مجلة حكمة
النهي الإلهي

الرغبة في حوّاء (5): النهي الإلهي والرغبة والخطيئة الأصلية – يوسف عدنان

لقراءة الجزء السابق من سلسلة (الرغبة في حواء)


تحتلّ واقعة الخطيئة مكانة بارزة في الانعطاف بمصير الكائن البشري. وإذا عدنا إلى أسباب طرد آدم وحوّاء كما ورد في المؤدلج الأسطوري البدائي فسنجدها تعود إلى غواية الشيطان الذي أخلاهما من فردوسهما الخالد إثر أكلهما تفاحة الأبدية التي دلل إليها الرمز الأسطوري إلى “الشهوة”، وكشف لهما حقيقة عريهما حينما تبدّت لهما سوءاتهما وتمثل في الرّمز ولادة وموت، ويبدو أن كشف الوعي العقلاني للحقيقة الجنسية أضحت في المنظور الأسطوري المؤدلج لعنة أو خطيئة آثمة اقترفتها حوّاء {الأنثى} وجعلت من آدم {الذكر} أداة إلهية تقتص من الأنوثة عقابا تجاه خديعتها الذكورة (37). ففي التأويل الإسلامي تظهر المرأة على أنها هي التي تعرف ما له علاقة بالجنس. إذ حين سألها آدم لماذا خلقت أجابت: لتسكن إليّ. فبفضل حوّاء عرف آدم أنّه يحمل قضيب (38). لكن كيف يجوز هذا التفسير ونحن نعلم أن الأعضاء التناسلية مازلت قبل الخرق محجوبة عن ذواتهم وخارج نطاق مداركهم. لقد ذكرنا سابقا كيف احتجب وراء الرغبة ثالوث مخفيّ عن آبائنا آدم وحوّاء، وهو يضمّ كل من المعرفة و الجنس والموت. فالمعرفة تمثلت في إعادة اكتشاف الجسد الإنساني وممكناته. والجنس وجد جوابه في استيقاض الغريزة وما هو فطري. أما الموت فكان نتاج خرق المحظور لتفنى الرغبة التي طلبت الخلود في ذاتها. فالحب الذي كان موّجه فقط إلى الذات الربانية قد عرف مع خلق حوّاء خفضا من درجات التعلق الروحاني بالخالق. وهو ما يمكن أن ندعوه بحب الإنسانية لبعضها البعض، وينعت الفيلسوف لوك فيري هذا النوع من الحب ب “الأفيليا” .

لقد مثل النهي الإلهي عن الأكل من الشجرة المحرمة أوّل تابو يكون للإنسان من تاريخ ، بل كان الوجود سديما، لا زمن له. وعندما أكل آدم وحوّاء من شجرة المحرمة كسرا التابو ومزقا حاجز الجهل، فاكتشفا جسديهما واكتشفا عرييهما، ورأيا أنهما جسدان مزودان بأعضاء تناسلية. ومن هذا الاكتشاف الجميل كان للإنسان، وبدأ تاريخ الإنسان على الأرض باكتشاف الجسد (39). إذن فاكتشاف الجسد لم يأت اعتباطيا أو صدفة، بل جاء لأن آدم وحوّاء أكلا من شجرة متميزة جدا – تميّز المحظور – هي شجرة المعرفة. وبهذه القراءة للخطيئة الأصلية، تنتفي علاقتها بالجنسانية والمرأة، وتكون الخطيئة الأصلية التي عجّلت بخروج آدم وحوّاء من الجنة هي خطيئة إرادة المعرفة (40). وما دامت الشجرة لم يحصل تعرفيها ولا ذكر طبيعتها في الكتب السماوية، فهي إذن دال مفصول عن مدلوله.

كما لا ينبغي فهم حضور الشجرة بالمعنى الظاهر. فالإشارة إلى الشجرة في لحظة الإغواء لا يجب أن يستحوذ عن تفاصيل الحدث.  ويمكن أن نفسّر ذلك من خلال ما تذهب إليه الآية القرآنية:  “وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما. ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين” (41). إن التّحذير هنا لا يتعلق فقط بالأكل أو التّذوق، ولكن بجانب من اكتشاف المحظور. فالشجرة رمز للمكبوت، للوعي بالجنس وبداية المعرفة بالخير والشر واشتغال عداد الموت. لذلك جاء الخطاب الإلهي محذّرا من القرب منها وليس فقط فعل الأكل. والشجرة أيضا رمز للموت وبداية مسك الأرواح. لأن الإنسان هو في الأصل خالد، ويبقى كذلك بعد حياة البرزخ والحشر، لهذا قرّر الشيطان المعروف بغروره أن يربك حضور الإنسان القلق في الوجود.

في نفس الصدد، تقول آيات قرآنية أخرى: ” فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربّهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين” (42)، بمعنى أن آدم كان فعلا خالدا قبل الأكل من شجرة المعرفة. لقد أخرج إبليس الإنسان من حياة الخلود، وهذا الجانب قليل ما يرغب الخالق الحديث عنه *.

لكن ألا يمكن أن نرى جانبا من الصراحة الماكرة في إغواء إبليس لآدم وحوّاء. فالإنسان ولو أنه كان خالدا في النعيم لا يذوق طعم الموت، إلا أن الأكل من الشجرة قد دعاه إلى خلود آخر أرضاني، وهو ما وجد تعبيره في تناسل البشر وانتشارهم. ولذلك سميت الشجرة المختلف حولها بشجرة الخلد. فهي إذن بداية الامتداد بعد الأكل منها عبر تاريخ الإنسانية من خلال التناسل. وربما كانت الرغبة في الخلود وجدت جوابها في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل، مادامت هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود. كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوءاتهما عند الأكل من الشجرة.  فالرّب لم يقل فبدت سوءاتهما وإنما قال فبدت لهما سوءاتهما. مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما (43). هذا، وقد ساد اعتقاد أن “عزازيل” ملاك غير جنسي – لا يملك جهازا جنسيا- مقارنة بالإنسان الجنسي، إذ أن عامل الغيرة من جنسانية الإنسان تدفعه لأن يحرّض الشعور بالافتتان والشبق الجنسي لفعل المنكر وايقاع المرء في جريرة الخطيئة (44).

ويبقى السؤال المحيّر يحوم حول شجرة الخطيئة وحقيقة الإغواء: هل كان لإبليس علم مسبق بالجانب الشهوي لدى الإنسان والغريزة المكبوحة في جوفه ؟ وهو ما يفسر إغواءه لآدم وحوّاء كما لو أنه على معرفة بمكمن ضعفهما. ذلك أن العورة لم تكن بادية سوى بالنسبة لهما فقط من ضمن المخلوقات الأخرى. إذ لمّا وقع الخرق كانت الأعضاء التناسلية مصدر خجل لهما وحدهما، مع أنه لم يطرأ على جسديهما أي طارئ مادي سوى الخطيئة. أم أن إبليس لم يكن ليعلم الغيب، وبالتالي تجوز تبرئته من وزر الخطيئة، بما هو كان محرضا على تنفيد أمر كان مفعولا ؟

إن الجنس ليس فاحشة أو زنى، لكنه بدا كذلك عندما استعجل آدم وحوّاء فعل العلاقة الجنسية في الملكوت الأعلى. فكانت نفس الخطيئة التي استمرت في الذرية إلى يومنا. وهذا هو السّرد المخبوء في قصة الخلق الإنسي. فكلّ الأجواء المحيطة بالخطيئة والشجرة المحرمة تقود إلى أن آدم وحوّاء استعجلا الأمر بعد أن نسيا تحذير الرّب لهما،  ومارسا العلاقة الزوجية الجسدية قبل أن يأذن لهما. سواء أكان السبب في الّنهي عدم جواز ممارسة تلك الفعلة في الملكوت أو لأن مصلحة آدم وحواء كانت في تأجيل ارتباطهما جسديا فترة من الزمن حتى ينضجا جسدياً ونفسياً قبل أن يبدآ علاقة الأزواج (45). ومن ضمن مقاصد الآية القرآنية  ” يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (46)، أن آدم وحواء قد فتنوا ومارسوا العلاقة الجنسية، بعد أن بدا لهما شيء جديد من أمر جسديهما. في حين تدلّ كلمة نزع {ينزع عنهما ثيابهما} على انكشاف النزوة أو تلك الطاقة الليّبيدية المغشية. والدليل على ذلك أن جسدا آدم وحوّاء لم يتغيرا في الظاهر ولم يطرأ عليها جديد بعد التذوق من الشجرة. كما لم يكونا يرتديان ملابس ليخلعاها. يقول الرّب: “كان آدم وامرأته عريانين ولم يعتريهما الخجل” (47). من الواضح أن لو كانت لهما ملابس لأعادا ارتداءها، وبذلك تصّح عبارة نزع هنا على الثياب الملموس والمحسوس. فاللباس غير الثوب في لغة القرآن. ومن الجائز أن يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا روحيا إنما هو شعور ساتر، لربما قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والعذرية أو تلك الغشاوة التي كانت تحجب عن الإنسان حقيقته الأخرى ككائن يريد أن يعرف، يرغب، يتهيّج، يحي ويموت.

إن اللامفكر فيه في الخطاب الفلسفي هو حضور “الرغبة” في قصة الخلق الإنسي {آدم / حوّاء}. وهو غياب نحسبه انفلات من الوعي وحقل التفكير، الذي لم يسبق له أن أظهر أو أخفى سؤال الرغبة فيما يخّص أنطولوجيا البدء الإنسي. ويعزى ذلك في نظرنا الى التفكير في ماهية الخلق الأنثوي على أساس معيار مذكر، بمعنى حلول مسلمة الخلق الضلعي كعلة يرجع إليها أصل الموجود الأنثوي. لذلك فمن دعائم تقويض هذه الترسيمة المسجلة في لاوعي المعرفة، هو النظر بالمقابل إلى المرأة كاختلاف من خارج الأصل الذكوري وليس من داخله. فليس الاختلاف الجنسي سبّاقا عن الاختلاف الأنطولوجي، وإنما أريد به أن يكون كذلك، لمحو سمة الوجود الأصيل، الذي يؤوي الكينونة من كل تمزق وانشطار وتشظي، ويتحقّق فيه لاجنسانية الدازين  « dasein » الوجود هنا être – là حسب هايدغر.

يبدو من اللازم في هذا المقام الوقوف عند ولو بإيجاز عند دازين هايدغر، مادام يحمل هذا المفهوم طابع الاختلاف الجنسي الذي فكّر فيه من منطلق بنية الوجود الأنطولوجي للكائن الحيّ من حيث هو منفتح في وجوده على الآخر “الوجود مع.  « l’être – avec » هذا وإن كان هايدغر لا يأتي على ذكر الاختلاف الجنسي أو الجنسانية sexualité  ، مفضلا الحديث عن التأويل السالب « privative » الضامن لكل ما هو حيادي ولاجنسي ومختلف، تختفي فيه العلامة الجنسية التي تفيد الانتماء إلى جنس معين. فإذا كان الدازين لا ينتمي الى أي من الجنسين عند هايدغر – حسب تأويل دريدا – فهذا لا يعني أنه كموجود مجرد ومحروم مما هو جنساني. على العكس يمكن أن نفكر هنا في جنسانية قبل اختلافية « prédifférencielle »، أو بالأحرى قبل ثنائية (48).

كلمة ختامية

بعد أن قطعنا مسافات غائرة في تشريح السؤال المتعلق بقصة الخلق الإنسي، نكون قد وصلنا إلى منتهى هذا البحث. ولا نشاء بالبثة في ختامه استعادة أو تركيب أهم لحظاته، كما لو أننا نرسم اكتمال و انغلاق الأفق الباعث إلى المزيد من التساؤل والتفكير في جل القضايا التي تثيرها هذه الورقة. ومما لا يدعوا للشك، أنه لم يكن لهذا البحث أن ينضج ويستوي، لولا تلاقح العديد من المنظورات المعرفية مع بعضها البعض، لتلقي بظلالها على هوامش وفراغات، ربما قد وجدناها هي من صنعت المعنى في هذه القراءة المأنسنة للجنسانية في بعدها المتصل بالرغبة، وتحديدا الإشكالية التي تثيرها الثنائية “ذكر / أنثى”، وكذا مجمل التفرعات التي يلحقها جدل التقابلات الضدية « opposition binaire » من : أصل/ فرع، داخل/ خارج، مركز/ هامش، حضور/ غياب، حقيقة/ وهم، وجود/ عدم أو فراغ، أساسي/ ثانوي، مرئي/ لا مرئي، محتوى/ شكل (…) الخ.

إن هذه الورقة ذات النّفس النقدي – التأسيسي، تحاول جاهدة تفتيق معالم رؤيا اختلافية تعيد تقويض الأنطولوجيا النشوئية منذ فجرها، بغية تكسير  »التقليد الإنتسابي « الذي بموجبه لا يمكن للمرأة أن توجد سوى في، ومن، داخل جنس الذكر {جسده/ ضلعه}، والحرص في المقابل على إعادة تشييد معنى مخالف يسمح بإرباك نمطية الفهم السطحي، مع الانزياح به عن المسالك المألوفة التي يمتطيها عادة التّفكير بالموضوع، من خلال تطوين مفهوم الرغبة بدل الضلع كمبدأ يقوم عليه تفسير وتأويل واقعة الخلق الإنسي. وحيث يأتي مفهوم الرغبة ليعوض الضلع، ويردم الثغرة القائمة على مستوى العلاقة المبهمة لآدم بحوّاء.

فبدل الاكتفاء بالنقد وتفكيك قصة الخلق الإنسي، نرسم في هذا المنجز منعطفا جديدا لعلّه يتجاوز ويهدي في نفس الوقت لتأويل مغاير من المرجى الأخذ بناصيته كلّ ما تعلق الأمر بسؤال الرغبة في التكوين البدئي للإنسان. إنه إقحام لجانب مهدور من الخيال تتحقق ضمنه قوة التأويل- المتعلق هنا بالحلم – باعتباره الأسبق والأهم في نظرنا عند الحديث عن سرّ ازدواجية الجسد الإنساني، ومحاولة كشف حقيقة الرغبة المتوارية خلف جدار الوعي. فبحضور مفهوم الرغبة في تجربة الخلق البدئي نعيد أنسنة تاريخ البشرية الذي افتقد بالكامل هذه الخصّيصة الإنسانية، والتي من خلالها يعبر الإنسان هذا الكائن الراغب من عالم الأشياء أو الموضوعات إلى عالم الذوات، مسجلا حضوره على نحو منفرد وغائي ومتساءل. ولا يفوتنا التنبيه إلى أنّ هذا المنجز يفتح في أبعاده أفقا وضاءا لـ الفكر النسوي المناهض لكل أشكال المركزية الذكورية.