مجلة حكمة
هل نحن ما نقرأه جورج اورويل

قراءة في كتاب “هل نحن ما نقرأه؟” لجورج أورويل.

الكاتبشهرة بلغول

صدر مؤخراً  (شهر أفريل 2022) كتاب جورج أورويل George Orwell  (1903-1950) “هل نحن ما نقرأه؟” « Sommes-nous ce que nous lisons ? » في نسخته الفرنسية عن منشورات ألف ليلة وليلة ومنشورات فايار، ترجمة شارل ركورسيه Charles Recoursé ، وقد جمع بين دفتيه أربعة مقالات، هي على الترتيب: مذكّرات مكتبة، اعترافات مراجع كتب (ناقد أدبي)، كتب جيّدة كتب سيئة (أجود الكتب السيئة)، الكتب مقابل السجائر، وهي مقالات سبق له نشرها متفرّقة خلال الفترة الممتدة بين 1936 و1946، أمّا مواضيعها فتدور حول عالم الكتب والقراءة، كتبها بلغة ساخرة تعبيراً عن موقفه من المشهد الأدبي في بريطانيا آنذاك.

مذكّرات مكتبة

يستعيد جورج أورويل في هذا المقال الصادر لأوّل مرّة سنة 1936 في مجلة فورتنايتلي اللندنيّة « Fortnightly » ذكرياته عن الفترة التي اشتغل فيها مساعداً في مكتبة، مستحضراً التصوّرات التي تقترن عادة بهذا المكان خاصة في مخيّلة العاطلين عن العمل؛ إذ تتجلّى لهم كفردوس يتوافد عليه عجائز في هيئة محترمة، لا يتوقفون عن تصفح المجلدات، ممّا يوحي بأنّ القراءة عادة شبّوا وشابوا عليها؛ لكن الحقيقة الصادمة التي أدركها هي ندرة المولعين بالكتب في الواقع؛ إذ على الرغم من احتواء الرفوف على كتب قيّمة؛ فإنّ الأغلبيّة لا تميّز بين الجيد والرديء، كما أنّ الفئة الأكبر من الزبائن تمثّلت في فئة النساء اللواتي يبحثن عن هديّة مناسبة لأبناء أشقائهن، إضافة إلى أنّ الطابع العام الذي يميّز الوافدين هو انتماؤهم إلى فئة قد تبدو مزعجة في أي مكان آخر؛ لكن المكتبة تفتح أمامهم إمكانات غير متوقعة، مثل تلك السيّدة العجوز التي تبحث عن كتاب لشخص عاجز، أو تلك التي تبحث عن نسخة من كتاب لطيف سبق لها أن قرأته سنة 1897؛ لكنّها نسيت عنوانه واسم صاحبه، فضلاً عن موضوعه، محتفظة بذكرى غلافه الأحمر. ويرى أورويل أنّهما تمثّلان صنفين من المزعجين الذين يمكن العثور عليهم في المكتبات، ومن النماذج الأخرى، صنف يزور المكتبة مراراً خلال اليوم ذاته، تفوح منه رائحة فتات الخبز القديم، وكأنّه في طريقه إلى التحلّل، محاولاً أن يبيع كتباً لا قيمة لها، وصنف آخر يطلب الكثير من الكتب دون أن تكون له نيّة صادقة في اقتنائها والعودة لتسديد ثمنها، وقد بدا له هذا الأمر -في البداية- مثيراً للاستغراب والتساؤل حول دوافع هؤلاء، خاصة أن الكتب المطلوبة نادرة وثمينة؛ لكنّه أدرك لاحقاً أنّ قسماً معتبراً من هؤلاء مصاب بالبارانويا (جنون العظمة)؛ إذ يختلقون عادةً قصصاً وحكايات لتبرير عدم حيازتهم للمال، متوهّمين قدرتهم على إقناع المخاطب بها، لينتهي بهم المطاف إلى تصديقها، مفسّراً هذا النزوع بأنّه  في مدينة مثل لندن، تمتلئ الشوارع بجموع المجانين الذين يختارون عادة التجوّل في المكتبات، لأنّها من بين الأماكن القليلة التي يتاح لهم البقاء فيها مدة طويلة دون الحاجة إلى إنفاق المال، وحين يدرك أنّه بصدد التعامل مع أحدهم يجهّز له الكتب التي طلبها ثم يعيد تصنيفها ورصفها في الرفوف بعد مغادرته؛ لكن الملاحظة الأهم التي توصّل إليها هي أنّ لا أحد من هؤلاء قد فكّر يوماً في أخذ كتاب (سرقته) دون تسديد ثمنه؛ إذ يكفي تقديم الطلبيّة ليشعرهم (يوهمهم) بإنفاق المال.

أمّا عن أنشطة المكتبة فيوضّح بأنّه مثل بقيّة المكتبات التي تبيع الكتب المستعملة، توجد أنشطة أخرى ثانويّة تتمثّل في بيع آلات الكتابة والطوابع البريديّة المستعملة، معتبراً هواة جمع الطوابع البريديّة نوعاً مدهشاً من الزبائن، يتشكّل من أعمار مختلفة؛ لكن حصراً من فئة الذكور، وإضافة إلى ذلك تبيع المكتبة توقعات الأبراج التي ينتجها شخص ادّعى أنّه تنبأ بحدوث زلزال اليابان سنة 1923، وعادة ما كان الزبائن يعودون لتأكيد صحة هذه التوقعات المقترنة بالإقرار بأنّ صاحبها شخص محب لشريكه من الجنس الآخر، وأنّ أكبر عيوبه تكمن في سخائه.

بلغة ساخرة، يشير جورج أورويل إلى أنّ جزءاً معتبراً من المداخيل يأتي من بيع كتب الأطفال، خاصة تلك التي لم ينجح بيعها عند طرحها في الأسواق لأوّل مرة، مضيفاً بأنّ كتب الأطفال اليوم هي أشياء قبيحة، خاصة حين تعرض بكميات كبيرة. أمّا قبل حلول أعياد السنة الميلاديّة بعشرة أيّام فتتوزع المبيعات بين بطاقات المعايدة و التقاويم السنويّة، لتظلّ إعارة الكتب أهم نشاط ثانوي؛ إذ تضم مكتبة الإعارة ما يزيد عن خمسمائة عنوان من كتب الخيال تتم إعارتها بثمن بخس، ممّا يجعلها حلماً بالنسبة للصوص الذين يبحثون عن جرائم سهلة لكسب المال، أمّا الفئة الأكثر استعارة فتتكون من نساء ينتمين إلى بيئات وأعمار مختلفة، يخترن عادة روايات حب رومانسيّة؛ مؤكّداً أنّ هذا لا يعني أنّ الرجال لا يقرأون الروايات؛ وإنّما هم يتفادون هذا النوع تحديداً، ويفضّلون بدلاً عنه اختيار ما يصفونه بالروايات المحترمة أو الروايات البوليسيّة، ومن بين هؤلاء مشترك قرأ ما يفوق أربع روايات بوليسيّة في الأسبوع على امتداد سنة كاملة، دون احتساب ما استعاره من مكتبات أخرى، فحسب جورج أورويل يكفي ما قرأه من صفحات خلال سنة لتغطية مساحة قدرها نصف هكتار، وما يميّزه أنّه كان لا يعيد قراءة الكتاب الواحد مرتين، إضافة إلى عدم التفاته إلى عنوان الكتاب أو اسم صاحبه؛ إذ يكفيه الشروع في قراءته ليدرك أنّه فعل ذلك سابقاً.

يؤكّد في مقام آخر أنّ معرفة الأذواق الحقيقية للقرّاء لا يتحقّق إلاّ في مكتبات إعارة الكتب، خلافاً لما  يشاع بأنهم يفضّلونه، كما أنّ المرء قد يصدم من إدراك تراجع موضة الكتّاب الكلاسيكيين؛ فقد صار من غير المجدي اقتراح ديكنز أو ثاكري أو جين أوستن وغيرهم في مكتبة عاديّة، كما أنّ العثور على كتب القرن التاسع عشر في إحدى المكتبات من شأنه أن يجعل أي قارئ يفر منها، وعلى الرغم من ذلك؛ يبقى بيع كتب ديكنز وشكسبير أمراً يسيراً؛ ذلك أنّ الأول يظل من فئة الكتاب التي يطمح الجميع في قراءة كتبهم، حتى أن شخوصه صارت في شهرتها أشبه بشخصيات الكتاب المقدّس، أمّا الظاهرة الأخرى الجديرة بالملاحظة فهي افتقار الكتب الأمريكية للشعبيّة وخاصة القصص القصيرة منها، فمن عادة الزبائن الذين يطلبون النصائح من المكتبيين أن ينبّهوا إلى أنّهم لا يريدون القصص القصيرة، وإذا سئلوا عن السبب أشاروا إلى أنّ التآلف مع شخوص أخرى في كل قصة أمر متعب، فهؤلاء يفضّلون الدخول في رواية لا تطالبهم بأي تفكير، بمجرد تجاوز فصلها الأوّل، مؤكّداً أنّ الملام في هذه الحالة ليس جمهور القراء، وإنّما الكتّاب، فأغلب القصص الحديثة، الإنجليزية منها والأمريكيّة تفتقر إلى الحياة وإلى القيم أكثر من معظم الروايات، وعلى العكس من ذلك، تنجح القصص التي تجيد صنع الحكايات في العثور على قرائها.

يتساءل أورويل قائلاً: “هل أودّ امتهان بيع الكتب؟” ليشرع في صياغة جواب مفصل يتضمّن الأسباب الموضوعيّة وراء قراره، يقول: “عموماً وعلى الرغم من طيبة رب العمل السابق، والأوقات الجميلة التي قضيتها في المكتبة فلا”، مبينّاً أنّ الأمر لا يتعلّق بصعوبة المهنة؛ إذ بإمكان أي شخص يملك رأس مال وقدراً من الفصاحة التي تؤهله لإقناع الآخرين أن ينجح في بيع الكتب، وما لم يشتغل في مجال الكتب النادرة فليست مهنة يصعب اكتسابها، فضلاً عن أنّها ستعود على صاحبها بفائدة مضاعفة إذا سبق له مطالعة كتاب، الأمر الذي يندر بين أغلب محترفي هذه المهنة، كما أنّ من مزايا هذه المهنة طابعها الإنساني، إذ خلافاً للمهن الأخرى، لا تسعى المؤسسات الكبرى في هذا المجال  إلى إبادة المكتبات الصغيرة المستقلة؛ لكن يوميات العاملين فيها طويلة وشاقة خاصة خلال فصل الشتاء، إذ جرت العادة أن تبقى المكتبات باردة حتى لا يغطي الضباب الناتج عن التدفئة واجهاتها التي يعتاش منها أصحابها، دون احتساب ما ينتج عن الكتب من غبار، من شأنه أن يتسبّب في اتساخها إذا لم تتم إزالته؛ لكن السبب الحقيقي الذي جعله غير راغب في امتهانها هو فقدان شغفه بالكتب خلال الفترة التي شغلها مساعداً في مكتبة، مضيفاً إلى ذلك أنّ المكتبي يجبر على الكذب بشأن الكتب وهذا أمر يشعره بالنفور، أمّا الأسوأ فهو أنّ من يمتهن هذه المهنة يقضي حياته في إزالة الغبار عن الكتب ونقلها من مكان إلى آخر.

يشير في الختام إلى أنّه قد مضى وقت على تعلقه الصادق بالكتب، محبة اقتناءها والشعور بملمسها، خاصة تلك التي يتجاوز عمرها نصف قرن أو يزيد، أمّا ما يتعلق بالقراءة الهادئة، في الحمّام، أو في وقت متأخر، أو قبل وجبة الغداء، فلا شيء بالنسبة إليه يستطيع منافسة الأعداد القديمة من قصة “الورقة الخاصة للفتيات”؛ لكنّه يسجّل ملاحظة في غاية الأهميّة، وهي توقّفه عن اقتناء الكتب وحيازتها، فمنذ اشتغاله في المكتبة صارت رؤية الكتب في مجموعات مكوّنة من خمسة إلى ستة آلاف مرصوصة إلى بعضها تضايقه وتشعره بالغثيان، يقول: “أمّا اليوم فيحدث أن أشتري كتاباً من حين إلى آخر، فقط الكتب التي لدي رغبة عارمة في قراءتها ولا يمكنني استعارتها، ولن أشتري أبداً كتاباً أرميه بمجرد الفراغ منه”. مؤكداً أنّ رائحة تحلّل الأوراق ما عادت لها القدرة على إغرائه، فقد صارت في ذهنه مقترنة بالزبائن المصابين بالبارانويا وبالذباب الميت. 

2. اعترافات مراجع أدبي (ناقد أدبي)

نشر جورج أورويل هذا المقال لأول مرّة في جريدة تريبيون (Tribune) في 3ماي 1946، متناولاً فيه ظاهرة نشر المقالات النقديّة الرديئة حول الكتب بشكل دوري في الجرائد والمجلات، مصوّراً بشكل ساخر يوميات مراجعي الكتب الحافلة بالمعاناة.

يفتتح المقال بمشهد تخييلي يتجلّى من خلاله الجو العام الذي يشتغل فيه هؤلاء، إذ يستحضر الكاتب شخصيّة متخيّلة تعيش في غرفة باردة وخانقة، تتناثر في أرجائها أعقاب السجائر وأكواب الشاي، رجل يرتدي ملابس حمام نخرته العثة، يجلس إلى طاولة متهالكة، محاولاً إيجاد مكان لآلته الكاتبة التي تتموضع بين جبلين من أوراق مغبرّة لا يستطيع التخلّص منها بحكم امتلاء سلّة مهملاته، إضافة إلى أنّه من الممكن أيضاً أن تحوي تلك الرسائل المتروكة دون رد والفواتير التي لم يتم تسديدها بين طياتها صكاً بريدياً لم يتم صرفه بعد.

يفترض أورويل في هذا الرجل أن يبلغ من العمر خمس وثلاثين سنة؛ لكنّه يبدو بملامح خمسيني، أصلع، يعاني من الدوالي ويضع نظارات، كما يفترض فيه أن يعاني من سوء التغذيّة؛ لكنّه يمر خلال تلك الأيام بأوقات سعيدة جعلته يعاني من شعور غير مريح نتيجة الإكثار من استهلاك المشروبات الكحوليّة، تشير ساعته إلى الحادية عشر والنصف صباحاً، وإذا صدّقنا برنامجه الزمني فيتوجب أن يكون في عمله قبل ساعتين من الآن، ومن المتوقع أنّه حاول بجديّة النهوض، إلاّ أنّ مجهوداته باءت بالفشل على وقع جرس الهاتف الذي لا يتوقف، وعويل رضيع، وضجيج آلة حفر كهربائية في الشارع، ووقع خطى الدائنين على السلالم، قبل ذلك بلحظات أوقفه المرور الثاني لساعي البريد، الذي سلّمه رسالتين وإنذاراً خطّ باللّون الأحمر يلزمه بدفع ضرائبه.

          يؤكّد أورويل أنّه لا فائدة من التذكير بأنّ هذا الرجل يقتات من قلمه، فقد يكون شاعراً أو روائياً أو كاتب سيناريوهات أو قصص خياليّة إذاعيّة، ذلك أنّ كل رجال الأدب يتشابهون، إلاّ أنّه في الحقيقة ناقد أدبي. في مكان ما من أكوام الأوراق المكدّسة، توجد حزمة ممتلئة تحوي خمسة مجلدات، أوصلها له رئيس التحرير، مرفقة بعبارة توحي بأنّ عليه أن ينسجم معها، إلاّ أنّه، وبعد مرور أربعة أيام لم يتمكن من فتحها؛ نتيجة عجز نفسي، وفي خطوة صارمة، عمد إلى فتحها؛ ليعثر على خمسة كتب: فلسطين على مفترق الطرق، الجريدة الزراعية والعلميّة، مختصر تاريخ الديمقراطية في أوروبا (الذي يحوي 680 صفحة ويزن 2كغ)، العادات القبليّة في إفريقيا الشرقية البرتغاليّة، إضافة إلى رواية بدا له أنّ إدراجها حدث خطأً، تحمل عنوان “نحن مرتاحون أكثر حين نستلقي على الظهر”، ويشترط في عموده الصحفي الذي سينشر حولها أن يتضمّن ثمانمائة كلمة تقريباً، على أن يكون جاهزاً  للنشر منتصف نهار الغد (وهو أمر يبدو مستحيل التحقق).

تعالج ثلاثة من تلك الكتب مواضيع مجهولة بالنسبة إليه، لذا وجب عليه قراءة خمسين صفحة منها على الأقل؛ حتى يتجنّب الوقوع في أخطاء تمثّل خيانة للكاتب أو لقرائه. دقّت الساعة الحادية عشرة دون أن يشرع في قراءتها؛ متأثراً بعجز ذهني أفقده الرغبة في إنجاز ذلك؛ فمجرد التفكير في أنّه ملزم بقراءتها، إضافة إلى رائحة الورق التي بدت له أشبه برائحة حلوى خفقت بزيت الخروع جعلاه ينصرف عنها؛ لكنّه؛ وخلافاً لكل التوقعات، قد تمكّن من إنجاز مراجعته في الوقت المطلوب، بعد أن وجد الصفاء طريقه إلى ذهنه حوالي الساعة التاسعة ليلاً، ودفعه إلى تصفّح الكتب الواحد تلو الآخر برشاقة وخفّة، ملخصاً انطباعه عنها بقوله: “إلهي، يا لها من كومة من هراء “، ومع طلوع الصبح، بدت نظرته شاحبة، ووجهه عابساً وذقنه أشعث، متأملاً الورقة البيضاء ساعة أو ساعتين إلى أن سحبته عقارب الساعة من سباته، فإذا به وبضغطة أصابع يشرع في العمل، الذي عدّل بموجبه الصيغة السابقة فغدت من قبيل: “كتاب لا يستغنى عنه”، “توجد في كل صفحة مقاطع تظل راسخة في الذاكرة”، “نلاحظ على وجه خاص الفصول المخصّصة لكذا وكذا”، منهياً عموده الصحفي قبل ثلاث دقائق من الموعد المتفق عليه، ومحققاً في الوقت ذاته الحجم المطلوب، وفي الأثناء، سلمته مصالح البريد مجموعة أخرى من الكتب التي لا تفتح شهيته للكتابة، ليستأنف العمليّة من جديد، ويلخّص أورويل مأساويّة هذا المشهد بقوله: “ومع ذلك، كم كان هذا المخلوق الذي استنفدت قواه ممتلئاً بالأمل، حين بدأ مسيرته المهنيّة قبل سنوات”.

بعد استكمال تفاصيل الصورة، يتوجّه جورج أورويل بخطابه إلى قرائه للرد على الانطباعات التي قد تتشكّل لديهم بعد قراءة هذه المقاطع، خاصة ما تعلّق بالاعتقاد بأنّه يبالغ في حكمه، معلناً تحديه لكل ناقد محترف أو كاتب أعمدة صحفيّة يراجع على الأقل مائة كتاب خلال السنة، يصرّح صادقاً بأنّ عادته وشخصيّته تختلف عن الصورة التي رسمها، مؤكّداً أنّ ما قاله ينطبق على الكتّاب الذين يكسبون رزقهم ممّا يكتبون، وأنّ النقد الذي ينجز على فترة ممتدّة عمل لا يجلب الرضا المتوقع، فهو مجهد للبدن وللأعصاب على حد سواء. كما أنّه عمل يفترض فيه أن يخلق رد فعل دائم تجاه الكتب التي تنشر؛ لكن المفارقة هي أنّ ظهورها قد لا يحدث في الواقع أيّ أثر.

          كما يؤكّد أنّ معظم كتّاب المراجعات الصحفيّة لا يقدّمون في الحقيقة سوى لمحات غير كافية وعادة ما تكون خاطئة عن الكتب، وبالموازاة تراجعت نوعية النقد نتيجة نقص المساحة المخصّصة له وأسباب أخرى منغّصة، أمّا الحل فيتمثّل بالنسبة إلى البعض في عدم ترك النقد لمثل هؤلاء، ذلك أنّ الكتب التي تعالج موضوعات عميقة لا بد أن توجّه إلى مختصّين، في حين، يمكن أن ينجز جزء لا بأس به من النقد، خاصة ذلك الذي يتعلق بالروايات، من قبل هوّاة؛ لكنّه يشير إلى أنّه من الصعب تطبيق هذه الإجراءات؛ إذ ينتهي الأمر في آخر المطاف إلى اللّجوء إلى ذلك النوع من المراجعات الرديئة، ونتيجة لذلك، لا شيء سيتغير، طالما استمر الاعتقاد بأن كل الكتب تستحق أن تكتب حولها مراجعات، وعليه لن يُكتشف إلى أي حد هي الكتب غالباً سيئة إلاّ حين تنسج علاقة مهنيّة (احترافيّة) معها، ففي تسع حالات من عشرة- حسبه- يتوجّب أن يتضمن النقد الموضوعي الوحيد عبارة: “هذا الكتاب سيء”، أمّا رد الفعل الطبيعي للمراجعين فهو “هذا الشيء لا يهمني إطلاقاً، ولن أكتب سطراً إضافياً ما لم أتقاض مقابل ذلك”، متسائلاً في ختام ذلك عن مدى قدرة الجرائد على نشر مثل هذا الكلام دون أن تخاطر بفقدان كل قرائها.

 يوضّح لاحقاً ما يتطلّع إليه القرّاء بعد قراءتهم للنقد الأدبي، إذ يرى أنّهم ينتظرون منه أن يوجّههم نحو الكتب التي يتوجّب عليهم قراءتها، منتظرين تقييماً لها؛ لكن وبمجرد الشروع في الحديث عن قيمة الكتاب تصبح كل المعايير غامضة، ذلك  أن القول مثلاً  إنّ مسرحيّة الملك لير مسرحيّة جيّدة، يطرح تساؤلاً عن تأويل كلمة “جيّد”، مؤكّداً في الختام تبنيه لقناعة راسخة بأنّه من المستحسن تجاهل معظم الكتب التي تصدر، وتخصيص مقالات طويلة (عميقة) للقليل منها الذي يعد مهماً، أمّا المراجعات الصحفية التي لا تتجاوز ستمائة كلمة فهي تفتقر إلى الفائدة، وإن بذل صاحبها قصارى جهده في إنجازها، كما أنّها تختزله في ذلك الشكل الواهن الذي صوّره في بداية مقاله.

3. كتب جيدة كتب سيّئة أو أجود الكتب السيّئة

يستذكر جورج أورويل في بداية هذا المقال الذي نشر لأوّل مرة في جريدة تريبيون (Tribune) في 2نوفمبر1945 تلقيه عرضاً من أحد الناشرين يطالبه فيه بكتابة مقدمة طبعة جديدة لرواية تعود للكاتب ليونارد ميريك، نظراً لاعتزام هذه الدار إعادة نشر عدد كبير من روايات القرن العشرين المنسيّة، معتبراً أنّها مبادرة تستحق الثناء.

يشير لاحقاً إلى وجود نوع من الأدب الذي أهمل بشكل واضح، بعد أن عرف أمجاده نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ما أسماه شسترتون بـ”أجود الكتب السيئة”، وتحيل هذه التسميّة المفارقة إلى تلك الأعمال التي تخلو من البراعة الأدبيّة؛ لكنّها تظل مقروءة، في الوقت الذي تعرف فيه النصوص الأكثر جودة كساداً، ومن الأمثلة البارزة التي يقدّمها عن ذلك النوع: مغامرات رافل، اللص الظريف، والأعمال الخاصة بشيرلوك هولمز، تلك الأعمال التي حافظت على راهنيتها في الوقت الذي توارى غيرها بعد أن طواه النسيان، ويشمل هذا الصنف إضافة إلى الروايات البوليسية مجموعة من الكتّاب الهزليّين مثل بيت ريدج، الذي صارت كتبه مؤخراً غير مقروءة، إي. نسبيت (الباحثون عن الكنز)، وبعد أن يعدّد نماذج أخرى يشير إلى أنّه يعتقد باستمرار وجود بعض هذه المؤلفات في المكتبات؛ لكنّه يقترح على القرّاء المهتمين كتباً أخرى صارت منسيّة، على الرغم من إشادة النقّاد بها.

كما يرى علاوة على ذلك، أنّ كل الأعمال التي عدّدها تنتمي إلى أدب الترفيه، وتكمن ميزتها في أنّها تتيح لذهن القارئ خلوات ممتعة ومريحة يمكن اللجوء إليها من حين إلى آخر، كما أنّها لا تقيم أيّة علاقة مهما كان نوعها بحقيقة العالم، كما ينفي في مقام آخر إمكانيّة الحكم بجودة ما تكتب مجموعة من المؤلفين برزت خلال العقود الخمسة الأخيرة؛ إذ لا زال بعضهم في مرحلة التمرين؛ لذا يستحيل الاحتكام إلى المعايير الأدبيّة الصرفة في بيان منزلتها، وبلغة ساخرة يصف هؤلاء الكتّاب بأنّهم يملكون موهبة في فن الرواية مكّنتهم من إظهار إخلاصهم له؛ ولأنّهم على وجه خاص لم يسمحوا للذوق الرفيع بتثبيطهم، مستحضراً من بينهم: ليونارد ميريك، و. ل. جورج، ج.د. بيريسفورد، أرنيست ريموند، ماي سنكلير، وبدرجة أقل أ. س. م. هوتشينسون؛ فقد حققوا مسيرة مهنيّة غزيرة الإنتاج ومتفاوتة النوعيّة؛ إذ يملك كل واحد منهم مؤلفاً أو مؤلفين رائعين، سنتيا لليونارد ميريك، مرشح الحقيقة لبيريسفورد، وغيرهما، ففي كل مرة، تمكن كل كاتب من التعرّف على نفسه من خلال الشخصيات التي يختلقها فيختبر ما اختبرته، داعياً المتلقي إلى التعاطف، مبيّناً بشكل ساخر دور هؤلاء في إبراز إلى أي مدى يمكن أن يغدو التنقيح عقاباً بالنسبة للروائي، وبعد أن يعدّد أمثلة عن ذلك، يشير إلى أنّ واحداً من مزايا أجود الكتاب السيئين هو عدم خجلهم من الكتابة السيرذاتيّة.

يشير أورويل إلى أنّ وجود أجود الكتب السيئة يذكّرنا بأن الفن والفكر شيئان مختلفان، كما يؤكّد  قناعته الراسخة وفق كل المعايير التي يمكن تصوّرها بأنّ كارليل أذكى من ترولوب، ومع ذلك وعلى عكس كارليل، لا زال ترولوب مقروءًا في زمنه، مفسّراً ذلك بأنّ الأوّل وعلى الرغم من موهبته؛ فإنّه يفتقر إلى الدّهاء اللازم للكتابة، فالرابط بين الذكاء والقدرة على الابتكار ليس بدهياً بالنسبة إلى الروائيين والشعراء.

بدت له رواية “كوخ العم توم” أفضل مثال عن أجود الكتب السيئة، فهي بالنسبة إليه قبيحة، مثقلة بالمغامرات الميلودرامية السخيفة، وفيما تبقى منها هي نص حيوي حافل بالحقيقة، ومن الصعب تحديد أي الأبعاد فيها يتفوق على الآخر، متسائلاً عمّا يمكن قوله عن الكتّاب الآخرين الترفيهيين بشكل صريح، الذين تخصّصوا في إثارة الخوف (روايات الرعب) والفكاهة “الخفيفة”، ماذا يمكن أن نقول عن شارلوك هولمز، عن العكس بالعكس، عن دراكولا، عن أطفال هيلين، عن مناجم الملك سليمان؟ إذ يرى أنّها روايات سخيفة تماماً، كتب نضحك عليها بدلاً من أن تثير ضحكنا، كتب لا يأخذها أصحابها أنفسهم على محمل الجد؛ لكنّها نجت من النسيان ولا زالت الحياة طويلة أمامها. وكل ما يمكن قوله حول موضوعها هو أنّ الحضارة تجعل الجميع بحاجة إلى الإلهاء، الأدب “الخفيف” سيكون له مكانه؛ وسنكون مخطئين إذا أنكرنا وجود موهبة أصيلة تلعب دوراً في إنقاذ العمل الأدبي من السقوط في دائرة النسيان أكثر أهميّة من المعرفة العميقة أو القوة الفكريّة، مختتماً مقاله بتأكيد عدم تفاجئه من إمكانيّة نجاة رواية كوخ العم توم من النسيان مقابل الأعمال الكاملة لفرجينيا وولف أو جورج مور، على الرغم من أنّه يجهل المعايير الأدبية التي يحتمل أنّها تثبت تفوقها.    

4. الكتب مقابل السجائر

يفتتح أورويل مقاله هذا-الذي نشر لأول مرة في جريدة تريبيون (Tribune) في 8فيفري 1946- باستحضار حادثة روى له وقائعها صديق يعمل رئيس تحرير في جريدة، فبعد أن وجد نفسه ذات يوم رفقة مجموعة من العمال لحراسة أحد المصانع وضمان عدم اندلاع أي حريق فيه، دار بينهم حديث حول الجريدة التي يشرف عليها، فأبدوا استحسانهم لمواضيعها؛ لكنّه تفاجأ بردّهم عندما سألهم عن انطباعاتهم حول قسمها الأدبي “هل تعتقد فعلاً أنّنا نقرأ ذلك؟ في معظم الأحيان يجري الحديث عن كتب يبلغ ثمنها شلن ونصف! لا نملك الإمكانيات لدفع شلن ونصف في كتاب”، ليخلص الصديق بعد ذلك إلى أنّ الأمر هنا يتعلّق برجال لا يتوانون عن إنفاق أضعاف هذا المبلغ من أجل قضاء يوم في البحر.

يشير أورويل إلى أنّ الفكرة الشائعة بأنّ شراء الكتب وفعل القراءة هواية مكلّفة ليست في متناول الكثيرين تحتاج إلى تشريح وتفكيك، وقد دفعه ذلك إلى القيام بجرد لمكتبته المنزليّة وما يملكه من كتب في أماكن متفرقة؛ قصد الوصول إلى تقدير موثوق لما أنفقه عليها خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، وبعد أن عدّد أصناف الكتب التي تحويها مكتبته (التي تمّ شراؤها، استعارتها، نسخ مهداة…)، وأنماط القراءة (الاشتراكات، الجرائد والمجلّات…) توصّل إلى حساب التكاليف التي بلغت خمسة وعشرين جنيه إسترليني سنوياً، وتسعة شلن وتسعة بنسات أسبوعياً؛ أي ما يساوي ثمن ثلاث وثمانين سيجارة، مشيراً إلى أنّه حتى قبل اندلاع الحرب لم يكن هذا المبلغ ليؤمّن شراء أكثر من مئتي سيجارة، وبالنظر إلى ثمن السجائر؛ فإنّ نفقاته عليها تفوق ما ينفقه على الكتب، وبعملية حسابيّة ومقارنة بين سنوات ما قبل الحرب وما بعدها توصّل إلى أنّ ما ينفقه بين السجائر والخمر يفوق أربعين جنيه إسترليني.

مضيفاً أنّه من الصعب إيجاد رابط بين الثمن المادي للكتب والقيمة الفعليّة التي نجنيها منها، كما أنّه لا رابط بين طول الكتب بأنواعها المختلفة وسعرها، “يحدث أن تنفق عشرة شلن على قصيدة طولها خمستمائة بيت، وستة بنسات على قاموس تراجعه من حين إلى آخر طيلة عشرين سنة، هناك كتب نقرأها ونعيد قراءتها، وأخرى تؤثث فكرنا وتعدّل نظرتنا للعالم والوجود، كتب نشرع فيها دون أن ننهيها، كتب نقرأها في جلسة واحدة وننساها في أسبوع، وكل هذه الكتب يمكن أن تساوي الثمن ذاته؛ لكن في حال اعتبرنا فعل القراءة مجرد ترفيه مثل السينما؛ فهذا يدفعنا إلى تثمينها بشكل أفضل؛ ذلك أنّ تنوّع مصادرها وإمكانيّة استغلالها بعد القراءة أو بيعها أو حتى الاستفادة منها مجانياً يجعل القراءة أقل الهوايات إنفاقاً بعد الإذاعة، متسائلاً في الختام عن حجم ما ينفقه البريطانيون على القراءة، وعلى الرغم من إعلانه عدم توصّله إلى تقدير هذه النفقات بشكل دقيق؛ فإنّه يدرك أنّ فترة ما  قبل الحرب شهدت نشر خمسة عشر ألف عنوان سنوياً؛ بما في ذلك ما يعاد نشره، فضلاً عن المطبوعات المدرسيّة، ومع الإقرار بأنّ المبيعات تقدّر بعشرة آلاف نسخة من كل عنوان يتّضح له أنّ القارئ البريطاني المتوسّط لا يشتري -سواء بشكل مباشر أو غير مباشر- سوى ثلاثة كتب سنوياً، تكلِّفه على حد أقصى جنيه إسترليني واحد أو أقل.

          يوضّح في الختام بأنّ هذه الأرقام ليست سوى تخمينات، مبدياً اهتمامه بكل ما يتيح تدقيقها، مضيفاً  قوله: “إذا لم أكن مخطئاً، فإنّه ليس مشرّفاً لبلد توشك نسبة المقروئية فيه أن تبلغ حدّها الأقصى ونسبة إنفاق المواطن المتوسط على التبغ يتجاوز ما ينفقه فلاح هندي على ما يقتات به ويؤمّن له مسكنه. وإذا كان استهلاكنا وإنفاقنا على الكتب يتناقص عمّا سبق، فلنتحلّ على الأقل بالاحترام للإقرار بأنّ ذلك ناتج عن كون القراءة هواية أقل إثارة من سباقات الكلاب، والسينما أو الإشهار، ولنتوقّف عن الادّعاء بأنّ الكتب المشتراة أو المستعارة باهظة الثمن”.

          استطاع جورج أورويل في هذه المقالات أن يشخّص بشكل ساخر ما عدّه قصوراً في المشهد الثقافي البريطاني الذي تشكّل بين الحربين العالميّتين، وتحكّم في صنع وتوجيه الذائقة الأدبيّة التي بدت له هزيلة؛ سواء على مستوى خياراتها أو أحكامها، مشيراً إلى أنّ الكثرة والرواج ليسا بالضرورة علامتين على الجودة والقيمة الأدبيّة، مسجّلاً في الوقت ذاته تراجع الاهتمام بالكتب لصالح المنتوجات الاستهلاكيّة الأخرى، وهو الأمر الذي نشهد اليوم –في بيئتنا العربيّة – تداعياته الصارخة، على وقع اكتساح القيم الاستهلاكيّة الرأسماليّة مختلف جوانب الحياة، إضافة إلى تراجع حضور الكتاب الورقي أمام الوسائط الرقميّة، وتحوّل مراجعات الكتب إلى صناعة تتحكّم في إدارتها -في كثير من الأحيان- شبكة من المصالح الماديّة، يراهن أصحابها على تحقيق الربح والشهرة بغض النظر عن جودة المحتوى.