مجلة حكمة
Blasphemy التجديف

عن الحق في الهرطقة والتجديف: التجديف كممارسة كلامية حول المتعالي

الكاتبعبد الله الحميدي

“لندع للإلهة وحدها مسؤولية الانتقام لما يقع عليها من إساءه” الأمبراطور طيباريوس 42 ق.م – 16 ب.م 1

إذا كان لكل حق إشكالاته، فإن التجديف هو أحد الإشكالات المرتبطة بحق حرية التعبير. حيث تغيب الحدود ما بين النقد والإساءة والتحريض على الكراهية. وإذا كان التجديف نقداً إلا أنه نقد عار، ساخر متهكم يتناول المقدس، محاولاً تجريده من مكانته ونزع هالة التعالي عنه وإثبات “عاديته”. وعلى الرغم من اعتبار التجديف كلاماً في الديني، إلا أنه اعتبار تاريخي محض، عزته صبغة التعالي التي تكون في أوضح صورها في المقدس الديني، وإلا فثمة مقاربات أخرى ترى في التجديف محض ممارسة كلامية تشمل حتى الرموز العلمانية مثلما يجادل بيتر أولين حول التجديف في السياق العلماني 2. إذا فليس ثمة تجديف إلا إزاء وضعية متعالية لاهوتية كانت أم زمنية. فغياب المتعالي يعني غياب التجديف. وهنا تكمن المفارقة فالتجديف حينما يمارس نزع التعالي عن المقدس فهو بالتالي يمارس عملية نفي لنفسه من خلال ممارسة فعل يفضي إلى نفي ما يعتمد وجوده عليه.

بيد أنني سأحاول هنا الاقتصار على تناول مسألة التجديف بشقها المتعلق بالدين، مجادلاً بأن فكرة التجديف حتى في أقصى صورها راديكالية، تقع ضمن دائرة الممارسات الخطابية اللا العنفية، ومن ثم يصبح التسامح معها مبرراً وجزءاً من الحق الذي تقتضيه حرية التعبير تلك. ومحاولاً التدليل بأن التجديف في محصلة الأمر ليس سوى خطاب إقناعي، بمعنى أن موضوعه محصور في المطالبة بالتغيير لما هو قابل للتغيير، وهذا ما يجعله خطاباً غير عنفي – بالمعنى الذي سأشير إليه – بالإضافة إلى أن مطالبته بالتغيير لا تتوسل أساليباً خارجية لإحداث هذا التغيير.

في قابلية التغيير

على الرغم من السمات الاستفزازية التي يتسم بها فعل التجديف، إلا أنه لا يمكن فهمه خارج نطاق الممارسات الخطابية والتي ليست في النهاية سوى عملية إقناعية، بمعنى أنها محاولة تغيير اعتقادات معينة من خلال الخطاب بطريقة غير مباشرة وبشكل طوعي. وهو الأمر الذي يستبعد كل وسيلة عنفية، وهو ما يعني أن المجال الفكري بشتى تمثلاته يصبح هو الإطار الوحيد الذي يتم فيه التعاطي مع مسألة التجديف، الامر الذي يصبح على أساسه المطالبة بتحصين خطاب فكري ما من النقد أو من التغيير، ممارسة مناقضة لمبدأ قابلية التغيير، ذلك المبدأ الذي يقع في صلب كل خطاب عقلاني بوصفه خطاباً قائماً على المحاججة والإقناع، وإحالته إلى مقولات ذات طبيعة ثابتة، أشبه بالخصائص البيولوجية الغير قابلة للتغيير. من ثم يمكن اعتبار التجديف ممارسة تقع في دائرة الخطاب الفكري والثقافي القائم على فكرة التغيير أو التحسين لأفكار أخرى باعتبارها سمة جوهرية في كل خطاب ثقافي وفكري. وإذا كان الأمر كذلك فإن الاستجابة لفعل التجديف يجب ألا تتجاوز حدود ما هو فكري.

قد يقال بأن الممارسات التهكمية والازدرائية التي ينطوي عليها فعل التجديف تنطوي على عنف فكري. فالسخرية من الرموز الدينية والمنظومات العقائدية لدين أو طائفة ما، لا تكاد تختلف عن العنف المادي والجسدي، فالألم الذي تسببه لمعتنقيها تشهد عليه ردود أفعالهم العنيفة إزاء ما يعتبرونه مهيناً بحق مقدساتهم. بيد أن هذه المقارنة تنطوي على سوء فهم لمفهوم العنف الفكري.  فحتى لو سلمنا باعتابر التجديف عنفا “فكريا” فهو عنف يقع في خانة ما هو مقبول كما سوف نبين بعد قليل.  

إذا كان العنف محل النقد يتضمن محاولة تغيير بالقوة، فإن ما ينظر إليه باعتباره ممارسة عنيفة في التجديف، ليس سوى مطالبة بالتغيير ولكن بوسائل فكرية تسعى إلى إبراز عدم أحقية وأهلية الفكرة محل النقد بالوجود، وضرورة تغييرها وتعديلها في أحسن الأحوال. فكل من العنف الغير مقبول والمقبول ينطويان على نوع من المطالبات، وهي مطالبات بالتغيير أو التعديل. إلا أنهما يختلفان في طرق هذه المطالبات، فطريق المطالبات في حالة العنف غير المقبول هو تغيير غير طوعي ومن الخارج، بمعنى أن الطرف محل المطالبة بالتغيير لا يمارس دوراً إيجابياً أو فاعلاً في هذا التغيير. في حين أن السمة الأساسية للمطالبات في النقاش العقلاني عموماً هي فعالية هذا الطرف في عملية التغيير تلك، أي أنه شرط أساسي في هذه العملية. وإذا كان العنف الفكري المقبول ينفي الأخر إبيتسمولوجيا فإنه في العنف غير المقبول بشقية المادي والفكري ينفيه أو يتضمن نفيه أنطلوجياً، فالأخر في النفي الابيستيمولوجي مطالب بالانتقال طواعية من فكرة إلى أخرى، في حين أنه مطالب في العنف غير المقبول بأن يمتثل بشكل غير طوعي لما يُطالب به. لكن ثمة أمر آخر يختلف فيه العنف غير المقبول بشقيه الفكري والمادي عن العنف الفكري المقبول ألا وهو محل المطالبات. فمحل المطالبات في الأول تكون أحيانا غير قابلة للتغيير وهو الأمر الذي يجعل من الخطاب العنصري القائم على اعتبارات إثينة أو بيلوجية كالعرق ولون البشرة والجسدية كالإعاقة مرفوضاً باعتباره ينصب على موضوع لا يمكن تغييره. وهو الأمر الذي يجعل المطالبة بهكذا نوع من التغيير يعادل تصفية الشخص ونفيه على المستوى الاجتماعي وحتى على المستوى الجسدي. فالمطالبات في هذا النمط هي مطالبات “تعجيزية”. إذ لا يمكن تصور تسوية بين الطرفين محل الخلاف سوى النفي أو الإفناء. في المقابل نجد أن موضوع المطالبة في مسألة النقد والتجديف حتى في صورها المتطرفة تنصب في كل الحالات على اعتبارات قابلة للتغيير من حيث الأصل. فيمكن تصور – نظرياً على الأقل – أن يغير المؤمن من قناعاته ويتنبي قناعات مغايرة تماماً أو حتى أن يغيرها جزئياً. ومن ثم فمن فإمكان وجود تسوية بين الطرفين أمر متصور هنا بسبب طبيعة الموضوع محل النقد.

المطالبة بالاستثناء

قد يقال بأنه على الرغم من اعتبار الكلام على المقدس داخلاً في نطاق الممارسات الفكرية، إلا أنه غير محصور بها، بعنى أن ثمة امتدادات اجتماعية للمقدس ذات أثر بارز وعميق في تشكيل الوعي الهوياتي للجماعة التي يطالها فعل التجديف. ومن ثم فمن المستحيل – من الناحية العملية على الأقل- الفصل ما بين المقدس كمقولة فكرية وبينه كامتداد هوياتي. فالتماهي بين المقدس وبين الاعتبارات الثابتة للهوية ليست مسألة فكرية يمكن تناولها بالنقد والتهكم دون أن يفضي ذلك إلى المس بالهوية. فالمركزية التي يحتلها المقدس في النظام القيمي والأخلاقي للجماعة تجعل من المساس به بهذه الطريقة على الأقل مساساً مباشراً لها، فهذا المقدس يتخلل جل حياة الجماعة بدءاً من أدق تفاصيل الحياة اليومية كالمشرب والمأكل والملبس بل يتضمنها من الولادة وحتى الوفاة. ومن ثم فإن انتهاك حرم المقدس من خلال السخرية والتهكم لا يمثل تعدياً فكريا يستوجب الرد عليه بالمثل، بل أقرب ما يكون إلى التعدي المادي، الأمر الذي يستوجب رد فعل عنيف يصل إلى القتل أحياناً. وبسبب هذه المكانة التي يحتلها المقدس فإن المطالبة بتحصينه إزاء النقد بشكله التهكمي والساخر على الأخص، تبدو مبررة. ومن ثم يصبح من الضرورة المطالبة باستثناء المقدس من التعاطي النقدي الجارح. هذا الامتداد الهوياتي العميق للمقدس تؤكده ردود الفعل العنيفة إزاء المس به سواء من الناحية الفكرية والرمزية، فلو كان المقدس محض مقولة فكرية – بحسب هذه المقاربة – لما كان ثمة تفسير لمثل ردود الفعل تلك والتي تبدو وكأنها استجابة دفاعية إزاء المساس النقدي الساخر والتهكمي الذي يطال مضامينه الفكرية ورموزه وشخوصه التاريخية. الأمر الذي يجعل من الضروري حتى من الناحية البراجماتية تأسيس أرضية قانونية يمنع بموجبها التعاطي النقدي للمقدس حفاظاً على السلم الاجتماعي.

على الرغم من صحة المقدمات التي ينطلق منها هذا الاعتراض – دور المقدس في البناء الهوياتي، العلاقة بين العنف وإهانة المقدس – إلا أن النتيجة التي المستخلصة منه غير مقبولة ابيستيمولوجياً وأخلاقياً. فمهما كان تجذر فكرة المقدس في الوعي الفردي أو الاجتماعي، ومهما كان دورها في التشكيل الهوياتي، فهو لا يخرجها عن كونها تقع داخل ما هو قابل للتغيير من الناحية النظرية على الأقل. ومن ثم تصبح مستهدفة في أي تواصل عقلاني وجدلي، على اعتبار أن هذا الأخير هو في جوهره محاولة لتحسين وتغيير قناعات معينة. من ثم تصبح المطالبة بالاستثناء من النقد هي مطالبة بإخراجه من دائرة التداول العقلاني وإضفاء خصائص ثابتة له، بحيث يُنظر إليه مثلما يُنظر إلى أية خصائص بيولوجية، الأمر الذي يجعل من محاولة تغييرها والتعدي عليها بمثابة التعدي على الشخص ذاته. فتصبح الفكرة أو الرمز تماماً كلون البشرة، ملازما ولصيقاً بالإنسان لا يمكن تغييره. فإذا سلمنا بهذا التماهي بين المقدس والخصائص الأنثروبولوجية فيصبح المقدس والحالة غير قابل للتداول في أي نقاش عقلاني بغية إقناع الآخرين بقبول مسلماته، بحيث تصبح محاولة إقناع فرد ما بتبني معتقد معين أشبه بحقيقة إقناعة بتغيير لون جلده أو شكل أنفه. إن مجرد محاولة الإقناع بقبول المقدس لمن لا يُقر به، أو محاولة تبريره تعني قابليته منطقياً لأن يصبح موضوعاً للتداول العقلاني وبالتالي احتمالية قبولة أو رفضه وهذا لا يعني سوى أنه موضوع قابل للتغيير. وإذا كنا قد اعتبرنا النقد الديني بشكل عام والتجديف بشكل خاص محاولات “عقلية” للتغيير، فيصبح المقدس والحالة هذه غير مستثنى من ذلك. وهذا الشق الأول من المعضل الابيستيمولوجي. فعبء الفصل بين المقدس كمقولة فكرية وبين السمات السمات الثابتة للهوية هو عبء يقع في المقام الأول على الشخص الذي يقع عليه فعل التجديف.

فما يجب استثنائة في النقد هو تلك -الحقوق الثابتة- المتعلقة بهذه الهوية كالحق كلالحق في التعبير والحق في ممارسة الدين، فلا يمكن والحالة هذه المطالبة بتقويض هذه الحق باعتباره من الحقوق الأساسية التي يتساوى فيها الجميع، هذا هو الأمر الذي يمكن استثناءة في أي خطاب، في المقابل تبقى المقولات الفكرية وتمثالاتها الرمزية متاحة للنقد والتجديف.

أما الشق الثاني منه فهو أن أي كلام في المقدس ينطوي بالضرورة على شكل من أشكال التجديف بحق مقدس آخر، وهو الأمر الذي يضعنا لا محالة أمام الإشكال التالي: إذا اعتبرنا كل مقدس، مقولة غير قابلة للتجديف بداعي مراعاة مشاعر الأخرين وتجنب جرح ما يمثل أساساً لهوياتهم الثقافية. مع الأخذ في الاعتبار الوضعية “الفضفاضة” لمبدأ الحساسية الدينية. فسيفضي ذلك إلى انتفاء فكرة الكلام عن كل مقدس في الأساس، بحيث تصبح فكرة المقدس بالنسبة للفرد فكرة ذاتية لا تتجاوز ما يجول في رأسه. إذ أن مجرد خروجها للعلن – تصريحاً أو كتابة- يفضي بطريقة أو بأخرى إلى المس بمقدسات أخرى بحسب الاعتبار السابق، بمعنى أنه لا يمكن التعبير عنها أو ممارستها دون الكلام على مقدسات أخرى. تبقى المعضلة الأخلاقية وهي كون المطالبة بالاستثناء من النقد تخرق قانون المعاملة بالمثل، بحيث يُطلب من الأخر الامتناع عن النقد والتجديف في حق ما نراه مقدساً في حين يتم السماح لنا في الكلام على المقدسات الأخرى.

لكن قد يقال إنه حتى وإن كانت موضوعات الاعتقاد خاضعة لمبدأ “قابلية التغيير” فلم لا يكون ثمة حق لمن يؤمن بفكرة ما المطالبة بعدم المساس بها. فلم لا يكن من حق الفرد أو الجماعة أن تعيش وتمارس معتقداتها بسلام دون القلق من وجود ممارسات نقدية وتهكمية من شأنها أن تزعزع الاستقرار النفسي والذهني لأفرادها، وتنال من التعالي الرمزي لمقدساتها. فهذه الممارسات من شأنها أن تقوض استقرار واستمرار الجماعة ككل. وهذه مطالبة تشبه إلى حد ما ذلك النقد الذي سبق وأن ذهب إليه بيخو بارخ من أنه لا ينبغي المس بمعتقدات الأخرين بداعي الحرية الفكرية. فأولئك الذي يقومون بذلك إنما يخدمون مصالحهم على حساب مشاعر الأخرين الذين يتحملون العبء الناتج عن ممارسة الآخرين لحرية التعبير. 3

بحسب هذا الاعتراض فإن الإحساس بالتجريح أو الإهانة الناتج عن النقد الديني بشكل عام والتجديف بشكل خاص هو أمر من الموضح بحيث يتعذر إنكاره. حتى مع تسليمنا بكون هذا النقد يتناول أفكاراً تقع خارج نطاق الصفات البيلوجية غير القابلة للتغيير. فإن التلازم بين التعدى على هذه الأفكار والرموز وبين إثارتها لمشاعر غضب ذي نتائج عنيفة، يكاد يبرر من الناحيتين النظرية والعملية على الأخص، ضرورة وضع قيود قانونية صارمة ضد أي شكل من أشكال التجديف الديني. بغية الحفاظ على السلم الأهلي.

ثمة ملاحظة على هذا الاعتراض في مسألة التلازم الشعوري بين إهانة المقدس وبين الإحساس بالتجريح. إن إحساس المؤمن بالألم والحزن إزاء التعرض للمقدس هو مسألة لا يمكن إنكارها كما سبق وأن أشرنا. وقد نأسف ربما على هذا الحزن الذي يعتري أولئك الذي يشاهدون ما يعتبرونه إهانة لمقداستهم – بحسب مفهوم التجريح الذي سبق وأن أشرنا إليه – غير أننا إن أخذنا هذا كذريعة لتقييد حرية التعبير والانتقاد إزاء ما يعتبر مقدساً بالنسبة لنا، فإننا سنواجَه والحالة هذه بمفارقات كثيرة تقوض حتى حرية صاحب الاعتراض نفسه. فإذا افترضنا أن من حق “س” المطالبة بعدم المس بما يعتبره مقدساً باعتباره ينطوي على إهانة وتجريح، فيجب أن يسلم والحالة هذه – من باب المعاملة بالمثل – بأن من حق الآخرين كذلك المطالبة بذات الحق في عدم المساس بما يعتبرونه مقدساً، وقد يسلم هو بذلك. لكن في ظل غياب أو عدم وضوح “معيار الإهانة” فيمكن أن تنطوي تلاوة نص ديني ما على إهانة للبعض بسبب يتضمنه من عبارات تنتقص من مقدسات أخرى. حيث سيعترض المسيحييون واليهود مثلاً على وصمهم بالضلال والحجود وبأنهم “كالحمار يحمل أسفارا” و”كلكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث” وبأنهم قردة وخنازير. ويعترض غيرهم بوصفهم بأنهم “كالأنعام”

 كما أن هدنة المقدسات هذا ستنطوى لا محالة على مفارقات مضحكة وغير معقولة على المستويين العملي والنظري. فوفق مبدأ “مراعاة الحساسية الدينية” يصبح المسلمون في الهند مثلاً مطالبين بالامتناع عن التضحية بأبقارهم في أعيادهم الرسمية، بل وحتى الامتناع عن تناول لحوم البقر احتراماً لجيرانهم من الهندوس الذي يرون فيها كائناً مقدساً.  وهو الأمر الذي تم حظره بالفعل في العديد من الولايات الهندية كولاية مهاراشترا ثالث أكبر ولايات الهند في المساحة وثاني أكبرها في عدد السكان، حيث تصل عقوبة قتل البقر إلى السجن ستة أشهر أو دفع غرامة مالية 4. ومن ثم يصبح غضب الهندوس إزاء قتل ما يعتبرونه مقدساً أمراً مبرراً وفق هذا المبدأ. ويصبح بالتالي رد فعلهم مبرراً ومن وجهة النظر هذه. وربما كان هذا المبدأ هو ما دفع إلى قتل شخص يدعى نسيم قريشي من قبل مجموعة أشخاص بسبب الاشتباه في كونه يحمل لحم بقر 5. في هذا السياق تبدو قضية فرس مومباي، هي الأخرى مثيرة للفضول، فهذه القبيلة الفارسية من عبدة النار الذي فروا من وطنهم إلى غرب الهند بسبب الخوف من الاضطاد الديني. تم التسامح معهم من قبل الملوك الهندوس شريطة الامتناع عن أكل لحوم البقر. إلا أنه عندما سقطت الهند بأيدي المسلمين تم التسامح معهم هذه المرة لكن شريطة الامتناع عن تناول لحم الخنزير.  وهم يمتنعون حتى الآن عن أكل كل من الخنزير والبقر مراعاة لمشاعر جيرانهم من الهندوس والمسلمين.6

 لا تخرج وقائع من قبيل قتل المخرج الهولندي فان جوخ ومحاولة قتل الكاتب سلمان رشدي في أغسطس 2022، عن كونها تقع في نطاق محاولات تحصين المقدس. قد يقال بأن ثمة اختلاف في حالة تجريم أكل البقر وبين التجديف “الأدبي” عند كل من فان جوخ وسلمان رشدي. بأن الأخيرة تمثل فعلاً غير مقصود في استهداف المقدس، وأن انتهاكه لمشاعر الآخرين هو عرض لفعل عادي. فالمسلم الذي سعى إلى التضحية بالبقر أو أكل لحمها لم يكن يقصد إهانة معتقد الهندوس. ففعل الأكل هنا فعل داخل في عداد ما هو طبيعي سواء وجد الهندوس أم لم يوجدوا، في حين أننا في الجانب الأخر -في حالة فان جوخ ورشدي- أمام إهانة محضة. حتى لو تمثلت في شكل أدبي كلوحة أو رواية. فثمة “مجانية” في النقد هنا لا تختلف عن سباب ومشاجرات الشوارع.

وهذا صحيح إجمالاً، بيد أن غياب القصدية في المثال الأول ووجودها في الثاني لا يغير شيئاً من شعور الآخر بالإهانة. فهي حاضرة في كلا الحالتين. كما أن وجود القصدية هو شرط لأي خطاب ثقافي بما يتضمنه من نقد للممارسات والتصورات الثقافية للآخر بما فيها المقدس. فالتجديف والنقد غير معني ولا يجب أن يكون معنياً بحساسيات الأخرين وما يشعرون به، فهذه مسأله خاصة وراجعة للناقد أو المجدف. فالالتزام الوحيد للنقد الديني أو التجديف هو ذلك اللالتزام المتلعق بعدم التسبب بضرر مادي، أو أن يكون في سياق يؤدي إليه. أما الأذى النفسي الذي قد يلحق المؤمن إزاء المس بمعتقداته فهو “جروح يجب تحملها” مثلما يجب على الآخرين تحمل الجراحات التي يسببها لهم. أي أن الشعور بالتجريح أو الإهانة ليس هو المعيار الذي يجب أن يحدد مشروعية فعل التجديف من عدمه المعيار الذي يحدد ذلك هو الحقوق الأساسية للفرد. وهي مقاربة لا مندوحة عنها حال رغبنا وضع معيار صلب يتجاوز معضلة ذاتية المشاعر المهانة” والتي يمكن استعمالها للحد بل وتقويض أي كل ممارسة فكرية وثقافية. فمثلما يطلب من البعض قبول حرية التجديف عند رشدي، كذلك يطلب من غيره التغاضي وتحمل الأذى النفسي التي تسببه نصوصه لهم بما تتضمنه من أوصاف تعتبر جارحة بالنسبه لهم.  فضلاً عن أن تلك الإهانات أو الانتقادات الموجهة إلى دين ما أو إلى عقيدة معينة لاتمنع أو تحد من قدرة معتنقي هذا الدين أو تلك العقيدة على ممارسة شعائرهم بحرية.

فإذا كان بإمكان المرء الوقوف على وقائع عملية إزاء هذه المطالبات المتعلقة بتحصين المقدس. فإمكانه أن يتصور أحداثاً متخيلة، لا يُستبعد حدوثها حال تبنينا مبدأ الذاتية. كاحترام المشاعر المقدسة للفيثاغوررين إزاء البقوليات مثلاً. فبحسب معتقدات هذه الطائفة فإن أكل البقوليات لا يختلف عن أكل رأس أحد الأبوين. حيث يقال بأن فيثاغورث أجرى تجارب عديدة أسفرت عن أن زهرة البقوليات المدفونة لمدة 90 يوما تأخذ شكل مهبل أمرأة. وفي هذا السياق يفترض أوستين ديسي Ausin Dacey  فيما لو قام الفيثاغوررين الجدد بإحياء عادة تقديس البقوليات في الوقت الحالي . عندها ستصبح علب الفاصوليا الموجودة في المتاجر أشبه بالمجلات الإباحية المعروضة على مرأى الأطفال، وستتم حينها فرض عقوبات على أكَلَةِ الفول (mangiafagioli ) في توسكانيا. بحجة أن ذلك يتعارض وحساسياتهم الدينية. 7

قد يقال بأن المطالبة بتحصين المعتقدات والرموز يجب أن يكون مقتصراً فقط على تلك الممارسات الموغلة في الاستهزاء والحط من قيمة المعتقدات والرموز الدينية لا على الممارسات العقلانية الرصينة. فيمكن تناول المقولات أو الرموز التي تنطوي عليها منظومة اعتقادية ما ونقدها وتفكيكيها وبيان خطأها لكن في إطار نقاش مهذب. بيد أن هذا الرد يغفل الإمكانيات التي ينطوي عليه النقاش العقلاني حاصراً إياه في شكل محدد. متجاهلاً فكرة السخرية بوصفها أحد أشكال التعبير الأدبي والعقلاني. كما أن فكرة اقتصار النقد على التعبيرات العقلانية المهذبة، لا يضمن بالضرورة عدم جرح مشاعر الآخرين. إذ يمكن اعتبار وصف معتقدات طائفة معينة بالضلال مثلاً جارحاً لمعتقدات هذه الطائفة. في الواقع لا يمكن وضع حد لهذه الاعتبارات الذاتية إلا من خلال فصل الهويات الثقافية والدينية باعتبارها هويات متغيرة بالقوة عن الهويات الصلبة (الإثنية والعرقية). أما الذات بأبعادها الجوهرية الثابتة من جهة والحقوقية من جهة أخرى فتصبح مستثناة من عملية النقد تلك. 

  إن المقاربة التي ترى وجوب مراعاة حساسية الأخرين الدينية إزاء النقد، وترى في العمل النقدي فعلاً أنانياً مصلحياً يشبع الرغبات الفكرية للناقد، تشبه بحسب برايان باري تلك المقولة التي وردت على لسان ستيفن ديدالوس بطل “عوليس” الذي يرى أن المستفيد الأكبر من عرض مسرحيات شكسبير هو حساب شكسبير البنكي. وأن “ما فعله مؤيدوا حرية التعبير أمثال ملتون ولوك وجون ستيوارت مل وكانط وشيلنغهو أنهم عمموا مصالح الشاعر أو الفيلسوف أو العلام أو الفنان  …” بحيث “يكسبون أقواتهم من خلال حرية التعبير تلك” 8 بيد أن هذه المقاربة، تتجاهل أن المستفيدين من النقد الفلسفي والأدبي هم أولئك الذين يمكنهم هذا النقد من الإفلات من الأطر المحدودة للأفكار التي نشأوا عليها. كما أنه يتيح للأخرين الوقوف على مقاربات أخرى إزاء المقدس من شأنها أن تتيح لهم فرصة خلق آرائهم الخاصة إزاءه وربما أفضى بهم ذلك إلى نبذها أو تحسينها أو ربما كانت تصب في مصلحة هذه المعتقدات ذاتها من خلال البحث عن ردود وأجوبة لها. فهو محاولة صادمة وجريئة ووقحة إن جاز التعبير إزاء مقولات ورموز متعالية ثقافياً.

لا يجب أن يفهم الدفاع عن الحق في التجديف باعتباره تفضيلاً ودعوة للتجديف، بقدر ما تعني اعتباره محض ممارسة أسلوبية من ممارسات عدة في مقاربة المقدس الديني، ترجع في تقديرها إلى الشخص نفسه. على الرغم من إمكان أن يكون ممارسة تفتقد إلى “الحصافة” الثقافية في سياق ثقافي وسياسي واجتماعي معين، بيد أنها تظل ممارسة مشروعة نظرياً على الأقل.

الهوامش

  1. The Annals by Tacitus. Book1.37
  2. Olen Peter .Now, Is That Really Blasphemy? Heretical Meaning and Belief. Florida Philosophical Review. Volume VIII, Issue 1, Summer 2008
  3. بريان باري. الثقافة والمساواة: نقد مساواتي للتعددية الثقافية. ترجمة كمال المصري. الكويت: عالم المعرفة. ج1 ص60
  • بريان باري. ص60