مجلة حكمة
ماهية الشر

ماهية الشر:  ليس عليك أن تكون وحشًا أو مجنوناً لتجريد الآخرين من إنسانيتهم. يلزم فقط أن تكون إنساناً عاديًا – ديفيد ليفينغستون / ترجمة : أزدشير سليمان

ماهية الشر ديفيد ليفينغستون سميث أستاذ الفلسفة في جامعة نيو إنجلاند ومدير مشروع الطبيعة البشرية. ك
ديفيد ليفينغستون سميث، أستاذ الفلسفة في جامعة نيو إنجلاند ومدير مشروع الطبيعة البشرية. مقالته حول ماهية الشر وكتابه الأخير (أقل من إنسان) منشور عام 2011.

في مارس 1945 ، نشرت مجلة Leatherneck ، وهي هيئة رسمية تابعة لسلاح مشاة البحرية الأمريكية ، مقالة موجزة تسودها روح الدعابة ظاهرياً تصف طفيليًا يسمى Louseous Japanicas .تضمنت رسمًا توضيحيًا لمخلوق مشوه بسمات يابانية نمطية. النص المُصاحب يخبرنا بذلك:

تم تكليف سلاح مشاة البحرية ، المدربين بشكل خاص على مكافحة هذا النوع من الأوبئة ، بمهمة الإبادة الهائلة.. أثبتت قاذفات اللهب ومدافع الهاون والقنابل اليدوية والحراب أنها علاج فعال. لكن من أجل علاج كامل، يجب القضاء على أصل الطاعون أي تطهير مناطق التكاثر حول طوكيو.

في وقت لاحق من نفس الشهر ، أسقطت الطائرات الحربية الأمريكية 2000 طن من القنابل الحارقة على مدينة طوكيو. كانت الرائحة النتنة للحم المحترق شديدة لدرجة أن الطيارين المقاتلين استخدموا أقنعة الأكسجين. على مدى الأشهر الخمسة التالية ، تعرض ما لا يقل عن نصف مليون رجل وامرأة وطفل ياباني ، على حد تعبير جنرال القوات الجوية الأمريكية كورتيس ليماي ، “للحرق والسلق والخبز حتى الموت” في قصف 67 مدينة يابانية بالقنابل الحارقة. ثم كانت هناك هيروشيما وناجازاكي.

قبل بضع سنوات فقط في ألمانيا ، تم تصنيف اليهود كعرق أدنى (Untermenschen) وشُبِهوا بالحشرات والديدان والطفيليات التي تنقل الأمراض. بعد نصف قرن في رواندا ، أشار مرتكبو الإبادة الجماعية الهوتو إلى طرائدهم التوتسي على أنهم صراصير وثعابين. هذا العام ، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القتلة الفلسطينيين لثلاثة مراهقين يهود مختطفين بأنهم وحوش مفترسة (وهو لقب لم يطبقه على المتطرفين اليهود الذين أحرقوا صبياً فلسطينياً حياً انتقاماً). قال “لقد تم اختطافهم وقتلهم بدم بارد من قبل الحيوانات”. “حماس مسؤولة وستدفع حماس الثمن”.

ما هو العنصر المشترك في كل هذه القصص؟ إنه ، بالطبع ، ظاهرة التجريد من الإنسانية. لكن هذا ليس حديثاً ولا غريباً على الحضارة الغربية. نجدها “أي الظاهرة” في كتابات الحضارات القديمة لمصر وبلاد ما بين النهرين واليونان والصين ، وفي ثقافات السكان الأصليين في جميع أنحاء الكوكب. في كل هذه الأوقات وفي كل هذه الأماكن ، جرى تشجيع العنف والقمع. ولذا يبدو أن فهم ما يحدث بالضبط عندما يجرّد الناس بعضهم من إنسانيتهم ​​مسألة ملحة للغاية. ومع ذلك ، ما زلنا نعرف القليل عنها بشكل ملحوظ.

هذا ما يمكننا قوله. اكتسب مصطلح “التجريد من الإنسانية” مجموعة متنوعة من المعاني منذ تقديمه في أوائل القرن التاسع عشر. يعتقد البعض أنها لعبة لغوية مهينة: الممارسة البلاغية لتشبيه البشر بالحيوانات أو الأشياء الجامدة. يفهمها الآخرون على أنها فعل إهانة للآخرين من خلال تعريضهم للقسوة أو الإهانات. لا يزال آخرون يعتقدون أننا ننزع إنسانيتهم ​​من خلال إنكار الذاتية أو الفردية أو الفاعلية أو غيرها من الخصائص الإنسانية الجوهرية. ينصب تركيزي على مفهوم مختلف لنزع الإنسانية – مفهوم أعمق يدعم كل هذه المفاهيم. نحن نجرّد الآخرين من إنسانيتهم ​​عندما نتصورهم على أنهم مخلوقات غير بشرية. المجردون للبشر من إنسانيتهم لا يفكرون  في ضحاياهم على أنهم  دون البشر بمعنى ما مجازي أو تناظري فقط. يفكرون فيهم بوصفهم  أقل من البشر فعلياً. لم يدع النازيون اليهود بالحشرات فقط. لقد تصوروهم حرفياً على أنهم حشرات لها هيئة بشرية.

انظر كيف فكر المستوطنون الأوروبيون في الأفارقة الذين استعبدوهم. كما يعلق المؤرخ الأمريكي عن العبودية ديفيد بريون ديفيس: ” كان هذا الشكل المتطرف من التجريد من الإنسانية – وهي عملية اقتصرت في الغالب على معاملة العبيد وتصورات البيض – هو ما قطع روابط الهوية الإنسانية والتعاطف وجعل العبودية ممكنة. ألقت كتابات مورغان جودوين ، وهو رجل دين أنجليكاني من القرن السابع عشر قام بحملات بلا كلل من أجل الحقوق المدنية للأفارقة والأمريكيين الأصليين ، ضوءاً كبيراً على كيفية تفكير المستعمرين الإنجليز بشأن عبيدهم المفترض أنهم دون البشر. في كتابه ” The Negro’s and Indians Advocate” (1860) كتب أنه قد تم إخباره “بشكل خاص” (وتحت جنح الظلام) … أن الزنوج ، على الرغم من هيئتهم التي تحمل بعض أوجه الشبه بالرجولة ، إلا أنهم في الواقع ليسوا رجالاً”. ثم تابع “ليسوا بشراً ولا ارواح لهم، حتى أنهم يصنفون مع الوحوش”- مخلوقات تفتقر إلى الأرواح لتُصنف بين الوحوش المفترسة وتُعامل وفقاً لذلك-.

من المفيد مقارنة رواية جودوين بمثال أكثر حداثة للخطاب اللاإنساني. كان ” Der Untermensch” “دون البشر” كتيبًا نُشر في عام 1942 تحت التوجيه التحريري لهينريش هيملر، النازي المسؤول عن إقامة معسكرات الاعتقال ، وقد قدم اليهود على أنهم مفترسون دون البشر. وحذر المؤلفان “من أنه ليس كل من يبدو بشراً هو كذلك في الواقع”. “لم يكن اليهود بشراً بل وحوشاً لها هيئة بشرية” بحيث “كانوا على المستوى الروحي والنفسي أدنى من أي حيوان آخر”.

على الرغم أن قروناً تفصل بينهما، فإن الذهنيتيان الكولونيالية والنازية، متشابهتان بشكل مذهل. كلاهما يدعي أن المظهر البشري لمجموعات معينة يناقض طبيعتها الحقيقية. لذلك ، على ما يبدو، بينما يُظهر الأفارقة واليهود كل العلامات الخارجية للإنسانية ، يفتقرون في أعماقهم ، حيث يهم حقاً، إلى هذا الشيء المميز الذي يجعل المرء إنساناً. إن إنسانيتهم ليست أكثر من جلدهم الداكن الذي يخفي نواة غير بشرية. تم إعادة إنتاج هذا النمط من التفكير بدقة مروعة عبر الزمان والمكان ، من ثقافة إلى ثقافة ، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى. يشير انتشاره المطلق إلى أنه يعكس شيئاً أساسياً فيما يتعلق بالعقل البشري.

تلقي الاستقصاءات في ظاهرة الماهوية النفسية ضوءاً قوياً على المنابع النفسية لنزع الإنسانية. العقيدة الفلسفية للماهوية (الاعتقاد بوجود ماهية أو جوهر صرف) لها تاريخ طويل يمتد على الأقل حتى أفلاطون وأرسطو. ماهية الشيء أو “جوهره” هو ما يُفترض أنه خاصية أو خصائص  تجعله نوع الشيء الذي هو عليه. لننظر في خاتم زواج من الذهب الخالص. ما الذي يجعل هذه القطعة من المادة قطعة ذهب؟ أشار الفلاسفة إلى حقيقة أنه يمتلك جوهر الذهب. يكمن جوهرها في بنيتها الميكروفيزيائية: تعتبر المادة من الذهب إذا وفقط إذا كانت الذرات التي تتكون منها تحتوي بالضبط على 79 بروتونًا في نواتها. لأن كل ذرة من الذهب بها 79 بروتونًا ، وكل ذرة بها 79 بروتونًا هي ذرة ذهب ، فإن العدد الذري 79 هو جوهر الذهب “ماهيته”.

كان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ، المعاصر للقسيس جودوين ، مساهماً هاماً في نظرية الماهيات. لقد ميز بين الماهيات الحقيقية وتلك الأسمية. الماهيات الاسمية هي مفاهيم عادية ومتجانسة لأنواع الأشياء ، في حين أن الماهيات الحقيقية هي خصائص عميقة وغير قابلة للرصد تجعل الشيء عضوًا من نوع ما. الماهية الحقيقية للذهب، المتوارية في بنيته الذرية، عصية على الرصد العرضي، لكن ماهيته الأسمية هي مجرد قائمة بالمواصفات التي نربطها عادة بالذهب (معدن ثقيل، أصفر، نفيس، مرن). “ربما أمكن اعتبار الماهية بالنظر إلى كينونة شيء ما، حيث هو، وبما هو عليه” كتب لوك في عام 1689 “ومن ثم داخله الحقيقي، ولكن عموماً في المواد ذات البنية غير المعروفة تعتمد صفاتها القابلة للاكتشاف على ماهيتها”.  ومع ذلك ، فقد حذر من أنه “إذا طلبت معرفة تلك الماهيات الحقيقية التي من الواضح أن الرجال يجهلونها ولا يعرفونها، ومع ذلك ، على الرغم من أننا لا نعرف شيئًا عن هذه الماهيات الحقيقية ، فلا يوجد شيء عادي أكثر من أن ينسب الرجال أنواع الأشياء إلى هذه الماهيات”.

بعد ما يقرب من 300 عام من كتابة لوك لتلك الكلمات ، تركت فكرة الماهيات الحقيقية أريكة الفيلسوف ودخلت المختبر. في عام 1989 ، صاغ عالما النفس دوجلاس ميدين وأندرو أورتوني ، وكلاهما من جامعة نورث ويست في إلينوي ، مصطلح “الماهوية النفسية” للإشارة إلى ميلنا الشائع والذي يبدو أنه متعذر الكبح ، لإضفاء السمة الكيانية على أنواع الأشياء. مذ ذلك الحين ، جمع الباحثون مجموعة كبيرة من الأدلة التجريبية على أن البشر “ماهويون” بالفطرة. نحن نميل إلى التفكير في العالم على أنه مقسم إلى أنواع منفصلة من الأشياء ، لكل منها جوهر حقيقي.

الأنواع البيولوجية  مثال جيد. يقسم الناس في جميع أنحاء العالم مملكة الحيوان إلى أنواع. لكن ما الذي يجعل الحيوان عضوًا في نوع معين؟ ما الذي يجعل مخلوقاً معيناً قنفذاً؟ بالتأكيد ليس مظهره الغريب. القنفذ  الطفرة بدون أشواكه لا يزال قنفذاً. أظهر علماء النفس والأنثروبولوجيا المعرفية أن الناس يميلون إلى الاعتقاد ضمنياً (وأحياناً صراحة) أن ما يجعل حيواناً ما عضواً في نوع معين ليس مظهره الخارجي بل حقيقة عميقة عنه –في هذه الحالة جوهر القنفذ- على الرغم من أننا قد لا نملك فكرة متماسكة عما يتكون منه هذا الجوهر (تذكر رؤية لوك القائلة بأن الرجال جهلة ولا يعرفونه).

لتقدير مدى سهولة تقسيم العالم إلى مظهر خارجي وحقيقة داخلية ، يحتاج المرء فقط إلى النظر في الصور السينمائية لمصاصي الدماء. في معظم الظروف ، لا يمكن تمييز مصاصي الدماء عن البشر الحقيقيين. يمكنك بدء محادثة مع مصاص دماء في الحانة دون أي شكوك على الإطلاق ، حتى اللحظة التي يُغرق فيها أنيابه في حلقك. مصاصو الدماء السينمائيون هم بشر مصطنعون لأنهم يفتقرون إلى الشرارة الداخلية التي يفترض أن يشترك فيها جميع البشر. أشك أن العديد من الناس يجدون صعوبة في فهم هذا الأمر. بالمثل لم يكن لدى أول الجماهير في “حلم ليلة صيف” أي مشكلة في فهم أنه على الرغم من أن رأس “بوتوم” كان يبدو كرأس الحمار إلا أنه كان حقاً إنساناً “من الداخل”، مظهر الحمار يخفي جوهر الإنسان.

توضح ظاهرة الماهوية النفسية كيف يمكننا اعتبار الآخرين كائنات غير بشرية على الرغم من كل المظاهر. لكنها لا تمنحنا أي فكرة عن القضية الحاسمة المتمثلة في التجريد من الإنسانية. عندما نجرّد الآخرين من إنسانيتهم ​​، فإننا لا نعتبرهم ببساطة غير بشر. نحن نعتبرهم أقل من البشر. من أين يأتي ذلك؟

من الواضح أن مفهوم “دون البشر” ينطوي على تسلسل هرمي. إنه يعني ضمناً أن أنواع الكائنات مدرجة على مقياس من الأدنى (بمعنى ما) إلى الأعلى (بمعنى ما). هذا التسلسل الهرمي ذو قيمة جوهرية –القيمة التي يمتلكها الكائن بذاته. ترتبط صفات القيمة الجوهرية ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات حول الالتزام الأخلاقي. كلما امتلك شيء ما المزيد من هذه الصفات كلما زاد الاعتبار الأخلاقي الذي ندين له به. عادة ما توّصف حيوات البشر بأنها ذات قيمة عالية ، وهو تقييم يتناقض بشكل حاد مع الآراء حول قيمة حياة الصراصير. وبالتالي ، فإننا نمنح الناس مكانة أخلاقية ننكرها للصراصير. نشعر بالحرية في سحق هذا الأخير بالأقدام ، لكن معاملة إخواننا من بني البشر بنفس الطريقة تعد انتهاكًا أخلاقيًا من الدرجة الأولى. أثناء الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 ، وصف المتشددون الهوتو جيرانهم من التوتسي بأنهم صراصير- inyenzi. وهذا جعل ذبحهم  واجباً.

وجدت نسخة من هذا التسلسل الهرمي الكوني تعبيراً رسمياً في العصور الوسطى باسم “السلسلة العظيمة للوجود”. لقد وقف الله ، الكائن المثالي الفائق ، في قمة السلسلة ، بينما وُضِع كل نوع آخر من الكائنات في مرتبة تتناسب مع بعده عن الخالق. بوقاحتنا المميزة لنا ، موضعنا أنفسنا في مرتبة أدنى قليلاً من الملائكة ، ولكن أعلى من الحيوانات غير البشرية. احتلت جميع الحيوانات والنباتات والمعادن من غير البشر مرتبة أدنى ، وبالتالي اعتبرت دون البشر.

يخبرنا المؤرخون أن فكرة السلسلة العظيمة للوجود نشأت من تقليد فلسفي ذي جذور في اليونان القديمة. لكن رؤية الكون كتسلسل هرمي أخلاقي واسع  أقدم بكثير وأكثر انتشاراً وأعمق تجذراً في علم النفس الأخلاقي لدينا من ذلك. هذا ليس مفاجئا. بعد كل شيء ، ستكون الحياة الاجتماعية البشرية مستحيلة في غياب التمايزات الأخلاقية. في كل مجتمع بشري ، ثمة ضرورات أخلاقية تتطلب معاملة أنواع معينة من الأشياء بشكل مختلف عن أشياء اخرى. لا يوجد مجتمع بشري يجوز فيه معاملة فرد من أفراده بنفس الطريقة التي يعامل بها المرء عشباً ضاراً أو طفيلياً أو حيواناً يُطارد من أجل لحمه. قد يقطع المرء عنق خنزير ويشويها على النار ، ولكن سيكون من المقيت فعل الشيء نفسه مع الرضيع ، لأن الأطفال “أعلى” (أي أكثر قيمة ماهوياً) على المقياس من الخنازير. هذا الجانب من أطرنا الأخلاقية يؤجج نيران التجرد من الإنسانية ، لأنه يسمح لنا بالتفكير في الناس الآخرين كمخلوقات ذات مرتبة أدنى في المقياس الكوني مما نحن عليه ، وبالتالي يسمح لنا بالتعامل معهم بطرق لا تليق بإخواننا من البشر. لنتذكر كلمات جودوين: صُنف الأفارقة بين الوحوش المفترسة وعوملوا تبعاً لذلك.

سؤال مهم يتعلق بنزع الإنسانية لم تتنم الإجابة عليه بعد. ما دالته، إن كان ثمة دالة ما؟ الجواب يكمن بالتأكيد في تناقضنا الغريب فيما يتعلق بالعنف. الإنسان العاقل هو نوع اجتماعي بامتياز. لقد ضمنت قدرتنا الرائعة على التعاون مع بعضنا البعض هيمنتنا على الكوكب. من أجل بقاء جنسنا الاجتماعي جداً على قيد الحياة ، كان لا بد من اكتساب موانع قوية للغاية ضد ممارسة العنف ضد بعضنا البعض. من السهل المبالغة في تقدير السهولة التي يرتكب بها البشر العنف ضد بعضهم. حتى في هندوراس ، عاصمة جرائم القتل في العالم حاليًا ، هناك 90.4 حالة قتل فقط لكل 100 ألف مواطن (معدل قتل يبلغ 0.09 في المائة فقط).

حتى أن الناس يجدون صعوبة في القتل في الظروف التي يكافؤون فيها على فعل ذلك. كما لاحظ المؤرخ العسكري  بالجيش الأمريكي البريجادير جنرال إس إل إيه مارشال في كتابه رجال ضد النار (1947):

الشخص العادي الذي يتمتع بصحة جيدة بشكل طبيعي – الرجل الذي يمكنه تحمل الضغوط العقلية والجسدية للقتال – لا يزال لديه مقاومة داخلية وغير محققة في العادة لقتل زملاءه من الرجال لدرجة أنه لن يقتل بمحض إرادته إذا كان من الممكن أن يتحول بعيداً عن هذه المسؤولية … عند هذه النقطة  الحيوية يصبح معارضاً ضميرياُ دون أن يدرك.

إن كان كل هذا صحيحاً ، فلماذا إذن كان التاريخ البشري دامياً جداً؟ لماذا كان التاريخ مليئاً بالجثث على مدار العشرة آلاف عام الماضية على الأقل؟ بالنظر إلى العالم اليوم ، ما سبب اندلاع حرب وحشية في سوريا وما سبب الإبادة الجماعية التي تنهك السودان بمسارها المروع؟ لماذا يتم استعباد المزيد من الناس اليوم عما كان عليه الحال في ذروة تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي؟

 الحقيقة المحزنة هي أن أعمال العنف غالباً ما تعد بتحقيق فوائد معينة. من خلال شن الحروب أو تنفيذ الإبادة الجماعية أو استعباد السكان المعرضين للخطر ، يمكننا الحصول على الموارد التي كان من الصعب أو المستحيل الحصول عليها بوسائل أكثر لطفاً. وبالتالي ، طورنا نحن الرئيسيات الذكية ، طرقاً للتحايل على رعبنا وإبطاله إزاء احتمال إراقة دماء الإنسان.

قمنا ببناء ونشر إيديولوجيات سامة ، وتناولنا عقاقير تهلوس العقل وشاركنا في طقوس جماعية قوية ، كل ذلك من أجل منع العدوان وتوجيهه ضد جيراننا. تقنيات الهندسة السلوكية هذه تُستكمل وتُعزز بعمليات نفسية أكثرها فاعلية تجريد من نرغب في إيذائهم من صفتهم البشرية. بتجريد الآخرين من إنسانيتهم ​​، نطردهم من الدائرة السحرية للاعتبارات الأخلاقية. وبذلك يتم تعطيل موانعنا ضد إيذاءهم. هذا يحررنا للتخلص منهم بما يتناسب مع أغراضنا.

 كان نزع الصفة الإنسانية سمة من سمات الحياة الاجتماعية منذ بداية الحضارة ، ولا يزال مصدر معاناة هائلة. ولكن على الرغم من أهميته الكبيرة ، لم يُبذل سوى القليل من الجهد لدراسته.

في الواقع ، على حد علمي ، لا توجد إدارة جامعية واحدة أو وكالة حكومية أو وكالة غير حكومية مكرسة بشكل خاص للتحقيق في عملية التجريد من الإنسانية. ربما يكون جزءاً من المشكلة هو أننا نميل إلى الاعتقاد بأن تجريد الآخرين من إنسانيتهم ​​هو حصري للوحوش الأخلاقية مثل هتلر وبول بوت. لكن هذا ليس صحيحاً.  التجريد من الإنسانية هو نتيجة لبعض سمات سيكولوجيتنا العادية  والتي يمكن أن تنحدر بنا إلى الطريق إلى أعمال العنف والقسوة المروعة. ليس عليك أن تكون وحشاً أو مجنوناً لتجريد الآخرين من إنسانيتهم. يلزم فقط أن تكون إنساناً عادياً.

يقتصر البحث في هذه الظاهرة بالكامل تقريبًا على علم النفس الاجتماعي. من الواضح أن علم النفس يلعب دورًا مهمًا في تطوير نظرية شاملة ، ولكن من الواضح أيضًا أن علم النفس لا يمكنه تقديم مثل هذه النظرية بمفرده. يجب أن يكون التحقيق في التجريد من الإنسانية مشروعاً متعدد التخصصات ، لأنه يتطلب منا معالجة الأسئلة ليس فقط المتعلقة بالعقل البشري ولكن أيضًا تلك المتعلقة بالإيديولوجيا والدعاية والتاريخ والسياسة والثقافة وعلاقاتنا المشحونة بالكائنات غير البشرية والبنية العميقة لـ أطرنا المفاهيمية.

لذا فإن البحث في التجريد من الإنسانية لا يزال في مهده ، والتركيب النظري المتصور في الفقرة السابقة لم يقترب من أن يصبح حقيقة. الغريب (في ضوء الاتفاق الواسع على أن نزع الصفة الإنسانية يلعب دورًا رئيسيًا في إثارة عنف الإبادة الجماعية) لا يوجد مركز أبحاث واحد في أي مكان في العالم مكرس بشكل خاص للتحقيق في أسبابه ودينامياته. الأسئلة حول هذا الموضوع وفيرة ولكن الموارد اللازمة للإجابة عليها تبقى هزيلة على أرض الواقع.

بفضل الجهود المتضافرة لعلماء الطب ، تمكنا من ترويض الأمراض التي كانت ذات يوم آفات للبشرية. تم القضاء تمامًا على الجدري ، وهو مرض كان مسؤولاً عن نصف مليون حالة وفاة في القرن العشرين. ولا يزال ثمة أوبئة أخرى ، مثل السل والكوليرا ، لكننا الآن نفهم كيفية الوقاية منها واحتوائها. ربما سنستيقظ يومًا ما على أهمية تخصيص موارد مماثلة لفهم كيفية منع أو احتواء أو حتى القضاء على وباء التجريد من الإنسانية.

لقد طال انتظار مثل هذا الجهد.

المصدر