مجلة حكمة

مسيرة انتصار: باربارا مكلينتوك – ستيفن غولد / ترجمة: سارة اللحيدان


مسيرة انتصار (باربارا مكلينتوك) / ستيفن غولد
غلاف الكتاب

 

سيكون من الفضاضة حقا أن نجادل بأن عرض واتسون وكريك للتركيب الولبي المزدوج للحمض النووي DNA عام 1953، كان أقل من كونه أحد أعظم الإنجازات العلمية في التاريخ الحديث. مع ذلك، وبطريقة ما، كان هذا الاكتشاف مختلفا عن بقية التقدمات الثورية العلمية بسبب طبيعته المحافظة بشكل مضاعف.  ففي البداية بدا أن الاكتشاف يصادق على النظرة الكنسية للأنظمة الوراثية على أنها اصطفاف لكريات (جينات) على أوتار (كروموسومات)، لينتهي إلى أن التطور يتقدم ببطء وبشكل تدريجي، مستندا في الأساس على جيل من الاختلاف الجيني الجديد (طفرة)، عبر تسليط الضوء على التغيرات داخل الكريات (استبدال قاعدة حمض نووي بأخرى تنتج حمضا أمينيا مختلفا في البروتين المترجم).

أما الأمر الآخر، فقد مثّل الاكتشاف أعظم انتصار حديث للمنهجية القياسية التي حكمت العلم الأرثوذكسي منذ ديكارت: أي الاختزالية ودعوتها المحددة (في هذه الحالة) التي تقول بإمكانية تفسير الأشكال المعقدة للكائنات الحية المكتملة على أنها منتجات منقولة من البرنامج الوراثي المشفر، وذلك بواسطة آلية بسيطة من أربعة قواعد مرتبة بشكل مختلف في ثلاث مجموعات. ألم يبنِ واتسون لولبه المزدوج كآلة لعب تركيبية بناء على أحجام الأجزاء المكوّنة وسعتها؟ ثم بعد ذلك، ألم يعلن كريك “المبدأ الأساسي-central dogma” لعلم الأحياء الجديد، بأن الحمض النووي يكوّن الحمض النووي الرايبوزي، وأن الحمض النووي الرايبوزي يكون البروتين، في تدفق معلوماتي باتجاه واحد، كعملية أحادية الاتجاه للبناء الآلي؟

بعد ثلاثين عاما، أصبحت هذه النظرة الديكارتيه للوراثة الجزيئية ملغاة، إذ بدلت الثورة الثانية نظرتنا للوراثة والتطور، ويعزى ذلك إلى قوة نموذج واتسون وكريك وغنى العلم الجيد بشكل عام. لنعرف الجينوم نقول بأنه: خلاصة المعلومات الوراثية للخلية، وليس مجموعة ثابتة من الكريات والأوتار تخضع للتغيير فقط عندما تُستبدل كرة بأخرى. فالجينوم سائل متحرك يتغير باستمرار من حيث النوع والكم، ويزخر بأنظمة تسلسلية من التنظيم والتحكم. أما الجين فيتكون من قطع يؤدي خلط أجزاءها إلى إنتاج تركيبات جديدة. ويمكن لبعض الجينات أن تستأصل نفسها من كروموسوم وتتحرك لمواقع أخرى في الجينوم، وإذا كانت هذه “العناصر القابلة للانتقال” تعمل كمنظّمة لتأصيل أو تنحية الجينات المتجاورة، فإن حركاتها إلى مواقع أخرى (وقرب جينات مختلفة) يمكن أن يكون له تأثيرات رئيسة في التحكم بالتطور وتوقيته. تقوم جينات أخرى بعمل نسخ من نفسها، حيث يمكن لهذه النسخ المتطابقة أن تقيم بجوار الأصل أو تتحرك نحو كروموسومات أخرى. وبهذه الطريقة يمكن تكرار مئات أو آلاف النسخ من الجين نفسه داخل البرنامج الوراثي للكائن الحي. ربما تتشعب هذه النسخ المتعددة “لعائلة الجين” خلال مهمتها، لتوفر بالتالي حلّا للمعضلة القديمة، حول كيفية تطور أي شيء جديد إذا كان إنتاج كافة الجينات لمنتجات أمر ضروري لبناء الكائن الحي ورفاهيته. (ربما تستمر النسخ الأصلية في صناعة المنتج المطلوب، بينما تكون النسخ الجديدة “حرة” للتعاقب والتجربة.)

إذا بدّلت هذه العمليات جينوما ساكنا مع آخر متحرك وخاضع لإعادة ترتيب سريع وعميق، فإن “المبدأ الأساسي” بتدفقه أحادي الاتجاه للمعلومات من الشفرة إلى المنتج سيكسر أيضا. يمكن للمادة المسماة “الإنزيم العكسي” أن تقرأ الحمض النووي الريبوزي داخل الحمض النووي وتُدرج مادة جديدة في البرنامج الوراثي بتشغيل عكسي على طول الطريق المفترض (أحادي الاتجاه) للمبدأ الأساسي. يستخدم صنف من الكائنات المسمى “الفيروسات الراجعة” هذا الطريق الرجعي حيث يضع مادة جديدة داخل الحمض النووي الكروموسومي من الخارج. بإيجاز نقول: تُبدّل مجموعة من السمات: في تحركها، تنظيمها، إعادة ترتيبها، وتفاعلها نظرتنا إلى الجينوم من كونه مصفوفات مستقيمة وثابتة، تتغير قطعة تلو أخرى، ومحمية من أي تفاعل مع منتجاتها، إلى أنظمة سائلة لديها إمكانية لإعادة تنظيم سريع، إلى جانب ردود فعل شاملة من منتجاتها الخاصة وأيضا من مصادر أخرى من الحمض النووي الريبوزي. إن النتائج المترتبة على علم الأجنة والتطور عميقة، ولم تستكشف على نطاق واسع.

تعدّ باربارا مكلينتوك العرابة والعقل المدبر للثورة الثانية. فقد كانت بداية علم الوراثة الجزيئية الحديث في اكتشافها للعناصر القابلة للانتقال في الذُرة- المسماة بالجينات القافزة-، والذي قُدّم لأول مرة في أوائل الخمسينات قبل أن يكون لتخصصها أي نية للخوض في هذه الفكرة البدعية. عانت باربارا مثلما عانى الكثير من الرواد، إذ احتار العديد من زملائها ولم يفهموا أو يستطيعوا قراءة خرائطها الخاصة للأرض المجهولة terra incognita. لكنها بمثابرة، وطول عمر، ونشاط مثمر بلا انقطاع، استطاعت أن تتجنب النهاية الحزينة للعديد من القصص الموجودة في سجلات المستكشفين، وعاشت لتتذوق طعم انتصارها في منتصف حياتها المهنية النشطة. في الثمانينات من عمرها، بقيت بارابارا ملتزمة بصرامة في استكشافها عن الذُرة داخل مختبراتها في كولد سبرينغ هاربور، حينها كانت قد ربحت كل جائزة كبرى منحها العلم أو العامة المعجبون، من جائزة ماك آرثر التقديرية إلى جائزة نوبل. والمفارقة البارزة، أن هذه المرأة بخصوصيتها الشديدة والتي عملت طوال حياتها لأجل مكافأة شخصية وفكرية، لم ترَ في هذا التقدير غير أنه أمر عائق ومزعج. (معظمنا، بكل فخر، يشعر بأنه مجبر على إبداء تعليق عام على التأثير الغيري، لكننا مع ذلك نحب أوسمة الشرف ونستمتع بالشهرة؛ أجزم أن باربارا مكلينتوك كانت فريدة من نوعها بانزعاجها الحقيقي من الشهرة أكثر من إثباتها).

مثل هذه الحكايات البطولية تكون غالبا مادة للأساطير البسيطة. لقد شجع الزج بمكلينتوك للتقدير العلني على وجود نسخ مبتذلة لما عملته، بالتالي، أخفيت قصة تلك المرأة حادة الذهن، وبطريقة منحرفة إن لم تكن غير مقصودة، أهينت العديد من إنجازاتها. تحاول التفسيرات المبتذلة أن تستخدمها كمثال على واحدة من قصتين أصيلتين في علم اجتماع العلوم إما 1- المرأة ذات الذكاء المتقد في الحقل العلمي، المرفوضة بسبب التحيز إما ضد لونها أو جنسها، أو 2- العبقرية المستقلة التي، بصرف النظر عن جهودها البطولية، لم تحصل على أي سمعة لأن زملائها ببساطة لم يكونوا يسمعون غيرها. لم تكن القصة سهلة أبدا، ولم تكن تناقضا واضحا بين عبقرية فردية لا تشوبها شائبة وبين مؤسسة جاهلة. مثلما ساعد عمل مكلينتوك على كسر “المبدأ الأساسي” وبناء تفاعل بين الشفرة والمنتج، كذلك يجب أن تطرح القصة المعقدة لرفضها الذي دام طويلا، كتداخل بين خصوصيتها وردود فعل زملائها.

تكمن قوة كتاب كيلر في محاولتها الناجحة لتفادي الأساطير والتركيز على حدة الذهن العالية، لتقدم بذلك فهما نادرا وعميقا لحكاية مقلقة في تاريخ العلوم وما صاحبها من رفض أولي (أو بإحباط أدق، عدم فهم) للأفكار العظيمة. كيلر التي كتبت بقوة أكبر عن تجارب النساء في العلوم (انظر كتابها السابق Working it out – تحصيل النجاح) تفهم على نحو خاص لم لا يمكن لهذا الموضوع أن يقدم شرحا وافيا لمهنة شخصية مميزة مثل باربارا مكلينتوك .

 مع ذلك، وعلى طريقة شرط22 (حالة متناقضة يعجز الفرد الفرار منها بسبب الشروط المتناقضة-المترجمة) ساهم التفرد الذي جعل مكلينتوك شخصا رائعا، والذي حال دون أن تكون نموذجا بدائيا لأي حكاية نموذجية، بالحدّ من إنجازات كيلر لأسباب خارجة عن إرادتها. إذا كان نجاح باربارا بسبب قدرة غير عادية للعمل لرضائها الشخصي بدلا من نيل استحسان زملائها، مما جعلها تمضي باتزان وشجاعة طوال سنوات رفضها، فإن حب الخصوصية قد جعلها من أكثر الشخصيات التي لا يرغب أحد بكتابة سيرة ذاتية عنها. مع هذا، فقد زودّت كيلر بمواد ثمينة وقليلة من النوع الذي يمكن أن تخرج منها بقصة جيدة، إضافة لأخبار واقعية جيدة من هنا وهناك (لكن أقل من السجل العام)، وتقريبا لا يوجد تفسير لمشاعرها ودوافعها.

فشل الموضوع الأول في الكتاب “المرأة في حقل العلوم” بشرح سنواتها الطويلة من الوحدة الفكرية بعد اكتشافها “الجينات القافزة” في الذُرة. لا أقول بالطبع أنها لم تعانِ من أي تحيز على أساس الجنس، فقد كان هذا التحيز منتشرا وأثّر على كل مرحلة من مراحل مسيرتها التطورية إلى خسارة عملية. إلا إننا يمكن أن نشوّه سمعة إنجازاتها الملحوظة عندما نعزوها إلى سنوات العزلة بوصفها العامل الأبرز في تاريخها الفكري، متجاهلين التحيز الأعمى الذي لم تكن لها إرادة عليه. بالنسبة لباربارا، فقد تغلبت على هذه التحيزات المنتشرة بتألق ملحوظ في عملها قبل اكتشافها العناصر القابلة للانتقال في الذُرة بوقت طويل.

تمحو الإنجازات العظيمة في الغالب ذاكرة العامة وتعيد تشغيل ساعة الشخص المهنية. داروين على سبيل المثال كان له مهنة ناجحة كجيولوجي قبل أن ينشر كلمة عن أصل الأنواع، لكن كم من معجبيه و مشوّهي سمعته علموا أنه حل مشكلة أصل الشعب المرجانية؟ وحينما كُرّمت مكلينتوك على الجينات القافزة التي قادت الثورة الثانية لعلم الوراثة الجزيئية، إلا أن العديد ممن علقوا على ذلك لم يدركوا أن العناصر القابلة للانتقال لم تكن اكتشاف باحثة شابة هشّة وحسب، بل خطوة متقدمة بُنيت على مهنة مميزة وملحوظة.

إن العلماء لا يستطيعون النظر بوعي إلى الأمور غير المتوقعة، فقد وجدت مكلينتوك العناصر القابلة للانتقال أثناء تحققها من مسألة أخرى، ثم تجاهلها علماء الوراثة على نطاق واسع، لكن لأهميتها المركزية لدراسة التطور، فقد لائم الاكتشاف بشكل خاص مواهب مكلينتوك . لقد أرادت أن تعرف كيف تؤثر بعض الجينات على توقيت التطور بواسطة ضبط نشاط الجينات الأخرى التي تبني أجزاء من الجسد. الذُرة على وجه التحديد تعتبر مناسبة جدا لمثل هذه الدراسات، لأن الفروق في التوقيت تترجم غالبا إلى تأثيرات واضحة في القشرة والنواة. زملاؤها الاختزاليون الذين تجنبوا مثل هذه الكائنات المعقدة، وحاولوا الاقتراب من الجزيئات عبر التلاعب بأبسط الكائنات أحادية الخلية- لم يكونوا حينها يدرسون مشكلة التنظيم، رغم أن العديد من علماء الوراثة الجزيئية يقومون بها اليوم، وذلك لأن المسألة تعتبر أساسية لما عبر عنه أرسطو بالمشكلة الرئيسة للأحياء: تطور الشكل العضوي. لقد وجدت مكلينتوك العناصر التنظيمية في الذُرة ثم، صدفة بينما هي تبحث في عناصرها الوراثية اكتشفت أنها تتحرك.

استطاعت مكلينتوك دراسة المشكلة الصعبة للتنظيم بنجاح، لأنها مضت في مهنتها كواحدة من أميز طلاب أمريكا في علم الوراثة الخلوية: وهو فرع من علوم الأحياء، يدرس الأسس المادية للوراثة عبر ربط الأنماط الجينية الملحوظة مع التركيب البنائي للكروموسوم والمكونات الأخرى للخلية. قادت مكلينتوك الحقبة الحديثة لوراثة الذرة في سلسلة من الدراسات الحذرة التي طورت تقنيات لتسمية، تصور، وتمييز عشرة أزواج من الكروموسومات التي تحمل برنامج الحمض النووي للذُرة. قامت أيضا بسلسلة تجارب كلاسيكية في علم الوراثة الخلوية، والتي أسست القاعدة المادية للمبادئ الأساسية للوراثة. كان أشهرها الدليل الذي نشر بمصاحبة هارييت كارينغتون عام 1931، أن الكروموسومات تحمل بالفعل البرنامج الوراثي الجيني في ترتيب مستقيم، ألمحت له تجارب التربية التقليدية للتكاثر المندلي. (أنجزت ذلك عبر دراسة عملية تسمى “العبور فوق” والتي تتزاوج فيها الكروموسومات خلال الانقسام الاختزالي-الانقسام الذي يشكل البويضة والحيوان المنوي- وتبادل الجينات. أثبتت باربارا أن هذا التقاطع الجيني يتوافق تماما مع الانقطاع والتبادل المشترك للأجزاء الكروموسومية.)

لهذا العمل الريادي الأنيق، وفي مواجهتها العوائق المستمرة التي تثيرها التحيزات ضد المرأة في العلوم، اُعترف بمكلينتوك وكُرمت من قبل زملائها. وقد شغلت منصب نائب الرئيس للجمعية الأمريكية للعلوم الوراثية عام 1939، وكرئيسة عام 1945. ثم وصلت عام 1944 إلى قمة الاعتراف بها من زملائها في العلوم الأمريكية وأصبحت ثالث امرأة تنتخب للأكاديمية الوطنية للعلوم. في ذلك اللحين، كتبت إلى ترايسي سونيبورن في الإحالة الوحيدة الحديثة الواضحة التي قدمتها في (تنويه لكيلر) حول مشاكل النساء:

لقد كان من حكمتك وكرمك أن تكتبي لي كما فعلتِ فيما يتعلق بالأكاديمية الوطنية. عليّ أن اعترف بأنني كنت مذهولة. لقد اعتاد اليهود والنساء والزنوج على الفصل العنصري، ولم أتوقع المزيد. لست نسوية، لكنني استمتع دوما عندما تكسر الحواجز غير المنطقية… لتساعدنا جميعا.

لقد عانت مكلينتوك بكل تأكيد من كافة التحيزات الموجهة ضد النساء في مجال العلوم، خفية كانت أم صريحة، لكنها تغلبت عليها بقوة عبقريتها الشخصية، وقوة داخلية هائلة لم يكن القليل منا يأمل بامتلاكها. فلن تكون بمثابة نموذج لهذا الموضوع المُشكل، ولن تفسر هذه المشكلة الحدث الأساس في حياتها العامة الصمت المتحجر الذي رافق أهم اكتشاف لها “العناصر القابلة للانتقال”.

الموضوع الثاني، عبقريتها التي كانت سابقة لزمانها، ولم يستطع أحد فهمها- تحوي حقيقة جزئية لكنها لن تفي بالغرض، ذلك لأنها تزيف كافة التفسيرات التي تخص ردود الفعل الخارجية، والتي كانت خارج تحكم مكلينتوك . يمكن عزو تحوّلها من عالمة فذة إلى منبوذة إلى أسلوبها الشخصي، وبالقدر نفسه إلى قصور زملائها في إدراكهم أي فكرة جديدة جذرية.

عملت مكلينتوك على نفسها دوما بطريقتها الخاصة، ولم تكيف جهودها لتفوز بالقبول، أو حتى تعزز فهم أولئك الذين يحتاجون للنصح أو التوضيح كي يقدروا ما هو غير تقليدي. فقدت الوظيفة الأكاديمية الوحيدة التي حصلت عليها (في جامعة ميزوري، حيث تستطيع النساء، ويمنحن أحيانا، نيل الترقية) نتيجة تفضيلاتها الشخصية (كانت تنفر من تدريس فصول رسمية، وتحتقر ما أسماه القسم الأكاديمي “المواطنة الصالحة” وهو بالأساس تعبير لطيف للخضوع لعدد هائل وفارغ من ساعات العمل الملتزم.) بعض الخصوصيات التي وصفتها كيلر هي أمور معتدلة بالطبع، ولذا يجب علينا قبول حجتها بأن اجتماع التمرد وكون بارابار امرأة قد أدى أخيرا إلى إقالتها. (في أحد الأيام على سبيل المثال، وصلت إلى مختبرها بدون مفاتيح، فصعدت على جانب المبنى ودخلت زحفا من النافذة، كل هذا بحضور غير متوقع لمصور خفي. لكن ماذا يمكن أيضا أن تفعل؟ من سيمتنع عن هذه الحيل البهلوانية في ظروف كهذه؟ شخصيا سأفعلها بكل تأكيد.)

الأهم من ذلك أنها لم تقدم ما بوسعها لتعزيز فرصها في المعركة القاسية، كي تُقبل وتُفهم العناصر القابلة للانتقال. بل خططت لحملة ثانوية، فكتبت ورقة تمهيدية لتقديم حلقة دراسية للأشخاص الرئيسين في كولد سبرينغ هاربور. لكن عندما اصطدمت هذه المعارك باستجابة ضعيفة وعدم فهم عام، قامت بطيّ مشاريعها. مع شجاعتها المعتادة واعتدادها بنفسها (رغم أن ذلك، بالطبع، لم يمر دون خيبة أمل مريرة)، وباستخدام نسخة تخصها من عبارة قديمة تقول “ضايقهم”، تقدمت باربارا سريعا بأسلوبها الخاص، على علم بأنها على حق وأن بقية العالم سيلحق بها في النهاية. قامت بنشر معظم أعمالها التالية في التقارير السنوية لمختبراتها، الذي كان بكل تأكيد مكانا مشؤوما لنشر ثورة علمية. لقد قمت بقراءة ورقاتها الرئيسة، وأقل ما يقال عنها، أنها شقت طريقها بصعوبة بالغة. كان زملاؤها أعاجيب من نوعهم، بأصواتهم السلبية الصارمة، وإصرارهم على المنطق المعقد والتجربة، وبالطبع لم يكونوا نماذج جيدة للتواصل الأمثل. تزعم كيلر، أن السبب الثالث في تفوق النوع والحماقة الجماعية، كان مردّه إلى أسلوبه مكلينتوك غير التقليدي في التفكير العلمي، والذي يفسر السنوات التي قضتها وحيدة كنبيّ يحمل رسالة ولا يجد من يسمعه. إن إلهامها المختلف يتجاوز كونه مجرد نزاع تجريبي، ويتبنى نموذج تفكير غريب لإجراءات معظم العلوم التجريبية.

الأول، وهو الأعم، أن مكلينتوك لا تتّبع أسلوب التفكير المنطقي والتسلسلي في التفكير، والذي غالبا ما يكون نموذجا أساسيا للتفكير في العلوم. فهي تمضي بطريقة عملها في فطنة عالمية بديهية. فإذا وقعت في مشكلة لن تضعها في ترتيب صارم، وتكتب العواقب المستخلصة لتعمل عليها خطوة بخطوة، بل ستقوم برحلة مشي طويلة أو تجلس في الغابة وتحاول التفكير في شيء مختلف، على ثقة بأن الحل سيأتي لها في نهاية المطاف. ساهم هذا الإجراء بجعل العلماء مشككين في أمرها، ولطالما وصفها زملائها بـ “الصوفية” لا على سبيل التقدير بل الازدراء.

ليس هناك كلمة غير مناسبة أكثر من “صوفية” لتطبق على هذا النوع من التفكير. وهو يعد إجراءً معروفا عند بعض الأشخاص رغم ندرته، (وبكل تأكيد لا يحمل تقديرا عاما) في الحقل العلمي. لم يكن هذا النوع صوفيا، ولا بتحريف آخر، أنثويا، كمقابلٍ لسمة الشخصية الذكورية. نلقبه بالأسلوب الغامض لأنه ما من كلمات جيدة أو مفاهيم في لغتنا الواسعة لنعبر بها عن هذا الأسلوب. لدي حساسية شخصية لتشويه سمعته، لأنه صدف وأنه كان أسلوبي في عملي الخاص (فأنا حالة ميؤوس منها في التسلسل الاستنتاجي، ولم اكتشف مرة حل لغز لقصة أجاثا كريستي أو شيرلوك هولمز-ربما يكون ذلك أفضل تنميط تمثيلي لهذا النموذج التقليدي. كذلك لم أحرز جيدا فيما يسمى بالاختبارات الموضوعية للذكاء، لأنها تشدد على التفكير المنطقي، ولا تحبس ذلك الأسلوب التكاملي المتزامن للكثير من الأجزاء داخل تراكيب فردية. بالطبع، تختلف مكلينتوك عني كونها عبقرية تستطيع الاعتماد على رؤية تكاملية لحل المشاكل العلمية الرئيسة: بينما ليس بوسعي إلا أن اتأكد أن الملخص “السليم” للمقال سيخرج مني في نهاية المطاف).

في ظنّي أن أفضل وصف لهذا الأسلوب، لم يقدمه عالم نفس أو أعصاب، بل كاتبة غامضة تدعى دورثي سايرس، التي -بقناعتي الشخصية- اعتقد أنها عملت على هذا النحو بنفسها، وأسست شخصية لورد بيتر ويمزي كترياق شعوري للاستنتاج المنطقي التقليدي لشيرلوك هولمز. لم يكن ويمزي أخرق فكريا و(على طراز الطبقات العليا المعصومة) لم يكن رومانسيا، غامضا، وصوفيا. لكنه قد حلّ قضاياه من خلال رؤية تكاملية (وهو ما أفهمه عادة). في رواية ويمزي الأولى (لمن الجسد) والذي يصف فيها ويمزي العملية بوضوح:

ثم حدث ذلك-الأمر الذي توقعه وهو نصف واع. حدث فجأة، ليس للخطأ مجالا فيه، تماما مثل شروق الشمس. لقد تذكر، ليس شيئا واحدا، ولا شيئا آخر، ولا التعاقب المنطقي للأشياء، بل كل شيء- تذكر الأمر كله، كاملا، تاما بكل أبعاده كما كان وعلى الفور؛ كما لو أنه وقف خارج العالم ورآه معلقا في أبعاد الفضاء اللامحدود. فلم يعد بحاجة للتفكير فيه، أو منطقته، هو يعرفه وحسب.

الأمر الثاني وهو الأهم، مارست مكلينتوك بشكل خاص أسلوبا أحيائيا غريبا عن معايير الأحياء الجزيئية والوراثية (والذي شُوهت سمعته، غالبا، وبشكل صريح من قبل رؤساء هذه المهن، وإن كان الأمر أندر في الوقت الحالي من السابق، مع تزايد التقدير والاعتراف.) تنبهت كيلر إلى هذا الأسلوب في عنوانها الذي اختارته بعناية “شعور تجاه الكائن الحي-A feeling for the organism”. تعمل العلوم التجريبية عادة (مثل الاحياء الجزيئية) في نموذج اختزالي، في محاولة لإنشاء سلاسل مستقيمة وبسيطة للسبب والتأثير. حيث يفضل العلماء التفسيرات المنبثقة من أدنى مستوى من الجزيئات وخصائصها الفيز-كيميائية. وللوصول إلى هذا المستوى “الأساسي” يقومون بالعمل مع أبسط الكائنات الحية، ويحاولون بوعي تجنب الفردية لأي مخلوق معين. إنهم يركزون عوضا عن ذلك على الخصائص القابلة للتكرار للمجموعات الكبيرة (بحيث يصبح مستنسخ البكتيريا نظيرا لمجموعة ذرات بدون فردية في تعريفها).

كان لهذا النمط انتصار ملحوظ في البيولوجيا، رغم ذلك أعتقد أنه وصل الحدود الحاسمة في محاولة فهم الأنظمة الجينية وتفاعلاتها المعقدة مع الشكل المتطور للكائنات الحية. علينا الاعتراف أيضا بأن مكلينتوك استكشفت العناصر القابلة للانتقال بطريقتها المختلفة في العمل، الاكتشاف الذي أثبت مكانتها ورفعها لمنزلة التنافس، إضافة للاعتراف العلني من علماء الأحياء الجزيئية الذين عملوا مع كائنات حية بسيطة وحيدة الخلية، كأشياء مادية.

لم يكن أسلوب مكلينتوك غير مألوف، بل لم يستخدم بشكل واسع في مجالها الفرعي لعلم الأحياء- لقد كان في الواقع الإجراء النظامي الخاص بي- لعلم الأحياء التطوري والتصنيفي. نحن نعمل مباشرة مع الكائنات الحية المعقدة وتفاعلها مع بعضها البعض وبيئتها الفيزيائية في النمو وحياة البلوغ. إذ نقبل فردية كل كائن حي كغير قابل للاختزال بشكل أساسي، مثل تفرد علوم الأحياء وتعقيدها. (هذه الفردية، على سبيل المثال، مصدر التطور الدارويني، بما أن الانتقاء الطبيعي لا يمكن أن يعمل مالم يقدم السكان سلسلة واسعة من الاختلافات بين أعضائهم المؤسسين.)

اختارت مكلينتوك الكائن الحي الذي اجتنبه معظم علماء الوراثة الجزيئية لكونه متمرد وميؤوس من أن يكتشف منه أي شيء أساسي عن الأنظمة الوراثية. تنمي الذُرة جيلا واحدا فقط في السنة، وتخضع أجزاءها المتعددة إلى ترتيب مذهل لتعديلات غير مشفرة تستجيب لبيئات النمو المحلية. (يمكن أن تنقسم البكتيريا خلال عشرين دقيقة. حيث يمكن لمليارات منها أن تتولد بسهولة دون فردية قابلة للتمييز- تحفظ لطفرات قيمة وجديدة يمكن استنساخها من قبل المليارات نفسها.) آمنت مكلينتوك دوما بأنه يجب على المرء أن يتبع الميزات الغريبة في الأفراد، وليس الخصائص الجماعية في الأفراد. إنها عالمة أحياء تصنيفية حقيقية، طبيعية لا صوفية، تعمل في مجال لا يعرف (وغالبا معزول عن) هذا الطريق. قامت بإخبار كيلر:

 على أحدهم أن يفهم كيف تنمو، يفهم أجزاءها، يفهم عندما يقع أي أمر خاطئ بشأنها. (إن الكائن الحي) ليس مجرد قطعة بلاستيك، إنه شيء يتأثر باستمرار من البيئة، ويظهر باستمرار ميزات أو عجز في نموه… لا يوجد نبتتين متماثلتين تماما.. بدأت من البذور، ولم أرغب بتركها. لا أشعر بأنني أعرف القصة مالم أرى النبتة تنمو على طول المدى. لذلك أعرف كل نبتة في الحقل، أعرفهم بشكل حميمي، وأجد أن معرفتهم مبعث سرور عظيم لي.

أرى أن هناك درسا مبهجا من قصة مكلينتوك وانتصارها بأسلوب غير تقليدي. لقد اختارت أن تعمل كعالمة طبيعة مع كائنات معقدة، لم يكن معظم زملائها ليلمسوها. بواسطة الذُرة، استطاعت أن تدرس المشاكل الأساسية التي لا تمثلها البكتيريا بشكل جيد، كالتنظيم الوراثي للتوقيت في النمو والتكوين على سبيل المثال. لكن عندما قدمت اكتشافها العظيم وغير المتوقع للعناصر القابلة للانتقال، تطلب التأكيد والتعميم إجراءات مختلفة للوراثة الجزيئية الاختزالية. علم الأحياء وحدة، ولن تُحلّ معضلة أرسطو حول التكوين، أصل وتطور الشكل العضوي، حتى نوحد الأساليب المميزة للتاريخ الطبيعي والتجربة الاختزالية. لقد مهدت باربارا مكلينتوك ، بـ “شعورها تجاه الكائن الحي” وقدرتها الخارقة للطبيعة على إجراء أدق التجارب وأروعها، الطريق بشكل أفضل من أي عالم آخر أعرفه.

 

 

المصدر