مجلة حكمة
هل تستمع تستمع هل

هل تستمع؟ إذا كنت تسمع الآخرين من خلال همومك الخاصة، فأنت لا تسمعهم فعلًا – جوردون مارينو / ترجمة: محمد عرفات حجازي


عبّر إرنست همنجواي عن تبلُّد الذهن: “معظم الناس لا يستمعون أبدًا”.

   المُفترض أنّ العلاقات الهادفة مُهمّة للازدهار البشري، من المُؤسف أنّ القدرة على الاستماع تمّ التقليل من شأنها، ومُخجلة للغاية.

   كانت أهمية الاستماع مُقلقة بوضوح في الأيام الأولى للفلسفة الغربية. أعلن زينو سيتيوم (262 ـ 334 ق. م)، مُؤسس الرواقية، “لدينا أذنان وفمٌ واحد، لذلك يجب أن نُصغي أكثر مما نتكلم”. بعد قرون قليلة، انحدرت فلسفة أبكتيتوس، “أيُّما امرئ سيسمع للفلاسفة يحتاج إلى أن يُمارس الاستماع بجدِّية”.

   لكن الاستماع أصبح اعتراف قصير في الفلسفة على مرِّ السنين. في حين أنّ مُحاولات تقسيم الشخصية الأخلاقية إلى قائمة من الفضائل ـ مثل الشجاعة والصدق وضبط النفس وما إلى ذلك ـ ترجع على الأقل إلى أرسطو، فإنّ القدرة على الاستماع لم تصنع القائمة أبدًا. الفلسفة صامتة في الغالب على الأهمية الأخلاقية لكونك مُستمعًا جيدًا.

   إنّ الاستماع الجيد ليس مسألة تقنية بل وجود الرغبة في الدخول في حياة شخص آخر. لا يُمكن أن يكون هناك الكثير من المُستمعين السيئين لشخص آخر لأنّهم محبوسون جدًا في أنفسهم. بالنسبة لهم، يجب تصفية كلّ شيء من خلال خبرتهم واهتماماتهم.

   يتدرّب المُحلِّلون النفسيون لسنوات لإتقان فنّ الاستماع بعناية. والأهمّ من ذلك، أنّهم يبذلون جهدًا عقليًا لتعلُّم حلّ شفرة تناقضاتهم، أي في اكتشاف التجارب والرغبات التي قد تقوم بتصفية وتشويه ما يبوح به عملاءهم. على سبيل المثال، يتعيّن على المُحلِّلة النفسية التي تفهم أنّها تُضمر غضبًا حارًا تجاه والدها أن تتوخّى الحذر من سماع أصداء والدها غير المقصودة وغير الصحيحة في طريق كلمات قادمة من الشخص على الأريكة.

   سأل الفيلسوف الهندي جيدو كريشنامورتي جمهوره في حديث عام 1953 “كيف تستمع ؟”. “هل تستمع بإسقاطاتك، من خلال إسقاطك، من خلال طموحاتك، رغباتك، مخاوفك، تلهُّفاتك، من خلال سماع فقط ما تُريد أن تسمعه، فقط ما سيكون مُرضيًا، ما الذي يسُرُّ، ما الذي سيعطي الراحة، ما الذي سيُخفِّف مُعاناتك للحظة؟ إذا كنت تستمع عبر شاشة رغباتك، فمن الواضح أنّك تستمع إلى صوتك؛ أنت تستمع إلى رغباتك الخاصة”. وفي ذلك السياق نقول أنّك لا تستمع على الإطلاق.

   عندما قام طلاب فلسفتي بتجميع قائمة من فضائلهم الخاصة، فإنّها تتضمن دائمًا التقمُّص العاطفي. لكن التقمُّص العاطفي يتطلب الاستعداد للاستماع، والاستماع يتطلب إزالة سجل عقلك النظيف. أخبر شخصًا ما أنّك تُكافح من خلال انفصال زوجي وفي بضع علامات صغيرة سيربط معظم الناس ذلك سريعًا بأنفسهم، وربما يقولون: “مررت بنفس الشيء قبل بضع سنوات”.

   الإرباك الحاد، والشعور بعدم معرفة ماذا أقول، هو أحد أكثر العوائق المُروِّعة لتُمنح لشخص آخر ـ ولكن هذا الشعور تحديدًا هو نتيجة التفكير الخاطئ بأنّ الشخص الذي يستميلك يسأل عن شيء مُماثل لشرحه. ذات مرة، أفضت إليّ إحدى الجيران المُراهقات بأنّ أفضل صديق لها شنق نفسه مُؤخرًا. قالت باكيةً “ربّما يبدو هذا أنانيّا، لكنني أشعر أنّه كان الشخص الوحيد الذي استمع لي حقًا، والذي فهمني على الإطلاق”.

   في تلك اللحظات القليلة معًا، لم تكن تلك المُضطربة البالغة من العمر 18 عامًا تتوقع مني أن أشرح موضع وفاة صديقها المُبكرة في المُخطّط الكبير للكون. فقط أرادت أن أكون هناك معها في ألم عويلها. كانت تتوقّ للشعور بالسلوى بأنّها ليست بمفردها، وأنّ شخصًا ما على الأقل قد أدرك ما شعت به.

   لكنني لا أحاول فقط وصف فضيلة كونك مُستمعًا جيدًا. أريد أيضًا أن أقترح أنّ الأشخاص الذين لم يتمّ الاستماع إليهم غالبًا ما يجدون صعوبةً في الاستماع إلى أنفسهم.

   قبل بضع سنوات، كان لديّ طالبٌ يأتيني في شدّة أكاديمية كئيبة. كانت هذه صدمة نظرًا لأنّ عمره البالغ 20 عامًا كان دائمًا مُتعلمًا مُتّقدًا ومُتألِّقًا. أعرف خلفية عائلته: أمٌ عازبة تعمل في وظيفتين مُتدنيتي الأجور لدعمه هو وأخوته. رغم إصرار وحبّ والدته لتنشئة أطفالها، لم يكن هناك مجال كبير أمامه ليشكو إلى أمِّه المُنهكة بشأن الإغفال في المدرسة أو الانقطاع عن فريق كرة القدم.

   وبينما كان جالسًا على كرسي في مكتبي، والكتفين مُنخفضين والرأس مُنكّسًا، ظللت أحاول بمُختلف السُّبل الشعور بما كان يجري خلف ملامحه المُتغضِّنة. لم يستطع السُّعال. كان لُغزًا في نفسه. وقبل أسبوع من حديثنا، حقّق وثبةً في التحدُّث مع مستشار. في تلك الجلسات، كان قد سمع نقاشًا عن بعض المصطلحات الإكلينيكية، وخلال اجتماعنا استحوزه تحديد السؤال حول ما إذا كان يُعاني من القلق أو الاكتئاب أم لا. “إنّه ليس إما/ أو؛ الاكتئاب والقلق شريكان شائعان”، وأكّدت له وأُلحُّ على أنّ ما نحتاج إلى فعله هو التركيز على ما كان يشعر به الآن وبشكل أكثر إلحاحًا، على إجباره على الانسحاب من نمط انهياره الأكاديمي.

   ومن المُفارقات، أنّ هذا الطالب مُعلم مُتطوِّع ذو قيمة عالية ومُرشد للطلبة في المدارس العامة المحلية. ليس هناك شكّ في أنّه يستطيع جذب الانتباه لآلام كفاح الأطفال، لكن عندما يتعلّق الأمر بالاستماع إلى نفسه، كانت لديه مُشكلة مع نفسه. لم يستطع أدراك عالمه الروحي. لم أستطع المساعدة لكن أعتقد أنّ ارتباكه الروحي عائدٌ إلى غياب المُستمعين المُهتمِّين واليقظين في حياته.

   هناك جحافل من الناس الذين لم يكن لديهم أيّ شخص للاستماع إليهم. أحيانًا تكون العُزلة هي الحُطام للأوضاع الاجتماعية الخارجية: الفقر، المرض العائلي، البطالة، الحرب. ومع ذلك، كما هو في كثير من الأحيان، فإنّ عدم القدرة على الاستماع لا تُقدِّم شيئًا مع الظروف السياسية أو الاجتماعية الاقتصادية.

   يحتفظ العديد من الشباب بداخلهم بأفكارٍ مُقلقة لأنّ والديهم تجمّدوا عندما نفّس جاك أو جيل عن مشاعرهم التي جعلت الأمّ أو الأبّ يشعرون بالعجز أو الذنب. لقد أفضى إليّ أصدقائي أنّ الصغار لم يتمكّنوا من الذهاب إلى والديهم عندما كانوا على حافة ماكينة الحلاقة([‡]) لأنّهم شعروا أنّ أهلهم ضِعاف للغاية وسيقومون فقط بالانهيار أو الانسحاب، أتصوّر أنّ الأمر واضح المعالم، لكن فرضيتي هي أنّ الأشخاص الذين أُجبروا على كبت مشاعرهم وأفكارهم يتعرضون لخطر دفن تلك الاضطرابات الداخلية بعُمْقٍ حتى لا يستطيعون اكتشافها بعد الآن.

   في المُجازفة حول كسر قاعدتي الخاصة حول عدم رواية كلّ شيء لنفسه، كنت مراهقًا مُجرمًا على الحدود. لكنني استفدت وربما نجَوْتُ بتشجيع من العطايا الإلهية الهادئة ـ مستوى من الثقة الأساسية وكادر من الناس الطيبين الذين كانوا يستمعون إليّ وأنا أُفشي قلقي القلبي والعقلي. هؤلاء الأفراد النُبلاء الذين استطاعوا أن يضعوا أنفسهم جانبًا بما فيه الكفاية للاستماع إلى مُراهق سخيف سوف يعطوني تغذيةً استرجاعية. لأنّهم استمعوا إليّ، تعلمت أن أستمع إلى نفسي. من خلال ضبط يدي بفعالية، ساعدوني أن أُظهر مُراقبة الطائر في حياتي الروحية وبالتالي كسب بعض ضرورة السيطرة على عواطفي وحالاتي النفسية.

   في أثينا القديمة، نُقشت الكلمات المُقدسة “اعرف نفسك” في مهبط الوحي بدلفي. إنّ معرفة نفسك جُهدٌ عقلي مُستمرّ، وشاق. لكن هذا الأمر أوجد مزيدًا من الارتياب غير المحدود لأولئك الذين يعيشون بين أشخاص لديهم آذان للسماع، ولكن ليست للاستماع.

المصدر


[*] أستاذ فلسفة ومؤلف كتاب دليل البقاء الوجودي: كيف نعيش أصلًا في عصر غير حقيقي، ومدير مكتبة هونغ كيركيغارد في كلية سانت أولاف.

[†] باحث في الفلسفة والأخلاق التطبيقية ـ مصر

[‡] ) هذه هي الترجمة القاموسية للكلمة، والمقصود بها المواقف الحادة التي يصعب تحمُّلِها (المُترجم).