مجلة حكمة
كيف خسر ميشيل فوكو اليسار الرادكالي؟

كيف خسر ميشيل فوكو اليسار الراديكالي وكَسِبَ اليمين – روس دوثات / ترجمة: هبة الله طارق عرنوس

كيف خسر ميشيل فوكو اليسار الرادكالي؟ من أغرب الأشياء الَّتي ظهرت في العام الماضي في النقاشات السياسيّة الغربية، كيف أنه من النادر ورود اسم الفيلسوف الراحل ميشيل فـوكو، وليس هذا بسبب عدم وجود فرصة لذلك، إن واحدةً من مفاهيم فوكو الأساسية (السياسة الحيوية) وهي وصفٍ للطريقةِ الَّتي تدخلت بها سلطةُ الدولة الحديثة بنفسها في الحياة البيولوجية لمواطنيها، وهو ما ظهر جليّاً من خلال الاستجابات الحكومية المختلفة لوباء كوفيد-19.  كما وجدت الثقافة الأكاديمية اليسارية فجأة -والَّتي كان عمله فيها مسيطرًا لفترةٍ طويلة- تأثيرها الخاص، بطريقٍ ممتد يصل إلى مجالس إدارة الشركات وحتى قاعات وكالة المخابرات المركزية الـ CIA. وقد تم نشر مجلدٍ جديدٍ من كتابه باللغة الإنجليزية: “اعترافات الجسد” الذي يتضمن تفسيراً للأخلاق الجنسية المسيحية المبكرة.

أرَجِحُ أن تستمع إلى أفكاره، الَّتي يتم الاستشهاد بها في الحجج المحافظة، والَّتي يتم الاستشهاد بها باحترامٍ يمينيٍّ غريب، حيث ظهرت في الستينيات 1960 فضيحة فوكو، الذي واجه اتهاماً بالدفع للأولاد التونسيين مقابل ممارسة الجنس، وقد تم الاعتقاد أن هذا النوع من الادعاءات سيكون من شأنه أن يثير نقاشاً إيديولوجياً حول ما إذا كان على رمز ما بعد الحداثة الحليق أن يواجه نوعاً من التهميش.

وعند بحثي في صفحات صحيفة “مقياس الجدارة في البروز والتأثير” خلال الأشهر الـ 12 الماضية كنت أجد أن أفكار فوكو استحقت إشاراتٍ عابرةً هنا أو هناك. أما على محرك Google Scholar ، وهو نوع مختلف عن مقاييس التأثير، فبإمكانك ملاحظة استبعاد استشهاداته بشكل طفيف في عام 2020، وقد غابَ فوكو، على العموم، عن الخطابِ الليبراليّ واليساريّ في مناقشاتِ الحجر الصحيّ والعزل وغيرهما من الخطابات المرتبطة بعمله التاريخيّ والفلسفيّ.

يخبرنا موقف فوكو المتغير، الكثير من التطورات الأخيرة لكل من اليمين واليسار-الراديكالي-، حيث أن مكانة فوكو في عام 2021 ليست مجردَ اهتمام أكاديميّ، وأفضلُ دليلٍ لهذا التغيير هو محاضر في جامعة نيويورك، يدعى ( جيف شولينبرغر)، حيثُ كَتَبَ مقالتين مجتمعتين معًا لاستكشاف التكافؤ السياسيّ لأفكار فوكولديان. تروي المقالات قصةً مُفاجِئةً في البداية، لكنها تصبح معقولةً بمجرد قبولِكَ لمقدماتها. إذا كان فكر فوكو يقَدِمُ نقدًا جذريًا لجميع أشكال السلطة والسيطرة، عندئذٍ يصبح اليسار الثقافيّ أكثر قوةً ويكونُ اليمين الثقافي أكثرَ هامشية، بحيث يكونُ لنظرياته فائدةً أقل في اليسارِ-الراديكالي، وقد يجدها اليمين-الراديكالي- ثاقبةً أكثر. من الأفضل قراءة المقالات بترتيب زمنيٍّ عكسي، أبدأ بمقاله الطويل “كيف ننسى فوكو؟” في العدد الأخير من “الشؤون الأمريكية” ثم انتقل إلى مقالته السابقة  “Theorycals in Trumpworld” والتي تجسد ازدهار نظريات وخطابات ما بعد الحداثة بين الشخصيات الترامبية في اليمين الراديكالي.

يلاحِظ شولينبرغر أن هذا الغموض السياسيّ ارتَبطَ غالِبًا بتفسيراتٍ لأفكار فوكو، والَّتي وَلَدَت في حياتِهِ أعداءً لليسارِ الماركسي، ووجدت صلاتٍ غريبةٍ مع الراديكالية الإسلامية والنيوليبرالية. من باب التحريض، بإمكانِكَ القول أن الفيلسوف الفرنسي كانَ شخصيةً شيطانيةً بمعاني متعددة لهذا المصطلح.

فشخصيًا، كانَ فوكو شخصًا شريرًا يرفض القيود المفروضةَ على شهوةِ البالغين، وفلسفيًا كانَ متهمٌ متَشَكِك، -سواءَ كانت مَزاعِمَ تونُس صحيحةً أم لا- فقد جادَلَ فوكو صراحةً في شرعيةِ ممارسة اللواط – كالشيطان الَّذي ظَهَرَ في كتابِ أيوب- بالاعتماد على توجيهِ أصابع الإتهام الى الشقوق والقسوة والنفاق بأيّ ترتيبٍ يكفي لتفكيك أيّ نظام سلطةٍ يَدَّعي أن الحصول على الحقيقةِ والفضيلةِ من حَقِه. وهذا بدوره يجعل عمله مفيدًا لأيّ حركةٍ في حالةِ حربٍ مع القوة والمعرفة من خلال استخدام المصطلحات الفوكوية، ولكنها خطيرةً ومحرجة إلى حدٍ ما بمجرد أن تجد تلك الحركة نفسها مسؤولةً عن نظامِ العالم.

وبِهذا، تخبرنا التحولات الايدولوجية لعصر الوباء (اعادة ترتيب فوكو) شيئًا مهمًا عن توازن القوى في الغرب، حيثُ يعَرِف اليسار الثقافيّ نفسهُ، بشكلٍ متزايد، على أنه مؤسسةٍ جديدة لمعرفةِ القوة، والَّتي تتطلب التقوى والولاء أكثر من الاتهام والنقد.

يمكنك أن تتخيل جدولًا زمنيًا، كان اليسار فيه أكثر تشكيكًا في الخبراء وعمليات العزل ومتطلبات اللقاح الّتي تنشرها بعض الفئات لمناصرة الاستقلال الجسديّ للفرد ضد نظام الدولة المسيطرة (فوكولديان)، والدفاع عن الشكوك الشعبية ضد المعرفةِ الرسمية، ورفض ادارة الصحة البيروقراطية باعتبارها مجرد قناعٍ آخر لمركزية السلطة، ويتضح هذا كله في النقاشات حول كوفيد-19.

لكن اليساريين الذين لديهم تلك الدوافع انتهى بهم المطاف بالتحالف مع اليمين الشعبوي والتآمري، لكن اليسار الكبير اختار عوضاً عن ذلك اندماجاً لافتاً بين التكنوثراطية والأيديولوجية التقدمية: عالم “صدق العلم”، حيث تطلب العلم الإغلاق من أجل الجائحة لكنه قدّم استثناءاتٍ لمسيرة لحياة السود المتحولين جنسياً، وبهذا أصبح كوفيد والعنصرية الهيكلية على حد سواء فوصلت –تلك العنصرية- إلى حالات طوارئ الصحة العامة، فلم تتعارض الشرعية العلمية مع سياسات الهوية بل تشابكت.

ينَبِئ الدافع الى إرساء الشرعية والنظام، بالكثير من الإجراءات الَّتي يتخذها اليسار هذه الأيام. حيث تنتمي فكرة اليسار النسبيّ الى عصرٍ كان فيهِ التقدميون يعَرِفونَ أنفسهم بشكلٍ أساسيّ ضد النظام الأبويّ المسيحيّ الأبيض الغير متجانس، مع استخدام حمض فوكولديان كمذيب للنظام السابق.

لا أحد يراقب التقدميّة في العملِ اليوم، دون أن يطلِقَ عليها النسبيةَ بدلًا من ذلك، فالهدف هو إيجاد قواعد وتسلسلات هرمية جديدة بشكلٍ متزايد، وتصنيفات أخلاقية جديدة لِحُكم عالم ما بعد المسيحية وما بعد الأبوية وما بعد رابطة الدول المستقلة. حيث تستخدم فئات سياسات الهوية بشكلٍ متزايد، وتحقيقًا لهذه الغاية، الَّتي يتم تبنيها في الأصل، على أنها تناقضات تحريرية مع القيود القديمة، لِبناء نظامٍ أخلاقيٍّ خاصٍ بها لتحديد مَن يُراعي لمن، ومن يستطيع أن يتقدَمَ جنسيًا لِمن ومتى، ومن يتحدث لأي مجموعة، ومن يحصل على احترامٍ خاص، ومن يخضع لفحصٍ خاص، وماهي المفردات المستنيرة أو أيّ كلماتٍ مشكوك فيها حديثًا، وما نوع قواعد النقابة والأعراف البيروقراطية السائدة.

وفي غضون ذلك، يجد المحافظون، أعداء النظام الناشئ أنفسهم منجذبين إلى الأفكار الَّتي تقدم، ما يسميه شولينبرغر(النظام المؤسسي)؛ نقداً منهجيًا للهياكل المؤسسية الَّتي تعمل من خلالها القوة الحديثة؛ حتى عندما تنتمي تلك الأفكار إلى أعدائهم السابقين في النسبة وما بعد الحداثة.

وهذا إغراء أتمنى أن يكون لدى اليمين القدرة على مقاومته فوجود المحافظين يحوّل الفوكولديان إلى حقيقة لا مجال للتقليل منها سواء من ناحية دعمها أو التشكيك بها.

لقد شكل الفيلسوف الفرنسي ضرباً من ضروب العبقرية بلا شك، كما كتب شولنبرغر: “انتقاداته للمؤسسات تكشف محدودية أنماطنا السياسية المهيمنة”، بما في ذلك الوضع المسيطر على اليسار الراديكالي، لكن نقد المحافظين القديم لروح النسبية المسببة للتآكل لا يزال صحيحاً إلى حد كبير ولهذا فحتى عندما يسقط بضرباتٍ قويةٍ ضد السلطة التقدمية، فإن الكثير مما يتبين في ما بعد الحداثة، حول اليمين-الراديكالي- في عهد ترامب، سيظل شريراً ومخادعاً وشيطانياً حتى.

في النهاية، يمكن لأيٍ كان رفض التقدمية الجديدة ومعارضة التدخلات الكنيسية والاحتفاظ بحقه بالخوف الصحي مما قد يحدث إذا تم استخدام الأساليب الملتوية الشيطانية لإسقاط تلك المؤسسات.