مجلة حكمة
الفيروس التاجي

الشيء الذي يحدد مقاومة بلدٍ ما للفيروس التاجي (كورونا) – فرانسيس فوكوياما / ترجمة: ياسر المعادات


إنّ الخطّ الفاصل الرئيسيّ في الاستجابة الفعّالة للأزمة لن يضع الأنظمة الاستبدادية في جهةٍ والديمقراطيات في الجهة الأخرى.

عندما ظهر الفيروس التاجي -الّذي أصبح جائحةً تنتشر حول العالم اليوم- في الصين في كانون الثاني، جادل الكثيرون بأنّ النظام الاستبدادي في الصين يمنع تدفق المعلومات حول خطورة الوضع. حالة لي وينليانغ، الطبيب الذي عوقب لإطلاقه صفارة الإنذار في وقتٍ مبكرٍ وتوفي بعد ذلك بسبب المرض، اعتبر الأمر مثالًا على القمع السلطوي. يبدو الوضع الآن أقل ورديةً بالنسبة للحكومات الديمقراطية. تواجه أوروبا عبء مرض أضخم من ذلك الذي واجهته الصين، حيث تتجاوز إيطاليا وحدها عدد الوفيات المبلغ عنها رسميًا في الصين، على الرغم من وجود واحدٍ إلى عشرين من حجم السكان بين البلدين. اتّضح أنّ قادة العديد من الديمقراطيات شعروا بضغوطٍ مماثلةٍ للتقليل من مخاطر الوباء، سواءً لتجنب تعريض الاقتصاد للخطر أو لحماية مصالحهم الشخصية. كان هذا صحيحًا ليس فقط للبرازيلي جاير بولسونارو أو للمكسيكي لوبيز أوبرادور، ولكن أيضًا للرئيس دونالد ترامب، الذي ظلّ يصرّ حتى منتصف آذار على أنّ الولايات المتّحدة كان المرض لديها تحت السيطرة، وأنّ الوباء سيختفي قريبًا. يفسر هذا سبب خسارة الولايات المتّحدة شهرين من التحضير للتصدي للوباء، مما أدى إلى نقصٍ مستمرٍ في كتّات “فحوصات” الاختبار واللوازم الطبية. في غضون ذلك، تبلغ الصين عن توقّف الحالات الجديدة. بحسب ما ورد اندهش الطلاب الصينيون في بريطانيا من النهج المتراخي الذي اتّبعته حكومة بوريس جونسون!

عندما ينحسر الوباء، أظن أنه سيتعين علينا تجاهل التقسيمات الثنائيّة البسيطة. إنّ الخطّ الفاصل الرئيسيّ في الاستجابة الفعّالة للأزمة لن يضع الأنظمة الاستبدادية في جهةٍ والديمقراطيات في الجهة الأخرى. بدلا من ذلك، سيكون هناك بعض الأنظمة الاستبدادية عالية الأداء، وبعضها مع نتائج كارثية. سيكون هناك تباينٌ مماثلٌ -وإن كان من المحتمل أن يكون أصغر- في النتائج بين الديمقراطيات. لن يكون المحدد الأساسي في الأداء هو نوع النظام، ولكن قدرة الدولة، وقبل كل شيء، الثقة في الحكومة.

تحتاج جميع الأنظمة السياسية إلى تفويض السلطة التقديرية للسلطات التنفيذية في أوقات الأزمات. لا يمكن لأي مجموعةٍ من القوانين أو القواعد الموجودة مسبقًا توقّع جميع الحالات الجديدة والمتغيّرة بنفس السرعة التي ستواجهها البلدان فيها. تحدّد قدرة الأشخاص في القمة وأحكامهم، ما إذا كانت النتائج جيدة أم سيئة. وفي صنع هذا التفويض للسلطة إلى الجهات التنفيذية، فإنّ الثقة هي السلعة الوحيدة الأكثر أهمية التي ستحدد مصير المجتمع. سواء في ديمقراطيةٍ أو في ديكتاتوريةٍ، على المواطنين أن يعتقدوا أن السلطة التنفيذية تعرف ما تفعله. والثّقة للأسف، هي بالضبط ما تفتقده أمريكا اليوم.

من المفاهيم الخاطئة الشائعة أنّ الديمقراطيات الليبرالية لديها بالضرورة حكوماتٌ ضعيفةٌ لأنّها يجب أن تحترم الاختيار الشعبي والإجراءات القانونية. لقد طوّرت جميع الحكومات الحديثة فرعاً تنفيذياً قوياً، لأنّه لا يمكن لأي مجتمعٍ أن يعيش بدون هذا الفرع. إنّهم بحاجةٍ إلى دولةٍ قويةٍ وفعّالةٍ وحديثةٍ يمكنها تركيز السلطة ونشرها عند الضرورة لحماية المجتمع والحفاظ على النظام العام وتقديم الخدمات العامة الأساسيّة. ما يميز الديموقراطية الليبرالية عن النظام الاستبدادي هو أنّها توازن بين سلطة الدولة ومؤسسات التقييد – أي حكم القانون والمساءلة الديمقراطية. تختلف نقطة التوازن الدقيقة بين مؤسسة السلطة الرئيسية، والسلطة التنفيذية، والمؤسسات المقيدة الأساسية (المحاكم والسلطة التشريعية) من ديمقراطيةٍ إلى أخرى، وتختلف أيضًا بمرور الوقت.

لا يقلّ هذا صدقًا في حالة الولايات المتّحدة عن أي ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ أخرى، على الرغم من امتلاكها ثقافةً سياسيةً تولّد انعدام الثقة الشديد في سلطة الدولة المركّزة والقانون المقدس والديمقراطية. كتب دستور الولايات المتحدة على خلفية ضعف وثائق الكونفدرالية. ألكسندر هاميلتون، وهو من المدافعين المتحمسين عن ما أسماه في “الفيدرالية رقم 70:”الطاقة في السلطة التنفيذية”، فهم جيّدًا الحاجة إلى قيودٍ قانونيةٍ وديمقراطيةٍ قويةٍ على السلطة التنفيذية. لكن هاميلتون جادل أيضًا بأنه لن تكون المحكمة ولا الكونجرس قادرين على التصرف بشكلٍ حاسمٍ في أوقات الخطر القومي. ستنشأ هذه المخاطر في أوقات الحرب أو العصيان الداخلي، لكنّها قد تنشأ أيضًا من أسبابٍ جديدةٍ، مثل الوباء العالمي الذي نواجهه الآن. تختلف أنواع السلطة الممنوحة للسلطة التنفيذية حسب الظروف؛ ما كان مناسبًا خلال وقت السلم ليس هو بالضرورة ما سيسود في أوقات الحرب أو الأزمات.

وهكذا أنشأ الدستور في المادة الثانية، فرعًا تنفيذيًّا ازداد قوةً وسلطةً في القرون التي تلت التأسيس. وقد دفع هذا النمو بحالات الطوارئ التي تطلّبت إجراءً تنفيذيًا قويًا، مثل الحرب الأهلية والحربين العالميتين والأزمات المالية التي حدثت في 1908 و 1929 و 2008. خلال الحرب الأهلية، قام أبراهام لينكولن بتعبئة جيشٍ من مليون رجل، على الرغم من أنّ الاتحاد يضمّ أقل من 20 مليون شخص. عندما أصبحت خطوط السكك الحديدية الأمريكية المطلوبة لتزويد الجهد الحربي في أوروبا متعثّرة بشكل ميؤوسٍ منه، قام وودرو ويلسون بتأميمها، وتحويلها إلى شركاتٍ مملوكةٍ للدولة. قام فرانكلين دي روزفلت بتنظيم جهدٍ حربيٍّ أكبر خلال الحرب العالمية الثانية، وتجاوز الكونجرس في التفاوض على الإقراض. خلال الأزمة المالية لعام 2008، تمّ تفويض مجلس الاحتياطي الفيدرالي سلطاتٍ غير مسبوقةٍ، حيث قام بتحويل مئات المليارات من الدولارات لدعم المؤسسات المالية المهمة للنظام (بما في ذلك العديد من المؤسسات الأجنبية) مع القليل من إشراف الكونجرس.

وهكذا تمكّنت الولايات المتّحدة من توليد كمياتٍ هائلةٍ من سلطة الدولة عند الضرورة. في أمريكا اللاتينية، منحت الهيئات التشريعية في كثير ٍمن الأحيان سلطات الطوارئ للرؤساء الذين احتفظوا بها وأصبحوا ديكتاتوريين فيما بعد. نرى اليوم عمليات انتزاعٍ مماثلةٍ للسلطة في المجر والفلبين. على النقيض من ذلك، تميل الولايات المتّحدة إلى إعادة السلطة إلى المجتمع بمجرد انتهاء حالة الطوارئ. تم تسريح الجيوش بسرعةٍ في 1865 و 1918 و 1945؛ أعاد ويلسون السكك الحديديّة إلى الملكيّة الخاصّة بعد بضع سنوات. السلطات الممنوحة للسلطة التنفيذية بموجب قانون باتريوت بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تمت استعادتها تدريجياً.

لذا، في حين أنّ أمريكا قد تكون بطيئةً في التصرف في البداية، ما تلبث أن تصل إلى السرعة المطلوبة، فمن المحتمل أن تتماثل مع قدرات معظم الحكومات الاستبدادية، بما في ذلك الصين. في الواقع، يمكن للمرء أن يجادل بأنه نظرًا لأنّ السلطة في الولايات المتّحدة شرعيةٌ ديمقراطيًا، فهي أكثر ديمومةً على المدى الطويل من سلطة الديكتاتورية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للحكومة أن تستفيد من الأفكار والمعلومات من المواطنين والمجتمع المدني بطريقةٍ لا تستطيع الصين القيام بها. وعلى الرغم من كل تلك الفدرالية الأمريكية التي تقسّم السلطة، فإنها تنشئ أيضًا مختبرًا من 50 ولاية للأفكار الجديدة. كان حكّام نيويورك وكاليفورنيا على استعدادٍ للتحرك بشكلٍ أسرع وأكثر حسماً في هذا الوباء من الحكومة الفيدرالية المتعثّرة. تفوّض الديمقراطية سلطات الطوارئ لسلطتها التنفيذية للتعامل مع التهديدات سريعة الحركة. لكن الاستعداد لتفويض السلطة واستخدامها الفعّال يعتمد على شيءٍ أساسيٍ قبل كل شيء، وهو الثقة في أنّ السلطة التنفيذية ستستخدم تلك السلطات الممنوحة لها بحكمةٍ وفعاليةٍ. وهنا تواجه الولايات المتحدة مشكلةً كبيرةً الآن.

الثقة مبنيةٌ على أساسين. أولاً: يجب أن يعتقد المواطنون أنّ حكومتهم لديها الخبرة والمعرفة التقنيّة والقدرة والحياد لاتخاذ أفضل الأحكام المتاحة. تتعلق القدرة ببساطةٍ بالحكومة التي لديها عددٌ كافٍ من الأشخاص الذين لديهم التدريب والمهارات المناسبة للقيام بالمهام الموكلة إليهم، من رجال الإطفاء المحليين ورجال الشرطة والعاملين الصحيين إلى المسؤولين التنفيذيين الحكوميين الّذين يتّخذون قراراتٍ عالية المستوى حول قضايا مثل الحجر الصحي وعمليات الإنقاذ. الثقة شيءٌ كان لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في أزمة عام 2008: فقد كان رئيسه بن برنانكي، أكاديميًا سابقًا درس الكساد الكبير بعمقٍ؛ ويعمل الاحتياطي الفيدرالي مع خبراءٍ اقتصاديين محترفين بدلاً من المعينين من قبل السياسيين الذين من المحتمل أن يفضلوا الأصدقاء والمقرّبين. الأساس الثاني: هو الثّقة في الطرف العلويّ من التسلسل الهرمي، بما يعني “في النظام الأمريكي” الرئيس. تمتّع لينكولن وويلسون وروزفلت بمستوياتٍ عاليةٍ من الثّقة خلال أزماتهم. كرؤساءٍ في زمن الحرب، نجح هذا الثلاثي في تحويل أنفسهم إلى رموزٍ في النضال الوطني. هكذا فعل جورج دبليو بوش في البداية بعد 11 سبتمبر، ولكن مع اشتداد غزوه للعراق، بدأ المواطنون يتساءلون عن تفويضات السلطة التي منحوها إياه عبر تشريعٍ مثل قانون باتريوت.

تواجه الولايات المتّحدة اليوم أزمة ثقةٍ سياسيةٍ. قاعدة ترامب – 35-40 في المائة من السكان الذين سوف يدعمونه بغض النظر عن أي شيء – تمّت تغذيتهم بقصص التآمر على مدى السنوات الأربع الماضية فيما يتعلّق بـ “الحالة العميقة”، وتم تعليمهم عدم الثقة في أي خبراء لا يدعمون الرئيس بنشاطٍ. يواصل الرئيس ترامب تشويه سمعة الوكالات التي يشعر بأنها معاديةٌ ويحاول تقويضها: مجتمع المخابرات، ووزارة العدل، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن القومي، وحتى الإدارة الوطنية لعلوم المحيطات والغلاف الجوي. شهدت العديد من الوكالات الإدارية استنزافًا مطّردًا لموظفي الخدمة المدنية المهنية في السنوات الأخيرة، حيث انتقلت مناصبٌ ذات مسؤوليةٍ كبيرةٍ إمّا إلى رؤساء الوكالات والمكاتب بالنيابة، أو إلى الأصدقاء السياسيين للرئيس مثل القائم بأعمال مدير الاستخبارات الوطنية ريتشارد جرينيل. مع قيام أحد الحزبين البالغ من العمر 29 عامًا بإجراء عملية تطهيرٍ للوكالات الفيدرالية، وضعت الإدارة الولاء الشخصي فوق الكفاءة. يبدو أنّ ترامب في طريقه إلى تهميش أنطوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، الموثوق به للغاية بسبب اختلافه معه علنًا.

كل ذلك يسّلط الضوء على حجم التحدي الذي يواجه الأساس الثاني: الثقة في الرئيس ودائرته المباشرة. لم يسع دونالد ترامب أبدًا، خلال ثلاث سنواتٍ ونصف السّنة من ولايته الرئاسية، للتواصل مع أكثر من نصف سكان الدولة الّذين لم يصوتوا لصالحه. لم يتخذ أيًّا من الخطوات البسيطة التي يمكن أن يضطر إليها لبناء الثقة. عندما سُئل مؤخرًا من قبل الصحفي عما سيقوله للأمريكيين الخائفين – سؤالٌ سهل الإجابة (سوفتبول) كان أيّ زعيمٍ آخر سيضربه خارج الحديقة – ذهب بدلاً عن ذلك إلى الثوران ضد السؤال والصحفي!

بسبب تردّد ترامب في أخذ وباء كوفيد-19 على محمل الجدّ، أصبح العديد من المحافظين ينكرون أننا في أزمةٍ من الأساس، ويصرّون على أنّ الذعر المحيط بـ الفيروس التاجي هو نتيجة مؤامرةٍ ديمقراطيةٍ لإنزال رئاسة ترامب. أعلن ترامب نفسه على أنّه رئيس “زمن الحرب”، أنّه يريد إعادة فتح البلاد بحلول عيد الفصح. وقد اعترف بأنّ هذا التاريخ لم يتم اختياره على أي أساسٍ وبائيٍ، ولكن لأنّه سيكون موعدًا “جميلًا” للكنائس. ربما كان يفكر في المشهد الوطني الخاص بعيد الشكر الذي يمكن أن يحيط به مسيرته، وكيف سيؤثّر ذلك على فرص إعادة انتخابه.

إنّ انعدام الثّقة الشديد الذي صنعه ترامب وإدارته، وانعدام الثقة في الحكومة التي غرسوها في مؤيديهم، ستكون له عواقب وخيمةٌ على السياسة. أصر الديمقراطيون على تضمين متطلبات الشفافيّة لاستخدام صندوق إنقاذ الشركات المدرجة في مشروع قانون الإغاثة البالغ 2 تريليون دولار والذي تم تمريره يوم الجمعة. وأكّدت إدارة ترامب في توقيعها، أنّها لن تكون ملزمةً بهذا البند، تمامًا كما رفضت إشراف الكونجرس أثناء إجراءات العزل. وهذا يضمن أنّ أي ممارسةٍ مستقبليةٍ لسلطات الطوارئ لمساعدة الشركات المتعثرة أو المناطق التي تضررت بشدةٍ سيتم تخمينها ثانيةً، وتخضع لاتّهامات المحسوبيّة من جانب إدارةٍ كانت سعيدةً حتى الآن بمكافأة المقرّبين.

في النهاية، لا أعتقد أنّنا سنتمكّن من التوصّل إلى استنتاجاتٍ عريضةٍ حول ما إذا كانت الديكتاتوريات أو الديمقراطيات أكثر قدرة على النجاة من الجائحة. كانت ديمقراطياتٌ مثل كوريا الجنوبية وألمانيا ناجحةً نسبياً حتى الآن في التعامل مع الأزمة، حتى لو كان أداء الولايات المتحدة أقل. ما يهم في النهاية ليس نوع النظام، ولكن ما إذا كان المواطنون يثقون في قادتهم، وما إذا كان هؤلاء القادة يرأسون دولة كفؤة وفعالة. وفي هذا الصدد يترك تعمق القبلية في أمريكا أسبابًا قليلةً للتفاؤل.

المصدر