تقديم :كان جان دانييل يبلغ من العمر سبعة وعشرين سنة حينما قدم له ألبير كامو“أروع هدية” والمتمثلة في صداقته. بعد انقضاء سبعين سنة،هاهو جان دانييل صاحب مجلة ”لوبس “وكاتب افتتاحياتها،يتذكر من جديد بتأثر، ذاك”المريد للرفض والشك”،ومدى سعيه للبحث عن كيفية مقاومة أجواء حقبته، ثم التوفيق بين العدالة والأخوة وكذا إنقاذ السعادة من فخ القدر.
س– كان ألبير كامو صديقا لكم،وفكره مرجعية ثابتة لديكم.ينبغي أن تشعرون بالرضا حيال عودته إلى الواجهة التي تمتعت بحظوة منذ عشرين سنة تقريبا. لكن كيف تفسرون مفارقات حضوره المابعدي،ثم المَطْهر الذي ولجه خلال حياته غاية نجاحه المعاصر؟
ج-لاينبغي تجاهل بأن الجمهور الواسع، من جهته، لم ينفصل قط عن روايات ألبير كامو منذ سنوات الخمسينات.بالتأكيد روايته”الغريب”،لكن أيضا ”الطاعون” و”السقوط”.نصوص متينة وذات كتابة متفردة جدا،حلقت طبعاتها سواء في فرنسا وخارجها.لكن هذا النجاح العالمي انطوى في المقابل على افتقاد كامو شيئا ما أكثر حظوته عند الطبقات المثقفة الفرنسية،والتي لا تطنب أصلا في مدحه. بالنسبة للطليعة الأدبية والفلسفية،خلال سنوات 1950 إلى غاية سنة1990،ظل كامو كاتبا توافقيا و”شابا معجبا بذاته”مثلما تدعي جماعة جنود الهوسارHussards .يُعترف له بموهبة الكتابة،لكن في المقابل،لم يُنظر إليه بأي شكل من الأشكال ككاتب كبير. لم يتم الإقرار لكامو أنه مفكر يستحق هذا اللقب. نعلم الصيغ القاتلة : “كامو فيلسوف الصف النهائي”،و”ضمير الصليب الأحمر”.بالنسبة للمثقفين المهيمنين بعد الحرب،الذين آمنوا بالتاريخ أكثر من الأخلاق،فقد أثارت سخريتهم مسألة وعظه بالخير،متحولين بالتهمة إلى كامو بكل سهولة.لم ينطبق ذلك بالتأكيد على روني شار أو مالرو،ولا أيضا سارتر.تجلى كذلك ضمن هذا الازدراء الصادر عن الطليعة، بعد مجتمعي قوي،تمثل في كون أغلبية هؤلاء المثقفين المنتمين إلى اليسار تقريبا،انحدروا من الطبقة البورجوازية الكبيرة،رافضين دائما اعتبار ابن خادمة البيوت هذا – أي كامو- منتميا إلى صفوفهم.لم ينتسب إلى مدرسة الأساتذة العليا،بل فقط مر من جامعة الجزائر،وتوقفوا عند تذكيره بحدود ثقافته الفلسفية.حنين إلى الجزائر التي غادرها خلال الحرب العالمية الثانية،وعدم شعوره قط بالارتياح نحو ماسماه ب :”الجليد الباريسي” و”العدوانية التحقيرية للمجتمع الباريسي “مثلما نعت أوساط المثقفين،الذي أثار حنقه.بهذا الخصوص،عانى كثيرا،لاسيما بعد صدور عمله : الإنسان المتمرد سنة 1951،حينما انتفض ضده سارتر وجماعته.تحدث البعض عن تفكيره في التوقف عن الكتابة.فيما يخصني،اعتقدت بأني سأراه مطأطأ الرأس.لكن كامو امتلك طموحا كبيرا،وكبرياء،ثم الثقة في الذات.وبشكل سريع جدا،تجلى ثانية النزوع الذي حرضه منذ سنوات مراهقته، كما كتب في مذكراته :((يلزمني أن أكتب مثلما أحتاج إلى السباحة،لأن جسدي يتطلب ذلك)).
س-ماهي اللحظة التي تموقعون في إطارها نهاية حقبة الازدراء تلك؟
ج-ليس فرنسا من أعادت الاعتبار إلى كامو،بل الخارج. اقتبس هذا الاهتداء أولا مسالك سياسية.حينما اندلعت أحداث ماي1968 ،وقد انقضت ثمان سنوات على وفاته،سيطر علي هاجس مفاده أن كامو صار أيقونة لها.ألم يكتب في أسطورة سيزيف مايلي: ((نعم،الإنسان محض مصيره.هو مصيره الوحيد.فإذا أراد أن يكون شيئا،فخلال حياته؟)).شعار حلم به هؤلاء الطلبة الذين أرادوا :((كل شيء على نحو فوري)). لكن في نهاية المطاف،آل دور بطل السوربون إلى سارتر.بعد أشهر،استعدت الأمل عندما أخبرني أستاذ تشيكي للأدب الفرنسي، التجأ هاربا إلى فرنسا بعد إخفاق ربيع براغ،أن ألبير كامو يُتداول سرا داخل تشيكوسلوفاكيا،بحيث يمثل كتابه الإنسان المتمرد،نصا يحتوي جل المتعارضين. بعد ذلك،تحدث كونديرا، ساخاروف، بوكوفسكي،وآخرون،عن البعد التحريري لكامو بالنسبة للمنشقين عن الشرق.هكذا، ترسخ فكر كامو في إطار السرية.ثم خلال سنوات 1970،عندما اكتشف الغرب أخيرا رعب سجن غولاغ،فقد أمكنه بدوره تقدير مدى وثاقة صلة كامو بالجهة المناهضة للاتحاد السوفياتي،التي توطدت في وعيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.هكذا استعاد مكانته في العالم الأدبي،وقد انصبت بداية الاهتمام على الأسلوب.كامو أغضبته دائما مقارنته بهمنغواي،لكن عندما نلاحظ بالفعل،رصانة كتابته، ميله إلى الجمل المقتضبة، إلحاحه على العبث الوجودي،عبرته من الحاضر.سمات تجعله أكثر قربا من المدرسة الأمريكية والرواية البوليسية قياسا إلى التقليد الفرنسي.وحينما صارت هذه الطريقة في الكتابة رائجة ،فقد أفاد السياق كامو.بقي أخيرا ظفره بوضعية فيلسوف. تجليات الاستهزاء التي سمعتها حولي وأنا بصدد الثناء على فكر كامو،واستحضار ازدرائه من طرف الطليعة الفلسفية التي قدمته باستمرار كابن طبيعي ل ألان ويلسون و برجسون- أمر يبقى في حد ذاته إيجابيا جدا- سيتلاشى كل ذلك سنوات 1990 .اكتشف الفلاسفة كامو ثانية، وقبلوا به، بل صاروا بعد ذلك يحيلون عليه،ثم أدمجوه ضمن تأملهم.هناك شيء عجيب،ومدهش :منذ موته،لم تتوقف الأشكال الأدبية والفلسفية،ومعارف العلوم الإنسانية عن التطور.سارتر،باعتباره أصلا أول فيلسوف خلال عصره،يغمره حاليا النسيان كثيرا.لكن فكر كامو يتواجد،مقاوما بينما كل شيء بصدد المراجعة.
س-أليست هذه العودة إلى كامو مرتبطة أولا،بأن التاريخ أنصفه فيما يتعلق بموضوع الانحرافات التوتاليتارية للشيوعية؟
ج-لاينبغي الاكتفاء بهذا التفسير.من جهة،سيكون خطأ اختزال التزامات ألبير كامو عند موقفه المناهض للبولشفية.على مستوى السياسة،كان متعددا ومتفردا،فوضويا ونصيرا مطلقا للحرية غير عنيف”إصلاحي جذري”،لكنه ليس ثوريا.لاسيما،وأن كامو يسخر فعلا أن يصير خلال يوم من الأيام،متوجا تاريخيا.لقد تأسس فكره تحديدا ضد التاريخ،وضد المسيحية التاريخية التي شكلت ديانة لليسار الفكري إبان حقبته.لم يتوقف عن مناهضة جل الذين تمسكوا بإعطاء معنى للوقائع، وتقديسهم عبر ذلك ل”الحتمي” وكذا “الذي يأخذ بعدا واحدا”.كامو، ومثلما عاتب عليه سارتر كثيرا،غير متمكِّن بالتأكيد على نحو جيد من هيغل، لكنه فهمه كفاية كي يرفض فكرته القائلة بأن :(( التاريخ بمثابة فتاة غير شرعية للعنف))،والذي يضاف بحسبه إلى مأساة الوضع البشري. سيمدح كامو التوافق بين العدالة والأخوة، ضد حتميات “معنى التاريخ”،والذي باسمه برر معاصروه كل تجليات العنف مادامت أنها ” تقدمية”.بالتالي،أعتقد تحديدا بأن هذا الرفض للذهاب وفق معنى التاريخ هو مايشرح استمرارية فكر كامو. قبل أن أتعرف عليه،اندهشت لما ورد في إحدى افتتاحيته بجريدة ”combat” غداة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما : حينما ابتهج الجميع بإعلان نهاية الحرب،كان كامو الوحيد الذي أرهبته فكرة أنه بوسع الإنسان منذئذ،القضاء ليس فقط على عدوه بل نوعه.حينما أصبحنا صديقين،استفسرته عن كيفية عثوره على الشجاعة كي يفصح عن رأيه الشاذ جدا.أجابني :((أعتقد بأني وقفت خلال ذاك اليوم على تعريف المثقف :شخص ما استوعب كيفية مقاومة معطيات عصره)).بمعنى ليس فقط الايديولوجيا المهيمنة،لكن المحيط الذي يشكله الأصدقاء والأساتذة،بل أحيانا المرجعيات الداخلية.استوعبت على الفور هذه العبرة،وأرغمتني بأن أكون دائما في وضعية يقظة،بل ومقاوِمة. لأن كامو ربما جَسَّد أولا حالة.لا يقوم فكره على بنية متعالِمَة،أو يأخذ شكل كاتدرائية نتلقى نورا داخلها.لم يؤسس نسقا شاملا،وظل قبل كل شيء نصيرا للرفض والشك.والحال أن حقبتنا في حاجة فعلا لمثل هذا الموقف المتطلِّب ، وكذا الفزع من المطلق،وهذه البطولة المتزنة،أكثر من حاجتها لعقيدة جديدة.بالتأكيد،لم يتوقع كامو عودة التعصب الديني،ولاعولمة الإرهاب أو الثورة الرقمية.لكنه يدعونا إلى النضال ضد المطلق،ونتمرد على المستوى الإنساني،والإقرار بأن الإنسان عليه ممارسة وظيفته كانسان دون يقينه بالنجاح ولا تعهد بالخلاص.هل نحتاج راهنا إلى أكثر من هذا؟.
س-حين وفاة ألبير كامو ،كتب سارتر مايلي : ((لقد كان التقاء باهرا للفرد،والفعل وكذا الأثر)).فهل تجلى الشخص إذن في مثل جلال أثره؟
ج- بالنسبة إلي،كان بديهيا.لقد أضاء لقائي به حياتي.عموما، كم هو حظ متغطرس ! .عن سن السابعة والعشرين، في باريس ما بعد الحرب،كنت أشرف على مجلة أدبية صغيرة تسمى :”caliban”، ذات يوم رن هاتف مكتبي:”يتحدث إليك كامو”.لم أصدق الصوت،فجاء جوابي :”وأنا نابليون”.لكن الأمر تعلق حقا بكامو.توخى أن يعرض علي مقترحا مفاده نشر المجلة لفقرات من رواية : منزل الشعب. التي ألفها صديقه لوي غيو.ضربة حظ أخرى، فأنا أعرف غيو وأحبه.بعد مرور ساعة، انتقلت لرؤيته في مكتبه بغاليمار.أصولنا الجزائرية المشتركة لعبت حتما دورا فيما يتعلق بهذه المعجزة :فالكاتب الذي كنت أقدره منحني أخيرا هدية رائعة تتمثل في صداقته.ومن سخائه :فقد فتح إلي كراس عناوينه،مما سمح لمجلة ”caliban”كي يستمر وجودها طيلة سنوات بعد ذلك،ثم تصدر روايتي المعنونة ب”الخطأ”ضمن السلسلة التي كان يشرف عليها في غاليمار،فأرسى باتصاله الهاتفي ذاك دعائم ثقافتي الأدبية والفلسفية.لا يقدم كامو أبدا دروسا لأحد،ولا يعظ،ولا يقول :”عليك أن تقرأ فلانا وفلانا”،بل ببساطة يجعلك تستفيد من معرفته، وأفكاره. وبهجة سعادته أن يعيش :مع الذين يعتبرهم خاصَّته،كان يحب الضحك،ولأنه جذاب تماما،يرقص متوخيا الرقص أفضل من الآخرين،لكنه يفعل ذلك أساسا بكيفية أكثر ابتهاجا وحرية.
س-عاينتم كذلك لحظات غضبه؟
ج-أو لنسميها لحظات نفاذ صبره. فكامو الذي قلت عنه بأنه اتصف بالكبرياء،يمكنه في الواقع أن يغير بغتة لهجته حينما يُعترض عليه باعتراض.يغير أيضا أسلوب خطابه،ويعثر على ارتفاع للصوت إسباني شيئا ما،ويصير بشكل خاص بليغا،تستطرد وفقه”عبارات بلاغة السكون”حسب المعنى اللاتيني.يحدث له هذا حينما يرد على سيرة المثقفين الستالينيين.لكن حقيقة أنا بدوري عانيت من غضب ألبير كامو ، بسبب حيثيات حرب الجزائر،مما أنهى صداقة سعيدة ،استمرت ما يقارب عشر سنوات،وشعور كبير باليأس يلفني.تعود البدايات الأولى للواقعة إلى سنة 1956،وقد أصبحت صحفيا في “ليكسبريس”،وكامو متعاونا،بحيث يأتي عند هيئة التحرير مرتين في الأسبوع كي يكتب مقالا.يشاركني نفس المكتب،مما أشعرني بالفخر والبهجة.بيد أنه، ذات يوم،وبعد عدد لايحصى من مظاهر العنف في الجزائر،أفصح لي عن موقفه، الذي بدا له حاسما بخصوص القضية،وهو كالتالي :البحث عن سبيل وسط بين “تطرفية الأقدام السوداء” و”العقيدة الثنائية للمثقفين الباريسيين”المؤيدين للاستقلال، معلنا عن “هدنة بالنسبة للمدنيين”، ووقف العنف،يسبق إجراء حوار بين المجموعتين ثم إقامة دولة فيدرالية.فيما يخصني،حسبت اقتراحه هذا متوازنا لكنه جاء متأخرا،وقد اعتبرت بأن استقلال الجزائر نتيجة “حتمية”.وصف استدعى لدى كامو بشكل مستفيض فلسفة للتاريخ ناهضها،فلم يغفر لي قط ذلك.لم نلتق أبدا.حينما حصل على جائزة نوبل،خلال السنة الموالية،راسلته كي أعبر له عن تقديري ومودتي.فأجابني بكلمة مقتضبة انتهت بما يلي :((المهم،أن كل واحد منا أبان عن تمزق)).منذئذ تأملت هذه الجملة طويلا،ويظهر لي حاليا أن كامو توخى القول من خلالها،بأننا تجاذبتنا أطراف حقيقتين متضاربتين،ولا واحد منا بوسعه ادعاء امتلاك الحقيقة.
س-إذا ادعى ألبير كامو حقا استحالة إدراكه الحقيقة،فما هو هدفه المنشود في نظركم؟
ج-يبدو لي صعوبة فهم كامو دون معرفة بمرجعتيه الكبيرتين أقصد دوستويفسكي ونيتشه.لقد حفزه، أساسا ،هذا التناقض القائم على القاعدة التالية :((إذا لم يوجد أي شيء،إذن كل شيء مسموح به)) ،بحيث أجاب على سؤال مفاده إذا فقدت الحياة المعنى،فيلزم منحها واحدا.لقد انبثق مجمل فكر كامو من هذا التوتر.بدأت الحياة بأن واجهته بعوائق قوية،موت أبيه،فقر محيطه، مرضه بسل مزمن قد يؤدي بحياته خلال أية لحظة.يمثل انتماؤه المتجذر إلى الشعب ركيزة ضميره .لكن في ذات الآن،فقد كانت ولادته في ساحل البحر،تحت أشعة الشمس،مما أنقده ربما من اللعنة.لقد أحسست دائما بأن هذا اللعين كان محظوظا.دفعه البؤس وترقبه الرحيل عن العالم إلى التركيز على تقديس اللحظة.امتلك نعمة أن يكون سعيدا رغم مختلف سياقات التعاسة الممكنة.وقد تخيل سيزيف سعيدا مثله،سيحاول الكشف عن عُقد الوضع البشري،بمنحه الإنسان منظور خلاص ملحد.
المرجع:
Ursula Gauthier et charles Giol :les hors-serie de l obs
Numéro 97 ;pp :8-10.