مجلة حكمة
كتاب النفس ارسطو العقل

التحول المتبادل بين العقل والإنسان والعالم: عودة لنظرية العقل من خلال تلخيص كتاب النفس – محمد المصباحي


إن ظهور نص تلخيص كتاب النفس لأرسطو(1)، والذي حرمنا منه مدة طويلة لأسباب لا ندري بواعثها إلى أن أخرجه لنا الأستاذ ألفرد إيفري، يتيح لنا اليوم فرصة العودةإلى هموم نظرية العقل، لا سيما وأن طريقة كتابته تحرك أكثر من رغبة في البحث عن سر ذلك القلق الذي يحفل به هذا الكتاب. إن طريقة الكتابة تلك تجعلنا نقول بأن أبا الوليد كان في عمقه يحن إلى البقاء في جو العبارة القلقة وفاء منه لجنس الكتابة الفلسفية وتحرزا من الالتزام بمذهب نهائي ثابت. وبالفعل فإن ما يميز كتاب التلخيص هو انفراده بتقديم جملة من الأفكار المتضاربة والطريفة بصدد طبيعة العقل في علاقته بالإنسان وبالعالم، كتوحيده حينا وفصله حينا آخر بين العقلين الهيولاني والفعال، وكجعله الاستعداد تارة صفة للإنسان وتارة صفة للعقل الهيولاني وتارة أخرى معنى يقذفه العقل الفعال، في العقل الهيولاني، وكقوله بأن العقل مركب تارة وبسيط تارة أخرى، وكتوحيده تارة بين العقل الهيولاني والإنسان وفصله عنه تارة أخرى، وكقوله حينا بأن العقل الهيولاني أو الإنسان هو علة الاستعداد الذي يلحق العقل الفعال بسبب اتصاله به، وحينا آخر بأن العقل الفعال هو الذي يعطي العقل الهيولاني الاستعداد الذي به يقبل المعقولات. لقد أثارت هذه الأفكار لدى الناظرين فيها كثيرا من الشكوك، بيد أن غرضنا نحن في هذا القول ليس الدخول في هذه المسالك والمعارك الفيلولوجية لحل مشكل قلق النص الرشدي، وإنما همنا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا القلق بوصفه مؤشرا على اضطراب الحقيقة البشرية ذاتها في علاقتها باضطراب حقيقة العالم وحقيقة العقل، اعتقادا منا أنه إذا كانت الرغبة في رفع قلق العبارة مشروعة من الناحية البيداغوجية، فإنها قد تؤدي إلى تشويه العبارة وصرفها عن مرماها الذي كانت تؤمه.

في هذه القراءة الأولية للمقالة المتعلقة بالعقل من نص تلخيص كتاب النفس لابن رشد سنعمل إذن على إثارة الانتباه إلى جملة من المفارقات التي تتصل ببنية العقل في ذاته وفي علاقته بالإنسان وبالعالم، كما سنهتم برصد تحولات العقل والإنسان عندما تنعقد صلات الاتصال أو الانفصال بينهما، والتعقيب على دلالات تلك التحولات. ولكن السؤال الكبير الذي نريد فحصه والذي حركتنا إليه قراءة التلخيص هو هل العلاقة بين الإنسان والعالم، وبين الإنسان والعقل، علاقة ذاتية أم علاقة عرضية.

1 – حول أسباب التعدد الدلالي لاسم العقل:

من المسائل الأولى التي اعترضت ابن رشد مسألة التعدد الدلالي لاسم العقل، لا سيما قسمته إلى عقلين متقابلين هما العقل الهيولاني بأسمائه المتعددة (العقل بالقوة والعقل المستعد والعقل المنفعل) والعقل الفعال. لقد حاول ابن رشد أن يفسر هذا التعدد عبر مقاربات أنطولوجية وإبستمولوجية وميتافيزيقية يمكن تصنيفها إلا ثلاث نظريات هي: نظرية “الاتصال”، ونظرية الفعلين أو الفصلين ثم نظرية واهب المعنى.

أ – نظرية الاتصال أو العلاقة العرضية بين العقل والإنسان:

وردت نظرية الاتصال(2) في التلخيص بصيغتين متباينتين وفي ثلاثة نصوص؛ أول هذه النصوص يتكلم عن “عقل” بدون نعت: “وإذا وفيت هذه الأقاويل قسطها من الشكوك ظهر أن العقل هو من جهة استعداد مجرد من الصور الهيولانية، كما يقول الاسكندر، وهو من جهة جوهر مفارق ملتبس بهذا الاستعداد؛ أعني أن هذا الاستعداد الموجود في الإنسان هو شيء لحق هذا الجوهر المفارق من جهة اتصاله بالإنسان، لا أن الاستعداد موجود في طبيعة هذا المفارق، كما زعم ذلك المفسرون، ولا هو استعداد محض كما زعم ذلك الاسكندر”(124: 2-6). من الواضح أن ابن رشد لا يصف العقل بأي من النعوت المعروفة لدينا، ولكنه يقدم له تعريفا بوصفه جوهرا مفارقا، ومع ذلك فإن هذا التعريف لا يسمح لنا بنعته بالعقل الفعال، لأن الجوهرية والمفارقة صفتان للعقل بالقوة أيضا. غير أن ابن رشد بعد جملة أو جملتين من النص السابق يفاجئنا بالكلام عن هذا العقل ناعتا إياه “بالعقل الهيولاني”، وذلك حينما سيكون بصدد الرد على نظرية الاستعداد المطلق للعقل الاسكندرية بفضل تمييزه وفصله بين “الشيء المدرك للاستعداد” و”الاستعداد”. وسيعود ابن رشد في النص الثاني إلى هذا المعنى الذي اتخذه “العقل الهيولاني”.

النص الثاني يلتقي بنهاية النص الأول في تنصيصه صراحة على أن الذي يتصل بالإنسان هو العقل الهيولاني: “فقد تبين لك من هذا المذهبان جميعا: مذهب الاسكندر ومذهب غيره في العقل الهيولاني، وتبين لك أن الحق الذي هو مذهب أرسطو هو الجمع بينهما على الوجه الذي قلناه. وذلك أن بهذا الوضع الذي قلناه نتخلص من أن نضع شيئا مفارقا في جوهره استعدادا ما، لوضعنا الاستعداد موجودا له، لا من طبيعته بل من قبل اتصاله بالجوهر الذي فيه هذا الاستعداد بالذات وهو الإنسان؛ وبوضعنا أن هناك شيئا يلحقه هذا الاستعداد بنوع من العرض نتخلص من أن يكون العقل الذي بالقوة استعداد فقط”(125: 4-9).

أما النص الثالث فنرى أنه يجب تقسيمه إلى شقين؛ ونبدأ بالشق الثاني الذي يصرح فيه ابن رشد بأن “العقل الفعال” هو المتصل بنا وليس العقل الهيولاني. وحين يتصل بنا يكتسب هذا العقل نفسه وظيفة مضادة لطبيعته هي وظيفة القبول إلى جانب وظيفته الأصلية التي هي وظيفة الفعل والإنتاج. وبفضل وظيفته أو فعله الجديد يتحول العقل الفعال أو العقل بالفعل إلى “عقل مستعد” أو “عقل منفعل” أو “عقل بالقوة”: “هو (العقل المتصل بالاستعداد) من جهة ما هو متصل به عقل مستعد لا عقل بالفعل، وهو عقل بالفعل من جهة ما ليس هو متصل بهذا الاستعداد. وهذا العقل هو بعينه العقل الفعال.. وذلك أنه من حيث يتصل بهذا الاستعداد فيجب أن يكون عقلا بالقوة.. وأما من جهة ما ليس يتصل به فيجب أن يكون عقلا بالفعل..”(124: 11-15).

ونستخلص من النصوص الثلاثة التي مرت بنا أن الأمر الثابت فيها هو الاتصال العرضي بين العقل بالإنسان، أو الاستعداد الموجود فيه بالذات، أما المتغير فهو العقل المتصل بهذا الأمر الثابت، إذ يعلن النص الأول في بدايته أن المتصل بنا هو “العقل” ثم لا يلبث أن يتحدد في نهايته “بالعقل الهيولاني”، وهذا ما سيؤكده النص الثاني صراحة، أما الشق الثاني من النص الثالث فيعلن أن المتصل بالاستعداد البشري هو العقل الفعال. ويلوح من هذه النصوص كأن ابن رشد كان يستعمل أسماء “العقل” و”العقل الفعال” و”العقل الهيولاني” بدلالة مترادفة تقريبا في كتاب التلخيص.

لكن عودتنا إلى الشق الأول من النص الثالث ستجعلنا نعيد النظر في هذه الخلاصة التي انتهينا إليها بصدد ترادف أسماء العقل الثلاثة. ذلك أننا سنجد هذا الشق الأول من النص المشار إليه يقدم لنا مفهوما غريبا “للعقل الهيولاني” لم نعهده من قبل ويتناقض مع مفهوم العقل بعامة. ففي بداية النص الثالث يتكلم ابن رشد عن العقل الهيولاني بوصفه “شيئا مركبا” من كيانين متباينين هما الاستعداد البشري والعقل الفعال: “فقد تبين إذن أن العقل الهيولاني هو شيء مركب من الاستعداد الموجود فينا، ومن عقل متصل بهذا الاستعداد… وهذا العقل هو بعينه العقل الفعال”(124: 10-12). وبما أن العقل الفعال يتفرع إلى عقلين عند اتصاله بالإنسان، فإن العقل الهيولاني سيصير مركبا من ثلاثة كيانات معرفية وأونطولوجية متباينة: الاستعداد البشري وعقل مستعد وعقل بالفعل. هكذا صار العقل الهيولاني في هذا التأويل شيئا مستقلا ومتميزا عن الاستعداد البشري (الخيال أو القوة المفكرة)، وعن العقل المستعد وعن العقل بالفعل (وهذان الأخيران هما وجهان للعقل الفعال)، مما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا لم يكن الأمر يتعلق هنا “بعقل ثالث” جامع لإبعاد الممارسة العقلية الثلاث، فعل المعقولات وقبولها بالإضافة إلى الاستعداد الخيالي للفعل والقبول. ولعل الوضع المضطرب لهذا المفهوم الطريف للعقل الهيولاني هو الذي جعله غير قادر على الصمود(3)، لا سيما وأن هناك مفاهيم قريبة منه ستنافسه منافسة قوية في وظيفته الجامعة، كمفهوم “العقل منا” أو “النفس منا”، ومفهوم “العقل النظري”، ومفهوم “العقل بالملكة”. ومن الملاحظ أن فصل ابن رشد بين مفهومي “العقل الهيولاني” و”العقل بالقوة” هو الذي سمح له بأن يتصور العقل الهيولاني كيانا مستقلا مركبا تركيبيا ثلاثيا(4). غير أننا نجد ابن رشد في مكان آخر من التلخيص يتراجع عن هذا المفهوم المركب “للعقل الهيولاني” ويعود إلى مفهوم مستقل له قريب من الاستعداد البشري الذي هو الخيال: “وهو (العقل الفعال) هو بعينه الذي يعقل المعقولات التي هاهنا عند انضمامه إلى العقل الهيولاني، لكنه إذا فارق العقل الهيولاني لم يقدر أن يعقل شيئا مما هاهنا:”(130: 10-12). فإذا ربطنا هذا النص بالنصوص السابقة التي تتكلم عن أن اتصال العقل بالإنسان أو بالاستعداد الموجود فيه، وربطناه كذلك بالنصوص التي تتكلم عن إشكالية استحالة إدراك العقل لذاته ولعالم ما بعد الطبيعة أثناء اتصاله بنا، فسنخلص إلى أن مفهوم “العقل الهيولاني” في هذا النص لن يكون بعيدا في معناه عن الاستعداد البشري الذي هو الخيال، أو عن الإنسان بصفة عامة(5). ومن ثم نكون قد وقفنا على ثلاثة معان للعقل الهيولاني: باعتباره هو نفسه العقل الفعال، وبوصفه شيئا مركبا من الاستعداد البشري ومن العقل بشقيه القوي والفعال، ثم أخيرا بوصفه هو الإنسان أو الاستعداد البشري.

ونعود إلى نظرية الاتصال في صيغتيها (اتصال العقل أو العقل الهيولاني بالاستعداد الموجود فينا، واتصال العقل بنفس الاستعداد) لنقول بأن ابن رشد التمس هذا الحل بموقف عدل من مأزق تعارض المذهبين الشهيرين، المذهب الذي يفرغ العقل من كل قوام أنطولوجي عندما يتصوره استعدادا محضا (الاسكندر الافروديسي)، والمذهب الذي يجمع في نفس العقل بين القوة والفعل وبين الاستعداد والمفارقة، وذلك عندما يتصور بأنه يجوز إلحاق الاستعداد والإمكان بجوهر مفارق خارج إلى الفعل أبدا (وهو مذهب ثامسطيوس ومعظم الشراح). وقد تبين لنا من خلال هذه النظرية بأن الاتصال بالاستعداد البشري هو علة تحول “العقل” إلى “عقل مستعد” قادر على القيام بفعل المعرفة وقبول العالم الخارجي وانفتاحه عليه. ومع ذلك فإن السؤال الذي يبقى معلقا هو كيف يجوز الاتصال بين مجالين متقابلين، مجال القوة والاستعداد ومجال الصورة والفعل، أو بالأحرى بين مجال الإنسان (والطبيعة) ومجال العقل.

ب – نظرية الفعلين أو الفصلين:

النظرية الثانية التي تفسر انقسام العقل إلى عقلين تتخذ هي الأخرى مظهرين، أولهما نصطلح عليه بنظرية الفعلين، وتقوم على مبدإ ازدواج الفعل بالنسبة للذات الواحدة، فالعقل واحد في ذاته وجوهره، لكنه مزدوج في فعله، فعل تجريد المعقولات وفعل قبولها، ومن هنا يأتي اختلاف اسميه: “فهو من جهة فعله للمعقولات يسمى فعالا، ومن جهة قبوله إياها يسمى منفعلا، وهو في نفسه واحد”(125: 2-3). وبخلاف التفسير الأنطولوجي السابق والقائم على مبدإ الاتصال العرضي بين جوهرين متغايرين في الجوهر، العقل والإنسان، لتفسير وجود عقلين أحدهما بالقوة والآخر بالفعل، فإن التفسير الإبيستيمولوجي الذي نحن فيه يفسر ازدواج العقل بالانقسام الذاتي لفعل العقل وليس لذاته. إذن يتعلق الأمر بنفس العقل الواحد الذي يقوم بفعلين متقابلين، فعل صنع المفاهيم وفعل الانفعال بها وقبولها.

أما الصيغة الثانية لهذه النظرية والتي يمكن أن نصطلح عليها بنظرية الفصلين، فهي تحيل على القسمة الذاتية للطبيعة إلى قوة وفعل بدلا من إحالتها على ازدواج فعل المعرفة. إذ لما كان العقل ينتمي بجهة ما إلى الموجودات الطبيعية بدليل أنه تم فحصه في كتاب النفس الذي هو من جملة الكتب الطبيعية، فإنه يتوجب أن يخضع هو الآخر لنفس القسمة إلى قوة وفعل. وبهذا النحو تكون هذه القسمة ذاتية لا عرضية، لأنها تقسم العقل إلى فصلين ذاتيين، أي لا يمكن أن يرتفعا عنه أو أن يرتفع أحد الفصلين دون الآخر. وقد عرضها ابن رشد في سياق شرحه للفصل المتعلق بالعقل الفعال من كتاب النفس: “قال ولما كان الأمر يجب أن يجري مجرى الأمور الطبيعية، وذلك أنه كما نجد في جنس جنس من الأمور الطبيعية الحادثة شيئا يجري مجرى القابل، وشيئا يجري مجرى الفاعل، أما الذي يجري مجرى القابل فهو الشيء الذي هو بالقوة جميع الأشياء الموجودة في ذلك الجنس، وأما الذي يجري مجرى الفاعل فهو الذي يفعل كل شيء في ذلك الجنس، وهذا هو الشيء الذي حاله من الطبيعة كحال الصناعة من الهيولى، فقد يجب أن يوجد في العقل هذان الفصلان، أعني عقلا فعالا وعقلا منفعلا”(129: 2-7).

ج – نظرية معطي المعنى:

ولا يكتفي ابن رشد بإرباكنا بهذا الاضطراب الاصطلاحي بصدد أسماء العقل، وبهذا التردد القولي بين رؤية اتصالية عرضية ورؤية بنيوية ذاتية، بين نظرة تحولية ونظرة تعددية، بل يضيف إلى ذلك غموضا آخر عندما يتكلم بلغة فارابية عن أن العقل الفعال هو الذي يعطي العقل الهيولاني المعنى الذي يقبل به معقولات العالم: “… كذلك هذا العقل هو الفاعل للمعقولات والمخلق لها، وهو المعطي للعقل الهيولاني المعنى الذي به يقبل المعقولات، أعني أنه يعطي العقل الهيولاني شيئا يشبه الإشفاف من البصر”(129: 11-13)(6). إن نظرية واهب المعنى هاته تقدم العقل الفعال بوصفه علة وجود الاستعداد في العقل الهيولاني، مما يعني أن العقل الفعال لم يعد عرضة للتحول إلى عقل مستعد عندما يمسه الاستعداد البشري، كما يعني أن العقل الهيولاني صار ضمن هذا المنظور كيانا مستقلا ومختلفا عن العقل الفعال ولكنه قابل لتلقي الاستعداد من هذا الأخير، في حين كان الإنسان في نظرية الاتصال هو علة انضمام الاستعداد إلى العقل الأمر الذي يؤدي إلى تحوله من عقل فعال إلى عقل مستعد. وهذا يدل من جديد على ابن رشد لم يكن يريد في التلخيص أن يحسم في طبيعة “استعداد” العقل ولا في مصدره، لا سيما وأننا سنعثر على فلتة قلم منه تضع الاستعداد في جوهر العقل نفسه (انظر 133: 8). ونعتقد بأن هذه الفلتة هي بداية خروجه من هذه الصعوبة، وأعني بذلك أنها ستقدم مفتاح تفصيل وتقسيم دلالة الاستعداد إلى استعداد مادي أو شبه مادي له علاقة بالإنسان، وهو الخيال أو ما يدخل في معناه، واستعداد عقلي، للخروج من هذا المأزق الدلالي.

***

يتضح إذن أن نظرية الفصلين والفعلين تتعارضان مع نظرية الاتصال، لأن هذه الأخيرة قائمة على علاقة جوهر بعرض، وهي كما هو معروف علاقة وحدوية ضعيفة بالقياس إلى علاقة القوة بالفعل؛ كما تنطلق نظرية الاتصال من مبدإ عدم الاعتراف بوجود الاستعداد في طبيعة العقل، فالعقل وإن كان “مركبا” من القوة والفعل، فإن تركيبه هذا ليس من جنس تركيب الأشياء الطبيعية ولا هو من جنس تركيب الأشياء الميتافيزيقية لاختلاف طبيعة القوة في التركيبين. فالقوة على الكمال العقلي لا تؤدي بالضرورة إلى انبثاق موجود جديد، وإنما تفضي إلى علاقة جديدة هي علاقة الاستفادة والاستكمال، في حين أن القوة على الكمال الطبيعي تؤدي إلى ميلاد جوهر جديد عند تلقيحها بالفعل المناسب لها. أما تركيب العقل بحسب نظرية الاتصال كما عرضناها فهو ليس من جنس التركيب الجوهري، كما أنه ليس من جنس التركيب الميتافيزيقي، لأنه لا يستكمل ذاته بالقوة التي تلحقه، وإنما هو قريب من تركيب جوهر بعرض. إذن الاستعداد الذي يلحق العقل من جراء اتصاله بالإنسان هو استعداد عرضي، وبالمثل فإن قوتي العقل القابلة والفاعلة تلحق بالإنسان على نحو عرضي. ومع ذلك، أي بالرغم من الطابع الاستكمالي والعرضي لنظرية الاتصال، فقد جعلت الإنسان يلعب دورا حاسما في عملية المعرفة وفي تحويل العقل الفعال إلى ذات منفتحة على العالم. في مقابل ذلك، لم تمنح نظرية الفصلين أو الفعلين الإنسان الدور الذي منحته إياه نظرية الاتصال في سيناريو المعرفة، لأنها جعلت الاستعداد فصلا ذاتيا للعقل وليس عرضي مكتسبا جراء انفتاحه على الإنسان. أما نظرية معطي المعنى فنعدها من البقايا الأثرية لفارابية ابن رشد الأولى، طالما أنها جعلت الاستعداد نتيجة فيض لا نتيجة اتصال أو قسمة ذاتية. هكذا نجد أنفسنا في التلخيص أمام ثلاثة مذاهب متقابلة بصدد طبيعة واصل “الاستعداد” العقلي: صفة عرضية مصدرها الإنسان، وفصل ذاتي للعقل، ثم هبة من العقل الفعال للعقل الهيولاني.

2 – التحول المتبادل للعقل والإنسان:

إن قلق عبارة ابن رشد بصدد وضعية العقل الأصلية: هل هو مجرد عقل لا لقب له أم هو عقل فعال أم هو عقل هيولاني، وهل الاستعداد المنسوب إليه هو فصل ذاتي له أم أنه صفة مكتسبة وعرضية بسبب اتصاله بالإنسان، أم هبة من قبل العقل الفعال، إن هذه القلق يفسره اختلاف وجوه النظر إلى العقل والإنسان، وتعدد مسالك وزوايا فحصها: زاوية القوة، زاوية الفعل، زاوية إدراك الغير، زاوية إدراك الذات الخ. وقد أدى هذا التعدد والاختلاف في وجوه النظر ومسارح الفحص بنص التلخيص إلى انزلاقات انفلتت عبرها تصريحات متضاربة من بين سطوره: فأحيانا نقرأ، كما مر بنا، بأن العقل الفعال هو عينه الذي يتحول إلى عقل مستعد، وأحيانا نقرأ بأن العقل الهيولاني هو نفسه العقل الفعال ثم نقرأ بأنه عقل مركب مما هو إنساني ومما هو عقلي، ثم نقرأ بأنه هو نفسه الاستعداد البشري أو الإنسان.. فهل نفسر هذا الاضطراب باضطراب الرجل أم باضطراب الحقيقة ذاتها؟ أم نفسره بآفة الشرح، الذي يشرح قلق العبارة دون أن يرفع عنها قلقها؟

مهما يكن من أمر فقد كان الوضع الأنطولوجي للعقل في التلخيص مضطربا. فهو وإن كان بطبعه منسوبا إلى مرتبة الفعل أي إلى مرتبة الجواهر المفارقة، يجد نفسه مضطرا لأن يتصل بالإنسان المنسوب إلى عالم الطبيعة أي إلى مرتبة القوة أساسا. وبحكم اتصال العقل بالإنسان يصبح العقل الفعال عقلا قابلا، أي أداة قبول ومعرفة، بعد أن كان فاعلا، أي أداة إنتاج فقط. ونفهم من هذا أن اتصال العقل بالاستعداد البشري يحوله إلى عقل بشري، يسميه ابن رشد في نص التلخيص خاصة “بالعقل منا” أو “بالعقل الذي فينا” أو “بالنفس منا”، وسيسميه في شرح كتاب النفس بالعقل النظري أو العقل بالملكة. ومعنى هذا أن “العقل الذي فينا” هو الذي له فعلا خلق المعقولات وقبولها. إن تحول العقل إلى عقل بشري يقابله تحول الإنسان إلى كائن عاقل، فيتقاطع بذلك التحول الصاعد بالتحول الهابط في فعل المعرفة. لكن يبدو أن الرابح من هذه التحولات هو الإنسان، فقد ربح الإنسان من الاتصال بالعقل معرفة العالم ومعرفة ذاته والأمل في معرفة ما وراء العالم. أما العقل فقد خسر ذاته من جراء اتصاله بالإنسان، ولم يكسب في مقابل ذلك سوى الاستعداد الذي يعتبر في منطق العقول المفارقة خسارة، لأن يجعله مفتقرا إلى غيره محتاجا إلى معرفة العالم التي كان في غنى عنها.

3 – القوة والإضافة في جوهر الإنسان (والعقل؟):

من بين التعاريف الطريفة التي يقدمها ابن رشد للعقل التعريف الذي يقول فيه بأن “العقل قبول”، وبما أن “الشيء لا يقبل نفسه”، فالواجب أن تكون إنية العقل هي قبوله لغيره. ومن المعروف أن هناك ضربين من القبول، قبول العالم الطبيعي وهو الذي يسمى معرفة، وقبول عالم ما بعد الطبيعة وهو الذي يسمى اتصالا أخيرا. غير أنه مهما اختلف “موضوع” القبول أو اسمه فإنه يقتضي وجود قوة واستعداد لحصوله. والاستعداد كما يقدمه لنا ابن رشد هو فراغ معرفي مطلق يكاد يكون فراغا أونطولوجيا شبيها بالعدم. بعبارة أخرى، القوة هي الاستعداد العدمي لورود شيء من خارج إلى الذات، أو بالأحرى هي الاستعداد لقبول صورة أو فعل للخروج من لحظة القوة والإمكان إلى لحظة الفعل والصورة.

وقد وقفنا من بين ما وقفنا عليه على أن الاستعداد موجود بالذات في الإنسان، ومنه انتقل إلى العقل انتقالا عرضيا عن طريق الاتصال. بيد أن الإنسان والعقل لا ينفردان بالقوة والاستعداد، بل تشاركهما فيه الطبيعة، إذ تعتبر القوة أيضا مقوما جوهريا لها. غير أن استعداد العقل والإنسان ليس كاستعداد الطبيعة. ذلك أن معنى قوة الطبيعة هو استعدادها لأن تكون مقبولة، أي قابليتها لأن تكون معقولة، وكأن الطبيعة “عقل بالقوة” قابل لأن يحل في “عقل بالقوة”؛ أما الاستعداد الموجود في الإنسان أو في العقل المتصل بالإنسان فهو استعداد لأن يكون قابلا لا مقبولا. وبهذا النحو نصل إلى أن الطبيعة والإنسان كليهما يشتركان في أمر واحد على الأقل وهو القوة، فالطبيعة معقول بالقوة، والإنسان عاقل بالقوة، أو أن الطبيعة عقل بالقوة مستعد لأن يصير معقولا، والإنسان أو العقل منا عقل بالقوة مستعد لأن يصير عاقلا. بعبارة أخرى، إن استعداد الطبيعة هو استعداد لأن تصير موضوعا مقبولا في العقل البشري، واستعداد الإنسان هو استعداده لأن يصير ذاتا قابلة للعالم. وبما أن القوة موجودة في الإنسان وجودا ذاتيا، ومنه تنتقل إلى العقل بحسب الرؤية الاتصالية، أو أنها توجد وجودا ذاتيا أو شبه ذاتي بحسب نظرية الفصلين والفعلين، فبوسعنا أن نقول بأن العدم يسكن في جوهر الإنسان والعقل معا، وهذا ما يحرك شوقهما نحو الغير عندما يكونا متصلين.

غير أن استعداد العقل البشري، “العقل منا”، ليس استعدادا لأن يصير عاقلا أي قابلا للعالم وحسب، بل هو أيضا استعداد لأن يكون مقبولا أي موضوعا. بيد أن هذا القبول لا يكون من قبل غيره، بل من قبله هو. فالعقل الذي فينا يمكن أن يقبل ذاته. وقد سبق منا القول بأن عقلنا لا يمكنه أن يصير مقبولا إلا إذا صار قابلا، أي أنه لا يصير معقولا إلا إذا صار عاقلا، أو قل إنه لا يصبح عاقلا لذاته إلا أثناء فعل تعقله لغيره. وعلى هذا النحو تلتقي في إدراك الذات لذاتها صيرورتان، فعندما يصير المعقول بالقوة معقولا بالفعل -أي معرفة- يصير العاقل بالقوة عاقلا وبالتالي معقولا بالفعل. من هنا كان الإنسان هو نقطة اتصال بين معقولين بالفعل: معقول العالم معقولا الذات. بعبارة أخرى، لا يمكن لذاتنا أن تصبح موضوعا إلا إذا حولت الغير موضوعا لها. أما الفرق بين العقل والوعي بالذات، فهو أن العقل هو فعل إدراك العالم، والوعي هو فعل إدراك إدراك العالم.

وهذا ما يميز “العقل منا” عن العقل الفعال. فذات الإنسان بالنسبة لأبي الوليد “ليست شيئا أكثر من عقله الأشياء الخارجة عن ذاته، بخلاف الأشياء المفارقة، فإنها لا تعقل أشياء خارجة عن ذاتها”(129: 1-2). ووحدة الذات بالغير على هذا المنوال هو ما يجعل إدراك الإنسان لذاته إدراكا عرضيا، أو قل أن وحدته بذاته هي وحدة بالعرض: “وأما العقل منا فكأنه واحد بالعرض، أعني أنه لما كانت ذاته ليست شيئا آخر غير عقل الموجودات التي هي خارجة عن ذاته، عرض له أن يعقل ذاته بعقله الأشياء الخارجة عن ذاته”(128: 14-129: 1). وبناء على هذا بوسعنا أن نقول بأن “العقل منا”، واحد بالذات مع غيره، وواحد بالعرض مع ذاته، لأنه يدرك العالم مباشرة، في الوقت لا يدرك فيه ذاته إلا بتوسط إدراكه للعالم. وهذا ما جعل “العقل منا” في حالة تبعية دائمة للغير، للخارج عن الذات، مثله في ذلك مثل تبعية العالم للمحرك الذي لا يتحرك. وفي هذا المناح العقلي يكون الكوجيتو الديكارتي ممتنعا تماما، لأن “العقل منا” لا يستطيع بأية حال أن ينفي العالم من أجل أن يثبت ذاته. في مقابل ذلك، يمكن أن نزعم بأن من يقوم بدور الكوجيتو الديكارتي عند ابن رشد هو العقل الفعال، لأنه لا يستطيع أن يدرك ذاته إلا إذا انفصل عن الإنسان بخيالاته ومعرفه، وإلا إذا تحرر من “معرفة” العالم التي هي الحجاب الذي يكون بينه وبين ذاته. إنه إن شئنا أن نتكلم عن كوجيتو رشدي، فيجب أن يكون كوجيتا ممتلئا، فلا تتجلى الذات في مرآة الفكر إلا بعد أن تمتلئ بالعالم، أي بعد أن تصير غيرا(7). توجد الذات إذن متى فكرت في الغير، هذا هو الكوجيتو الرشدي. ولذلك يمكننا أن نقول بأن الإنسان يضيئ ذاته حينما يضيئ العالم، فإضاءة الغير شرط لإضاءة الذات. وبهذا النحو تكون ماهية الكون جزءا من ماهية الإنسان، لا فرق بينهما إلا بفعل المعرفة المنفتح على الآخر.

لكننا عندما نقول بأن ذات “العقل منا” هي ما تدركه فليس معنى ذلك أن الذات منا صارت هي الموضوع فقط، أي صارت ملقاة على غيرها بدون قوام خاص بها، بل إننا نقول بأن الذات هي الموضوع بمعنى أنها هي التي صنعت الموضوع وصارت وإياه شيئا واحدا، أو بعبارة مختصرة الذات هي الموضوع الذي حصل بفعل الذات. الذات إذن هي الموضوع والفعل معا. فالإنسان لا يتعرف على ذاته إلا أثناء ممارسته لفعل التفكير في الغير. وبهذه لاجهة يدرك الإنسان ذاته كفعل للتفكير، هذا الفعل الذي تكتشفه الذات بوصفه قدرة على الخروج من الذات نحو الغير لا من أجل حيازته بل من أجل صيرورته وتوحيد إيقاع الوجود معه. أن فعل المعرفة بهذا التقدير هو شهادة على قدرة الذات على تحويل الموضوع إلى ذات، وتحويل العالم إلى عقل. هكذا تتحول القوة إلى قدرة، والإمكان والاستعداد إلى فعل(8).

***

مما عرضناه في قولنا هذا يتبين أن إنية الإنسان لا تتقوم بالماهية والجوهر، بل بالعلاقة والإضافة والنسبة إلى الغير، سواء كان هذا الغير عقلا أم عالما، وساء كانت العلاقة بالغير علاقة امتلاء أم علاقة عدم. فالإنسان كما لاح لنا ليس موجودا بما هو موجود، بل هو موجود بما هو مضاف إلى العالم ومنسوب إلى العقل. ولذلك إن قلنا بأن الإضافة توجد في جوهر الإنسان، فإننا نعني بذلك أن الإضافة لا تنفك عنه، فإذا سقطت سقط الإنسان، بل أكثر من ذلك، وتأسيا بنموذج تبعية العلام للمحرك الأول، بوسعنا أن نزعم بأن حصول ذات الإنسان متوقف على حركتها، أقصد حركة تفكيرها في الغير، في العالم، من أجل خلق مستمر لا يقبل التوقف والتراخي، لأنه لو توقفت حركة التفكير هاته ولو طرفة عين لانهارت ذات الإنسان وبالتالي وجوده. إننا حيال هذه الرؤية للوجود البشري، والمتسمة بالقوة والعدم والإضافة والحركة، نشعر إلى أي حد أضحى هذا الوجود هشا، قلقا، عرضيا، مهددا في كيانه في كل لحظة وحين، مما يستدعي منا انتباها حادا وفعلا مستمرا من أجل الوجود وحفظ الوجود.

مجلة الجابري – العدد الرابع عشر


الهوامش:

1 – انظر أبو الوليد ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، تح. وتعليق ألفرد ل.عبري ومراجعة محسن مهدي، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 1994.

2 – لا نقصد بنظرية الاتصال هنا الاتصال الميتافيزيقي العقل الفعال الذي يسعى إليه الفيلسوف في نهاية مسيرته العلمية، وإنما نقصد به اتصال العقل (الفعال أو غيره) بالإنسان أو بالاستعداد الموجود فيه.

3 – أقصد بذلك أن مثل هذا التصور للعقل الهيولاني لا يمكن أن ينتمي إلى أجناس الوجود المعروفة: الصور المادية، والصور أو القوى النفسانية، ثم جنس العقول، لأنه يضم بين أرجائه متعارضين من الوجود، الاستعداد البشري الذي هو قوة الخيال، والعقل الذي ينقسم إلى قوة وفعل عقليين.

4 – وعندما سيعمل خاصة في شرح كتاب النفس علىمضاهاة القوة بالمادة في مجال العقل فإنه سيوحد بين اسمي العقلي الهيولاني والعقل بالقوة، الأمر الذي يؤدي إلى فصله وجوديا عن العقل الفعال.

5 – نذكر بالمناسبة إلى أن الصياغة الأولى لجوامع النفس تشير بصراحة إلى أن “الاستعداد الذي في الصور الخيالية لقبول المعقولات هو العقل الهيولاني الأول” (تلخيص، تح.الاهواني، ص86) وكان الأمر يتعلق بعقلين هيولانيين عند ابن رشد، العقل الهيولاني الأول وهو الخيال، والعقل الهيولاني الثاني الذي هو الجانب القوي من العقل المفارق (الفعال)؛ لمزيد من التوصع في موضوع الاستعداد المزدوج، انظر كتابنا إشكالية العقل عند ابن رشد، ص133-152، 168-173.

6 – من الواضح أن هذا النص يلتقي مع النص الذي جعل فيه ابن رشد العقل الهيولاني مرادفا للاستعداد البشري.

7 – نشير بالمناسبة إلى وجود حجة شبيهة بالكوجيتو العدمي من النوع الديكارتي عند ابن رشد، عندما أثبت أن العقل الهيولاني يمكن أن يدرك ذاته خلوا من كل المعاني، أي عندما يدرك ذاته في غمرة الإدراك العدمي للغير!

8 – ولعل اكتشاف الذات بوصفها فعلا هو الذي حرك أمل ابن رشد في تحقيق “العقل منا” الاتصال الأخير بالعقل الفعال. ولا شك أن ابن رشد كان يعرف أن هذا الأمل يكاد يكون مستحيلا، لأن تحقيقه يشترط التخلص من الموقف المعرفي، معرفة العالم، والتوقف عن إدراك الذات الفردية في الموقف الميتافيزيقي، وفي سبيل إدراك الذات المطلقة. إنها غاية أخيرة رام منها ابن رشد أن يصير “العقل منا” عقلا في ذاته، بعد أن كانت غايته الأولى أن يصير غيره، أن يصير ذاتا مطلقة بعد أن كان ذاتا فردية. إن شعوره باستحالة الاتصال الأخير هو الذي جعله في نظرنا غير قادر على الجزم بأننا نستطيع فعلا أن ندرك العقل الفعال وهو متصل بنا، لأننا في هذه الحال، حال اتصاله بنا، نكون عارفين بالعالم الأمر الذي يتنافى مع إدراكنا له واتصالنا به، بل إن ابن رشد، ومن أجل أن يميز طريقه من طريق المتصوفة، وضع شرطا إعجازيا للوصول الأخير، وهو تحقيق الغاية في الامتلاء بالمعرفة.