مجلة حكمة
عبادة الأسواق

نعوم تشومسكي: عبادة الأسواق تهدد الحضارة الإنسانية – سيجي بوليكرونيو / ترجمة : ياسين إدوحموش


إننا نعيش في عصر يحف به الخطر – لا شك في ذلك. كيف وصلنا إلى مثل هذه الظروف التي توجد فيها الديموقراطية نفسها في وضع هش للغاية ومستقبل الحضارة الإنسانية نفسها على المحك؟ في هذه المقابلة، يُلقي المفكر الشهير نعوم تشومسكي، أستاذ فخري في اللغويات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأستاذ فخري في علم اللغويات في جامعة أريزونا، الضوء على حالة العالم وحالة القوة العظمى الوحيدة المتبقية في الساحة العالمية.

سيجي بوليكرونيو: نعوم، بالنظر إلى الوضع الحالي للعالم، أعتقد أنه لن نبالغ على الإطلاق إن قلنا أننا نعيش في أوقات محفوفة بالمخاطر – وليس فقط في فترة من التعقيد العالمي والارتباك وعدم اليقين، والتي تعد بعد كل شيء، الحالة “الطبيعية” للوضع السياسي العالمي في العصر الحديث. أعتقد، في الواقع، أننا في خضم دوامة من الأحداث والتطورات التي تقوض قدرتنا على إدارة الشؤون الإنسانية بطريقة تفضي إلى تحقيق نظام سياسي واقتصادي قائم على الاستقرار والعدالة والاستدامة. وبالفعل، فإن العالم المعاصر محفوف، في رأيي على الأقل، بمخاطر وتحديات ستختبر اختبار كبيرا قدرة البشرية على الحفاظ على مسار ثابت نحو أي شيء يشبه الحياة المتحضرة.

كيف وصلنا إلى مثل هذا الوضع، مع التفاوتات الاقتصادية الهائلة والتفاقم غير العقلاني في الشؤون السياسية من ناحية، وقدرة مذهلة، من ناحية أخرى، لتجاهل الأزمات الوجودية مثل الاحتباس الحراري و الأسلحة النووية التي ستدمر بالتأكيد الحياة المتحضرة كما نعرفها إذا واصلنا “العمل كالمعتاد”؟

نعوم تشومسكي: كيف بالفعل.

إن السؤال المتعلق بكيفية وصولنا إلى هذه الحالة واسع النطاق حقًا، ولا يتطلب فقط التحقيق في أصل المؤسسات الاجتماعية والثقافية وطبيعتها، بل أيضًا في أعماق علم النفس الإنساني الذي لا يزال غير مفهوم. ومع ذلك، يمكننا أن نأخذ محاولة أكثر تواضعا بكثير من الأسئلة، ونطرح أسئلة عن بعض القرارات بالغة الأهمية التي كان من الممكن اتخاذها بشكل مختلف، وحول حالات محددة حيث يمكننا تحديد بعض جذور التجاهل.

يوفر تاريخ الأسلحة النووية بعضا من الأمثلة البارزة. لقد كان أحد القرارات المهمة في عام 1944، عندما خرجت ألمانيا من الحرب، وكان من الواضح أن الهدف الوحيد تمثل في اليابان. لا يمكن للمرء حقاً أن يقول إنه تم اتخاذ قرار بالمضي قدماً في إنشاء أجهزة يمكن أن تدمر اليابان بشكل أكثر شمولاً، وتهدد على المدى الطويل بتدميرنا نحن أيضًا. يبدو أن السؤال لم ينشأ على محمل الجد، باستثناء شخصيات منعزلة مثل جوزيف روتبلات – الذي مُنع من الدخول مرة أخرى إلى الولايات المتحدة.

ثمة قرار حاسم آخر لم يتم اتخاذه في أوائل الخمسينيات. في ذلك الوقت، لم تكن هناك أنظمة تسليم طويلة المدى للأسلحة النووية (ICBMs). وربما كان من الممكن التوصل إلى اتفاق مع روسيا لمنع تطويرها. كان ذلك حدسا معقولا في ذلك الوقت، وإصدار الأرشيفات الروسية يجعل الأمر يبدو أكثر احتمالًا. ومن اللافت للنظر، أنه لا يوجد أي أثر لأي بحث في متابعة اتخاذ خطوات لحظر أنظمة الأسلحة الوحيدة التي قد تشكل تهديدًا قاتلًا للولايات المتحدة، لذلك نتعلم من العمل المعياري لـماكجورج باندي حول تاريخ الأسلحة النووية، مع إمكانية الوصول إلى أعلى المصادر. ولعل الأمر الأكثر بروزاً هو أنه على حد علمي لم يكن هناك اهتمام واضح بهذه الحقيقة المذهلة.

من السهل الاستمرار. والنتيجة هي 75 عامًا من العيش تحت تهديد التدمير الكامل تقريبًا، لا سيما منذ التطوير الناجح للأسلحة النووية الحرارية بحلول عام 1953 – في هذه الحالة اتخاذ قرار، عوض عدم اتخاذه. وكما يوضح السجل بصورة جلية، إنها لمعجزة تقريبا كوننا نجونا من العصر النووي حتى الآن.

هذا يثير تساؤلك عن سبب تجاهلنا، ولا أفهم لم، ولم أفهم قط. كان السؤال يدور في ذهني باستمرار منذ ذلك اليوم القاتم في أغسطس 1945 عندما سمعنا الأخبار التي تفيد بأن قنبلة ذرية قد قضت على هيروشيما، مخلفة خسائر فظيعة. بصرف النظر عن المأساة الرهيبة نفسها، كان من الواضح على الفور أن الذكاء البشري قد ابتكر وسائل لتدميرنا جميعًا – ليس تمامًا بعد ، ولكن لا يمكن أن يكون هناك شك في أنه بمجرد خروج المارد من الزجاجة، فإن التطورات التكنولوجية ستحمل التهديد إلى النهاية. كنت حينها مستشارًا مبتدئا في معسكر صيفي. تم بث الأخبار في الصباح، واستمع الجميع – ثم انطلقوا نحو النشاط المخطط – لعبة البيسبول والسباحة وما كان مقررًا. لم أصدق ذلك. لقد صُدمت للغاية واتجهت للغابة وجلست لوحدي لعدة ساعات. ما زلت لا أصدق ذلك، أو أفهم كيف استمر ذلك حتى مع ما تم تعلمه عن التهديدات. عبر الآخرون عن المشاعر ذاتها، مثل وليام بيري مؤخرا [وزير الدفاع السابق]، الذي يتمتع بخبرة واسعة في الداخل. لقد ذكر أنه مرعوب على نحو مضاعف: بسبب تزايد خطر وقوع كارثة رهيبة، وعدم  الاحساس بالرعب من جراء ذلك.

لم يكن  الأمر معروفًا في عام 1945، غير أن العالم  أنداك كان يدخل حقبة جيولوجية جديدة، هي الأنثروبوسين، التي يؤثر فيها النشاط البشري أيما تأثير على البيئة التي تحافظ على الحياة. تعود التحذيرات حول التهديد المحتمل لظاهرة الاحتباس الحراري إلى بحث نُشر عام 1958 من إعداد هانز سوس وروجر ريفيل، وبحلول السبعينيات، كانت المخاوف تثير قلقًا عميقًا لعلماء المناخ. كان العلماء في شركة إكسون موبيل في طليعة الذين قاموا بتوضيح المخاطر الشديدة. هذه هي الخلفية الكامنة وراء اتخاذ قرار حاسم من جانب إدارة إكسون موبيل في عام 1989، بعد أن (وربما بسبب) لفت جيمس هانز انتباه الرأي العام إلى التهديد الخطير. وفي عام 1989، قررت الإدارة قيادة حملة الإنكار.

ولا يزال ذلك مستمرا حتى الوقت الحاضر. تعلن شركة إكسون موبيل الآن باعتزاز أنها تعتزم استخراج جميع الـ 25 مليار برميل من احتياطاتها الحالية وبيعها، مع الاستمرار في البحث عن مصادر جديدة.

من المؤكد أن المسؤولين التنفيذيين يدركون أن هذا الأمر سيكون تقريبًا بمثابة إيذان لموت للمجتمع الإنساني المنظم بأي شكل نعرفه، لكن من الواضح أن ذلك لا يهم. إنه تجاهل مصحوب بالانتقام.

لقد كانت الدوافع الانتحارية لصناعة الوقود الأحفوري مدعومة بقوة من قبل الإدارات الجمهورية، الآن تحت حكم ترامب، تاركة الولايات المتحدة في عزلة دولية تامة، ليس فقط برفضها المشاركة في الجهود الدولية للتصدي لهذا التهديد الوجودي، بل في تكريس جهود كبيرة لتعجيل السباق نحو الكارثة.

من الصعب إيجاد الكلمات المناسبة لوصف ما يحدث – والاهتمام المحدود الذي يتلقاه.

هذا مرة أخرى يثير السؤال الذي طرحته حو سبب تجاهلنا. بالنسبة إلى إكسون موبيل، فإن التفسير بسيط للغاية، وهو منطق قواعد السوق الرأسمالية – وما أطلق عليه جوزيف ستيجليتز قبل 25 عامًا “الدين” الذي تعرفه الأسواق بشكل أفضل. يمتد المنطق نفسه إلى ما وراء ذلك، على سبيل المثال البنوك الكبرى التي تضخ الأموال في استخراج الوقود الأحفوري، بما في ذلك أخطرها، مثل رمال القطران الكندية، وهي بكل تأكيد على إدراك تام بالنتائج.

يواجه المدراء التنفيذيون خيارًا: إذ يمكنهم السعي لتحقيق أقصى قدر من الأرباح وكسب حصة من السوق، والعمل (عن وعي) لتقويض فرص الحياة على الأرض؛ أو بإمكانهم رفض القيام بذلك، فيتم إبعادهم واستبدالهم بشخص سيفعل. إن المشاكل ليست فردية فقط؛ فهي مؤسساتية، وبالتالي أعمق بكثير والتغلب عليها أصعب.

يصدق القول نفسه تقريبا على وسائل الإعلام. ففي أفضل الصحف، هناك مقالات منتظمة من إعداد أمهر الصحفيين تُشيد بالتصديع المائي وفتح مجالات جديدة للاستغلال، ما يضع الولايات المتحدة في مرتبة متقدمة من المملكة العربية السعودية في سباق تدمير الحضارة الإنسانية. في بعض الأحيان تتردد بعض الأقوال عن الآثار البيئية: التصديع في ولاية وايومنغ قد يضر بإمدادات المياه لمربي الماشية. ولكن نادراً ما نسمع أي شيء عن التأثير على الكوكب – وهو أمر يفهمه المؤلفون والمحررون جيدا بكل تأكيد.

في هذه الحالة، أعتقد أن التفسير يكمن في الاحترافية. تتطلب أخلاقيات المهنة التحلي ب”الموضوعية”، أي الإبلاغ بدقة عما يجري “داخل البلتواي” وفي الأجنحة التنفيذية، والتشبث بالقصة المحددة، أما إضافة كلمة حول التأثير الأوسع الفتاك سيكون “تحيزا”، مخصصا لصفحات الرأي.

ثمة عدد لا يحصى من الأمثلة، غير أنني أعتقد أن هناك شيئًا أكثر عمقًا، وهو متعلق بـ “الدين” الذي انتقده ستيجليتز. عبادة الأسواق لها العديد من الآثار؛ يكمن أحدها في أصول العقائد النيوليبرالية الحاكمة، حيث يعود أصلها إلى فيينا ما بعد الحرب العالمية الأولى، بعد انهيار النظام التجاري داخل إمبراطورية هابسبورج. قام لودفيج فون ميسيس وزملاؤه برسم معالم العقائد الأساسية التي سُميت بسرعة باسم “الليبرالية الجديدة”، استنادًا إلى مبدأ “الاقتصاد السليم”: الأسواق تعرف ما هو الأفضل، و عدم التدخل فيها مسموح.

ثمة كذلك عواقب فورية، إحداها أن النقابات العمالية، التي تتداخل مع مرونة أسواق العمل، يجب تدميرها، إلى جانب التدابير الديمقراطية الاجتماعية. رحب ميسيس علنا ​​بسحق النقابات النمساوية النشطة والديمقراطية الاجتماعية عن طريق عنف الدولة في عام 1928، مما أرسى الأساس للفاشية النمساوية، والتي رحب بها ميسيس كذلك. أصبح هذا الأخير مستشارًا اقتصاديًا للمستشار النمساوي البروتستانتي إنجيلبرت دولفوس، وقد أوضح في عمله الرئيسي (الليبرالية) أنه “لا يمكن إنكار أن الفاشية والحركات المماثلة التي تهدف إلى إنشاء ديكتاتوريات مليئة بأفضل النوايا وأن تدخُلها قد أنقذ، في الوقت الراهن، الحضارة الأوروبية. إن الاستحقاق التي فازت به الفاشية بنفسها سيستمر إلى الأبد في التاريخ “.

هذه المواضيع لها صدى في العصر النيوليبرالي الحديث. للولايات المتحدة تاريخ عمالي غير عادي، غير أن الهجوم على النقابات اكتسب قوة جديدة في عهد ريغان مع بداية الحقبة النيوليبرالية. وكما ذكرت الصحافة التجارية، تم إبلاغ أصحاب العمل بالفعل بأنه لن يتم تطبيق قوانين العمل، فأصبحت الولايات المتحدة المجتمع الصناعي الوحيد باستثناء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي يتساهل ليس فقط مع الإضرابات فحسب، بل وحتى “العمال البديلين الدائمين.” تنقل العولمة النوليبرالية، وهشاشة الوظائف وغيرها من الأمور عملية تدمير العمالة المنظمة إلى أبعد حد.

تشكل هذه التطورات جزءًا أساسيًا من الجهود الرامية إلى تحقيق مذهب ثاتشري قوامه “عدم وجود مجتمع”، فقط أفرادٌ مختلفون، يواجهون قوى “الاقتصاد السليم” وحدهم – ليصبحوا ما أسماه ماركس “أكياس بطاطا” في إدانته لسياسات الحكام الاستبداديين بأوروبا في منتصف القرن التاسع عشر.

لا يمكن أن يتفاعل كيس البطاطا بأي طريقة معقولة حتى مع الأزمات الوجودية. يفتقر الناس إلى أسس الديمقراطية التداولية، مثل النقابات العمالية العاملة وغيرها من المنظمات، وليس أمامهم من خيار سوى “التجاهل”. وماذا عساهم أن يفعلوا؟ وكما أوضح ميسيس بشكل مميز، وردده ميلتون فريدمان وآخرون، فإن الديمقراطية السياسية غير ضرورية – وهي في الواقع عائق أمام الاقتصاد السليم: لأن “المنافسة الحرة تفعل كل ما هو مطلوب” في الأسواق التي تعمل دون تدخل.

إن الخلل ليس بالأمر الجديد، غير أنه يمكن أن يصبح أكثر حدة في ظل المؤسسات والممارسات الاجتماعية والاقتصادية الداعمة.

ومع ذلك، قبل عقدين فقط، كان هناك احتفال كبير بين النخب الليبرالية والمحافظة على حد سواء حول “نهاية التاريخ”، ولكن حتى اليوم، ثمة من يدعي أننا حققنا تقدماً هائلاً وأن العالم أفضل اليوم مما كان عليه في الماضي. من الواضح أن أطروحة “نهاية التاريخ” كانت شيئًا من الوهم الهيجلي للمدافعين عن النظام الرأسمالي العالمي، لكن ماذا عن التفاؤل الذي عبر عنه أمثال ستيفن بينكر بشأن الحاضر؟ وكيف يمكننا أن نقول حقيقة كون هذا التفاؤل الليبرالي لا ينعكس على الإطلاق في التيارات والاتجاهات الأيديولوجية السياسية التي تتحرك اليوم داخل الدول الغربية بل وفي جميع أنحاء العالم أيضا؟

لقد كانت الاحتفالات في معظمها هزلية، وتم إخمادها بهدوء. أما بخصوص “التقدم الكبير” المحرز، فهناك عمل جاد للقيام به، وأفضل ما أعرفه هو دراسة روبرت جوردون المقنعة عن ارتفاع وانخفاض النمو الأمريكي، والتي تتجاوز نطاق الولايات المتحدة مع بعض التعديلات. يلاحظ جوردون أنه لم يكن هناك أي نمو اقتصادي منذ آلاف السنين حتى عام 1770. ثم جاءت فترة من النمو البطيء لقرن آخر، بعدها جاء “قرن فريد” امتدد من عام 1870 إلى 1970، شهد اختراعات مهمة تتراوح بين السباكة في الأماكن المغلقة إلى الشبكات الكهربائية والنقل، غيرت بشكل كلي حياة الإنسان، مؤدية لتقدم كبير جراء العديد من التدابير.

منذ سبعينيات القرن العشرين، باتت الصورة مختلطة بدرجة أكبر، حيث تم إرساء أساس اقتصاد التكنولوجيا المتقدمة المعاصر في العقود الأخيرة من القرن الفريد، وخاصةً من خلال الاستثمارات العامة، التي تم تكييفها مع السوق في السنوات التي تلت ذلك. يوجد حاليًا ابتكار سريع في الرتوش – تطبيقات جديدة لأجهزة iPhone، وما إلى ذلك – ولكن لا شيء يشبه الإنجازات الأساسية التي ميزت في القرن الفريد. في الولايات المتحدة، ساد ركود أو انخفاض في الأجور الحقيقية للعمال غير المشرفين، وفي السنوات الأخيرة، زادت معدلات الوفيات بين الطبقة العاملة من البيض، ممن هم في سن العمل، والتي أطلق عليها عالما الاقتصاد اللذين وثقا هذه الحقائق المذهلة، وهما آن كيس وأنجوس ديتون، بلفظ “الموت الناجم عن اليأس.”

يوجد المزيد لقوله عن المجتمعات الأخرى. هناك العديد من التعقيدات ذات الأهمية الكبرى التي تختفي في الجداول الإحصائية التي لم تخضع للتحليل.

لقد كانت الواقعية، التي بلورها من الناحية الفكرية من نيكولو مكيافيلي في كتاب The Prince، المبدأ التوجيهي للدول القومية وراء إدارتها للعلاقات الدولية منذ بداية العصر الحديث، بينما يُنظر إلى المثالية والأخلاق باعتبارهما قيمًا يُفضل تركها للأفراد. هل تقودنا الواقعية السياسية إلى حافة الهاوية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي ينبغي أن يحل محل الموقف السلوكي للحكومات في القرن الحادي والعشرين؟

إن العقيدتين الرئيسيين لنظرية العلاقات الدولية تتجليان في الواقعية والمثالية. ولكل منهما أنصارها، لكن صحيح أن الواقعيين بسطوا سيطرتهم: العالم مكان صعب، ونظام يتسم بالفوضوية، والدول تناور لفرض السلطة والأمن، وتقيم تحالفات، وموازنة خارجية، إلخ.

أعتقد أننا نستطيع أن نضع جانباً المثالية – على الرغم أنه لديها مناصروها، بما في ذلك على نحو غريب، أحد المؤسسين والشخصيات الرائدة في المدرسة الواقعية الحديثة المتشددة، هانز مورجينثاو. في كتابه “غرض السياسة الأمريكية” الصادر عام 1960، جادل مورجينثاو بأن الولايات المتحدة، على عكس المجتمعات الأخرى، لها “هدف سامِ”، يتجلى في إرساء السلام والحرية في الداخل وفي كل مكان. أدرك مورجينثاو، وهو باحث جاد، أن السجل التاريخي لا يتسق مطلقا مع “الهدف السامي” لأمريكا، لكنه نصح بأنه لا ينبغي أن يخدعنا التناقض الواضح. فعلى حد تعبيره، يجب ألا “نخلط الإساءة للواقع مع الواقع نفسه”. الواقع هو “الهدف الوطني” غير المتحقق الذي كشفت عنه “أدلة التاريخ كما تعكسه عقولنا”. وما حدث بالفعل هو “إساءة للواقع”. إن الخلط بين الإساءة للواقع والواقع يشبه “خطأ الإلحاد الذي ينكر صحة الدين لأسباب مماثلة”.

مع ذلك، في معظم الأحيان فإن الواقعيين يتمسكون بالواقعية، دون مشاعر. بيد أنه قد نسأل عن مدى واقعية الواقعية. مع بعض الاستثناءات – كينيث والتز على سبيل المثال – يميل الواقعيون إلى تجاهل جذور السياسة في هيكل القوة الداخلية، والذي يعد فيه، نظام الشركات بطبيعة الحال، المهيمن بشكل كاسح. ليس هذا هو المكان المناسب لمراجعة الأمر، لكنني أعتقد أنه يمكن إثبات أنه ضاع الكثير جراء هذا الموقف. هذا صحيح حتى بالنسبة لمفهوم الواقعية الأساسي: الأمن. صحيح أن الدول تبحث عن الأمن، ولكن لمن؟ لعامة السكان؟ لأنظمة السلطة التي يمثلها مهندسو السياسة؟ لا يمكن وضع مثل هذه الأسئلة جانبا.

إن الأزمتين الوجوديتين اللتين ناقشناهما مثالان على ذلك. هل تسهم زيادة استخدام الوقود الأحفوري إلى أقصى حد ممكن في تحقيق الأمن للسكان؟ أو لإكسون موبيل وإخواتها؟ هل الموقف العسكري الحالي للولايات المتحدة – خرق معاهدة إزالة القذائف النووية متوسطة المدى بدلاً من تسوية النزاعات حول الانتهاكات، والمضي قدمًا بأسلحة تفوق سرعة الصوت بدلاً من السعي إلى منع أنظمة الأسلحة المجنونة هذه عن طريق معاهدة، وغير ذلك – يسهم في أمن السكان؟ أو يُحقق لمكون نظام التصنيع للشركات الذي تتمتع فيه الولايات المتحدة بميزة نسبية: التدمير. تُثار أسئلة مماثلة باستمرار.

إن ما ينبغي أن يحل محل الموقف السائد هو حكومة بالشعب ومن أجل الشعب، تُسلط الضوء على مخاوفهم واحتياجاتهم.

لقد تم تفسير ظهور العولمة بشكل متكرر في الماضي القريب على أنها تُؤدي إلى تدهور الدولة القومية. ومع ذلك، فإن العولمة اليوم هي موضع تحدي أولاً وقبل كل شيء من جانب عودة القومية. هل هناك ما يبرر الدفاع عن العولمة؟ وبالتالي، هل كل القومية سيئة وخطيرة؟

إن العولمة ليست جيدة ولا سيئة في حد ذاتها، فذلك يعتمد على كيفية تنفيذها. يعد تعزيز فرص نشر الأفكار والابتكارات والإسهامات الجمالية بحرية شكلاً مرحبًا به من أشكال العولمة، فضلاً عن الفرص المتاحة للناس للتنقل بحرية. إن نظام منظمة التجارة العالمية، المصمم لجعل العاملين في منافسة مع بعضهم البعض مع حماية حقوق المستثمرين بنظام براءات باهظ الثمن وأجهزة أخرى، هو شكل من أشكال العولمة التي لها العديد من العواقب الضارة التي يمكن تجنبها في الاتفاقيات التجارية الأصيلة المصممة وفق أسس مختلفة – ويجب أن يُؤخذ في الاعتبار أن فحوى “اتفاقيات التجارة الحرة”  في معظمها لا يتعلق بالتجارة الحرة أو حتى التجارة بأي حال من الأحوال.

نفس الشيء ينطبق مع القومية. ففي أيدي النازيين، كانت خطيرة للغاية. وإذا كانت شكلًا من أشكال الترابط والدعم المتبادل داخل مجتمع ما، فقد تكون جزءًا مهمًا من حياة الإنسان.

يعد الانبعاث الحالي للقومية إلى حد كبير رد فعل على العواقب الوخيمة للعولمة النيوليبرالية، مع ميزات خاصة مثل تراجع الديمقراطية في أوروبا عن طريق نقل صناعة القرار إلى الترويكا غير المنتخبة بينما تتفرج من خلفهم البنوك الشمالية. ويمكن أن تتخذ أشكالاً قبيحة بالفعل – والأسوأ، ربما ، رد الفعل على ما يسمى “أزمة اللاجئين” – التي وُصفت بدقة أكبر على أنها أزمة الغرب الأخلاقية، كما أشار البابا فرانسيس.

لكن لا شيء من هذا متأصل في العولمة أو القومية.

في تحليلاتك للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، عادة ما تُشير إلى الولايات المتحدة باعتبارها أكبر دولة إرهابية في العالم. هل هناك شيء فريد عن الولايات المتحدة كدولة إمبراطورية؟ وهل ما زالت الإمبريالية الأمريكية حية ونشطة؟

إن الولايات المتحدة فريدة من نوعها في كثير من النواحي. وذلك يشمل الكلمات الافتتاحية لإعلان الاستقلال، “نحن الشعب”، وهي فكرة ثورية، مهما كانت معيبة في التنفيذ. إنها أيضًا بلد نادر في حالة حرب تقريبًا دون انقطاع منذ اللحظة الأولى. كان أحد دوافع الثورة الأمريكية إزالة حاجز التوسع نحو “البلد الهندي” الذي فرضه البريطانيون. وبعد التغلب على ذلك، دخلت الأمة الجديدة في حروب ضد الأمم الهندية التي استوطنت ما أصبح الإقليم الوطني ؛ حروب “إبادة”، كما أقر أبرز الشخصيات، ولا سيما جون كوينسي آدامز، صاحب مصطلح القدر المتجلي. وفي الوقت نفسه، تم غزو نصف المكسيك فيما وصفه الجنرال الأمريكي جرانت، الذي أصبح لاحقًا الرئيس، بأنه أحد أكثر “الحروب شراً” في التاريخ.

ليس هناك داع لمراجعة سجل التدخلات والتخريب والعنف، خاصة منذ الحرب العالمية الثانية، التي وضعت الولايات المتحدة في حالة هيمنة عالمية بلا سابقة تاريخية. يتضمن السجل أسوأ جريمة في فترة ما بعد الحرب، والاعتداء على الهند الصينية، وأسوأ جريمة في هذه الألفية، وهي غزو العراق.

مثل معظم مصطلحات الخطاب السياسي، تعتبر “الإمبريالية” فكرة متنازع عليها. بغض النظر عن المصطلح الذي نريد استخدامه د، فإن الولايات المتحدة هي وحدها التي تملك مئات من القواعد العسكرية والقوات التي تعمل في معظم أنحاء العالم، كما أنها فريدة من نوعها في استعدادها وقدرتها على فرض عقوبات قاسية تهدف إلى معاقبة شعوب الدول التي تعتبرهم أعداء، إضافة إلى أن قوتها السوقية وهيمنتها على النظام المالي الدولي يجعلان آثار هذه العقوبات يتجاوز نطاقً حدود الولاية الإقليمية، ما يضطر حتى الدول القوية إلى الانضمام إليها، رغما عن أنفها.

تعد كوبا القضية الأكثر دراماتيكية، حيث يعارض العالم بأسره العقوبات الأمريكية بشدة. كان التصويت ضد هذه العقوبات 198  مقابل صوتين اثنين للولايات المتحدة وإسرائيل، في آخر إدانة للجمعية العامة للأمم المتحدة. ظلت العقوبات سارية لمدة 60 عامًا تقريبًا، وعاقبت بشدة الكوبيين على ما وصفته وزارة الخارجية “تحديًا ناجحًا” لعقوبات ترامب الأمريكية على فنزويلا  وحولت الأزمة الإنسانية إلى كارثة، وفقًا لكبير الاقتصاديين المعارضين، فرانسيسكو رودريجيز، كما أن عقوباته المفروضة على إيران مصممة بشكل صريح لتدمير الاقتصاد ومعاقبة السكان.

هذا ليس بالأمر الجديد، فقد كانت عقوبات كلينتون على العراق (التي انضم إليها بلير) مدمرة لدرجة أن كل من الدبلوماسيين الدوليين المتميزين الذين قادا برنامج “النفط مقابل الغذاء” استقالا احتجاجًا على ذلك، معتبرين أن العقوبات كانت “إبادة جماعية”، أما الثاني، هانز كريستوف فون سبونيك، فقد نشر كتابا مفصلا وحاسما حول تأثير العقوبات يحمل عنوان ( نوع مختلف من الحرب)، خضع لحظر افتراضي، ربما لأنه فاضح للغاية.

لقد عاقبت العقوبات الوحشية السكان ودمرت المجتمع، لكنها عززت الطاغية، وأجبرت الناس على الاعتماد على نظامه التمويني للبقاء على قيد الحياة، وربما إنقاذه من الإطاحة من الداخل، كما حدث لسلسلة من الشخصيات المماثلة. هذا قياسي تمامًا. وينطبق الشيء نفسه مع إيران اليوم.

يمكن القول أن العقوبات تنتهك اتفاقيات جنيف، التي تدين “العقاب الجماعي” باعتباره جريمة حرب، لكن يمكن للخدع القانونية الالتفاف على ذلك.

لم تعد لدى الولايات المتحدة القدرة التي كانت تتمتع بها في السابق للإطاحة بالحكومات حسب رغبتها أو لغزو دول أخرى، لكن لديها وسائل وافرة من الإكراه والهيمنة. أطلق عليها “الإمبريالية” أم لا.

لماذا تُعتبر الولايات المتحدة الدولة الكبرى الوحيدة في العالم التي تُظهر دائمًا كرها للمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، والتي تشمل، من جملة أمور أخرى كثيرة، اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة؟

لا تصادق الولايات المتحدة مطلقًا على الاتفاقيات الدولية، وفي الحالات القليلة التي تقوم فيها بذلك، فإن التحفظات هي التي تستبعد الولايات المتحدة، وهذا صحيح حتى بالنسبة لاتفاقية الإبادة الجماعية، التي صادقت عليها الولايات المتحدة أخيرًا بعد عدة سنوات، معفية نفسها. أُثيرت هذه القضية في عام 1999، عندما وجهت يوغوسلافيا تهمة ارتكاب جرائم حرب إلى محكمة العدل الدولية ضد الناتو. كانت إحدى التهم “الإبادة الجماعية”. لذلك رفضت الولايات المتحدة اختصاص المحكمة الدولية على أساس أنها لم تكن خاضعة لاتفاقية الإبادة الجماعية، ووافقت المحكمة –  أي أنها وافقت، في الواقع، على أن الولايات المتحدة يحق لها ارتكاب إبادة جماعية دون عقاب.

تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة هي الوحيدة (جنبًا إلى جنب مع الصين وتايوان) التي رفضت قرار المحكمة الدولية، أي حكم المحكمة عام 1986 الذي أمر الولايات المتحدة بإنهاء “الاستخدام غير المشروع للقوة” ضد نيكاراغوا ودفع تعويضات كبيرة. صفقت وسائل الإعلام الليبرالية على رفض واشنطن لقرار المحكمة على أساس أن المحكمة كانت “منتدى عدائي” (نيويورك تايمز)، وبالتالي فإن قراراتها لا تهم. قبل سنوات قليلة، كانت المحكمة حاكمًا صارمًا للعدالة عندما قضت لصالح الولايات المتحدة في قضية ضد إيران.

لدى الولايات المتحدة أيضًا قوانين تجيز للسلطة التنفيذية استخدام القوة “لإنقاذ” أي أمريكي يتم إحضاره إلى لاهاي – والذي يطلق عليه أحيانًا في أوروبا “قانون غزو لاهاي “، كما ألغت مؤخرًا تأشيرة دخول رئيس النيابة العامة للمحكمة الجنائية الدولية لتجرئه النظر في التحقيق في تصرفات الولايات المتحدة في أفغانستان. يستمر الحال على هذا المنوال.

لماذا ؟ إنها تسمى “القوة”، والسكان يتسامحون معها – وربما لا يعرفون في معظم الأحيان أي شيء عنها.

منذ محاكمات نورمبرغ بين عامي 1945 و 1949، شهد العالم العديد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي مرت دون عقاب، ومن المثير للاهتمام أن بعض القوى الكبرى (الولايات المتحدة والصين وروسيا) رفضت دعم المحكمة الجنائية الدولية التي بإمكانها، من بين أشياء أخرى، محاكمة الأفراد على جرائم الحرب. في هذا السياق، هل القدرة على تحميل القادة المسؤولية عن الحروب الجائرة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان تبشر بالخير في النظام الدولي اليوم؟

هذا يعتمد على ما إذا كانت الدول ستقبل الولاية القضائية، وأحيانا يفعلون. قبلت قوات حلف شمال الأطلسي (باستثناء الولايات المتحدة) ولاية محكمة العدل الدولية في قضية يوغوسلافيا، على سبيل المثال – لأنه من المفترض أنها قررت أن المحكمة لن تقبل أبداً الطعون اليوغوسلافية، حتى عندما كانت شرعية، كما في حالة التدمير المستهدف لمحطة تلفزيون، أسفر عن مقتل 16 صحفيا. في الدول الأكثر حرية وديمقراطية، يمكن للسكان، من حيث المبدأ، أن يقرروا أن حكوماتهم يجب أن تطيع القانون الدولي، ولكن ذلك مسألة تتعلق برفع مستوى الحضارة.

يزعم جون بولتون وغيره من القوميين المتطرفين، وغيرهم، أن الولايات المتحدة يجب ألا تتخلى عن سيادتها للمؤسسات الدولية والقانون الدولي. لذلك يجادلون بأن على الزعماء الأمريكيين انتهاك الدستور، الذي يعلن أن المعاهدات الصحيحة هي القانون الأعلى للبلاد. ويشمل ذلك على وجه الخصوص ميثاق الأمم المتحدة، وهو أساس القانون الدولي الحديث، الذي أنشئ تحت رعاية الولايات المتحدة.

 

المصدر