مجلة حكمة
يبيّن جوزيف كونراد

يرى كونراد بأن الصفحات تتراكم وتظل الحكاية كما هي – شوستر لينكولن / ترجمة: هديل الدغيشم

يبيّن جوزيف كونراد مذهبه ككاتب في رسالة عتيقة يوجهها إلى آرثر سيمونز في وقت غابر:

 

            ” إن الأمر الوحيد الذي أوقنه هو أنني أوشكت على الوصول إلى الغاية من مهمتي وإنسانيتي بروح خاشعة، فالأرض ليست إلا معبد تُعرض فيه مسرحية غامضة صبيانية شجية، ومريعة ومثيرة للسخرية بما فيه الكفاية، على جميع الأصعدة. لقد حاولت مرة التصرف بتهذيب، ولم أمتهن أشباه المشاعر الدينية بالدموع والتأوهات؛ وحتى حينما أكون ساخرًا أو ممتعضًا فلم يسبق لي أن ابتسمت ابتسامة عريضة أو اكفهررت وصررت أسناني، أي أنني كنت أحاول الكتابة بوقار، ليس استهانة بذاتي، ولكن لأجل الحكاية فحسب، كانت مسرحية استُهلت بافتتاحية ضبابية وأُتممت بخاتمة مُبهمة.

             لا أظن بأن ذلك الأمر قد لُوحظ، إن ما يبدو ظاهرًا للعيان هما روحك النادمة التي تدعو جبينك لملامسة الأرض، وذاك المتعبد المنتشي على شفا السكك الحديدية، بينما يقف ذلك الرجل ساكنًا ومذعورًا، متخفيًا تحت فيء ذاك العمود، متخوفًا من كشف نواياه الخبيثة. ولذلك فإنني أُدعى بالغليظ الخسيس، رجل بلا أي مبادئ وقيم، منافق تغشاه الوحشية. ولكني سأصارحك بسريّة تامة بأنني لست كما أبدو للعيان، وللعقول الضامرة. “

 

            تُعد كتابة جوزيف كونراد غامضة، كشخصيته تمامًا، وبيّنت تصريحات العديد من أصدقاءه بأنه رجل بليغ وجذاب. ووصفه آرثر سيمونز بأنه” إحدى أهم الشخصيات الأصيلة، والخبيثة، والكئيبة في زماننا. “ويرى صديقه ومعاونه فورد مادوكس فورد بأنه” سيّد مُغامر قد أبحر مع درايك.*“

            إن السمات التي أتاحت لـ كونراد الكتابة بحس عالٍ من الواقع هي ذاتها التي خلقت له حياة موجعة مأساوية. امتزجت حساسيته، وحدّته، وشفقته التهكمية على البشر مع معاناته البدنية بسبب النقرس، وأغرقتاه في أعماق الاكتئاب الحالكة، حيث أنعشه وأحياه في نهاية المطاف لينه الفذ، وبدا بذلك بطلًا مغوارًا. عاش من ١٨٧٥ حتى ١٩٢٤.

           

            قدّم مخطوطة” حماقة آلماير“لناشر لندن” فشر أنوين“عام ١٨٩٤ بعدما صار بحارًا، لقد دُعي لمكتب الناشر واستقبله هناك إدوارد غارنيت، ثم قارئ مساعد يافع، وقُبل كتابه بناء على توصيتهما، إن غارنيت ذاك هو من شجع المغترب اليافع باول ليستمر بالكتابة. لقد أصبحا صديقين واستمرا سوية لأربعين عامًا، حتى وفاة كونراد . وفي رسائله لغارنبت، وكافة رسائله، أدركنا مدى غموضه، ذو كينونة متذبذبة؛ حاذقة، ورقيقة، ومرحة، وعنيفة، وبائسة، ومنتشية، وقبل كل شيء وفيّ لفنّه ورفاقه. كُتبت الرسالة التالية أثناء إحدى نوبات اكتئابه، أثناء كتابته لروايته” الإنقاذ“:

 

 

ظلام دامس يعمّ كل شيء

الثالث من أغسطس، عام ٩٨

 

عزيزي غارنيت، إنني لست ميتًا ولكنني نصف حيّ فحسب، علي أن أرسل لك بعض الرسائل قريبًا، إنني أكتب إليك وكلي قنوط ويأس، إلا أنني مستمر بالكتابة. أعجز عن التعبير عن شعوري، إذ تتراكم الصفحات وتظل الحكاية كما هي.

 

تغمرني الرغبة بالانتحار.

خُطّ لي رسالة وبلغني عن مقرك وكيف تسير أيامك، ولو استطعت الحضور فسيكون تعبيرًا حميمًا وحقيقيًا عن الصداقة الوثيقة، وإحسانًا مخلصًا.

 

نرسل تحياتي الصادقة وحب جيسي العميق إلى زوجتك، إن جيسي واهنة نتيجة لتسنين ابننا، إنهما يواجهان وقتًا عصيبًا.      

 

            أخشى من وجود أمر شائك يعرقل تفكيري، إنني أفقد أدنى صلة بعملي، وأعجز عن العودة إليه، ظلام دامس يعمّ كل شيء.

 

المخلص / جوزيف كونراد


 

إن مستوى تعافي كونراد من مزاجه الانتحاري والسوداوي يثبته نتاجه الأدبي بإتمامه لستين عملًا، بما في ذلك عشرين رواية شهيرة أبدعها قلمه، منها أعماله الجبارة:” اللورد جيم“ و الفرصة“ و” نوسترومو“ و”النصر“ و”الإعصار“ و”سهم من الذهب.“


*درايك: نائب الأميرال، ملّاح إنجليزي، وتاجر رِقّ، وسياسي ومدني العصر الإليزابيثي. 

المصدر: كتاب/ The World Great Letters