مجلة حكمة
مغالطة بولڤر - سي. اس. لويس / ترجمة: يوسف النوخذة

مغالطة بولڤر – سي. اس. لويس / ترجمة: يوسف النوخذة

6
سي. اس. لويس

من الكارثيّ -كما يقول إيمرسون [1] في مكان ما- أن نكتشف أننا موجودون. أعني أنه من الكارثيّ بدلا من أن نعتني بزهرة، أن نكون مجبورين على أن نفكر في أنفسنا ونحن ننظر إلى تلك الزهرة أيضا -عن طريق نوع معيّن من الإدراكات ونوع معيّن من العيون-. ذلك كارثيّ بالفعل، لأننا إذا لم نكن حذرين جدا فإننا سنعزو لون الزهرة لأعصابنا البصرية، ورائحتها لأنوفنا، وفي النهاية لا تبقى هنالك زهرة موجودة في الواقع. الفلاسفة المتخصصون كانوا ولا زالوا مشغولين بـ “فقدان الوعي” العالمي هذ لأكثر من مئتي سنة ، والعالم لم يستمع لهم كثيرا. لكن نفس الكارثة تحصل الآن على مستوى نفهمه نحن جميعا.

لقد اكتشفنا مؤخرا ]2[ أنّنا موجودون بمعنيين اثنين: الفرويديّون [3] اكتشفوا أننا موجودون كمجموعة من العقد النفسية المتداخلة، والماركسيّون [4] اكتشفوا أيضا أننا موجود كأفراد ضمن طبقة اقتصادية معينة. في السابق كنّا نفترض أنه إذا كان شئ ما يبدو صائبا بشكل بديهي لمئة شخص مثلا، فإن هذا الشئ هو صائب بالفعل على الأرجح. أما اليوم فسيقول لك الفرويديّ أن تذهب وتحلل هؤلاء المئة: سيقول لك هؤلاء المئة أن الملكة إيليزابيث الأولى ملكة عظيمة لأنهم جميعا يحملون في داخلهم عقدة الأم ]عقدة أوديب ]5[[، فأفكارهم مشوهة من المصدر بفعل هذه التأثيرات السايكولوجية. أما الماركسي فسيقول لك: اذهب وافحص المصالح الاقتصادية لهؤلاء المئة وستجد أنهم جميعا يعتقدون أن الحرية شئ جيّد لأنهم جميعهم من الطبقة البرجوازية التي تزداد ثروتها عند اتباع الحكومات لسياسات السوق الحر والامتناع عن التدخل في شؤون الشركات الخاصة ] laissez-faire [، فأفكار هؤلاء أيضا مشوّهة أيديولوجيا من المصدر.

من الواضح أن هذا المنهج ممتع جدا، لكن غالبا يتم إغفال الثمن الذي يجب دفعه عند اتباع هذا الأسلوب. هنالك سؤالان مهمّان يجب أن نسألهما الذين يتفوهون بهذه الأشياء، السؤال الأول هو: هل جميع الأفكار “مشوّهة” من المصدر بناء على ما تقولون؟ والثاني هو: هل هذا “التشويه” يجعل الأفكار المشوّهة خاطئة ومخالفة للواقع؟

1إذا أجابوا بأن جميع الأفكار هي مشوهة بالفعل، فبالطبع يجب أن نذكّرهم بأن الفرويدية والماركسية هي أنظمة فكرية أيضا، تماما كما هو الحال في اللاهوت المسيحي أو المثالية الفلسفية على سبيل المثال. أي أن الماركسي والفرويدي هم أيضا في نفس القارب مع جميع من يقومون بانتقاده، ولا يستطيعون أن ينتقدوا غيرهم من خارج القارب. لقد قام هؤلاء عمليا بقطع الغصن الذي كانوا يجلسون عليه. وفي المقابل، إذا قال هؤلاء أن هذا “التشويه” الأيديولوجي والسايكولوجي -وما شابه- لا يجعل أفكارهم خاطئة بالضرورة، إذن فهذا التشويه لا يجعل أفكارنا نحن خاطئة أيضا. في هذه الحالة يكونون قد أبقوا على غصنهم الذي يجلسون عليه ، وفي نفس الوقت أبقوا على غصننا نحن أيضا.

الموقف الوحيد الذي يمكن أن يتخذوه هو: أن يقولوا بأن بعض الأفكار المشوهة فعلا، وبعضها الآخر غير مشوه. هذا الموقف يحمل ميزة –إذا كان الفرويدي والماركسي يعدّون ذلك ميزة-  وهي كونه مطابقا لما كان يعتقده كل إنسان عاقل دائما ومنذ القدم. لكن في هذه الحالة يجب أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن تمييز الفكرة المشوهة عن غيرها؟. إنه من غير المنطقي أن نقول بأن الأفكار المشوهة هي الأفكار التي تتوافق مع الرغبات السرية لصاحب الفكرة. فبعض الأِشياء التي تتوافق مع رغباتي وأحبّ أن أعتقد بها هي بالفعل صحيحة ومطابقة للواقع، فمن المستحيل أن يوجد عالم تتعارض فيه الحقائق مع رغبات جميع الناس ]على تعدد واختلاف رغباتهم[، في جميع الجزئيات وفي جميع الأوقات. لنفترض مثلا أني أعتقد –بعد القيام بجميع الحسابات- أن لديّ مبلغا كبير من المال في المصرف. ولنفترض أيضا أنك تريد أن تعرف هل اعتقادي هذا هو صحيح فعلا أم هو مجرد رغبات وأمنيات [Wishful Thinking]. في هذه الحالة لن يكون بمقدورك الوصول لأي نتيجة عن طريق فحص حالتي النفسية، بل سبيلك الوحيد لكي تعرف ذلك هو أن تجلس وتفحص الحسابات بنفسك وتتأكد من المجموع. وبعد أن تنتهي من فحص أرقامي وحساباتي حينئذ –وحينئذ فقط لا قبل ذلك- يمكنك أن تعرف إذا ما كنت أمتلك ذلك المبلغ أم لا. إذا وجدت حساباتي صحيحة ففي هذه الحالة فإن أي شئ تقوله عن حالتي النفسية -لإثبات خطئي- لا يمكن أن يكون سوى مضيعة للوقت. أما في حالة اثباتك خطأ حساباتي فربما يكون مناسبا حينئذ أن تبدأ بتفسير الأسباب النفسية التي جعلتني أصبح سيئا في حساباتي وأًصل لنتائج خاطئة، وتصبح حينئذ عقيدة “الرغبات السريّة” ملائمة للمقام ، لكن هذا كله بعد أن تقوم بنفسك بفحص حساباتي وتبين خطأها  بناء على أسس رياضية بحتة. وهذا هو الحال في جميع الأفكار والأنظمة الفكرية، إذا حاولت اكتشاف تشوهها من عدمه عن طريق التخمين حول الرغبات النفسية للمفكّر فإنك لا تقوم بشئ سوى أن تجعل من نفسك أحمقا فقط. يجب أن تكتشف بناء على أسس منطقية مجردة أي هذه الأفكار لا تصمد حججها أمام النقد، وبعد ذلك يمكنك أن تواصل وتكتشف الأسباب النفسية التي سببت هذا الخطأ إذا شئت ذلك.

بعبارة أخرى: يجب أن تثبت أن الشخص على خطأ قبل أن تشرح لماذا أخطأ !

الطريقة الحديثة هي أن تفترض من غير نقاش أنه على خطأ ثم تشتت انتباهه عن هذه القضية –وهي القضية الوحيدة المهمة هنا بالفعل- عن طريق الإطالة والإطناب في شرح الأسباب التي جعلته يصبح سخيفا !. في غضون الـ 15 سنة الماضية وجدت هذه الجريمة منتشرة بشكل كبير إلى درجة أنني اضطررت لاختراع اسم لها. لقد أسميتها ” البولڤرية Bulverism “. يوما ما سأقوم بكتابة سيرة مخترعها، ايزيگيل بولڤر . تحدّد قدر بولڤر في سن الخامسة حين سمع أمه تقول لأبيه –الذي كان يقول أن مجموع ضلعي المثلث أكبر من طول ضلعه الثالث- : إنك تعتقد ذلك فقط لأنك رجل. في هذه اللحظة –يؤكد لنا بولڤر- لمعت في ذهني فكرة: أن نقض الفكرة ليس من الضروري أن يكون جزءا من النقاش، يكفيك فقط أن تفترض كون خصمك على خطأ ثم تشرح لماذا صار كذلك وسيصبح العالم كله تحت قدميك. لكن عندما تحاول أن تثبت خطأ خصمك أو –في حالة أسوأ- تحاول أن تكتشف ما إذا كانت فكرته صحيحة أم خاطئة، فتضرب بك ديناميكية العصر عرض الحائط. هكذا أصبح بولڤر أحد صنّاع القرن العشرين.

2 شخصيا أجد ثمار هذا الاكتشاف في كل مكان. لهذا السبب أجد ديني يُرفض بناء على أسباب كـ: “القسيس الذي يواسي الناس كان يملك كل سبب لتطمين العامل الفقير في القرن الـ 19 بأن فقره سوف يعوض في العالم الآخر”  [6] ولا شك أن القسيس فعل ذلك. فعلى افتراض كون المسيحية خاطئة وملفقة، أجد من الواضح أن البعض سيبقى لديه دافع لغرسها في الأذهان. أجد ذلك واضحا جدا لدرجة أنه بإمكاني أن ألعب هذه اللعبة واستخدمها مع الطرف المقابل وأقول: “الإنسان الحديث يملك كل سبب لأن يحاول إقناع نفسه بأنه لا توجد عقوبات أخروية تتعلق بالأخلاق التي يرفضها هو ولا يلتزم بها”. فالبولڤرية هي لعبة ديمقراطية بالفعل في هذا المجال، فالجميع بإمكانهم لعبها طوال الوقت، فهي لا تعطي أفضلية غير عادلة للأقلية التي تستخدمها لمهاجمة الآخرين. لكن بالطبع هي لا تقربنا إنشا واحدا بالفعل نحو معرفة ما إذا كانت المسيحية صحيحة أم خاطئة. هذا السؤال يبقى للنقاش على صعد أخرى مختلفة: على صعيد نقاش فلسفي وتاريخي لإثبات الصحة من عدمها، وكيفما كانت النتيجة في هذه المسائل فستبقى دوافع بعض الناس كما هي عليه.

إنني أرى البولڤرية اليوم تستخدم عمليا في النقاشات السياسية أيضا. فالرأسماليون اقتصاديون سيئون لأننا جميعا نعرف لماذا هم يريدون الرأسمالية، وفي الطرف المقابل الشيوعيون يجب أيضا أن يكونوا اقتصاديين سيئين لأننا جميعا نعلم لماذا هم يريدون الشيوعية، هذا ما يقوله البولڤريون من كلا الطرفين. في الواقع، أحد عقائد الطرفين بالفعل ستكون خاطئة أو ربما كلاهما خاطئ، لكنك لن تستطيع معرفة الخطأ من الصواب إلا عن طريق النقاش المنطقي، لا عن طريق التحدث بوقاحة على سايكولوجية خصمك بدل مناقشة أفكاره.

النقاش المنطقي لن يستطيع أن يلعب دورا مؤثرا في شؤون الناس حتى يتم سحق البولڤرية، كلا الطرفين سيستخدمها مبكرا كسلاح ضد الطرف الآخر، وبين هذا وذاك يضيع المنطق ويتم رفضه. لكن لماذا لا يتم التخلص من المنطق مباشرة من قبل هؤلاء؟ الجواب واضح جدا: لأن البولڤريين أنفسهم يعتمدون على المنطق. يجب أن تناقش منطقيا حتى تغالط كـ بولڤر ، فأنت ببساطة تحاول أن تثبت منطقيا أن جميع الاستدلالات فاسدة. إذا فشلت في ذلك فلقد فشلت، وإذا نجحت في ذلك فستكون قد فشلت أكثر، لأن برهان إثبات كون جميع البراهين والاستدلالات فاسدة يعني أنه هو الآخر فاسد أيضا.

فالبديل هنا إذن إما حماقة مجردة تناقض نفسها بنفسها، أو اعتقاد متماسك، بقدرتنا على النقاش والتعقل، يصمد أمام جميع “التشوهات” التي يحاول البولڤري أن يوجدها في هذا الانسان المفكر أو ذاك. نعم، إنني مستعد لأن اعترف بأن اعتقادي المتماسك هذا يملك أمرا غامضا ومتعاليا حوله، لكن ماذا بعد؟ هل تفضّل أن تصبح شخصا مختلا عقليا على أن تؤمن بأمر غامض ومتعال؟

المصدر


رالف والد إيمرسون ، شاعر وفيلسوف أمريكي من أصحاب النزعة والأفكار الترانسندالية. [1]

تم كتابة المقال سنة 1941م. [2]

أتباع عالم النفس النمساوي الشهير سيغموند فرويد.  [3]

أتباع  الفيلسوف والمنظر الاقتصادي الألماني الشهير كارل ماركس.  [4]

عقدة من العقد النفسية التي تحدّث عنها فرويد. يقول خلال حديثه عنها بوجود انجذاب جنسي لا واعي بين الطفل وأمه. [5]

أحد اتهامات الماركسيين للأديان عموما. [6]