مجلة حكمة
آفاق الحداثة تشارلز تايلور

آفاق ضرورية للحداثة

الكاتبتشارلز تايلور
ترجمةوحيد الهنودي

   هذه نبذة جد مختصرة عن منابع الأصالة والتي سأعود إليها بأكثر تفصيل لاحقا. الآن يمكننا فهم تداعياتها وسأتناول التأكيد الثاني المثير للجدل والذي أثرته في نهاية الفصل الثاني. هل يمكننا أن نقارن أي شيء تأسس بمبرر من قبل أولئك الذين يعيشون في النسبوية الناعمة، أو الذين لا يقبلون بقواعد غير تألقهم الذاتي – لنقل أولئك الذين يبدو أنهم على استعداد لإرسال الحب والأطفال والتضامن الديمقراطي لاحراز بعض التقدّم في مسيرة حياتهم؟

   حسنا، كيف نفكر؟ أن نفكّر في مشكلات أخلاقية هو أن نفكّر دوما مع شخص ما. وأنتم تبدؤون لأن لكم محاوِر حيث يوجد أو انطلاقا من الاختلاف الذي يتعمّق بينكم. إنكم لا تفكّرون انطلاقا من لاشيء، كأنكم تتحدثون إلى شخص لا علم له بأدنى مقتضى أخلاقي. من المستحيل أيضا أن نتجادل حول الخير والشر مع شخص لا يقبل بأي مقتضى أخلاقي كأن تناقشوا مشكلات خِبْرِيّة مع شخص يرفض القبول بعالم المدركات الحسيّة التي تحيط بنا.[1]

  لنفترض أننا نتحاور مع أولئك الذين ينتمون للثقافة المعاصرة، هذا يعني أنهم يحاولون تشكيل حياتهم وفقا لهذا المثال. إننا لا ننطلق فقط من الفعل الخام لمفضلاتهم. فإذا ما انطلقنا من المثال فإننا نستطيع مطالبتهم: في أي شروط يمكن تحقيق مثال من هذا النوع في الحياة الإنسانية؟ وماذا يتطلّب إن فُهِم بشكل صحيح؟ السؤالين يمتزجان أو يمكن أن يختلطا، فالثاني يبحث في تحديد جيّد لما يمكن أن يكونه المثال، والأول يبحث في إبراز بعض الخطوط الرئيسية للحياة الإنسانيّة التي يعتمد عليها تحقّقها مثل أي مثال آخر.

   أريد أن أحلل حجتين تتضمّنان هذا النوع من التساؤل. تحليلي سيكون جد موجز وسأشرع في تخطيط ما يمكن أن يكون تحليلا مقنعا. أريد فقط إعطاء احتمال أكبر لأطروحتي الثانية، والتي يمكن أن نعالج أسئلتها منطقيا. بمعنى أن نتبيّن أنه من الشائع أن نفهم مما تتكوّن الأصالة.

        إن الخاصية العامة للوجود الإنساني والتي أريد ذكرها هو طابعها الحواري dialogique أساسا. إننا نغدو فاعلين بشريين كاملين قادرين على فهم أنفسنا وإذا على تحديد الهوية بفضل مكسب لغات التعبير الإنسانية العظيمة. بالنسبة لغايات الحوار، وسآخذ عبارة “لغة” في دلالتها الواسعة والتي لا تضم الكلمات التي نستعملها في الكلام فقط بل أيضا طرق التعبير الأخرى والتي تتحدد بها، كـ”لغات” الفن والإيماءات والحب وهكذا دواليك. إننا نتلقّى تلك اللغات من خلال التبادل مع الآخرين فلا أحد يكتسب بمفرده اللغات الضرورية لتَحَدًّدِه الخاص. إننا نتحكم فيها بفضل تبادلاتنا مع أولئك الذين يعْنُون لنا، أولئك الذين يدعوهم جورج هربارت ميد George Herbert Mead “الآخرون المهمّون”[2] بهذا المعنى فإن تشكّل الروح الإنساني لا يتم بشكل أحادي monological أي بشكل مستقل بل يكون في لقاء مع الآخر.

     علاوة على ذلك ليس ثمة فقط مشكل التّكون الذي نستطيع إهماله فيما بعد، فليس صحيح أننا نتعلّم اللغات بالحوار فحسب وبعد ذلك يمكننا أن نستعملها لأنفسنا ولاستخدامنا الخاص، بيد أن ذلك يصف على نحو ما موضع ثقافتنا. من المتوقّع أننا نطوّر آراءنا ووجهات نظرنا ومواقفنا من خلال التفكير المنفرد. لكن بالنسبة للمشكلات الجوهرية مثل تحديد هويّاتنا فالأمور لا تسير كذلك،. إننا نتحدد دوما في حوار، وأحيانا بالتعارض مع هويات “الآخرين المهمّين”، الذين يرغبون في التّعرف علينا. وحتى عندما ننجو من بعضهم كآبائنا مثلا وعندما يغيبون عن حياتنا فإن محادثاتنا التي نقيمها معهم تتواصل ما بقينا أحياء.[3]

   إن إسهام الآخرين المهمّين حتى وإن لم يظهروا إلا في بدايات حياتنا تبقى ما بقينا. والبعض ربما يتبعونني حتى هنا، ولكن دون أن يتخلوا تماما عن مثالهم الأحادي. إنهم يعتقدون أنه لا يمكننا أن نتحرر من أولئك الذين شَكَّلَنَا حبّهم وغايتهم في بدايات الحياة. لكن علينا أن نناضل من أجل أن نحدد أنفسنا بما أمكن، لكي نفهم وإذا نتحكم في تأثير أبائنا لاكتمالنا وأيضا لتجنُّب السقوط في تبعيّة من نفس الجنس. إننا في حاجة للآخرين لإكمالنا ولكن ليس ليُحدّدوننا.

  هو ذا المثال واسع الانتشار ولكني أعتقد أنه يستخف بشكل هام من الدور الأحادي للحياة الإنسانية بمحاولة تقييدها قدر الإمكان في التكوين. فأن ننسى أن فهمنا للأشياء الجيّدة يمكن أن نجدها متحوّلة عندما نتقاسمها مع من نحب وأن بعض الخيرات لا تصبح سهلة المنال إلا بفضل المشاركة. لهذا السبب نحتاج لجهد هائل بل وحتى قطائع مؤلمة لكي نمنع أولئك الذين نحب من تشكيل هويّتنا. فماذا نعني بالهويّة؟ هي التي تحدّد “ما” نحن؟، “من أين أتينا؟”. بهذا المعنى تُشَكِّل الخلفية التي من خلالها تكون لأذواقنا ورغباتنا ولأفكارنا وطموحاتنا معنى، وإذا كانت بعض الأشياء التي أعطيها قيمة ليست متاحة لي إلا في علاقة مع الشخص الذي أحب، فإن هذا الشخص يصبح عنصرا من هويتي الداخليّة.

    قد يمثّل هذا الحوار في نظر البعض حدّا يرغبون في تحرير أنفسهم منه. إن ما يحث الناسك على الانسحاب ودون شك، أو ولتناول حالة مألوفة أكثر في ثقافتنا الفنان الباحث عن العزلة، من وجهة نظر أخرى يمكننا أن نعتبر الانسحاب ذاته طموح لشكل من الحوار، في حالة الناسك يكون المُحَاوَر هو الله وفي حالة الفنان المتفرّد فإن الأثر الفني ذاته “يتوجه”[4] نحو جمهور قادم، والأثر الفني يجب أن يخلق ذاته. إن شكل الأثر الفني يوضّح إلى أي حدّ يتوجّه نحو مُتَقَبَّلٍ. إذن مهما اعتقدنا فإن إبداع هويّتنا وتطوّرها وفي غياب جهد بطولي يستلّنا من الوجود المشترك سيظل حواريّا طيلة حياتنا.

   سأبيّن لاحقا أننا أدركنا هذه الحقيقة الكبرى في الثقافة الجديدة للأصالة. لكني من ناحية أرغب أن أضع في الاعتبار الخاصية الحوارية لوضعنا، ومن ناحية أخرى بعض المقتضيات الملازمة للأصالة، من أجل أن أبيّن أن الطرق الأكثر أنانية و”النرجسية” للثقافة المعاصرة فمن الواضح أنه لا يمكن الدفاع عنها وسأبيّن أن الطرق التي تهدف للتألق الذاتي باستقلال (أ) عن مقتضيات روابطنا مع الآخرين، (ب) أو مقتضيات ومن كل نوع، تنبع من حقائق عليا أو ببساطة منبع آخر غير الطموحات والرغبات البشرية غير المنتجة والتي تهدم شروط الأصالة ذاتها. سأعالجها انطلاقا من الصعوبة الثانية وذلك بمناقشة مقتضيات الأصالة ذاتها كمثال.

    عندما نحاول البحث عن تعريف للأنا، وأن نحدد ممّا تتكوّن فرادتنا، سنفهم عندها على الفور أننا لا نستطيع أن نقوم بذلك إلا في علاقة بما هو دالّ، فتعريفي لنفسي هو بحث عمّا هو هام في اختلافي عن الآخرين. أستطيع أن أكون الشخص الوحيد الذي يملك 3732 شعرة فوق رأسه، أو لي نفس جسم شجرة من سهول سيبيريا ولكن ما الذي يعنيه ذلك؟ إذا حاولت في المقابل أن أعرّفني من خلال قدراتي على صياغة الحقائق الهامة كأن أعزف على البيانو، أو أيضا باستعادة تقاليد السلف فإنني أتموقع في مجال تعريفات الأنا التي لها معنى.

    تقفز التعريفات إلى الأعين. سنعرف لاحقا أن القائمة الثانية للأوصاف تملك دلالة إنسانية، أو أن الأشخاص يستطيعون منحها معنى. في حين أن الأولى لا تملك دلالة أو على الأقل يعوزها التفسير، فمن الممكن أن العدد 3732 يكون مقدّسا في مجتمع ما، ويكون امتلاك هذا العدد من الشعر ذا معنى، ولكن لنصل إلى هذا الحد علينا أن نثبت وجود صلة بالمقدس.

    لقد رأينا في الفصل الثاني كيف تنزلق الثقافة المعاصرة للأصالة نحو النسبوية الناعمة. هذا ما يمنح للذاتيّة قوة إضافية فيما يتعلّق بالقيم. فليس للأشياء في ذاتها دلالة ولكن لكون الناس يمنحونها إيّاها – كما لو أننا نستطيع أن نحدد ما هو دال، إما بطريقة إرادية أو بطريقة لاإرادية ولاشعورية، بل فقط لكوننا نريد ذلك. هذا مناف للعقل، إنني لا أستطيع أن أحدد أن الفعل الأكثر دلالة هو أن أقوم بتحريك أصابع قدمي في طين دافئ ومن غير تفسير، هذا ليس أكثر معقوليّة من امتلاك 3732 شعرة رأس. لذلك لا أستطيع أن أعرف موقفي من شخص يدعي أنه يحقق نفسه بتلك الطريقة. فما الذي يريد أن قول من يدّعي ذلك؟

    لكن إذا كان ذلك لا يأخذ معنى إلا بفضل تفسير ما ( يمكن أن يكون الطين هو العنصر الذي يتجسّد فيه روح العالم والذي نتصل به من أصابع الساق) إن هذا يصبح موضوعا للنقد. فما الذي يحدث إن كان التفسير خاطئ، إذا لم يصمد أو إن كنّا نستطيع استبداله بما هو أفضل؟ إن عواطفنا وبطريقة ما ليست إطلاقا مبدأ كاف لاحترام موقعنا لأننا لا نستطيع أن نحدد ما هو دال. إن النسبوية الناعمة تنهدم ذاتيّا.

   تأخذ الأشياء أهمية عندما نضعها فوق خلفية للمعقولية، ولنسمي ذلك الأفق. تبعا لذلك ينبغي علينا أن نتحاشى حذف أو رفض الآفاق التي تستمد منها الأشياء دلالتها بالنسبة إلينا إن كنا نريد أن نتحدّد بشكل دالّ. إن جنس الحركة المدمِّرة ذاتيا والتي نطرحها باستمرار في مجتمعاتنا الذاتانية، وذلك بالإصرار على مشروعية الاختيار بين خيارات مختلفة، وغالبا ما نجد أنفسنا مرغمين على أن نحرم خيارات من معانيها. مثلا يوجد خطاب يتجه إلى تبرير الميولات الجنسية غير التقليدية. إن البعض يطالب أن يكون الزواج الأحادي بين المرأة والرجل ليس هو الشكل الوحيد للوصول إلى الامتلاء الجنسي، وأن المنجذبين نحو العلاقات المِثْلِيَّة لا يجب أن يشعروا أنهم منبوذين أو مبخوسين بأي شكل. هذا يتطابق كليا مع القبول الحديث بالأصالة كفَرْقٍ وفرادة واعتراف بالتنوع. سأعود إلى ذلك لاحقا. بيد أنه وأيا كانت الطريقة لشرح ذلك فإن بلاغة “الاختلاف” و”التنوع” (وحتى التعددية الثقافية) هي ضرورية للثقافة المعاصرة للأصالة.

      في عدد من هذه الأشكال يتحوّل هذا الخطاب إلى مدح للاختيار في حد ذاته: كل الخيارات صالحة لكونها تُؤْخَذ بحرية وأن الاختيار يمنحها قيمة. من الواضح أن المبدأ الفرداني الذي تتضمنه النسبوية الناعمة يعمل هنا. ولكن فجأة ينكر وجود أفق للدلالة سابق الوجود، والذي بفضله تكون بعض الأشياء أشد أحقيّة من غيرها وبعضها لا قيمة له مثل كل الخيارات. في هذه الوضعيات فإن ميلا جنسيا يفقد كل معنى خصوصي. إنه يتموقع في مستوى أي تفضيل آخر – بالنسبة لشركاء أكثر أو أقل أو بالنسبة للشقر أو السمر. لا أحد يفكر في إصدار حكم حول هذه المفضلات إذ ليس لها أي أهمية، إنها مجرد شهوة. وحالما نساوي الميل الجنسي بأي تفضيل، وهو ما يحدث عندما يشكّل الاختيار تبريره، فإن الهدف الأساسي – المطالبة بقيمة متساوية لكل ميل أيا كان- سيغيب بحدة. وبذلك يكون الاختلاف الذي يتم الترويج له بلا معنى.

       يجب أن نقوم بذلك وبشكل مختلف حتى نمنح القيمة لميل جنسي، وبأكثر خبرية نستطيع القول أننا وبالنظر إلى الطبيعة الفعلية للمثلية الجنسية لا نستطيع أن نعلن ماقبليا التوجه الصالح وذلك إذا ما انطلقنا من مبدأ أن كل اختيار مبرر.         

      في هذه الحالة فإن حكم القيمة ملوّث بمثال آخر كنت قد بينته أعلاه، وهو مرتبط فعليا بالأصالة، إنه حرية التحدد الذاتي. هذا ما يفسر وفي جزء أن مجرّد فعل الاختيار يأخذ أهمية قصوى وأننا ننحرف نحو النسبوية الناعمة. سأعود إلى ذلك عندما أصف كيف ينحرف مثال الأصالة.

    الآن علينا أن ندرك أنه ليس بإمكاننا أن ندافع عن الأصالة حين نجهل أفاق المعنى. وحتى الشعور بأن معنى حياتي يتعلّق بالاختيار الشخصي الذي قمت به –هذا هو الحال حين تتأسس الأصالة على حرية التحدد الذاتي –  ليتعلّق بوعيي أنه يوجد وباستقلال عن إرادتي شيء من النبالة والشجاعة وإذا من الدلالة لإعطاء شكل لحياتي الخاصة. ثمة تمثّلين للحياة البشرية يتعارضان هنا: من ناحية شجاعة من يبدع، وعفوية من يستسلم لسهولة النمطية من ناحية أخرى. لا أحد خلق التعارض إننا نكتشفه وندرك لاحقا صدفة. إن الأفق مُعْطَى.

    ثمة هاهنا ما هو أكثر، هذا الأفق الأدنى والذي يؤسس أهمية الاختيار غير كاف كالذي سمح بإدراكه مثال التوجه الجنسي. من المهم إذا أن أختار حياتي كما أكد ذلك جون ستيوارت ميل John Stuart Mill  في  “في الحرية”[5]، إلا إذا كانت بعض الخيارات أكثر دلالة من غيرها، ففكرة الاختيار الشخصي ذاتها تضمحلّ في التفاهة، وإذا في عدم الانسجام. إن مثال الاختيار الحر لا يحمل معنى إلا إذا كانت بعض المعايير أكثر قيمة من غيرها. لا أستطيع أن أتظاهر أني اخترت حياتي وأعرض مفردات نيتشوية لأني فقط تناولت بيفتاك بالبطاطس بدل فطور الصباح. لست أنا من يحدد ما هي الأسئلة الهامة. إذا كان ذلك كذلك فلا شيء مهم ومثال حرية الاختيار ذاته كمثال أخلاقي يفقد كل قوته.

    يفترض مثال الاختيار الحر إذا وجود معايير للمعنى وراء فعل الاختيار البسيط. هذا المثال لا قيمة له بحد ذاته: إنه يقتضي أفقا للمعايير الهامة، والتي تساعد على تحديد  المقياس الذي يجعل  التحدد الذاتي ذا دلالة. سأكون حتما فيلسوفا عظيما من بعد نيتشه إن استطعت إعادة تحديد جهاز القيم. ولكن من أجل ذلك ينبغي أن نعيد تحديد قيم تتعلق بالأسئلة الهامة، وليست تلك التي تتعلّق بقائمة الأكل عند ماكدونالد أو موضة السنة القادمة.

    إن الفاعل الذي يبحث عن معنى الحياة والذي يريد التحدّد بشكل دال، ينبغي أن يتموقع قبالة أفق الأسئلة الجوهرية. هو ذا ما يوجد من تدمير ذاتي في أشكال الثقافة المعاصرة والذي ينغلق على التألق الذاتي بالتعارض مع مقتضيات المجتمع أو الطبيعة، والذي يتغاضى عن التاريخ ومقتضيات التضامن. هذه الأشكال الأنانية و”النرجسية” هي فعلا “سطحية وتافهة”، إنها تسطّح الحياة وتختزلها كما قال بلوم. لكن ليس لكونها تنتمي لثقافة الأصالة بل لكونها أساسا تتحاشى مقتضياتها. إن التغاضي عن كل ما يتعالى عن الأنا هو على وجه التحديد حذف لشروط  المعنى وملامسة للتفاهة. بالقدر الذي يطمح الأفراد إلى مثال أخلاقي فإن هذا الحبس ذاته تناقض في العبارات. إنه ينسف الشروط التي بموجبها يتحقق هذا المثال.

    بمعنى آخر لا أستطيع أن أحدد هويتي إلا بتموقعي في علاقة بأسئلة هامة، وبحذف التاريخ والطبيعة والمجتمع ومقتضيات التضامن وكل شيء باستثناء ما أجده داخلي، إن ذلك قضاء على كل ما له قيمة. أستطيع أن أحدد لنفسي هوية لا تكون تافهة وذلك فقط إن وُجِدْتُ في عالم تكون فيه للتاريخ ولمقتضيات الطبيعة وحاجيات إخوتي من البشر وواجباتي كمواطن ودعوة الرب، أو كل سؤال آخر من هذا القبيل يوجد فعلا. إن الأصالة لا تتعارض مع المقتضيات التي تعلو الأنا بل تستدعيها.

    إذا كان هذا هو الحال فإن لكم حججا تدفعون بها أولئك الذين يتوغلون في الأشكال الأكثر تفاهة لثقافة الأصالة فالحجج لا تعوزكم. إن هذا لا يتقدّم بنا كثيرا بالتأكيد، فقد وضّحت فقط أن بعض الأسئلة التي تتجاوزنا ضرورية، وبيّنت أنه لا ينبغي أن تُؤخَذ على محمل الجد، لقد أوجزت تحليلي والذي أتمنّى أن أوفيه في الفصول الموالية. لكني الآن أريد أن أعود إلى مشكل آخر كنت قد أثرته وأن أسأل إن كان هنالك شيء من التدمير الذاتي في مثال التألق الذي يرفض كل صلة مع الغير. 

المصدر: الفصل الرابع من كتاب (قلق الحداثة) لـ تشارلز تايلور

ملاحظة: نواصل تقديم ترجمة كتاب تشارلز تايلور The Ethics of Authenticity الصادر عن مؤسسة Havard University Press. Cambridge. Massachuttes and London. Englande 1991  وقد آثرنا الابقاء على العنوان الذي صدرت به النسخة الكندية The Malaise of modernity .    


 

هوامش  

23 لقد قمت بعرض هذا التصور حول التفكير الاجتماعي في: « Explanation and Partical Reason ». Wider Working Paper WP 72, World Institue for Development and Economics Research, Helsinki, 1989.

24 George Herbert Meead. Mind, Self and Society, Chicago, Chicago University Press; 1934.

25 إكتشف باختين وتلامذته هذا الحوار الداخلي، حول باختين أنظر خاصةProblems of Dostoyevsky’s Poetics. Minneapolis, University of Minneapolis Pres, 1984, Carly Emerson et Michael Holoquist

انظر أيضا Michael Holquist et Katerina Clark, michail Bakhtin, Cambridge. Havard University Press, 1984, et James Wertsch, Voices ofTHE Mind ? Cambridge, Havard University Press, 1991.

26 أنظر:Bakhtine, « The Problem of the Texte in Linguisstics, Philology and the Human Sciences »,in Speech Games and Other Later Essayes,, Austin, Texas UNIVERSITY Press ? 1986. P 126 تحت إشراف Carly Emerson et Michael Holoquist, Austin, Texas University Press, 1986, p126.

من أجل مفهوم لـ”Super-addressee” ما بعد محادثينا الموجودين.

27  “يكفي أن يكون ثمة قدر كافي من الحس المشترك ومن التجربة من أجل رسم مخطط حياة فضلى، وليس لكونها الأفضل بذاتها ولكن لكونها شخصية.” John Stuarte Mill, Three Essays (Oxford University Press, 1975), p 83.