوجود والعدم يصف سارتر الإنسان باعتباره كائنا حرّا أنطولوجيا، داخل هذا المعنى الذي يعتبر الفرد وجودا في ذاته، بوصفه انعداما في ذات الوقت للوجود في ذاته وللوجود بذاته، أي للوجود الّذي هو إمكانيّة خاصّة للإنسان في أن يوجد”. الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، بحث لنيل شهادة الدّراسات المعمقة في الفلسفة، إشراف د. فتحي التّريكي، كليّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بتونس، 2002، ص. 90.

([26]) Jacob (André) : « Dictionnaire des notions philosophiques, Tome1 », Paris, P.U.F, 1998, p.96.

([27]) L’Etre et le Néant, p.64.

([28]) L’Etre et le Néant, pp.69-70.

([29]) L’Etre et le Néant, p.73.

 ([30]) Ibid, p.64.

 ([31]) L’Etre et le Néant, p.71.

([32]) جوليفيه (ريجيس): المذاهب الوجوديّة من كيركيغارد إلى جان بول سارتر، ترجمة: فؤاد كامل، دار الآداب – بيروت، الطبعة الأولى، 1988، ص 44-45.

([33]) سارتر (جان بول): الوجودية مذهب إنساني، ص92.

([34]) Ibid, p.567.

([35]) Ibid, p.560.

  ([36])قيوسي (محمد إبراهيم) :الوجوديّة فلسفة الوهم الإنساني، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، الطّبعة الأولى، 1983، ص101.

([37]) سارتر (جان بول): الوجوديّة مذهب إنساني، ص51-52.

 ([38]) KierKegaard (Soreen) : « Miettes philosophiques le concept de l’angoisse traité du désespoir », traduit par : Knud Ferlor et Jean-Jacques Gateau, Paris, Gallimard, 1994, p.214

([39]) إبراهيم (زكريّا): مشكلة الحريّة، مكتبة مصر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1972، ص174.

([40]) Beaufret (Jean) :« De l’Existentialisme à Heidegger », Paris, Librairie philosophique, J.Vrin, 1986, p.24.

([41]) بدوي (عبد الرحمان): دراسات في الفلسفة الوجوديّة، المؤسسة العربيّة للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1980، ص23.

([42]) Beaufret (Jean) : « De l’Existentialisme à Heidegger », p.31.

([43]) Ibid, p.26

([44]) Ibid, p.65.

(*) الدازاين (Da-Sein) كلمة ألمانية: ß “هنا” (« Da » :là ) ï وتعني الوجود هنا”، أي كينونة.

                        ß (الوجود) «Sein») الموجود الإنساني أو كيفية وجوده حسب هيدغير ويترجمها “هنري كوربان” (H.corbin) “الحقيقة الإنسانية”.

Heidegger (Martin) : «Qu’est-ce que la métaphysique », traduction : H. Corbin, Paris, Nathan, 1985, pp.28-29.

([45]) De l’Existentialisme à Heidegger, p.25.

([46]) De l’Existentialisme à Heidegger, p.26.

([47]) L’Etre et le Néant, p.530.

([48]) Ibid, p.530.

([49]) De l’Existentialisme à Heidegger, p.24.

([50]) L’Etre et le Néant, p.60.

([51]) بن ذريل (عدنان): الفكر الوجودي عبر مصطلحه، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1985، ص. 167 – 168.

([52]) بن ذريل (عدنان): الفكر الوجودي عبر مصطلحه، ص348.

([53]) صفدي (مطاع): “مجلة الفكر العربي المعاصر”، العدد 132-133، (الجزء المعنون بـ: شخصية الموسم الفلسفي، قرن بعد ولادة سارتر)، مركز الإنماء القومي، بيروت –لبنان، 2005، ص161.

([54]) L’Etre et le Néant, p115.

([55]) Ibid, p.114.

([56]) L’Etre et le Néant, p.124.

([57]) Ibid, p.125.

([58]) Ibid, p.115.

([59]) Ibid, p.115.

([60]) L’Être et le Néant, p.41.

([61]) Ibid, p.41.

([62])  L’Être et le Néant, p.43.

([63]) Ibid, pp.43 – 44.  

([64]) L’Être et le Néant, p.45.

([65]) L’Être et le Néant, p.59.

([66]) هويدي (يحيى): دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، دار الثقافة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1990، ص468.

([67]) L’Etre et le Néant, p.46.

([68]) L’Être et le Néant, pp.38 – 39.

([69]) Heidegger (Martin) : «Qu’est-ce que la métaphysique?», p.53.

([70]) L’Etre et le Néant, p.57.

([71]) Ibid, p.53.

([72]) بدوي (عبد الرحمان): الزّمان الوجودي، دار الثقافة، بيروت –لبنان، الطبعة الثالثة، 1973، ص233.

([73]) L’Etre et le Néant, p.532.

([74]) الوجودية مذهب إنساني، ص73.

([75]) المصدر نفسه، ص144.

([76]) الوجودية مذهب إنساني، ص73.

([77]) المصدر نفسه، ص73.

([78]) سارتر (جان بول): الماديّة والثورة، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت – لبنان، 1980، ص31.

([79]) الدّيدي (عبد الفتاح): الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1985، ص254.

 (*) L’Être et le Néant، PP535, 541, 549, 554 et 576.

([80]) L’Etre et le Néant, p.535.

([81]) L’Etre et le Néant, p.542.

([82]) L’Être et le Néant, p.534.

([83]) داستور (فرانسواز): هيدغير والسُّؤال عن الزمان، ترجمة: د. سامي أدهم، الطبعة الثانيّة، مجد المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 2002، ص68.

([84]) كامل (فؤاد): أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1993، ص211.

([85]) كامل (فؤاد): أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، ص211.

([86]) المرجع نفسه، ص212.

([87]) Husserl (Edmund) : Méditations Cartésienne, Paris, Vrin, 1966, p.28.

([88]) L’Etre et le Néant, p.73.

([89]) محمد سليمان (حسن): دراسات في الفلسفة الأوروبيّة، منشورات دار علاء الدين، الطبعة الأولى، 1988، ص100.

([90]) L’Existentialisme est un Humanisme, p.69.

([91]) L’Existentialisme est un Humanisme, p.69.

([92]) Ibid, p.69.

([93])  L’Existentialisme est un Humanisme, p.69.

([94]) سارتر (جان بول): الوجودية مذهب إنساني، ص46.

([95])  L’Etre et le Néant, p.485.

([96]) Ibid, p.598.

([97]) L’Etre et le Néant, p.598.

([98]) Ibid, p.600.

([99]) L’Etre et le Néant, p.599.

([100]) Ibid, p.598.  

([101]) الوجودية مذهب إنساني، ص 46-47. يقول أستاذي الكيّس الدكتور مصطفى كمال فرحات “إنّ هذا الترابط العضوي بين الحرّيّة والمسؤوليّة هو الّذي يضفي الطابع الاطلاقي على الالتزام الحرّ الّذي به يحقّق كل فرد إنسي ذاته بتحقيق نمط إنسانيّة ما. وهو التزام قابل للفهم دائما في كلّ زمان ومكان ومن طرف أيّ كان. وبهذا المعنى لا يوجد أي فرق بين أن يكون المرء حرا وأن يكون مشروعا وأن يكون موجودا يختار ماهيته لحظيا وأن يكون مطلقا”. راجع، مقاله المعنون ب:”حول دستور الإنسانوية فيما بين سارتر وهيدغير”، المجلّة التونسيّة للدّراسات الفلسفيّة، عدد40-41، السنة22 ، تونس، 2006، ص11-24.

([102]) كامل (فؤاد): أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1993، ص209.

([103]) الوجودية مذهب إنساني، ص75.

([104]) Figures de la pensée philosophique, p.767.

([105]) L’Etre et le Néant, p.767.

([106]) الوجودية مذهب إنساني، ص86.

([107]) “الوجودية مذهب إنساني”، ص76.”وهذا الاختيار الممكن هو دائما بقدر تلازمه مع القلق من ثقل المسؤوليّة الكونيّة المترتبة عليه بقدر ما يشكّل مبدءا مشرعا للطابع التفاؤلي للوجودية بخلاف السّمة التشاؤميّة القانطة لطبيعاوية (Naturalisme) أمثال إميل زولا في (رواياته) هذه التفاؤليّة الجذرية تتمثّل في جعل كلّ إنسان بإطلاق ودون استثناء قادر على تغيير ما بنفسه ايجابيا في كل لحظة شريطة القبول بالالتزام الكامل بذلك (…). من هنا، جدية ومصيرية الاختيار في الوجودية وجدية ومصيرية الطابع الكوني للمسؤوليّة ضمنها وذلك على الرّغم من رفض هذه الفلسفة على الأقل تأويلها السّارتري الاقرار بوجود أخلاق عامةّ أو ايطيقا كونيّة ملزمة لجميع أفراد البشرية أو قيّم شاملة ونهائيّة لكونها ترى أنّ الفعل الأخلاقي شأنه شأن العمل الفني إنّما هو إبداعي على الدّوام أو لا يكون سوى نمطيّة نذلة من صنع “روح الجدية”(L’esprit de serieux)  في أبغض تمظهراتها في نظر سارتر… وإن كان هناك من كونيّة حقّة في هذا الخصوص فإنّها توجد في شكل ما يسمّيه سارتر بكونيّة المنزلة البشري (condition humaine)  عوضا عن كونيّة الطبيعة البشرية التي قالت بها الفلسفة من قبل”. راجع، فرحات (مصطفى كمال): حول دستور الإنسانويّة فيما بين سارتر وهيدغير، المرجع السّابق، ص16-17. 

([108]) L’Etre et le Néant, p.600.  

([109]) الوجودية مذهب إنساني، ص46.

([110]) المصدر نفسه، ص79.

([111]) المصدر نفسه، ص89.

([112]) جوليفيه (ريجيس): المذاهب الوجودية من كيركيغارد إلى جان بول سارتر، ترجمة: فؤاد كامل، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1988، ص215.

([113]) المرجع نفسه، ص214.

([114]) معلوف (أنطوان): التراجيديا والفلسفة المأساوية، المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1982، ص69-71.

([115]) L’Etre et le Néant, p.534.  

([116]) الديدي (عبد الفتاح): الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1985، ص215.

([117]) Descartes (René) : «Les Méditations métaphysiques, troisième méditation», Paris, P.U.F, 1968, p.68.

([118]) هويدي (يحيى): دراسات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، ص 294 – 295.

([119]) Jonas (Hans), le principe responsabilité, Cerf, 1990, p.13. 

([120]) Ibid, p.13.

([121])Ibid, p.192.

([122]) Jonas (Hans), le principe responsabilité, Cerf, 1990, p.192.

يقول جوناص في صلة المسؤوليّة بأساسها الأنطولوجي، أي بالاستطاعة أو القدرة الإنسانيّة: “إنّ المسؤوليّة تابعة للاستطاعة بحيث يتحدّد مدى المسؤوليّة ونوعها بمدى ونوع الاستطاعة”.

(Ibid, p.177)

([123]) Jonas (Hans), le principe responsabilité, pp.30-31.

 ([124]) بن هلال (الطاهر) : قضايا فلسفيّة معاصرة الحريّة – المسؤوليّة، منشورات مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس، الطبعة الأولى، 2013، ص 115-116.

 ([125]) لمزيد التوسع بخصوص موقف الفيلسوف اليهودي الفرنسي لتواني الأصل”إيمانويل لفيناس” (Emmanuel Lévinas) (1906-1995) حول إيتيقا المسؤوليّة، راجع كتابه :”إنسانيّة الإنسان الآخر” (1972) ، حيث يقترح لفيناس إنشاء إيتيقا جديرة بالإنسان قوامها تبادل المسؤوليّة بين الأنا والآخر. وأيضا، مؤلفه الموسوم بـ “الإيتيقا واللّانهائي” (1982) الذي عرض فيه مسيرته الفلسفيّة التي انتهت به إلى اعتبار الإيتيقا الفلسفة الأولى عن جدارة.

 bلجةدحين السراج حي التوفيق تونس 1007لقد فضلنا التلميح في هكذا إشارات وتنبيهات إلى موقف “إيمانويل لفيناس” بشأن إيتيقا المسؤوليّة ولم نعمل على تفصيل القول الممكن فيها، لأنّ ذلك ليفترض تغيير قبلة التفكير صوب بدايات أخرى ليس هذا مقام تفصيل القول الممكن فيها …وحتّى لا نثقل المتن بهكذا شواهد ومعارف، نقدّر أنّها لمتيسّرة لكلّ باحث ومهتم بفلسفته، وعديدة هي البّحوث والدّراسات التي طرحت موضوع إيتيقا المسؤوليّة من منظور لفيناس.

([126]) L’Etre et le Néant, p.82.

([127])  Ibid, p.83.                      

([128]) L’Être et le Néant, p.81.

([129]) الوجودية مذهب إنساني، ص81.

([130]) المصدر نفسه، ص81.

([131]) L’Etre et le Néant, p.102.

([132] الوجودية مذهب إنساني، ص81.

([133]) مفرج (جمال): سارتر ومعركة الالتزام، مقالة واردة بالمجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد 40 – 41، تحت عنوان: “سارتر المتعدد”، قرطاج، تونس 2006، ص 51.

([134]) L’Existentialisme est un humanisme, p.83.

([135]) Sartre (Jean-Paul) :«Les situations philosophiques », in : situation II, pp.113-114

([136]) Sartre (Jean-Paul) : «Plaidoyer pour les intellectuels », in : situation VIII, Paris, Gallimard, 1990, p.221.

 (3) “إنّ المثقف هو الذي يشتغل في المجال الرمزي (التفكير، الكتابة، والكلام) وهو الذي يشارك في الحياة المدنية العامة ويتخذ موقفا ملتزما به. وقد ظهر هذا اللفظ في فرنسا أثناء قضية “داريفوس”.  ويميّز أنطونيو غرامشي بين تعريفين للمثقف يصطلح عليهما بالتعريف الأفقي والتعريف العمودي. ففي التعريف العمودي يكون لكّل طبقة مثقفيها الخاصة بها وتتمثل مهمّتها المتميزة في تنظيم هذه الطبقة وذلك بإنتاج ثقافتها وإعادة إنتاجها بالتعليم وبنشر إيديولوجيتها. ولكن تتمثل مهمة مجموعة هؤلاء المثقفين أيضا في تحقيق التنظيم الاجتماعي المادي للإنتاج وللدّولة ويسمى هؤلاء المثقفون بمثقفين عضويين منذ أن يقوموا في وقت واحد بوظيفة النخبة (البحث وصياغة تصور للعالم والإبداع) وبوظيفة النشر المتصلة بالجماهير. أمّا التعريف الأفقي فيبرز المثقفين على أنّهم فئة خاصّة أي” صنفا يرى نفسه استمرارا متواصلا في التّاريخ وبالتّالي مستقلا عن صراع الجماعات ولا يرى نفسه تعبيرا عن سيرورة جدليّة تصوغ بمقتضاها كلّ مجموعة سائدة فئة مثقفيها الخاصّين بها”. راجع، جيرار بن سوزان وجورج لابيكا، المعجم النقدي الماركسي، دار محمد علي الحامي، دار الفارابي، تونس-بيروت، 1990 -1991.

([138]موريس (كراستون): سارتر بين الفلسفة والأدب، ترجمة : مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، 1983، ص22.”ليس من شكّ في أنّ العمل الأدبي إنّما هو واقعة اجتماعية، فلابد للكاتب – حتى قبل أن يمسك بالقلم- من أن يكون على اقتناع عميق برسالته، أو هو لابد أن يكون مشبعا بروح المسؤوليّة تجاه عمله, والواقع أنّ الأديب لمسؤول عن كل شيء: عن الحرب الخاسرة أو الكاسبة, عن ضروب التمرد وأصناف الرّدع, وهو إذا لم يكن حليفا طبيعيا للمظلومين فإنّه لن يكون إلّا شريكا للظالمين, ولكن لا لأنّه كاتب فحسب, بل لأنّه إنسان أيضا ولابد له كذلك من أن يعيش تلك المسؤوليّة ويريدها (ولاغرو، فإنّه الشّيء واحد – بالنسبة إليه – أن يعيش أو أن يكتب، ولكن، ليس لأنّ الفنّ ينقد الحياة، بل لأنّ الحياة تعبيرا عن المشروع، وقد اختار هو الكتابة مشروعا  له)”.Sartre,   situations II, p.116

([139]) Plaidoyer pour les intellectuels, in situations VIII, p224.

([140]) مجلة أوراق فلسفية بعنوان: سارتر في الذاكرة العربية، العدد 14، 2005، ص232.

([141]سارتر (جان بول) :المادية والثورة، ص28.

([142]) نفس المصدر، ص31.يقول سارتر “حقا، إنّ الحرب قد قسمت حياتي إلى نصفين (…) وإن الحرب قد كشفت لي عن جوانب معينة من نفسي ومن العالم. ففيها بالذات، على سبيل المثال، أنا عرفت الاغتراب العميق الذي هو الأسر، وفيها بالذات عرفت أيضا العلاقة بالناس، والعدوّ، العدوّ الحقيقي، وليس الخصم الذي يعيش معك في نفس المجتمع أو الذي ينالك منه شيء من عنف الكلامّ …ههنا بالذات مررت من الفردانية الصرفة لما قبل الحرب إلى ما هو اجتماعي …هذا هو المنعطف الحقيقي في حياتي. “راجع، سارتر “بورتريه ذاتي في سنّ السبعين”، مواقف X.

([143]) L’Etre et le Néant, p.521.Un intellectuel, pour moi, c’est cela : quelqu’un qui est fidèle à un ensemble politique et social mais qui ne cesse de le contester. (…) S’il y a fidélité sans contestation, a ne va pas : on n’est plus un homme libre.Sartre ;  Situations VIII,p.466)      

[144]  تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص. 137.

 ([145]) Jeanson (Francis): «Sartre dans sa vie », Paris, Éditions du Seuil, 1974, p.28.        

[146]  تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص. 138.

([147]) الديدي (عبد الفتاح) :”فلسفة جان بول سارتر مع ترجمة أعماله”، مكتبة الأنجلو المصريّة، 1946، ص8.”يتموقع الكاتب في عصر هو لكل قول أو صمت استتباعاته. وأني أعتبر فلوبار    FLAUBERTوقونكور(GONCOURT) مسؤولان عن الاضطهاد الذي تلي كمونة باريس (كمونة باريس اسم أطلق على حركة وحكومة تمرديّة أعلنها الباريسيّون سنة 1871 على إثر الحرب الفرنسيّة الألمانيّة (1870-1871) تواصل حكمها من 18 مارس إلى 8 ماي1871. وقد أخمدت هذه الثورة بقسوة خلال ما يسمّى “بالأسبوع الدّموي” من قبل حكومة أدولف تياس. لأنّهما لم يكتبا ولو سطر للإعتراض عليه، قد يقال أنّه لم يكن قضيتهم ولكن هل كانت محاكمة كالاس (قضيّة “كالاس” هي قضية شهيرة دارت أحداثها في القرن الثامن عشر مكنت وبفضل الكاتب فولتار من توجيه إصبع الاتهام ضد اللّاتسامح الديني وخلال الجهاز القضائي في فرنسا أثناء الحكم القديم وقد ألف بشأنها فولتار   VOLTAIRE رسالة تحمل عنوان “رسالة في التسامح”) قضيّة زولا ZOLA؟ وهل كان حكم الكونغو قضيّة جيد GIDE؟ جميع هؤلاء الكتّاب وفي ظرف خاص من حياتهم كان قد قدّر مسؤوليته ككاتب”. سارتر، مجلّة الأزمنة الحديثة المعاصرة العدد الأوّل ،1945.

 ([148]) الشابي (نور الدين) : أنطولوجيا الرّاهن : مسألة الالتزام من منظور ميشال فوكو، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 169، مركز الإنماء القومي، بيروت – لبنان، خريف 2015، ص 30.

 ([149]) المرجع نفسه، ص 30.

 ([150]) الشابي (نور الدين) : أنطولوجيا الرّاهن : مسألة الالتزام من منظور ميشال فوكو، مجلة الفكر العربي المعاصر العدد 169، مركز الإنماء القومي، بيروت – لبنان، خريف 2015، ص 30.

([151]) Foucault (Michel), Dits et Ecrits, III, la fonction politique de l’intellectuel, Paris, Gallimard, 1994, p.110. 

([152])  Ibid, p.109.

([153]) Foucault, Dits et Ecrits, III, Pouvoir et savoir, P.759.

([154]) Ibid, p. 759         

([155]) Ibid, p.759          

عدنا في كلّ الاحالات إلى العمل القيّم لأستاذي الجليل نور الدّين الشّابي، الموسوم بـ”أنطولوجيا الرّاهن: مسألة الالتزام من منظور فوكو”.

([156]) Michel Foucault, Dits et Ecrits, I, Mais qui êtes-vous, professeur Foucault?,p.612.

([157]) Ibid, p.662.

([158]) Dits et Ecrits, III, la Scène de la philosophie, p.573.

([159]) Dits et Ecrits, IV, Qu’est-ce que les lumières, p.574.

([160]) Renaut (Alain) : « Sartre le dernier philosophe », Paris, Éditions Grasset et Fasquelle,1993.             

([161]) Jeanson (Francis) : «Sartre dans sa vie », p.261 

(5) Russ (Jacqueline): « Mémo Références, philosophie, les auteurs, les œuvres »,  Paris, Bordas, 2003, p478.   

([163]الديدي (عبد الفتاح) :”فلسفة جان بول سارتر مع ترجمة أعماله”، ص5.

 ([164]) Sartre, La Nausée.pp.168-169. 

 ([165]) سعيّد (جلال الدّين) : معجم المصطلحات والشواهد الفلسفيّة، دار الجنوب للنشر، تونس، 2004، ص280.

 ([166]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص 86. راجع أيضا قول “جاكلين روس”:

“L’existentialisme Sartrien désigne avant tout une philosophie de la liberté, conçue comme unique source du sens.” Russ, Jacqueline, Mémo Références, Philosophie, les auteurs, les œuvres, BORDAS, Paris, 2003, p.480.

 ([167]) المادية والثورة، ص91.

([168]) L’être et le néant, p.635. 

في نفس السياق، يندرج قول “جاكلين روس” الآتي:

“L’existentialisme de Sartre décrit l’homme comme un être totalement libre et responsable, au sein d’un univers contingent et dépourvu de signification. Accordant une extrême importance à la pratique et à l’action, l’œuvre de Sartre est traversée de bout en bout par l’intuition d’une liberté souveraine, créatrice, engagée dans le monde et dans l’histoire”. Ibid, p.478.

([169]) L’Etre et le Néant, p.484.

([170]) L’Etre et le Néant, p.61.

([171]) Ibid, p.483.

([172]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص54.

([173]) L’Etre et le Néant, p.485.

([174]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص54.

([175]) L’Etre et le Néant, p.485.  

([176]) فال (جان):”الفلسفة الفرنسية من ديكارت إلى سارتر”، ترجمة: الأب مارون خوري المخلصي، منشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الرابعة، 1988، ص153.

(3)  المرجع نفسه، ص. 152.

([178]) La liberté Cartésienne, p.78.

([179]) La liberté Cartésienne, p.67.

([180]) Ibid, p.77.

([181]) Contat (Michel), Raybalka (Michel) : « Les écrits de Sartre », Paris, Gallimard, 1970, p.144.                                                  

([182]) سارتر (جان بول): “الوجودية مذهب إنساني”، ص41.

([183]) سارتر (جان بول): “الوجودية مذهب إنساني”، ص45.

([184]) نفس المصدر، ص44.

([185]) سارتر (جان بول): “الوجودية مذهب إنساني”، ص45.

([186]) جيد (أندريه): “دوستويفسكي مقالات ومحاضرات”، ترجمة: إلياس حنّا، بيروت، باريس، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1988، ص204.

([187]) L’Existentialisme est un Humanisme, p.74.

([188]) L’Etre et le Néant, p.59.

( ([189]“الوجودية مذهب إنساني”، ص263.

([190]) المصدر نفسه، ص45.

([191]) المصدر نفسه، ص75.

([192]) “الوجودية مذهب إنساني”، ص88.

([193]) Sartre (Jean -Paul), « La transcendance de l’ego, Esquisse d’une description phénoménologique », introduction, notes et appendices par Sylvie le Bon, Paris, J. Vrin, 1996, p.7.

([194]) “الوجودية مذهب إنساني”، ص 55.

([195]) المصدر نفسه، ص70-71.

([196]) “الوجودية مذهب إنساني”، ص 72.

* ملاحظة: (قمنا ببعض التعديلات في مستوى الترجمة)

([197]) “الوجودية مذهب إنساني”، ص72.

([198]) L’Etre et le Néant, p.761.

([199]) L’Etre et le Néant, p.269.

([200]) رسّل (برتراند): “حكمة الغرب، الفلسفة الحديثة والمعاصرة، الجزء الثاني”، ترجمة: فؤاد زكريا، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، 1983، ص197.

([201]) المرجع نفسه، ص194.

([202]) المرجع نفسه، ص195.

([203]) المرجع نفسه، ص195.

(5) التّريكي(فتحي):قراءات في فلسفة التنوع، الدار العربيّة للكتاب، 1988، ص87.

([205]) المرجع نفسه، ص87.

([206]) كامل (فؤاد):” أعلام الفكر الفلسفي المعاصر”، بيروت، دار الجيل، 1993، ص176.

([207]) إمام (عبد الفتاح إمام): “كيركيغارد رائد الوجوديّة”، دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة، 1982، ص39.

[208]  الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص. 89.

[209]  الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص. 89.

([210]) لالاند (أندريه): “موسوعة لالاند الفلسفية”، المجلد الأول، تعريب: أحمد خليل، بيروت – باريس، منشورات عويدات، الطبعة الأولى، 1966، ص43.

([211]) “الموسوعة الفلسفية”، المجلد الثاني: الاصطلاحات والمفاهيم، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1986، ص79.

([212]) L’Etre et le Néant, p.450

([213]) L’Etre et le Néant, p.329.

([214]) Ibid, p.328.

([215]) L’Etre et le Néant, p.392. 

([216]) L’Etre et le Néant, p.411.

([217]) Ibid, p.414.

([218]) L’Etre et le Néant, p.418.

([219]) Ibid, p.419.

([220]) Ibid, p.419.

([221]) Ibid, p.404.

([222]) L’Etre et le Néant, p.329.

([223]) Sartre (Jean Paul) :«Critique de la raison dialectique I», Paris, Gallimard, 1960, p.12.

([224]) Critique de la raison dialectique, p.166.

([225]) Critique de la raison dialectique, p.202.

[226]  راجع في هذا الشأن: الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص. 54 – 69.

([227]) Sartre (Jean Paul) : « Question de méthodes », Paris, Gallimard, 1957, p.16.

([228]) «Question de méthodes», p.16.

([229]سارتر (جان بول) : “الوجودية مذهب إنساني”، ص93.

([230]) سارتر (جان بول): “الوجودية مذهب إنساني”، ص103.

(3) Marx (Karl) : « Critique de l’économie politique », Paris, Éditions Sociales, 1957, p.4.

“البراكسيس هو مفهوم إغريقي كان يفيد مع أرسطو معنى النشاط الإنساني الذي يحدّد غايته بذاته دون أن يحتكم إلى أي غاية خارجيّة. ويرد مفهوم النّظري كمقابل للبراكسيس أو الممارسة لأنّ النّظري هو ما يتعلق بمجال التّأمل. أمّا لدى ماركس (1818-1883) فقد أصبح يفيد معنى مجموع الممارسات الإنسانيّة الجماعية (تقنية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية) التي تهدف إلى تغيير المحيط الإنساني. وعليه، فإنّ البراكسيس هو الفعل

المحرّك للتّاريخ بل هو مضمون هذا التاريخ. ومن ثمّ فإنّ البراكسيس هو الذي يغير الفكر البشري ويُعتبر في الآن ذاته مرادفا للنضال والثورة. ويرى سارترأنّ البراكسيس نشاط جماعي تاريخي وكوني حرّ، وهو يفرض على هذا النّحو تجاوزا للظروف المادية المعطاة نحو غاية يحددها مشروع”.

Christian Godin, Dictionnaire de philosophie. Ed.Fayard. Paris. 2004. pp.1018-1019.               

([232]) Critique de la raison dialectique, p.9-10. 

([233]) Questions de méthode, p.108.

([234]) سارتر المتعدّد، المجلّة التونسيّة للدّراسات الفلسفيّة، عدد 40 /41 السنة 22، مطبعة تونس، قرطاج، 2006، ص5.   

([235]( Questions de méthode, p58.

([236]) Ibid, p54.

([237]) Châtelet (François):«La philosophie au XXe Siècle, Tome4», Paris, marabout, p.229.  

([238]) Critique de la raison dialectique, p.425.  

[239]  الطّاهري (العربي): تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص.140.

([240]) Merleau – Ponty (Maurice) : La phénoménologie de la perception, Paris, Gallimard, 1945, p518.                          

 ([241]) Merleau –Ponty (Maurice) : La phénoménologie de la perception, p.520.

([242]) Ibid, p.517.

([243]) Merleau–Ponty(Maurice): La phénoménologie de la perception,  p.517.

([244]) مجلة عالم الفكر: “جان بول سارتر”، المجلد الثاني عشر –العدد الثاني، الكويت، يوليو-أوغسطس، سبتمبر،1981، ص9. لمزيد التوسّع حول نقد مرلوبونتي لسارتر، راجع، العلوي (فوزي): مرلوبونتي–سارتر… مسيرة فلسفيّة، المجلّة التونسيّة للدّراسات الفلسفيّة (عدد مزدوج) العدد40-41، السّنة22، مطبعة تونس-قرطاج-تونس،2006، ص25-42.

[245] Sartre, critique de la raison dialectique, p.248.

([246]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص41-71.

[247]  تصوّر البراكسيس عند سارتر من خلال الكتاب الأوّل من نقد العقل الجدلي، ص.50.

[248]  المرجع نفسه، ص. 135.

([249]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص93.

([250]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص5.

([251]) الوجوديّة مذهب إنساني، ص69.

([252]) بودريار (جان): السلطة الجهنمية، ترجمة :  د. بدر الدين عرودكي تحت عنوان “عنف العالمي” ، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 134-135 ، مركز الإنماء القومي، بيروت- لبنان، 2006، ص42.