مجلة حكمة
حِكاياتُ فتحي عبد الصمد أَقَاصِيصٌ يَابَانِيَّةٌ بعيونٍ مِصريَّةٍ

حِكاياتُ فتحي عبد الصمد: أَقَاصِيصٌ يَابَانِيَّةٌ بعيونٍ مِصريَّةٍ

إعداد وتقديممحمد سماحة
  • في البدايةِ – كان الوَميض!

دَلَف د. أحمد رحمي الأستاذ الزائر بجامعةِ طوكيو والمُتَرجِمُ عن اليابانيَّةِ – الذي قضى دهرًا في أروقةِ هذهِ اللغةِ ينهلُ من رحائقِ مُفرداتها، واصطلاحاتِ لِسانِها، وثقافةِ مُتكلِّميها – إلى فيافي الوُريقاتِ المُتناثِرةِ في عقلهِ الباطِنِ صائِلاً بينها وجائلاً في سُطُورها، مُتنقِّلاً بين أشكالِ البيان، والتصاويرِ الحِسانِ، يبتغي مَعين الذكرياتِ، ويرومُ قالبًا يبثُّه خواطِر الفؤادِ وحديثَ القَلَمِ حتى ساقتهُ بناتُ أفكارهِ إلى فسحةِ وادي عَبقَر، تلك الصحراءِ الشاسعةِ التي تتلألأ فيها حبَّاتُ الحبرِ، وأنصاف الأفكار المُلقاة على جانبيِّ الطريق، والتي تخطاها الكاتب أسوةً بأجدادنا بني يَعرُب باحِثًا، مُنقِّبًا عن الإلهامِ، حتى أتاهُ الوَميض!

” إنَّ الأسفار ولا شك تُعدُّ مُولِّدات للأفكارِ، حيث يَكونُ قليل من الأماكنِ أكثر مُلاءمة لتحريكِ المُحادثاتِ الداخليَّةِ مع الذات من طائرةٍ مُتحرِّكَةٍ أو سفينةٍ أو قطارٍ. وتوجد علاقةٌ غريبةٌ تَقريبًا بين ما يتمثَّل أمام أعيننا والأفكار التي يمكننا أن نُكوِّنها في رؤوسنا عمَّا نراه ” ألان دو بوتون (فيلسوف فرنسي، فن السفر، ترجمتي*)

تمخَّض الوميضُ عن رحلةِ أعينٍ نافذةٍ لمُغتربٍ مِصريّ، نَزل منذُ عقود بأراضٍ شرقيَّةٍ لا تختلفُ كثيرًا في كونِها مُحافِظةً أخلاقيًا عن موطنهِ الأمّ، أو هذا ما خالهُ الشاب المصريّ في بدايةِ رحلتهِ لكنَّهُ صُدِم بمُجتمعٍ مُتسارعٍ تتقطَّع أوصالهُ بين قيمِ الأصوليَّةِ والحداثةِ الرأسماليَّةِ، فانكبَّ باحثنا الذي مضى تصقلهُ السنون والدراسات، يُقلِّبُ ناظريهِ وفكرهُ في أحوال هذا المُجتمعِ تارةً، ويُجالِسُ الكتب والمخطوطات تارةً أخرى، حتى استقرَّ بهِ الأمر أن يُودِع جُلِّ مُشاهداتهِ وخبراتهِ، وعلمهِ وذكرياتهِ، في رحلةٍ أدبيَّةٍ لشابٍ مصريِّ طفق يرصُدُ من خلالها أطوار هذا المُجتمعِ الذي كان يمرُّ في وقتٍ عصيب بظرفٍ صعيبٍ فرض عليهِ الانتقال من دِثارِ اعتزاليَّةٍ  Isolationism اكتسى بها قسرًا لقرونٍ طوالٍ منذ انتهاء الحرب الأهليَّةِ، وترسيخ دعائم حكم الشوغونات (القيادات العسكريَّةِ للعشائرِ والمناطِقِ) تحت لواء إياياسو توكوغاوا عام 1653 إلى أسمالِ تعدُّديَّةٍ ثقافيَّةٍ multiculturalism فُرِضَت عليهِ بقوَّةِ السلاحِ هي الأخرى، أو تَحَوَّل من الانغلاق على الذات، والانكفاء على الهُويَّةِ القوميَّةِ والعادات التي كانت تُفرِّق أبناء الشمس عن البرابرة في فِترة ما قبل الحرب العالميَّةِ الثانيةِ إلى ما أسماهُ المُنظِّرُ اليابانيِّ الأمريكيِّ فوكوياما: “الهوية الإنسانيَّة العالميَّةِ” أو الهوية التي تذوب فيها انتماءات البشر بأنواعها من: فكريةٍ، ودينيَّةٍ وسياسيَّةٍ، واقتصاديَّةٍ، ووطنيَّةٍ ليندمجوا في منظومة القيم التي تفرضها العولمة الليبراليَّة، أي تلك الحالة التي تُصبح فيها الدول تستقي قيمها “من الأفكار العالمية” وتحديدًا ثقافة الحداثة الليبراليَّةِ (الرأسماليَّةِ) بقيمها العالميَّةِ universal ethics التي وصفها المُنظِّر السياسيّ الأمريكيّ جوزيف ناي قائلاً: “عندما تحتوي ثقافة مجتمع ما على قيم عالمية، وتروج سياساته قيمًا ومصالح يشاركه فيها الآخرون، فإنه يزيد من إمكانية حصوله على النتائج المرغوبة بسبب علاقاته التي يخلقها من الجاذبية والواجب، على العكس من ذلك القيم الضيقة لثقافة ما يقل احتمال إنتاجها للقوة الناعمة“، التي تُصبح بدورها هُويةً إنسانويَّة Humanist Identity ينتمي إليها الناسُ أجمعين عِوضًا عن الثقافةِ الخاصة التي امتازت بها المُجتمعات قديمًا.

” إنَّ المِحنةِ هي من غير شكٍ مُعلِّمٌ كبير، ولكن هذا المُعلِّم يتقاضى غاليًا ثَمَن دروسهِ، وأغلب الأمر أن ما يُجنيهِ المرءُ من فائدةٍ من ورائها لا يَعدُلُ الثَمَنَ الذي تكلَّفته” جان جاك روسو (أحلام يقظة جوال مُنفرِد)
  • قاصٌ ينسِجُ حكايته: على عتباتِ عالمٍ جديد

في بدايةِ حكايتنا يَفِدُ بطلنا فتحي فتىً صغيرًا إلى اليابانِ بصُحبةِ والدهِ إمام المُسجدِ ليكونا من قُوامِ الرعيلِ الأول من المُسلمين الشرق أوسطيين في اليابان (حيث دخل الإسلام تلك الأراضي بفضل علاقة الإمبراطوريتين اليابانيَّةِ والعثمانيَّةِ).

يدخل فتانا المدرسةِ، ولأن تقاطيعه أجنبيَّةٍ وثقافتهِ مُختلفة فإنه لا يسلم من تنمُّرِ أقرانهِ عليهِ، حتى يتعرَّف على صديقهِ ميغيتا هيروشي، ولم تنتهِ مُعاناة بطلنا ومِحنتهِ عندَ التنمُّر بل إنهُ بات الآن يعيشُ في مُعتركٍ تُعمّرُهُ نارًا تلَّظى، يصلاها الكل بها أشقى، بعدما اندفعت الطائرات الأمريكيَّةِ وضربت اليابان بقنبلتين نوويتين، فجعلت عاليها سافلها ودمرتها تدميرا.

انطلق فتحي أثناء ذلك، وقدَّ تفرَّق جمعه عن أبيهِ، يضرِبُ في الأرضِ على غير هُدى صُحبة صديقهِ ميغيتا وأُختِ صديقهِ، وصار ثلاثتهم يبحثان مرةً عن أم ميغيتا، وأخرى يبحثان عن مكانٍ يأويهما إلى أن يُجهِزُ داءُ سوء التغذيةِ Severe malnutrition العُضال ومَرضُها القتَّال على أختِ نيغيتا ويُرديها قتيلة.

يدفنها الشابان، وينطلقان ليستكملا رحلةِ هروبهما في عقارب الأرض التي تغيضُ بالأنقاضِ، والأطلالِ، والنحيبِ، والعويلِ، والناسُ أشِحَّةٌ عليهما، لمَّا عادهم الرعبُ، نظروا إليهما تدور أعينهم كالذي يُغشى عليهِ من الموتِ، يفِرُّ الواحد منهم من أبيهِ، وأمهِ، وأخيهِ، وصاحبتهِ، وبنيهِ، تاركًا داره التي تؤويهِ، ليُجهِز سوء التغذية على ميغيتا أيضًا، ويلفي فتحي نفسهُ وحيدًا، شريدًا في أرضٍ غريبةٍ عنه، يرتعِشُ قلبه فرقًا، ما له في الأمانِ من خَلاَق.

تمشى فتانا المذعورُ في سوقٍ بعدها، في الآنِ نفسهِ الذي وقعت فيهِ سرقة، رُمي بها بطلنا لاختلافِ تقاسيم وجههِ عن الحاضرين، وعُنِّف بشدَّةٍ على جريرةٍ لم يقترفها، ثم اقتيد على أثرِ ذلك إلى الإصلاحيَّةِ حيث لبث عامينِ يُعاني شظفِ العيشِ.

تعرَّف فتحي إلى ميتشيا الذي قَبِعَ خلف أسوارِ الإصلاحيَّةِ معه على خلفيَّةِ الاتهام ذاتهِ، وتوطَّدَت بينهما عُرى الصَدَاقَةِ، وعلى مرِّ الأيام أُطلق سراحُ الشابينِ كليهما، إلا أنَّهما غدوا من الخارجين على القانون (هذهِ المرة على نحوٍ حقيقيٍّ في حالة فتحي) ولم يُهذِّبهما الحَبس لأن السجون والإصلاحيَّات كما وصفها “فوكو” هي: “مراكز التجنيدِ المُثلى لتجييش الناس في جحافلِ الخارجين عن القانون ومُرتكبي الجرائِمَ، وهذهِ هي المهمَّةِ الوحيدة التي تنجح فيها مثل هذهِ الأماكن بدقَّةٍ“. 

بعد فترةٍ، انتقل الصبيان كلاهما للعيشِ مع أحد أصدقاء والد ميتشيا، الذي عاملهما بدُورهِ كولديهِ، وأغدق عليهما المال، وأعانهما على استكمالِ تعليمهما الثانويِّ، حتى إنَّهُ قامَ بتوظيفِ فتحي في إحدى شركاتهِ، إلا أن تلك الهناءةُ سُرعان ما تبددت، ونَفِد حظُّ فتحي من التنعُّمِ عندما وقعت عيناهُ على “يوكاري” زوجةِ أبيهِ الجديد.

استَقبَلَ فتحي ظهور يوكاري في حياتهِ بطريقينِ مُختلفينِ فهي الأم التي أحاطتهُ بسابغِ عنايتها، وأشربتهُ الحنانَ والرحمة، وهي أيضًا الغادة الثلاثينيَّة فائرةُ الأنوثةِ الناهِدِ التي ملأت عليهِ أحلامه، وحفَّزت غرائزه بحضورها، وجمالِ عُودِها، وسقط فتانا في حبائلِ حُسن معشرها مُغرمًا مُتيَّمًا بها واشتعل في صدرهِ الصراع بين الواجبِ والذنبِ، والرغبةِ البوهيميَّةِ العارمة التي عصفت بسفاهةِ حُلمهِ وصِغَرِ سنَّهِ، وهو ابن السبعة عشرِ ربيعًا، الذي يترعُ في شِباكِ المُراهقة!

إذا اتبعنا نزواتنا البدائيَّة التي تحكم سلوكياتنا في مرحلةٍ ما من حياتنا فنحنُ لسنا مُذنبين بقدرِ ذنب نهرِ النيل الذي تتدفَّقُ مياهه بالفيضانات، أو كالبحارِ التي تجري مياهها بالأمواج، إنه أمر طبيعيالمركيز دو ساد.

للأسفِ، كان فتانا في هذهِ المرحلةِ الحَرجةِ من حياتهِ، وكان قلبه يتمزَّق بين اشتهاءِ “يوكاري” وبين إحساسهِ بالذنب، وسجودهِ لله جلَّ في عُلاه واقترابهِ منه، إلا أن الأقاويل تكاثرت حول فتحي ويوكاري حتى إنه أشيع في بيتهما من جانب أمِ يوكاري نفسها أن ابنتها رُبما اضطجعت رفقة الأجنبي الذي كانت ترى في اجتلابهِ لمنزلهم نذير شؤمٍ ذميم.

باح فتحي بمشاعره لإحدى الواشيات قريبات العائلة، في الوقت نفسهِ الذي عُثِرَ فيهِ على جواب اعترافٍ بالحب خطَّهُ فتحي وأرسله ليوكاري ذات أمسية وهو يتلهى رفقة أصدقائهِ، وخرج الموقف برمتهِ عن السيطرةِ، وصل الكلام للزوجِ الذي تبنى فتحي، فرأى في الفتى غِرًّا جاحدًا، أنكر فضله، وأحبط كرمه ونبالتهِ، ما اجترَّ على “يوكاري” الحانية الأقذاء من خارجِ الكلامِ، وجارحِ النظرات، ولحُسن الحظَّ، تغلَّب ضميرُ فتانا على شهوتهِ، فهرب من بيتِ أبيهِ، وانطلق يتيهُ في الأرضِ، يقصِدُ بداية جديدة في مكان لا يعرفه فيهِ أحد.

  • -قاصٌّ يَنسِجُ حكايته: نَفسٌ وظِلٌ وأحاديثُ شجونٍ

حطَّ فتحي رِحالهُ بالعاصمةِ الجديدةِ طوكيو (التي لم تكُن قد أتمت قرنها الأول بعد بوصفها عاصمةً رسميَّةً للبلادِ) وطَفَقَ يبحثُ عن مكانٍ للإقامةِ، وبعد أن رُفِضَ لعدمِ وجودِ ضامِنٍ من أهل البلاد يشهدُ في حقهِ، أُرشِدَ لسمسارٍ واقتفى أثره بناءً على ما أُمِدَّ بهِ من تعليمات، وما إن وصل حتى فتح حوارًا مع الرجل، وسألهُ عمَّا شاهدهُ وهو يقطعُ الطريق نهبًا لهذا المكان من أنقاضٍ مُحترقة، وأطلال مُتهدِّمة، وشواهِد عن حياةٍ بالعزِّ مضت، ومكانٍ بالدمارِ عَمَر، ولمَّا كان قد أتمَّ كلماتهِ واستطرد يشرعُ في المُضيِّ بالحديث، زعق فيهِ السمسار ونهره، وقال له إنه بالرغمِ من أن الأمريكان أمطروا المدينة بوابلٍ من القنابل الحارقةِ حصدت أرواح زوجتهِ وابنتهِ وآلاف آخرين، فإنَّهُ لا يشتعل صدرهُ بغضًا ناحية المُحتل الأمريكي، بل لا يشعر نحوهم بأي شيءٍ على الإطلاق!

استشعر فتحي في كلام الرجل مُنتهى الانهزاميَّةِ والانبطاح، وانطلق يسأل مُحدِّثهِ اليابانيِّ عن انعدامِ نخوتهِ وذكَّرنا بقولِ الشاعِر الأندلسي حيدر بن سليمان الحلي الذي أنشد قائلاً:

” فيما اعتذارِكَ للنهوضِ وفيكم
للضَيمِ وَسمٌ فوق كُلِّ جَبين
أيمينُكُم فَقَدت قوائِمُ بيضها
أم خيلكم أضحَتَ بغيرِ مُتون
لا استكَّ سَمْعُ الدهرِ سَيفُك صارِخاً
في الهام فاصل مَحدِّهِ المَسنون
إن لم تقُدها في الِقتامِ طوالعاً
فكأنّها قِطعُ السحابِ الجون”

لمَّا استقرَّ موطئُ فتانا، وثَبتت قدماهُ اشترى مُستلزماتٍ للبيتِ وقضى وقتًا رِفقة صديقٍ يابانيِّ كان قدَّ تعرف عليهِ، وهو شابٌ ناِبهُ وطالبٌ جامعيٌّ بجامعةِ طوكيو، بثَّهُ فتحي خواطِره، وأعاد على أسماعهِ السؤال عينه ليُفاجأ بإجابةٍ أكثَّر خِسَّةً وصَغارًا مما سبقتها حيث حَمَد كاطو الآلهة وشكر أفضالها أن الأمريكيين وفدوا إلى بلادهِ عُنوةً، ودخلوها غازين جالبين معهم الحُريَّة والديمقراطيَّةِ لِبَلَدهِ المُتأخِّرِ النائي!

وأعزى مسألة الهزيمةِ برمتها إلى خطأ القادة العسكريين اليابانيين، الذين كان أحرى بهم تحرِّي السلامةِ، وإيثارِ الأمانِ، والانضواءِ تحت لواءِ أمريكا الإمبرياليَّةِ والتسليمِ لها بدلاً من الانبراء للتصدي لها ومُحاربتها، حيث إنه في منطق هذا الشاب المُثقَّف الفهيم، ينبغي دومًا على الضعيفِ أن يتتبع ظِلَّ القويِّ لا يخرجُ عنه حَذوَ القذَّةِ بالقذة حتى لو ولَجَ القوي جُحر ضبٍّ خرب للَحِقَ بهِ الضعيف دونما إعمالٍ للمشورةِ أو تدبير!

وهنا فَطِن فتحي أن الهزيمة كانت نفسية وحضاريَّة، ووجد أن أغلب الناس هناك يتحاشى الموضوع أو يُثني فيهِ على مسلك المُحتل الغاشم كأنما هم على قول البارودي:

لاَ تَحْسَبِ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَة ٍ
                                        
مِنْ أَمْرِهِمْ، بَلْ عَلَى ظَنٍّ وَتَخْيِيلِ
          
حُبُّ الْحَيَاة ِ، وَبُغْضُ الْمَوْتِ أَوْرَثَهُمْ
                                        
جُبْنَ الطِّبَاعِ، وَتَصْدِيقَ الأَبَاطِيلِ

  وفي ذات السياق قال هنتغتون:

إن الهيمنة الثقافية تتبع النصر المادي على أرض الواقِع، حيث تُمهِّد القوة الغاشمة العنيفة التي تبسُط سُلطانها الطريق أمام القوة الناعِمةِ لتُهيمن على الساحةِ هي الأخرى” ومن هنا يظهر لنا أن المهزوم يسعى دومًا للانضواءِ تحت جناح المُنتصر ربُّ السيادةِ والسُلطان، حتى ينتهِج سبل عيشهِ، ويُشاركه قيمه وأفكارهِ وكان تلك سُنة الله في الأرض منذ بدأ الانسان الأول في رسم الحدود والتوسُّعِ والغزو، وهو جُملة ما لاحظه وأنكره الكاتب على لسانِ فتحي بقلبهِ، وبلسانهِ، وبدمِهِ العربيِّ الأبيِّ الحامي، وهي من اللحظات الأولى التي امتزج فيها فتحي ورحمي وأمسيا كيانًا واحدًا يُشارِك الرأي نفسه في مسألةٍ عويصةٍ كهذه.

في ذات السياقِ، تناول الكاتِبُ ببراعةٍ على لسانِ شخصيَّةٍ أخرى، وهي شخصية السيد سوغاوارا، جانبًا آخر من الشخصية اليابانيَّةِ، وسوغاوارا هو شخصٌ فرض وجودهِ على فتحي واقتحم حياته ليُجالسه بوصفهِ خدينٌ سمير، يسهرانِ معًا ويتحدثانِ في أيمَّا موضوعٍ طرق ذهن أحدهما “سوغاوارا” في الغالبِ كان من يأخذ زِمامَ المُبادرةِ، وقد حدث مرةً أن بيَّن سوغاوارا لفتحي أحد الاختلافات الذهنيَّة بين الأمريكي واليابانيِّ في تعاملِ كُلٍّ منهما مع عُنصريِّ الوقت، والحياة الخاصة، حيث يُشارك سوغاوارا حياتهِ مع فتحي ليُسلي وقته بينما الأمريكيُّ براغماتيّ يُقنن ساعات مُجالستهِ للآخرين، ويكون فظًا إذا خال أحدهم أنه سيفرض وجوده عليهِ أو يُجبره على مسلك ولو حتى بدعوى الإحراج، وهو الفخُ الذي سقطَ فيهِ فتحي مَرَّةً عِندما سَمَحَ لسُوغَاوَارَا أن يُؤخِّرَهُ عن مُجالَسَةِ إحدى صديقاتهِ (نأتي على ذكرِها فيما بعد) ومَنعهِ من النوم ليَستَعِد بَدَنه عافيته، ويتأهب لنوبتهِ الليليَّةِ في محل بيع بنادق الصيدِ وذخائرها، وهي الوظيفةِ التي وُفِّق إلى شغلها كأجنبي ولكن لقاء أجرٍ زهيد.  

“ما هو أهمُّ من ذلك، أنَّ السجائرِ يُمكن استبدالها باثني عشر طبقًا من الحساء، وغالبًاً ما كان هذا القدر من الحساءِ إرجاءً حقيقيًّا للموتِ من الجوع. لذلك فعندما كنا نرى زميلاً يُدخِّن سجائره، كُنا نعرف أنه من أولئك الذين فقدوا إرادة الحياة وابتغوا أن يستمتعوا بأيامهم الأخيرة، فهو قد فقد الثقةِ في قُدرتهِ على المواصلةِ وعندما تُفقد الثقة، فإن إرادةِ الحياة نادرًا ما تعود!” فيكتور فرانكِل (الإنسان يبحث عن المعنى)

 مَلمَحٌ آخر كشفه الكاتب على لسانِ سوغاوارا أيضًا، كَاَنَ حَالُ سُجناءِ جيش الشرقِ اليابانيِّ الذين سُحِقوا أمام عظمةِ جوكوف والجيش السوفيتيِّ العَرَمرَم وكذا معارك الاستنزاف التي قادها بحقهم تحالف قوميي (بقيادة تشانغ كاي تشيك) الداخلِ الصينيِّ وشيوعييهِ (بقيادة ماو تسي تونغ)، واقتيدوا للعملِ بالسُخرةِ في مُعسكراتِ الاعتقالِ أو الغولاغ بسيبيريا (الواقِعَةِ في المِنطقةِ الشماليَّةِ الشرقيَّةِ للاتحادِ السوفيتيِّ) وتحديدًا أحد أشرس هذهِ المُعسكرات وأقساها بيئةً وهو المعسكر رقم 5 بإلكوتسوك، ليُسهموا في تشييدِ خط سِكَك حديد سيبيريا، الذي لازال شاهِدًا على فظاعةِ الأهوال التي كابدها الأسرى اليابانيين والألمان الذين كانوا يتساقطون صرعى كأوراقِ الخريفِ الذابلةِ من لا آدميَّةِ الظروف التي عملوا فيها تحت إمرةِ الروس.

كشف سوغاوارا لفتحي الذي اكتفى هذهِ المرَّةِ بدورِ المُحاورِ عمَّا حاقَ بجيشِ الشرقِ من مخاطِر جِسامٍ، وأهوالٍ عِظامٍ بدءًا من نقل الجنود على قطارات البضائع بعد خداعِهم بترحيلهم من إقليم منشوريا الصينيِّ (والواقعِ آنذاك تحت طائلةِ الاحتلال اليابانيِّ الغاشِمِ) إلى بلدهم ليُفاجأ اليابانيون بصقيعٍ وبرودةٍ قارصة تلفح وجوههم المُطأطأة خزيًا، والمُكبَّلة بعاريِّ الهزيمةِ والاستسلام.

وهنا بَرَعَ الكاتب في شرح مرور السُجناء اليابانيين (حالة سوغاوارا مثالاً) بأطوارِ فرانكل الثلاثة لدخول السجن، حيثُ ذُهِلَ سوغاوارا ورفاقهِ أوَّل الأمرِ، وتملكتهم صَدمَةٌ شَديدةٌ مما آلَ إليهِ حالهم، بعد ذلك بفترةٍ شرعوا يتكيَّفونَ مع الأوضاعِ ويألفونها، فرأيناهم يتفانون في عملهم بدعوى: “أن العملَ عملٌ وأن الاجتهاد فيهِ واجب” حتى أن سوغاوارا أعرب عن رغبتهِ الماسة في زيارة سكك حديد سيبيريا، ورؤية عملِ يديهِ على أرض الواقع يفيدُ منه الناس!

 حتى إنَّهم (أي المساجين) بدأوا يعتادون ظروفٍ قهريَّة مثل نقص نُدرةِ المياه، وقِلة حُصصِ الطعام، فكانوا يتقاتلون فيما بينهم على كسراتِ الخُبز بعدما فَتُرَت هِمَمُهُم بدلاً من أن يثوروا على الجلاَّدين!

كان المساجين أيضًا الذين أمسوا على حالٍ من البلادةِ وانعدامِ الانفعال يتحصلون على حاجيات وأدوات تنقصهم ممن يموت منهم، بعدما يُشيِّعونه في غير اعتناءِ (لأنه صار محض رقم) يُقيمون بأنفسهم مراسم التأبين عليهِ لكنهم مضوا مُساقين يُمارسون ما يُؤمرون بهِ وكلهم يتعلُلُّ بوهمِ الإبراءِ Delusion of reprieve بأنه سُينقذ في اللحظةِ الأخيرة، ويعد لوطنهِ سالمًا غانمًا، يرفلُ في النعيم!

بعد الإفراج عنه حاول سوغاوارا أن يستعيد من جديد ذاتهِ القديمة التي وأدتها ثلوج سيبيريا ووحشيَّةِ الروس عن طريقِ الإغراقِ في الثرثرة، فكان لا ينفك عن مُجالسةِ الناس في أغلب لحظاتِ يومهِ ومُخالطتهم حتى يُعيدِ إلى قلبهِ الأحاسيس الاجتماعيَّة التي بات يفتقر إليها وعلى رأسها ألفة مُخالطةِ الآخرين، إلا أن الأمر كان مُختلفًا في حالةِ السيِّدِ طويوساكا ربُّ عملِ فتحي وصاحب مَتجرِ بنادقِ الصيدِ الذي يعمل بهِ، والذي عاد لتوِّهِ من الأسر منذ ستة أشهر بعد قضاءهِ قُرابةِ عامينِ ونصف العام في مجاهلِ سيبيريا.

انضم طويوساكا للجيشِ وهو بعد في العقدِ الثاني، ومن محطةِ فوكوشيما ودَّع أكبر أخواتهِ وانطلقَ نحو المجهول قاصِدًا جيش الشرق في وادي منشوريا المُحتل.

بعد انقضاءِ مُدَّةٍ وأثناءِ الحَرب، صدرتِ الأوامرِ للعسسِ اليابانيين أن يُلقوا أسلحتهم، ويستسلموا صاغرين، فامتثل طويوساكا للأوامر، ليلفي نفسهِ مشحونًا رفقة ثلاثين من زملائهِ، في قطارِ بضائع، وتحديدًا في عربةِ نقلِ المواشي، مخدوعين كأقرانهم (في حالةِ سوغاوارا) يشقون الطريق الطويل يُثلِج صدورهم اليأس، والتعس مَنهلٌ متى تغترِفُ منه فرائصهم تثلُجُ، حتى بلغوا ويلات سيبيريا، وصلوا غابة، وكوَّروا الثلوج وأكلوها، قطَّعوا الأشجار بلا هوادةٍ، وصاروا ينتعلون كرامتهم، ويتجاهلون إنسانيتهم ليروا بصيص غدٍ بعيد.

وبعد مُدة، وعقب مرورهِ من ترحيل من موضعٍ لآخر، وطأت قدماهُ أخيرًا أرض الوطن، إلا أن مُعاناتهِ لم تنتهِ عند هذه النقطة حيث استجوبه الأمريكييون، الذين حاصروهُ بأسنَّةِ الاتهام عن مُدة اعتقالهِ، ووظيفته في الجيش الامبريالي قبل الحرب، وبعد قَفَلَ طويوساكا يُريُدُ بيت آلهِ في الريف، وقلبهُ مُفعَمٌ بالوحَشةِ والاغتراب، وأخذ يتعافى لكن بطريقةٍ مُختلفةٍ عن سوغاوارا فالأول انفتح على الناس والثاني انكفأ على نفسهِ عنهم.

“إنَّا لنَستَودِعُ أنفسنا للأوهامِ لأنها تقينا الآلام، وتمنحنا إحساسٌ وقتيٌ بالنشوةِ، لذا علينا أن نتقبلها دون شكوى، كُلما تصادمت مع قليلٍ من أحداثِ الواقعِ فاستحالت شظايا منثورة” سيغموند فرويد (عالم نفس – ترجمتي)

مَلمَحٌ آخر أجاد الكاتب تصوير فداحةِ شراستهِ ألا وهو مبلغ أثر أسرِ القائدِ العائلِ على أفراد الأسرة كما ظهر ذلك في حالةِ السيدةِ فوجيوارا التي أمست تقضي وأولادها حُكمًا ضِمنيًا بالحبسِ، تعيشُ على الوهمِ، وتجرُّ أذيال الخيبةِ والإحباط أسبوعيًا أثناء عودتها من ميناء مايزورو الذي يحتشد فيهِ الناس على أمل أن تحمل إحدى المركبات المارَّةِ أحد أحبائهم الذي جرفتهُ الأحداث وألقط بهِ على الجانب السيئِ من الحظِ والخطير من الأحداث فأُودِعَ السجن بلا رحمة!

سكنت السيدة فوجيوارا بيونغ يانغ، وكان زوجها مُوظَّفًا حكوميًّا مرموقًا، ولمَّا ازدحمت سماوات كوريا بالعَقاَبِ الأحمرِ، لاذ اليابانيون بالفرارِ من بأسِ الروس، وهنا رأينا السيد فوجيوارا يعودُ لمنزلهِ عقب استدعاءٍ فُجائيٍّ يُهرول إلى بيتهِ يأمر زوجتهِ بحزمِ الحقائبِ، وحَشوِها بما خفَّ حملهِ وإيقاظِ الأولادِ، ومن ثمَّ تدور الحركة بسرعة في أنحاءِ البيتِ، ويركضُ القوم صعودًا وهبوطًا، لينتهي الأمر بهم في محطةِ قطار، فقط الأم والأولاد يرحلون للجنوب حتى يُعادوا لليابانِ بينما الأب يبقى ليُؤدِّ واجبه في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل.

تمضي السنون، وتتعاقِبِ الأيام والأمُّ ينبِضُ محياها بالوهمِ، ترتحل مرَّةً كُل فترةٍ وقلبها يهفو لعودةِ حليلها من محبسهِ القسريّ بغياهبِ الغولاغ، تمضي الأيام ولا يعود الغائبُ فيما بعدٍ مُترَعٌ بصدماتٍ وخيباتٍ، يُلملم شتات نفسهِ يأمل لجروحهِ الاندمال!

وهكذا أفاقت السيدة فوجيوارا من الكابوسِ بعد سنوات، وكفَّت عن تجرّعِ الأوهام، لتواصل تلك السُرُب المسير في دماءِ “كيشيبيه نوهاها” أو امرأة الشاطئ الحجري التي انُتزِعَ ابنها هيرومي من حُضنها وألقي بهِ في أتونِ الحربِ، ثم آل أمره إلى الأسر كسابقيهِ، لكن انقطعت أخباره تمامًا من ساعتها وأمست الأم تركب القطار البُخاريُّ يوميًا علَّها تُبشَّر عن ولدها من أحد العائدين أو ربما مدَّ القدر في شمعةِ حياتها الآيلة للخفوت حتى تُمنِّي البصر، وتروي ظمأ القلب بمرأى فلذةُ كبدٍ تائهة عقَّصتِ المسير!

وهكذا يتبيَّنُ لنا أن الأسر عُملة ذات وجهين، يُعدُّ الوجه الأول لها المحنة، وهي النازلةِ التي تعصِفُ بهدوءِ المُبتلى أو أحبابهِ، والوجه الآخر يتمثَّل في الوهم، الذي إن أُدمِنَ حدَّ التعاطي تزيد احتماليَّة انسلال شبح المرءِ إلى الغد المجهول، وإذا أُحجِمَ عنه ضاعت إرادة الحياة، وانتفت الأسباب، وحلَّت المنايا على سُرجٍ تنهب الطريق نهبًا، وبوجهٍ عام يتحقق في المُتشائمِ قول المُتنبي:

 ” وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ

إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ“.

وهنا يتجلَّى لنا الأثر المُزدوج للوهمِ الذي يُعدّ أحيانًا هِبَةِ الكلمةِ، وترياق الروحِ ومنفذها للخلاص، ورُبما يتحِدُ مع شديدِ التمني فيلفحانِ القلبِ ويحرقانهِ، حتى تخبو الروح في محاق الصمت، وتُسدِلُ الكُدرة أستارها، ليعمُّ السواد!

“يقبعُ عند كل إنسانٍ حلمٌ آخر، حلمٌ لا يتحلَّلَ بمؤداه على الهامشِ، ولا يظلُّ حبيسَ الظلالِ، وكأنهُ بلا وجهٍ، وكأنهُ جمادٌ مرصوصٌ ضمن مجموعةٍ من الجمادات المزجاة، هو حلمٌ يُصبحُ بموجبهِ المرء بضاعةً نفيسةٌ، ومُلاحظة، ومرغوبة، يتحدثُ الجميع عنها، وتنتصِب بشموخ وَسَط البضائعِ الأخرى، هي بضاعةٌ يَصعُبُ تجاهُلِها، ولا يصَحُّ التسخيفُ منها والحطُّ من شأنها، وإنَّ تحوُّل أي شخص إلى بضاعةٍ ثمينةٍ في مُجتمعٍ مُستهلكٍ لهو بلوغ المرام، ومُنتهى الخيال والأحلام” زيجمونت باومان (عالم اجتماع – استهلاك الحياة– ترجمتي)

استعان الكاتب مرةٍ أخرى بسوغاوارا ليُسلِّط الضوء على الطَبقيَّة المُتجذِّرة في الشخصيَّةِ اليابانيَّةِ، وطفق يَقصُّ على لسانهِ حكايةٌ ذات مغزى حول جارتيِّ فتحي في البنسيون، الفتاتين: “كيقو، وميغومي” (وعلى مُدبِّرَةِ المنزلِ ساتشيقو في وقتٍ لاحق) المُدرستان بالمدرسةِ الابتدائيَّةِ، والمُتشحتانِ بالسواد، اللتان أجهز أخيهما على أنفاسهِ وقُطِعَ دابِرَ وجودهِ بسبب تعرُّضهِ للتنمُّر، وحدث أن لمح سوغاوارا كيقو، وخطب ودها عِند فتحي، الذي لبس مسوح كيوبيد عن رضا وسعى يُفيحُ شذا الإعجابِ وعبيرهِ بين مِشغوفٍ ومَهنوءة، إلا أنَّهُ فوجئ ذات يوم بسوغاوارا ينهرِه، ويدعوه لقطعِ الوصِال، وتفعيلِ الهُجرانِ مع كيقو وأختها لأنهُنَّ من البوراكو!!

استهلَّ الكاتب حديثه على لسانِ سوغاوارا مُوضِّحًا التناحُر الطبقي المُمتد لقرون حيث انقسم المُجتمعِ اليابانيِّ منذ النصر الذي أحرزه إياياسو توكوغاوا على قواتِ التحالف التي قادها ميتسوناري إيشيدا، انتهى عصر السينغوكو وبدأ عصر إيدو، وحينئذٍ قسَّم توكوغاوا ووُلاةِ الحربِ الموالين له المجتمع العشائريِّ اليابانيِّ إلى هرمٍ طبقيٍّ تتربَّعُ على هامتهِ طبقةِ الساموراي (المُحاربين)، تليها طبقات التُجَّار، والفلاحين، والحِرفيين، وفي قمَّةِ الهرب تقبع الطبقة التي يُسميها اليابانيون “إيتا” أو الحُثالة وهذا تعريفٌ يُوازي لفظةِ “لومبنبروليتاريا” التي صاغها ماركس في بيانهِ الشيوعيِّ وأشار بها للطبقاتِ المُهمشَّةِ اجتماعيًا، التي تعيش في غيتو فيزيقي على أرضِ الواقع أو نفسي جرّاء تعالي بقيَّة أفراد الجماعة الكُبرى عليهم.

تنتمي الفتيات الثلاث إلى طبقةِ البوراكو وهي اللفظةِ اليابانيَّةِ التي تُشير إلى الطائفةِ المُشتغِلَةِ بأعمال الدِباغةِ، والجِزارةِ، بالإضافةِ لكل ما يتعلَّق بها من مهامٍ فرعيَّةٍ، وبما أنَّ المُجتمع اليابانيِّ القديم نظر بعينِ الصغارِ والامتهان والاحتقار لكل مُتعاملٍ مع الدم بوصفهِ نجسًا رجسًا، فإن أبناء العائلات المُشتغِلة بالمهنِ المذكورةِ أعلاه ناءت كواهلها من فرطِ الاضطهاد، فكان لا يُصاهِرهم أحد، ولا يُشاركهم في المالِ أحد لا بالتعاونِ التُجاريِّ ولا بالاستخدامِ والتشغيلِ إلا قليلا، ولبث أبناء هذهِ الطبقةِ على هذهِ الحال حتى مقدِمَ الأمريكيين، ليُختار آنذاك أبناء هذهِ الطبقة وبناتها للعملِ عند المُحتل في الخدمةِ والعِتالةِ وقيادة السيارات، والعِمالةِ، وحدث أن ضُمَّت إليهم وفود العمالةِ الكورية، وأمعنت الشركات اليابانيَّةِ بدورها في اضطهاد هذهِ الفئاتِ حتى أنها كانت تحتفظ بخرائط تمركزهم وتقيس عناوين المُتقدمين لشغل وظائف عليها، فإذا تصادف وتقدَّم أحد سُكنى هذهِ المناطقِ لشغلِ وظيفة، فإنه يُرفضُ على الفورِ ولو كان كُفئًا.

ومن هنا نبعت سَخطةُ سوغاوارا وحملتهِ على فتحي، ومن هنا أيضًا نَبعُ تأكيدهِ العزوف عن الارتباطِ بفتاةٍ مثل “كيقو” بدعوى أنه يتخيَّرُ لنُطفتهِ، ويترفَّع لها أن تختلط بدمٍ مُدنَّس!

وهُنا يقلب الكاتب الأدوار ويردُّ على تلك الهباليَّاتِ على لسانِ بطلنا، فيُخرس سوغاوارا ويُفنِّد زيفِ وهيافةِ تخرُّصاتهِ، ويُنبئهُ صراحةً أن ديننا الحنيف لا يُقسِّم الناس على هذا النحو، ويعطيهِ درسًا في نُبلِ التعايشِ والمعاملة فنراهُ يستعير نصَّ حديث نبيِّنا عليه صلوات الله: “لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى!”.

لا يعترفُ الكاتِبُ على لسانِ بطلنا بالصراعِ الطبقيِّ الدائر في اليابان وقتها، ويُصِرُّ على تجاهلِ مُعطياتهِ مُكتفيًا بتقييم مسلك كُل مُتعاملٍ معه على أساس أخلاق من يعامله ومدى لُطفهِ وأدبهِ وحُسن تقديرهِ، وبذلك نفض فتحي عن هامتهِ قبضة المقبورين، ونبذ سُلطانهم، وتبنى العقلانيَّةِ، والبصيرةِ، وحُسن التدبير.

“إنَّ النساء هُنَّ أكثر الكائناتِ جُودًا، وأشدها جلبًا للمشكلاتِ، إنَّ المرءَ الذي يُهمِّشُ النساء من حياتهِ يتلافى المُشكلات لكنه يُضيِّع المنافِعِ، أما من يتحمَّلهُنَّ فإنهُ يظفَرُ بالمنافِعِ، ويقعُ بالمشكلاتِ، فحال الرجلِ معهنَّ مثلما تقول الحكمة أنك لن تتنَعَّمَ بالعسلِ دون أن تقرِصُكَ النحلات!” نيكولو ماكيافيللي (ترجمتي)

على صعيدٍ آخر، لم يَغِب العُنصر النسائيِّ عن حياةِ بطلنا، بل ألقى بظلالهِ، وأزكت نسائمهُ أنف البطلِ غير مرَّةٍ، وزاغ له بصره مرَّات، وأطلَّت النِسوةِ بشخصياتهنَّ بدايةً من “كيقو” جارتهُ المُعلمة قصيرةُ القامةِ النحيلة ذات الشعرِ الفاحم الطويلِ الذي يتألق مُسترسِلاً على ظهرها، والتي زارته لأولَّ مرَّةٍ فور انتقالهِ لسكنى البنسيون، فذهبت تتعرَّف عليهِ، ويومها أبقى فتحي الباب مُوارِبًا حتى لا يختليَ بِها، وعِندما سَمعت الفتاة حُجته وفطنت إلى ما يرمي إليهِ تقَّلبت بطنها من القهقهةِ، أما لقائُهُ الثاني بها فكان في غُرفةِ الفتاتينِ حين زارهما فتحي ليُسامِرهما ويُحدِّثهما في أمرِ بلدهِ وظروفه، وفي المرتينِ الرابعةِ والخامسة، بدأ فتحي يفطِنُ للجانبِ الأنثويِّ فيها، لا سيما عِندما وضعت أحمر الشفاه وتمايلت أمامه على الطاولةِ قصيرة الأرجل.

رآها فتحي دومًا في خانةِ الصديقةِ اللطيفةِ، وانبرى يُدافِعُ عنها بحميةٍ لمَّا لاك سوغاوارا سيرتها بسوء، إلا أنَّه انصرف عنها وقطع صلاتهِ بها لمَّا بادرتهُ بحبها وأفرجت عن مشاعرها نحوه، فآثر فتحي الانصراف لأنه لم يكن يراها من هذا المِنظار.

الأنثى الثانية التي اقتحمت حياةُ البطلِ هي الخادمة ساتشيقو، مُدبِّرة المنزل “الصفيقة” خفيفة الظلِّ على حد تعبير بطلنا، وهي أكثر من جالسها البطل غير مرةٍ في القصة، يأكل رفقتها، ويلعبون الكوتشينة، ويتريَّضون بالغُميّضَة، لكن فتحي رأى فيها طفلةً صغيرةً غير ناضجةٍ، وعلى الرغمِ من صدامهما أولَّ الأمر عندما هَاَتَفَت ساتشيقو الحانوت الذي يعمل به فتانا لتَستَعلِمُ عن الحِصَّةِ الشهريَّةِ لذخيرة سيدها الأمريكيِّ.

ألفها فتحي حتى أنها كانت تدعوه بصفة مُستمرة إلى بيت الجنرال جون سميث المُتغيِّب، والذي عدَّتهُ بيتها حتى أن هذا الكِتابُ ينتهي بعودةِ الكولونيل وفِرار فتحي من وجههِ هربًا أثناء اعتزامهِ زيارةِ صديقتهِ المضيافة.

وعلى الرغمِ من غيابِ قرينةٍ عاطفيَّةٍ لبطلنا يُسِرُّ إليها بعباراتِ الحُبِّ المُلتهبةِ، ويهمسُ لقلبها بألحانِ الفؤادِ، ويعزفُ على أوتارِ التمنيّ أشجى ألحانِ الشوقِ إليها والتوقِ لمرآها، فإن الكاتب استفاض بمسألةِ العلاقاتِ لآفاقٍ أرحب، وعقد مُقارناتٍ أهمَّ وأرجب حيثُ تناول عادتين يابانيَّتينِ وهما نِسبةِ الأطفالِ لزوجِ الأمِّ كما في حالة السيد فوجيوارا وهي عادةٌ رفضها فتحي لأن الأطفال في الثقافة المصرية والدين الإسلامي ليسوا متاعًا تُنقل ملكيته المادية والأدبيَّة بمجرد تغيُّرِ اليافطة، أما الفكِرة الأخرى فقد تعلَّقت بصديقهِ كاطو الذي كان والده لا يُعرهم اهتمامًا، ولا يُلقي إليهم بالاً، لأن أمه لم تكن سوى عشيقة أبيه، وقد شرح كاطو لصديقهِ فتحي أن أباه متزوجٌ أصلاً وله أسرةٌ يعيش في رحابها لكنه يُغدق المال على أم كاطو ويعترف بصحةِ صلتهِ ببنوةِ أبنائها لكنه لم يتزوجها، وهذا أيضًا سلوك فنَّدهُ الكاتِبُ وردَّ عليهِ على لسان فتحي واصفًا إياهُ بالسِفاح، وبنوةِ الفراش وهنا عاجل كاطو بطلنا بحمدِ آلهتهِ وأصنامهِ الآفلة لأنه لم يكن مصريًا ليُوصم بمثل هذهِ الاصطلاحات عميقة المعنى بليغة الأثر، التي رآها مؤذية.

والآن وبعد أن أتممنا الأقاصيص أو الأبعاد الأيديولوجيَّةِ التي ساقها الكاتب سردًا، نتناول الآن الأبعاد الفنيَّة التي بدت في قالبُ الصياغةِ، والأسلوب الكتابيِّ والألفاظِ وغيرها.

  • قاصٌّ يَنسِجُ حِكايتهُ: أُطُرِ الصنعةِ:  
  • الكتابة والصياغة:

صِيَغت الروايتان بأسلوبِ سهلِ مُمتَنِع يُشيِّدُ دعائِمَ بيانهِ على لُغةٍ عربيَّةٍ قريبة من لغة الصحافة فلا هي ركيكةُ الألفاظ، ضحلة المعاني، مُجدَّبة التصاوير ولا هي مُقعَّرةُ البيانِ، مُتشابكة العنوان، مُغرِقةٌ في الخيال، وقد طوَّع الكاتب ترسانةٌ كاملةٌ من الأوصافِ والتجسيمات فخرجت أماكنه حيَّةٌ تنبضُ بالظاهرينِ، وجعلت حواراتهِ اعتياديَّةٌ على الأذن فلا يخالها القارئُ مَنظومةٌ من خيالٍ أو مُستدعاةٌ من ذكرياتٍ كامنةٍ بقرارٍ بعيد، وقد اعتمد الكاتب في صياغتهِ للرواية الأولى أسلوب الكتابةِ السرديَّةِ، أما بالنسبةِ للروايةِ الثانية فقد مزج بحِرفةٍ بين أسلوبينِ وهما أسلوب الكتابةِ التاريخيَّةِ فضاهى الجُزء الثاني من روايتهِ روائعِ الكاتب الإنكليزيِّ روفائيل ساباتيني (مثل المُغامر، مُضحك الملك، القرصان، ملك بروسيا، وما إلى ذلك) حيث يعمد ساباتيني في كتاباتهِ إلى فردِ قُماشةِ حدثٍ تاريخيٍّ واقعي ونسج أقاصيصَ من الخيالِ حولهِ، تُسهم في حكيا النصَّ وإرساءِ دعائمهِ في الأذهان دون أن تَجور على وقائعهِ أو تُبدِّل في تتابعِ أحداثهِ، وتسلسلِ حيثيَّاتهِ وتَبعاتهِ، وقد فعلها الكاتب في أكثر من موضع عند حديثهِ عن إمطار طوكيو بالقنابلِ مثلاً، أو عند ذكر معسكر 5 في سيبيريا بحُجَّةٍ ساوت بين روايتهِ وبين أدب السجون من فرطِ الواقعيَّةِ والانتباه إلى التفاصيل.

 لم يُغفل الكاتب تفصيلةً وصفيَّةً وعمد إلى رصِّ لوحاتهِ فكانت كل أقصوصة قائمةً بذاتها كأنها رسمةٌ زيتيَّةٌ، وقد منح الدقائق عنايةً عظيمة متأسيًا بكبارِ الكُتَّابِ مثل البارونة أوركزي (في هذهِ الناحيةِ) فنراهُ في وصفِ مظاهرِ الحياةِ خلف الأسوار في المُعتقلات العسفيَّةِ قد فاق ألكسندر دوماس في رائعتهِ سقوط الباستيل، وماثل رواية عريانٌ بين ذئابِ لبرونو أبيتز الذي كان مسجونًا فعلاً، وقضى حينًا في مُعسكرِ بوخنفالد يُسامُ العلقم وسوء العذاب!

حتى أن القارئ ليخالُ الكاتب نفسه من عِظَمِ وصفهِ وإحكامِ سردهِ عليمٌ فهيمٌ بهذهِ الأمور، وكأنه شاهدها مرأى النفسِ والبصرِ.

  • السرد والحكاية:

كان السردُ في الكتابِ الثاني مُحكمًا أكثر من الكتابِ الأول، فالأول محضُ مُقدمةٍ وتمهيدِ أما الثاني فهو سِجلٌّ تاريخيٌ حافِلٌ بالمعلوماتِ، حيث تميَّز السرد في الكتابِ الثاني بالإحكامِ، والإغراقِ في التفاصيلِ رسمًا للوحاتٍ امتازت على حِدة، ولو انتزعنا أحد الأقاصيصِ من مكانها لكفت ووفَّت لاستيفائها سائر جوانبِ الحكاية، ومع أن السرد كان طويلاً إلا أنه كان شيِّقًا لسرعةِ تبدُّلِ أطوارهِ وإيجازهِ، لكنه وللأسف اتخذ دومًا شكل المُحاورةِ المُباشرة، إلا أن هذا ليس عيبًا حيث أراد الكاتب أن يربط القُرَّاء بصورٍ ذهنيَّةٍ عن أفكار جسَّدها وربطها بكينونات حتى يتفاعل القارئ معها، ويضع نفسه في مكانها، فيحاول أن يشعر بما اعتمل في صدرها مثل حالة سوغاوارا مثالاً وهو مُصفَّدٌ في سيبيريا يأكلُ رُكام الحطبِ اتقاءً للإسهال، وتطلُّعًا لأن يمُدَّ شريطِ حياتهِ البسيطةِ لمشهدٍ آخر يُعينه آخر الأمر على تنسُّمِ أرائجِ وطنِ قاصٍ جغرافيًا، لكنَّ ذكراه تبعث ضربات تختلج لها الصدور حُبًّا وتوقًا.

  • وجوديَّة الموقف   

يُعدُّ كلا الكتابينِ من أدبِ الموقفِ أو الأدب الوجودي الذي امتازت بهِ كتاباتُ سارتر (مسرحياتهِ مثل الذباب، وأين المفر) حيث إن البطل هنا ليس فتحي، ففتحي ليس سوى مُجرَّدِ قاصٍّ، وناقِدٍ وأحيانًا ناقل ونراهُ يختفي تمامًا من المشهدِ مثل ما حَصَلَ في مُحاوراتهِ مع سُجناءِ سيبيريا، التي كان البطل فيها الواقع تحت تأثير الضوء، هو موقف الأسرى أنفسهم الذين اقتيدوا للعملِ في ظروفٍ غير آدمية، وُفرضِت عليهم إجراءاتٌ وحشيَّة ما أنزل الله بها من سلطان، لا لشيءٍ سوى أنهم كانوا على الجانب الخاطئ (الذي خَسر الحرب)، وهكذا كان الكتاب الأول من بطولةِ موقف اشتعال طوكيو بالنيرانِ واضطرامِ اللهيب فيها، والكتاب الثاني من بطولةِ صقيعِ سيبيريا الذي تكاتف بعزمٍ لا يلين مع النزعة الانتقاميَّةِ للروس ليفتكوا بالعساكرِ اليابانيين، والألمان وغيرهم ممن سيقوا للغولاغ في عهدِ الرجلِ الحديديِّ ستالين.

تعددت المواقف في الكتاب الثاني عن الأول فرأينا ثلاثة مواقف لسُجناء بسيبيريا، وموقفين لأحد الناجين من ويلاتِ الحربِ، وغيرها مِنَ المواقف التي رصَّها الكاتب وأودعها متن أقاصيصهِ بإمتاعٍ وتنويع.

  • الفكاهة والألفاظِ العاميَّةِ

لم يخلو الكتاب من المُمازحاتِ اللبقةِ دونما إسفاف، وقد أفلح في أكثر من موضع أن ينتزع شبح ابتسامة تتلاعب جهرًا على فمِّ القارئِ، وعلى طريقةِ عملاقيِّ الفكاهة في الأدب مارك توين (الأمير والفقر مثالاً) وبرنارد شو (بيجماليون، القديسة جون، الزواج، وما إلى ذلك) تسللت بعض الألفاظ العاميَّةِ التي تَعكِسُ دماثةِ الروحِ المصريَّةِ إلى المتنِ، فرأينا ألفاظًا من عيِّنَةِ “دَستور”، “اللي فات مات”، “ابن الصَرمة”، “نفدت بعمري” التي عمد الكاتب منها إلى ضمِّ الجديَّةِ والتأريخِ للتبسُّطِ والسهولة، وذلك أيضًا لإبراز هذين النقيضين اللذين تحويهما شخصية فتحي، ومن ثمَّ شخصية د. رحمي نفسه.

  • قاصٌّ يَنسِجُ حِكايتهُ: خاتِمَةٌ انتقاليَّةٌ لبُعدٍ جديد

إنَّ هاتين القِصَّتين ليستا سِجلاً لنموِ فتحي وحده، بل هما (وما يتبعهما) مُحاولةٌ جادةٌ للتأريخِ لأطوارِ مُجتمعٍ انتقل من انغلاقٍ لانفتاحٍ قسريِّ، ومن أحاديَّةٍ ثقافيَّةٍ إلى تعدديَّةٍ فكريَّةٍ، وعِرقيَّةٍ، مُجتمعٌ لا زال ينمو، وينتظرهُ عصرين أو ثلاثة حتى يُمسي كما هو الآن وعلى عيوبهِ قِبلةً للحالمينِ، ووِجهَةً للطالبين، ترصدهُ أعين فهيمٍ خبير، وَشَجَ جدِّهِ بهزلهِ، وانبهارهِ باعتيادهِ، ومضى ذلك “السكاراموش” طَلِق المحيا، الفكِهِ الرصينِ على خُطى “كنديد” يخِطُّ مُشاهداتهِ، ويسَتَخلِصُ العِبرَ، ويُدوِّن الخبر، يُحدِّج البصر فيمن أفلح ومن تَبر، يَنسِجُ المقارنات والمُطارحات حول المسائلِ الشرقيَّةِ، ويخطُّ بعينيهِ راصدًا أمارات ماضٍ بعيد في تفاعلاتها مع أحداثِ واقعٍ جديد في اليابان.