الكاتب | أحمد الزاهد |
شكل استقبال جان بودان Jean Bodin انعطافا مهما، أرخى بظلاله على قابلية هذا الفكر على اختراق حدوده الجغرافية وتخطي سياقاته المحلية من أجل العبور إلى سياقات مختلفة وفتح آفاق جديدة. ويمثل استقبال بودان في ألمانيا مسارا متميزا، في تطور الدراسات الخاصة ببودان. اقترح دوك Dock في هذا السياق، تحليل السيادة بصورة منتظمة عند بودان والكتاب الألمان، الذين استعادوا هذه النظرية. ولهذه الغاية فقد شمل بحثه الفترات التاريخية الممتدة من 1610 إلى 1793. وأورد في هذا الصدد، بورنيتيوس Bornitius، وأرنيسايوس Arnisaeus، وبيسولد Besold، وألتوسيوس Althusius، وراينكينغك Reinkingk، ولينكر Lyncker، وليمنايوس Limnaeus[1].
وفي مكان آخر، أومأ هاوفن Hauffen إلى الترجمة الألمانية لنص Démonomanie من طرف فيشار Fischart (1581)، وعرض موقفه من أطروحات بودان. كما بين كيفية استفادة جان فير Jean Wier من مختلف النشرات المتوالية لِ Démonomanie، وكذلك من النشرة الجديدة لمصنف Malleus، التي أخرجها فيشار، في بلورة انتقاداته إزاء بودان[2].
ضمن محل مغاير، كانت دراسة دانين Dunin بمثابة تحليل صارم لمصنف المنهج، المنشور في مجموعة فولف Wolf 1579 (Artis historicae penus)، بحيث اعتبره علامة فارقة على الأبحاث المندرجة ضمن ما يدعى بقبل تاريخ سبينوزا Spinoza[3].
وفي سياق منفصل، عالج ديكمان Dickmann السيادة عند بودان، بكونها مقولة مرتبطة بشرط تاريخي، لا يسع تطبيقها على دول أخرى ما عدا فرنسا، خصوصا الإمبراطور والأمراء الألمان، إذ يشكلون استثناء. لكن، وبالرغم من ذلك، لم يجد القانونيين الألمان من مانع في استخدامها، لتحديد وضعية الإمبراطورية. تقفى الكاتب حركة ذلك، بدء من هيرمان فولتيجيوس Hermann Vultejus (1599)، باعتباره القانوني الأول، الذي هاجم نظرية نقل السلطة translatio imperii، وجزم بأن الإمبراطورية عبارة عن ملكية بحكومة أرستقراطية. ولاحقا، عند يوهانز ألتوسيوس Johannes Althusius (1603)، من خلال تطبيق تصوره في السيادة الشعبية على ألمانيا. كما تتبع ديكمان تطور نظرية السيادة، إلى حدود راينكينغك Reinkingk[4].
وفي ذات المنحى، تناول سالمون Salmon الدور الذي لعبه الألمان والهولنديين، من خلال وساطتهم في انتقال التصورات الفرنسية إلى انجلترا. وقد تطرق إلى كيفية استخدام ألتوسيوس لتحليلات بودان، من أجل دعم نظريته عن السيادة الشعبية.[5]
ومن زاوية أخرى، باشر هوكي Hoke دراسة الصفة التي اتخذتها نظرية السيادة لبودان عند راينكينغ Reinking. كما أفرد مكانا للحديث عن أطروحة بودان المتعلقة بالإمبراطورية الألمانية، باعتبارها دولة أرستقراطية[6].
كما أبان درايتزل Dreitzel عن المعنى الخاص لاستعادة بودان من طرف أرنيسايوس، وتطرق إلى اختلافهما بخصوص عدم انقسام السيادة، ثم مكانة نظام حقوق السيادة عند بودان وعند المنظرين الألمان، مع إشارته إلى تصنيف الذي أقامه بودان حول نظم الحكم، وكيفية استرجاع هذا التصنيف عند أرنيسايوس. وأورد من جهة أخرى، حكم أرنيسايوس بخصوص رأي بودان في التاريخ الشامل والأنواع الأربعة للنظام الملكي، وكذا قضية السياسة والدين عند بودان وأرنيسايوس.[7]
وفي مقام مغاير، توخا نيري Neri إبراز الجذور النظرية وراء معارضة ألتوسيوس لإطلاقية بودان. ناقش نيري طبيعة هذه المعارضة، من خلال إدراج المساجلة التي أجراها ألتوسيوس حول ما يميز السيادة عن السلطة التي يمارسها الملك، ورفضه لخاصيتها المطلقة. اعتبر نيري بأن المعارضة في المقام الأول منهجية. إذ دار نقد ألتوسيوس في فلك دمج بودان للحق في السياسة. وعمل ألتوسيوس على رد حقوق السيادة إلى أصل سياسي، بينما أرجعها بودان إلى مصدر قانوني. وتباعد ألتوسيوس مع بودان في تصور السيادة، حيث نفى عنها السمة المطلقة، وتبنيه لتوجه فدرالي.[8]
وفي مقام مغاير، انطلق بينز Pines من شخصية سالومون Salomon البارزة في مصنف الندوة Colloquium، الذي حاول تحديد وتبرير مشروعية الدين اليهودي، من خلال الإحالة في ذلك، على الدين الطبيعي، وهو الأمر الذي حذا حذوه في سياق مغاير سبينوزا Spinoza، داخل مصنفه رسالة في اللاهوت والسياسة Traité théologique-politique، مما يؤكد تأثره في هذا الباب ببودان. إذا كان سالومون متلهفا لتمثيل اليهودية والمرافعة عنها، فإن سبينوزا قد تحمس إلى نقد اليهودية. لكن وجه الاشتراك بينهما، يكمن في تحليل أبعاد الدين الطبيعي في العلاقة مع اليهودية، بحيث يمكن القول بأنه، بعد القضاء على دولة اليهود، وإبان أسرهم في مصر وبابل، تمتعوا بالإعفاء من التقيد بشعائر ومراسيم الشريعة الموسوية، والتزموا فقط بما يصب وينسجم مع القانون الطبيعي، وطاعة قوانين الدولة التي يعيشون تحت ظلالها.[9]
ومن جهة أخرى، حاول بوبكين Popkin، البرهنة عن اطلاع سبينوزا على مؤلف الندوة Colloquium. انطلق بوبكين من مقال يعود إلى شلومو بينز Shlomo Pines (1979)، لكي يبرز أوجه التشابه بين تصور بودان، من خلال شخصية سالومون التي تمثل الدين اليهودي داخل الندوة Colloquium، وتفكير سبينوزا. وافترض بوبكين حصول سبينوزا على نسخة من الندوة Colloquium، بفضل صديقه هنري أولدنبورغ Henri Oldenburg، في مرحلة تحريره رسالة في اللاهوت والسياسة.[10]
أوعز ستولاييس Stolleis بأن الإسهام الأصيل لبودان، يكمن في صياغة النظرية الحديثة للسيادة. وتناول بعدئذ، استقبال بودان في الإمبراطورية الألمانية، من خلال الدور الذي لعبته النشرة اللاتينية للجمهورية في ألمانيا. وتعلق استقبال بودان بأطروحات عدم سيادة الإمبريالية والطبيعة الأرستقراطية للإمبراطورية. كما حرص ستولاييس على ذكر مواقف استقبال بودان عند بورنيتز Bornitz وأرنيسايوس Arnisaeus، في مدى موافقتهم للسيادة المطلقة، لكنها محدودة في الوقت نفسه، ثم رميهم لمصالحة سلطة السيادة مع الدستور المختلط.[11]
يمكن القول، بأن استقبال بودان في ألمانيا، بدأ منذ فترة مبكرة، وحظي مصنف الجمهورية بمكانة رئيسية في ألمانيا. لماذا؟ يعود السبب في ذلك، إلى كون الطبعات اللاتينية لهذا العمل، قد صدرت في ألمانيا منذ 1591.[12]
وفي هذا المقام، أحصى ستولاييس حوالي تسع نشرات لاتينية لمصنف الجمهورية De Republica libri sex:
«صدرت نشرتين في ليدن Leide وباريز (1586، و1591 عند جاك دو باي Jacques Du-puys)، ثم صدرت نشرة أخرى في باريز وفرانكفورت (عند إلسفير Elzevir)، وست نشرات أخرى في فرانكفورت والضواحي. بالإضافة إلى ذلك، توجد ترجمة ألمانية 1592، صدرت في إقليم فورتيمبيرجوا Wurttembergois بمونتبيليارد Montbéliard، وترجمة ثانية ظهرت في فرانكفورت سنة 1611»[13].
وداخل منحى آخر، ألمعت بلير Blair لمنزلة استقبال مصنف المسرح Theatrum اللاتيني في الأوساط الجامعية الألمانية، عند كليمانز تامبلر Clemens Timpler، وبارتولوماووس كيكرمان Bartholomäus Keckermann، ورودولف غوكلينيوس Rodolph Goclenius. وقد كان هذا المصنف مدرجا في البرامج الدراسية، مما يفسر إصدار طبعتين متتاليتين للنص اللاتيني (فيشيل Wechel، 1597، و1605)[14].
قادت الدراسة التي أنجزها أتو فون غييرك Otto von Gierke حول يوهان ألتوسيوس[15]، إلى وضع اليد كذلك، على صورة «استقبال المذهب البوديني عن السيادة، داخل النظرية السياسية والقانونية»[16]، في الرقعة الجغرافية لألمانيا، خلال القرن السابع عشر.
حققت الدراسات حول استقبال بودان في ألمانيا طفرة مهمة، بحيث تعاقبت بشكل مستمر، عند هانكي Hanke، وداخل سلسلة من الأبحاث، عرضت في ندوات مختلفة، بميونيخ Munique (1973)، ثم بيروز Pérouse (1980) إلى أونجي Angers (1984). يمكن اعتبار أطروحة هينكل Henkel 1967، عملا حاسما في الدراسات المندرجة داخل فلك التنقيب عن آثار استقبال بودان في ألمانيا، وهو ما يؤكده عنوانها: «أبحاث حول استقبال مفهوم السيادة داخل النظرية الألمانية خلال المنتصف الأول من القرن السابع عشر»[17]. في نفس السياق، قدمت أعمال هيلموت كاريتش Helmut Quaritsch[18] خدمات جليلة للباحثين، فيما يتعلق بالموارد التي أتاحها تفتيشه عن مظان الدولة والسيادة. كما أورد ستولاييس مساهمة هورست درايتزل Horst Dreitzel، من خلال مصنفه عن هينينغ أرنيسايوس Henning Arnisaeus[19]، الذي أورد في ثناياه مصادر عديدة تخوض في السياسة والقانون، والتي تمتد جذورها إلى سنة 1600. وأفلح ستولاييس، بفضل البحوث التي كرسها ليعقوب بورنيتز Jacob Bornitz[20]، بأن يملأ بعض الثغرات في حق بودان، ثم دراسة أخرى، توخ من ورائها وضع تصور عام، يهم استقبال بودان في ألمانيا[21].
توقف ستولاييس عند الدراسة التي أنجزها سالمون، الموسومة بإرث بودان: استقبال أفكاره السياسية في انجلترا وألمانيا خلال القرن السابع عشر[22]، عند قضية أساسية، تهم كيفية التعاطي مع بودان. يرى سالمون، بأن بودان، كان محط ثلاث تأويلات مختلفة، في القرن السابع عشر. من جهة أولى، وظفه أنصار الملكية المطلقة، بحيث دافعوا عن السيادة الملكية، التي لا يخضع فيها الملك لأي حد تقريبا؛ من جهة ثانية، منظري السيادة الجماعية، وابتغوا تأييد الحق الكلي للجماعة غير القابل للتنازل، في تشكيل حكومتها؛ من جهة ثالثة، أشياع التوجه الدستوري، إذ استهدفوا تقييد السلطة بواسطة القانون، أو موازنتها، بالارتكاز على نظام معين[23].
اعتبر سالمون، أن نص بودان، ينطوي على مقاطع مرنة، تسمح بتأويلات متنوعة، بحيث ميز بين امتلاك وممارسة السيادة؛ وتشديده على التزام السيادة بالحق الإلهي، والحق الطبيعي والقوانين الأساسية؛ ثم بحثه عن التوافق بين الأمير ومجلس الطبقات الثلاث حول قضية الضرائب[24].
تجدر الإشارة إلى أن ستولاييس يشاطر سالمون، حول حجم التأويلات المتضاربة، الناجمة عن هذه القضايا. يلاحظ بأن مؤلفي هذه الحقبة، لم يبدوا اهتماما كبيرا للإحاطة بمقاصد بودان، بل أقحموا أطروحاته في سجالاتهم، وحاولوا توليفها مع قضاياهم السياسية. ومن هذا الجانب، يمكن العثور على مبرر لتعدد صور استقبال بودان، تبعا لتنوع المواقف السياسية، التي وجدت مهدها في ألمانيا، إذ كانت «تتشكل من هيئة فوق—جهوية وديانات (مقدسة) بدون مركز حقيقي، تتألف من عدة دول، كبيرة، متوسطة وصغيرة، مستقلة نسبيا». أسهمت هذه الوضعية في دراسة طبيعة الدولة الحديثة، وأضحت منطلقا جوهريا للبحث في نظرية القانون العام. ويتمتع هذا الرأي بنوع من الرجاحة، خصوصا إذا ما نظرنا إلى «آثار مذهب بودان عن السيادة في القانون العام الألماني للقرن السابع عشر»[25]، فقد كان حلقة فارقة في تاريخ ألمانيا.
من الصدف الغريبة، التي عبر عنها ستولاييس في دراسته، تزامن استقبال لفظ السيادة (سنة 1609) مع اللفظ الإيطالي، المصلحة العليا للدولة ragion di stato (الذي ظهر سنة 1602)، في ألمانيا، مما وقف حائلا أمام المؤلفين، في العثور على لفظ ألماني لمصطلح السيادة. وهذا ما يفسر تريثهم في وضع كلمة ألمانية، تؤدي معنى السيادة، فاتفقوا في البداية حول حد «أن تكون قائدا داخل كتيبة (1592)»[26]. ويشير ستولاييس، بأن اللفظ الألماني للسيادة، لم يجد تقعيده سوى في المنتصف الأول من القرن السابع عشر.
توجد وراء هذا الاستعمال لتعابير عديدة ومتنوعة نقاشات مختلفة، دارت أطوارها في مدار الحوارات الدستورية. كانت الإمبراطورية في سنة 1600 تعيش على واقع الأزمة. وتمحورت النقاشات بين المؤلفين في الفكر السياسي حول قضية القانون العام؛ وكانت الأسئلة المطروحة موجهة إلى تعيين السلطة التي تمتلك السيادة.
اقترح ستولاييس التأريخ لاستقبال بودان، في مستهل صدور النشرات اللاتينية لمصنف الجمهورية، «ما بين سنوات 1586 و 1591، في ليدن وباريز». نسجل بأن هذه النشرات، لم تخلف أثرا كبيرا في ألمانيا، بحيث وجب الانتظار إلى غاية إصدار نشرات 1591، و1594 في فرانكفورت، التي غيرت الوضعية بصورة جذرية. بالفعل، فقد عرف هذا المؤلف انتشارا واسعا في صفوف الأوساط الثقافية، عجل بتحويل الأطر الفكرية. وأضحى اسم بودان، مندرجا في «النصوص القانونية والسياسية الجامعية»[27]، منذ سنة 1600. واكتسبت شهرة بودان صدى واسعا، تأكدت بواقع كونه أكثر الكتاب حظا من ناحية الاقتباس، في المنتصف الأول للقرن السابع عشر.
إن السبب وراء إصدار مصنف الكتب الست للجمهورية في نشرة لاتينية بفرانكفورت، كامن في كونها أضحت مدينة حرة وإمبريالية. وكانت فرانكفورت قطبا يجذب وراءه مختلف اللاجئين الكالفنيين؛ كما شكلت مدينة هانو Hanau المتموقعة بالمحاذاة من فرانكفورت، مركزا أساسيا لبث فيه الكالفنيون، وصدرت من رحمه الأدبيات الهيغونوتية. وقدمت دار النشر التي تعود إلى جان فيشل Jean Wechel وبيتر فيشر Peter Fischer، خدمات هائلة للمهاجرين. الشيء نفسه يمكن قوله عن مدينة مونتبيليارد Montbéliard، التي كانت موطنا للاجئين الكالفنيين، حيث صدرت فيها الترجمة الألمانية لمصنف يوهان أوزفالت Johann Oswalt عند جاك فواليت Jacques Foillet ونيكولاس باسايوس Nicolas Bassaeus في سنة 1592. وقد صدرت الطبعة اللاتينية الخامسة لمصنف بودان سنة 1601، في مدينة أوبيرأورزيل Oberursel (أورزيلاي Ursellae) الكائنة بالقرب من مدينة فرانكفورت.
يمكن أن نحصي ست نشرات لاتينية لمصنف بودان، صدرت برمتها في ألمانيا، أما النشرة السابعة، فصدرت في باريز، بالإضافة إلى نشرتين ألمانيتين في مونتبيليارد وفرانكفورت. يبلغ إجمالي النشرات لمصنف بودان تسعا، صدرت إبان المنتصف الأول من القرن السابع عشر بموطن ألمالنيا. وسمح عمل نشر مصنف بودان في ألمانيا، بخلق علاقة خاصة، اتخذت طابع النفوذ في الثقافة الألمانية خلال هذه المرحلة.
تعود أسباب استقبال بودان في ألمانيا، إلى فحوى آرائه، بخصوص ألمانيا، مما سمح بخلق مساحة نقاش طويلة، ملأها الكتاب الألمان، بالرد والنقد على بعض منها، والقبول بالبعض الآخر. من بين مواقف بودان الأكثر إثارة للجدل، عدم اعتباره الإمبراطور الألماني صاحب سيادة فعلي، وأكد أن الإمبراطورية الألمانية بمثابة إمارة أرستقراطية، يتربع على رأسها الإمبراطور؛ في حين، تعود «سلطة وجلالة الإمبراطورية إلى مجلس الطبقات الثلاث»[28]. لا يمكن إخفاء حجم الاستفزاز الذي خلقه مثل هذا التحليل، في أوساط القانونيين الألمان، خصوصا إذا علمنا بأن الإمبراطورية، كانت تعيش على وقع التمزق العقدي والسياسي، إذ أصبحت القضية الرئيسية في هذه المرحلة، العثور على قوة تقتدر على تجاوز التنافر، وتتمكن من مركزة سلطة التشريع، وفي الأخير، تحظى بصفة السيادة.
تمخض عن النقاش المفتوح مع تصورات بودان، ميلاد رأي مثله أنصار الملكية، ولم يجدوا حرجا في القبول بتنازلات عملية لصالح الأرستقراطية، لكنها، لا ينبغي أن تمس بمجال السيادة. بينما اقترح مؤيدو الأرستقراطية، وضع السيادة داخل الإمبراطورية، يعني ضمن مجلس الطبقات الثلاث، والقبول من الناحية العملية، بتنصيب الإمبراطور في القمة، لممارسة السيادة.
وطفا على السطح فريق ثالث، نأى بنفسه عن الموقفين السابقين، الذي نادى أصحابه بنظام الحكم المختلط، وتوزيع السيادة بين الإمبراطور والإمبراطورية،. دافع هذا التوجه على رفض تقسيم السيادة.
في الحقيقة، لم يخفي ستولاييس حجم التأويلات بصدد قضية السيادة المنقسمة. فقد اقترحت بعض التأويلات حلا وسطا يقول بتوزيع المهام، من خلال إناطة مهام محددة بالإمبراطور، وإسناد مهام أخرى إلى الإمبراطورية. لكن يبدو أن هذا الحل لم يكن مقنعا، لأن الإمبراطور والإمبراطورية، يمكنهما العمل بصورة جماعية، خصوصا في قضية تشريع القوانين، وكان ذلك بمثابة تفنيد لمزاعم تقسيم المهام. لا يمكن حسب هذا الرأي، الحديث عن سيادة غير منقسمة، سوى بواسطة الفصل بين مجالين اثنين، يعني عبر وضع جدار الاستقلال بين الأمير ومجلس الطبقات الثلاث.
يبدو أن الحسم في إسناد السيادة إلى هذا المجال أو ذلك، كان أمرا مستعصيا ومن شبه المستحيل تحققه في الإمبراطورية الألمانية غداة 1608، نظرا لوضعية عدم الاستقرار التي كانت تعرفها الإمبراطورية. بينما برز حل آخر داخل حقل القانون. أكد ستولاييس على ألفة القانونيين، بمعالجة قضايا إسناد حق أو شيء إلى مجموعة معينة من الأشخاص، فيما يتعلق بانشغالاتهم المتمحورة حول قانون الميراث. وقد توصلوا في هذا السياق، إلى إقامة تمييز بين جلالة أو سيادة سامية واقعية، وجلالة أو سيادة سامية شخصية. وبالتالي، أصبح النقاش يخص الفصل بين سيادة واقعية تغطي الإمبراطورية برمتها، حيث تتضمن داخلها الإمبراطورية والإمبراطور، وسيادة شخصية، تتعلق بشخص الإمبراطور وحده. ومن أبرز الممثلين لهذه الأطروحة، نشير إلى هيرمان كيرشنر Hermann Kirchner، وكريستيان لييبنتال Christian Liebenthal، ويوهانس ألتوسيوس Johannes Althusius، وكريستوف بيسولد Christoph Besold، وأريمايوس Arumaeus.
أما القضية الثانية التي كانت محط خلاف بين المؤلفين الألمان وبودان، فقد همت الجدل حول الوريث الفعلي والشرعي للإمبراطورية الرومانية، هل يعود إلى فرنسا أم لألمانيا؟ قال ستولاييس أن موقف بودان في هذه القضية كان في صف فرنسا، واعتبر أنه برر انتقال الإمبراطورية الرومانية من الرومان إلى الإفرنج ثم إلى فرنسا. واعتقد بودان أن مراسيم أسبقية احتفال الإمبراطور الألماني على بقية ملوك أوروبا، هو بمثابة سطو وسيطرة على السلطة، بينما استدل المؤلفون الألمان على هذا النوع الخاص بانتقال السلطة إلى ألمانيا، بكونه جرى مجرى طبيعيا.
وافترض سينيلار Senellart في دراسته، وجود نصيب غامض طبع استقبال بودان في ألمانيا، إذ تلقى اعترافا بشأن مساهمته القانونية، خصوصا في النقاش حول تاريخ ودستور الإمبراطورية، لكن رفضت منجزاته السياسية[29].
[1] Dock, K. A., Der Souveränitätsbegriff von Bodin bis zu Friedrich dem Großen [Le concept de souveraineté de Bodin à Frédéric le Grand], Strassburg, Verlag von Schlesier & Schweikhardt, 1897, 154 p. In Couzinet Marie-Dominique, Bibliographie des écrivains français, Jean Bodin, Memini, 2001, p. 317.
[2] Hauffen, A., «Fischart-Studien. Der Malleus Maleficarum und Bodins Demonomanie», Euphorion, Ⅳ, 1897, p. 1-16, 251-261.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 317.
[3] Dunin Borkowski, S. Von, in Spinoza, Münster, Druck und Verlag der Aschendorffschen Verlagsbuchhandlung, 1936, p. 174-175. [Biblioteca Nazionale Centrale (Florence)]. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p.318.
[4] Duckmann, F., in Der Westfälishe Frieden, Münster, Aschendorffsche Buchdruckerei, 1959, p. 127-137. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 318.
[5] Salmon, J.H.M., «Althusius and Bodin», in The French Religious Wars in English Political Thought, Oxford, Clarendon Press, 1959, p. 47-50.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 318-319.
[6] Hoke, R., in Die Reichsstaatsrechtslehre des Johannes Limnaeus. Ein Beitrag zur Geschichte der deutschen Staatsrechtswissenschaft im 17. Jahrhundert, Aalen, Scientia Verlag, 1968, p. 54-65, 152-155. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 319.
[7] Dreitzel, H., inProtestantischer Aristotelismus und absoluter Staat. Die Politica des Henning Arnisaeus (ca. 1575-1636), Wiesbaden, Franz Steiner Verlag (Veröffentlichungen des Instituts für Europäische Geschichte Mainz, Bd. 55), 1970, p. 143-144, 242-247, 262-264, 314-316, 369-373, 428. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 319.
[8] Neri, D., «Antiassolutismo e federalismo nel pensiero di Althusius», Il pensiero politico, ⅩⅡ, 3, 1979, p. 393-409.In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p.320.
[9] Pines, S., «The Jewish Religion after the Destruction of the Temple and State: The Views of Bodin and Spinoza» [La religion juive après la destruction du Temple et l’État: les conceptions de Bodin et Spinoza], in Studies in Jewish Religious and Intellectual History, essais offerts à Alexander Altmann à l’occasion de son 70ͤ anniveraire, éd. par Siegfried Stein et Raphael Loewe, University, Alabama, The University of Alabama Press, 1979, p. 215-234. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 320.
[10] Popkin, R. H., «Spinoza a-t-il pu connaître le Colloquium heptaplomeres de Jean Bodin?», Bulletin de l’Association des Amis de Spinoza, ⅩⅤ, 1985, p. 1-7. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 321.
[11] Stolleis, M., in Geschichte des öffentlichen Rechts in Deutschland, éd.par C. H. Beck, München, t. Ⅰ, 1988, p. 173 sqq.(En français sous le titre: Histoire du droit public en Allemagne. Droit public impérial et science de la police, 1600-1800, traduction de Michel Senellart, Paris, PUF, 1998, Collection Fondements de la politique, p. 255-276). In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 321.
[12] Michael Stolleis, La Réception de Bodin en Allemagne. Quaderni fiorentini per la storia del pensiero giuridico moderno, 24, giuffré editore Milano, 1995, P. 141.
[13] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 141.
[14] Blair, A., «The Languages of Natural Philosophy in the Late Sixteenth Century: Bodin’s Universae naturae theatrum and its French Translation», in Acta Conventus Neo-Latini Hafniensis. Proceedings of the Eighth International Congress of Neo-Latin Studies, Copenhagen, 12-17 août 1991, éd.par Rhoda Schnur et al., Binghamton, N. Y., Medieval and Renaissance Texts and Studies, 1994, p. 311-321. In Couzinet Marie-Dominique, Jean Bodin, Op. Cit., p. 322.
[15] O. Gierke, Johannes Althusius und die Entwicklung der naturrechtlichen Staats theorien, Breslau, 1880, (5.Ed., par J. V.. Gierke, Aalen, 1958).In Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 142.
[16] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 142.
[17] G. Henkel, Untersuchungen zur Rezeption des Souveränitätsbegriffs durch die deutsche Staatstheorie in der ersten Hälfte des 17. Jahrhunderts, jur. Diss.Marburg 1967. In Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 142.
[18] Helmut Quartisch, Staat und Souveränität, 1970; H. Quartisch, Souveränität: Entstehung und Entwicklung des Begriffs in Frankreich und Deutschlandvom 13. Jh. Bis 1806, 1986, p. 66 ss.in Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 141; 142.
[19] Horst Dreitzel, Protestantischer Aristotelismus und Absoluter Staat, 1970.In Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 142.
[20] M. Stolleis, Pecunia Nervus Rerum. Zur Staatsfinanzierung in der frühen Neuzeit, 1983, p. 138 ss.In Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 142.
[21] M. Stolleis, Geschichte des öffentlichen Rechts in Deutschland, vol. 1, 1988, p. 174 ss. In Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p.142.
[22] J. H. M. Salmon, l’héritage de Bodin: la réception de ses idées politiques en Angleterre et Allemagne au XVII siècle, dans Jean Bodin, nature, histoire, droit et politique, édit. Zarka Yves Charles, PUF, 1996, voir note 39.
[23] Salmon J. H. M., l’héritage de Bodin: la réception de ses idées politiques en Angleterre et Allemagne au XVII siècle, Op. Cit., p. 176.
[24] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 143.
[25] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 143.
[26] Quaritsch, 1986, Op. Cit., p. 66-69. In Michael Stolleis, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 144.
[27] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 145.
[28] Stolleis Michael, La Réception de Bodin en Allemagne, Op. Cit., p. 147.
[29] Senellart, M., «Juris peritus, id est politicus? Bodin et les théoriciens allemands de la prudence civile au XVII siècle», in Jean Bodin. Nature, histoire, droit et politique, éd., par Zarka Yves Charles, Paris, PUF, 1996, p. 201-232.