المترجم: تُعتبر مقالة (نار الحياة) بمثابة آخر ما كتبه الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي قبل رحيله عام 2007. وقد نشرها موقع POETRY FOUNDATION بعد شهور قليلة من وفاته.
حاولت في مقال لي بعنوان “البراجماتيّة والرومانسيّة” أن أؤكد من جديد على حجة شيلي Shelley في “الدفاع عن الشعر”، فلقد قلت أن في قلب الرومانسية يوجد الادّعاء بأن العقل يستطيع أن يسلك فقط الطرق التي فتحها الخيال أولاً. لولا ذلك لا وجود لكلمات ولا تفكير. لا خيال ولا كلمات جديدة. لا يوجد كلمات من هذا القبيل، ولا تقدم أخلاقي أو فكري.
لقد أنهيت ذلك المقال بمقارنة استطاعة الشاعر في أن يمنحنا لغة أكثر ثراء بمحاولة الفيلسوف في توسل منفذ غير لغوي للوصول إلى الحقيقة الفعلية، ولقد كان حلم أفلاطون بمنفذ على هذا النحو في حد ذاته إنجازًا شعريًا مذهلاً. ولكني أكّدت بأن هذا الحلم تجسّد في زمن شيلي، فنحن الآن أكثر قدرة من أفلاطون للإقرار بمنتهانا، أي أن نعترف بأننا لن نكون أبدًا على تماس مع شيء أعظم من ذواتنا. إننا نأمل عوضًا عن ذلك أن تصبح الحياة الإنسانية أكثر ثراءً هنا على الأرض مع توالي القرون، لأن اللغة المستعملة من قبل ذريتنا البعيدة سيكون لها إمكانات أكثر منا. ستقف كلماتنا حيال كلماتهم، تمامًا كما تقف كلمات أسلافنا البدائيين حيال كلماتنا.
لقد استخدمت في مقالي، كما في كتاباتي السابقة، مفهوم “الشعر” بمعناه واسع النطاق، فلقد عملت على توسيع مفهوم “الشاعر المكين” لهارلود بلوم Harold Bloom ليشمل الكتّاب النثريين الذي أبدعوا ألعابًا لغوية جديدة لنا للعبها، إنهم أناس مثل أفلاطون، ونيوتن، وماركس، داروين وفرويد، بالإضافة للشعراء مثل ميلتون وبليك. قد تنطوي تلك الألعاب على معادلات رياضية، أو حجج استقرائية، أو سرديات درامية، أو (في حالة من ينظمون الشعر) ابتكارًا عروضيًا. ولكن التمييز بين النثر والشعر لم يكن له علاقة بمرامي الفلسفية.
بعد مدة قصيرة من الانتهاء من مقال “البراجماتيّة والرومانسيّة”، كنت قد شُخصّت بمرض سرطان البنكرياس، وهو غير قابل للاستئصال. وبعد بضعة أشهر من تلقي الأخبار السيئة، كنت جالسًا لشرب القهوة مع ابني الأكبر وابن عمه الزائر، هذا الأخير الذي سألني (وهو رجل دين) عن ما إذا كانت أفكاري قد انعطفت نحو المسائل الدينية، فأجبت “كلا”. ليسألني ابني “حسنًا، وماذا عن الفلسفة؟”، فأجبته كذلك “كلا”، فلا تبدو أن الفلسفة التي قمت بكتابتها أو قرائتها لها أي صلة معنية بحيثيتي هذه، فلم أشتبك مع قول أبيقور بأنه من غير العقلاني الخوف من الموت، ولا مع رأي هايدجر بأن النزعة اللاهوتية تنشأ من محاولتنا التهرب من فنائنا . ولكن لا التحرر من الاضطراب ataraxia ولا الكينونة نحو الموت Sein zum Tode كانا ضمن اهتمامي.
يصرّ ابني مجددًا ويسأل “ألم يكن لأي شيء قرأته أي فائدة؟”، فأجبته “بلى!”، ووجدت نفسي أقول باندفاع “الشعر” ، فسأل “أي شعر؟”، فاستحضرت له من الذاكرة الأبيات الشعرية الأكثر شهرة من قصيدة سوينبرن Swinburne “حديقة النثر الصنوبري”، وكنت أقولها ببهجة غريبة، لقد كانت تلك الأبيات مثل حبات كستناء قديمة:
نشكر في صلاة شكر قصيرة
أيا كانت الآلهة
أن لا حياة تحيا إلى الأبد،
وإن الراقدين لا يُبعثون أبدا،
وإن حتى النهر الخائف
تهب رياحه على نحو ما آمن تجاه البحر.
وكلمات لاندور Landor في “عيد ميلاده الخامس والسبعين”:
أحببت الطبيعة والفن بعدها،
أدفّى يديَّ أمام نار الحياة،
إنّها تأفل، وأتهيأ للرحيل.