مجلة حكمة
قيادة المرأة للسيارة: دور علم الاجتماع في التحول الوطني - عبدالرحمن الشقير

قيادة المرأة للسيارة: دور علم الاجتماع في التحول الوطني – عبدالرحمن الشقير


منذ صدور الأمر السامي (محرم 1439هـ/ سبتمبر 2017) القاضي بالسماح للمرأة باستخراج رخصة قيادة ومعاملتها وفق نظام المرور مثل الرجل، توالت ردود الفعل المرحبة حول العالم، رسميا وشعبيا، ويبدو لي أن حجم رد الفعل المحلي والدولي السريع ناتج عن أن قضية قيادة المرأة حُمّلت مفاهيم إيديولوجية ضخمة ومكثفة، وصارت رمزاً لصراعات اجتماعية طويلة، أكثر من كونها قراراً تنظيمياً طبيعياً. ويمثل هذا القرار جزءا من سلسلة قرارات إصلاحية وتحديثية تنضوي تحت منظومة التحول الوطني 2020 المُهَيِئة لرؤية 2030، وهو تحول اجتماعي واقتصادي كبير سيحمل معه آلام التغيير، ومن ثم فإن التحول الوطني سيحمل معه تغيرات اجتماعية واقتصادية كبيرة ينتج عنها فراغ في الفضاء العام (يقصد بالفضاء العام: الأماكن المفتوحة التي يلتقي فيها الناس لمشاهدة فعالية والتحدث مع بعض). وقد كانت الفتوى سابقاً تملأ هذا الفراغ، ثم ضعفت بسبب اتجاه الإنسان اليوم إلى الرغبة في الإقناع المنطقي والعلمي وليس التلقين، مما أفقد المؤسسة الدينية والدعاة كثيراً من أدوارهم الاجتماعية، وعرضهم لأزمة عدم توافق مع المجتمع، ومن هنا تظهر أهمية علم الاجتماع في التدخل وتفسير هذه التغيرات، وتزويد الفرد بمعلومات حديثة وموثوقة وأدوات التفكير المنطقي بما يساعده على تخفيف حدة التناقضات التي صارت تواجهه يومياً، من خلال ممارسة التفكير الإيجابي. وسوف أرصد ردود الفعل الاجتماعية على هذا الأمر السامي وأحللها من منظور اجتماعي بوصفه خصوصية محلية، وليس قضية دولية.

1- الممهدات للقرار

لم يكن قرار السماح للمرأة بقيادة السيارة مفاجئاً ولا صادما للمعنيين برصد التحولات الاجتماعية، بل ولا يمكن للقرار أن يصدر دون المرور بسلسلة قرارات ممهدة وحاضنة لمرحلة الانتقال، إذ بدأت بقرارين هما: صدر في رجب 1437هـ/ إبريل 2016 قرار تنظيم عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قلص صلاحياتها وعزلها عن الفضاء العام بشكل يصعب معه تدخلها في تحركات الناس، وخاصة المرأة، كما هو الوضع قبل القرار، وفي رجب 1437هـ/ مايو 2016 صدر قرار إنشاء هيئة الترفيه، التي قامت بمبادرات جريئة ومكثفة ومتنوعة في زمن قياسي سمتها “روزنامة الترفيه”، استطاعت من خلالها أن تدمج المرأة في الفضاء العام بشكل رئيسي لا هامشي من خلال المعارض المتخصصة (إيفنت) والاحتفالات الوطنية.

ويمثل إعلان برنامج التحول الوطني (رمضان 1437هـ/ يونيو 2016) تهيئة جديدة لقرار قيادة المرأة؛ إذ تضمن أهدافاً استراتيجية ومبادرات تنموية واقتصادية حتى 2020، ومنها توسيع مجالات تمكين المرأة، للوصول إلى رؤية المملكة 2030. وأخيراً فعاليات اليوم الوطني (23، 24 سبتمبر 2017) التي تضمنت برامج فنية سمح فيها بإشراك العوائل مع العزاب لأول مرة، وخاصة فعاليات استاد الملك فهد الرياضي، وشارع التحلية التي اتسمت بتغيرات جريئة فاجأت كثير من المحافظين…

تكمن أهمية هذه القرارات في أنها قرارات مرحلية لازمة لنقل المجتمع من حالته المحافظة إلى حالة أكثر انفتاحاً، مع القطيعة شبه الكاملة مع الوضع السابق، مما يعني توقع سلسلة أخرى من القرارات.

2- بين القبول والرفض: رصد ردود الفعل

لم يكن مجال للمقارنة بين كمية القبول مقابل كمية الرفض لهذا القرار، إذ تفاعلت وسائل الإعلام وتطبيقات التواصل المحلية والعربية والعالمية معه بشكل مكثف مرحبين بالقرار، وفيما يخص الحالة السعودية فيمكن رصد رد الفعل الأولي من منصة تويتر، بوصفها شديدة الفعالية في المملكة، وفضاء مفتوح، وتطبيق واتساب وهو فضاء مغلق، إذ غلب الصوت المؤيد على الصوت المعارض، بل إن المعارضين اكتفوا بالاحتجاج عبر تطبيقات التواصل، وهي حالة نادرة بعدما كان المعارضين يشكلون لجانا تقوم بزيارات لكبار قيادات الدولة، وتمارس الضغط عليهم لثنيهم عن القرار، ويبدو لي أن السبب هو غياب الرموز الدينية الموجهة لهم، إما لتوقيف عدد منهم، أو لفقدان الثقة الشعبية فيهم، أو لتناقض مواقفهم.

موقف المؤسسة الدينية: التأييد الكبير

بادرت المؤسسة الدينية الرسمية بالترحيب بالقرار، وتقديم المسوغات الشرعية للقرار، من خلال حساب هيئة كبار العلماء في تويتر، إضافة إلى تأييد عدد من أعضائها مثل: الشيخ سليمان أبا الخيل، والشيخ قيس المبارك؛ في حين تحفظ بعض أعضاء هيئة كبار العلماء عن إبداء الرأي، ممن كان لهم موقف معارض، مثل: المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، والشيخ صالح الفوزان. أما مشاهير الدعاة والمؤثرين في المجتمع فقد صرح عدد منهم بالتأييد، وبعضهم كان له موقف معارض، مما تسبب في صدمة اجتماعية، وصفت بأنها تناقض في المواقف الدينية، وخاصة أن كثيراً من عوام الناس لا يعرفون أن أكثر مسائل الشرع خلافية بين العلماء وغير قطعية، كما أنهم لا يفرقون بين رأي العالم الشخصي وفتواه في المسألة الشرعية، ولا يفرقون بين الواعظ والعالم، لذلك فهم يتأثرون بالشهرة لا بالعلم، وهذا ما جعل العلماء يدفعون ثمن جهل الوعاظ مكلفاً من مكانتهم.

يلحظ أن الموقف العام للمؤسسة الدينية والدعاة سابقا هو رفض قيادة المرأة للسيارة، بل تحريمه شرعاً، ووصم بعضهم من يطالب بقيادة المرأة بالفسق وضعف الدين، وتراث هؤلاء معروف ومنشور في الانترنت واليوتيوب، وفي كتبهم، أما العلماء الذين يرون جواز قيادة المرأة منذ سنوات ولم يتغير موقفهم، فقد ضاع صوتهم أمام الاتجاه العام للفتوى، وهذا اللبس لم يُفهم شعبياً، إضافة إلى إزالة بعض فتاوى تحريم قيادة المرأة للسيارة من موقع دار الإفتاء على الإنترنت، وتصريح أمين عام هيئة كبار العلماء (محرم 1439هـ) بأن كبار العلماء لم يصدروا فتوى سابقة تحرم قيادة المرأة، ومعروف أن الرأي العام لا يفرق كثيراً بين فتاوى الهيئة وبياناتها، وبين فتاوى عدد من أعضاء الهيئة، مما تسبب في صدمة اجتماعية كبيرة لكثير من الناس، مما ألحق الضرر بسمعة المؤسسة الدينية والدعاة وانخفاض شعبيتها بشكل لم يسبق إليه. وسوف يعد ذلك نقطة تحول كبيرة في تقبلها اجتماعياً بعد تصدع عنصر الثقة. وهو يشبه موقفهم نسبياً من مسألة جواز الاستعانة بغير المسلمين عام 1990 الذي تسبب تغيره المفاجئ في تصدع السلفية حتى الآن. وهو موقف يحتاج مزيد تأمل واستشراف تبعاته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، والفرق بين الموقفين هو أن المجتمع اليوم أكثر قوة ووعياً من السابق.

يمكن الاستفادة من هذا التناقض باستغلاله كفرصة جديدة لإعادة بناء المؤسسة الدينية، ضمن مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة، بحيث تكون مؤسسات علمية، مهمتها نشر العلم وثقافة تقبل الخلاف، وليس تلقين الناس أو توجيههم، ودعم أن يعود الإنسان لمصادر التشريع الأصلية، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية، بدلاً من صنمية اقتناعه بأنه إنسان جاهل دينياً، ولا بد من شيخ يفتي له، فالدين الإسلامي مليء بنصوص التسامح مع الآخرين والتعايش مع التغيرات، والغفران عن صغار الذنوب التي تقع في الحياة اليومية، بل وكبارها، والنهي الشرعي عن التشدد بالسؤال عن حكم السلوكيات العادية. لا سيما أن نسبة الأمية في السعودية اليوم صفر%، ونسبة الجامعيين من الشباب عالية جداً، فهم قادرون على التحصيل الذاتي، ولا يحتاجون سوى تزويدهم بالثقة بأنفسهم.

الموقف الشعبي: التأييد والسخرية

تداول أفراد المجتمع كمية كبيرة من السخرية بتخيلات الوضع حال تطبيق قيادة المرأة، وتراوحت هذه السخرية ما بين نصوص، وتعليق على صورة، ومقاطع فيديو، وبعضها مترجم من السخرية الغربية ضد قيادة المرأة، بينما كثير منها يحمل في طياته روح المجتمع، وأكثرها كان يعكس “الكوميديا البيضاء”، أو السخرية بقصد الإضحاك، مثل: التهديد بالانتقام من المرأة بإغلاق باب سيارتها بعنف كما كانت تفعل بسياراتهم، أو تأخير الخروج إليها إذا حضرت بسيارتها لأخذ زوجها، كما كانت تفعل به من قبل، أو رسوم تخيلية لسيارات مصممة لتناسب الأنثى. وبعضها تمثل “كوميديا سوداء” أو احتجاج المعارضين بالفن والإضحاك وتوقع عواقب وخيمة للقرار في حال تنفيذه. ومن مجموع ما رصدته من هذه السخرية، التي تعارف المجتمع على تسميتها “طقطقة”، أي سخرية خفيفة، لاحظت أن المتخيل الشعبي عن قيادة المرأة لا يختلف كثيراً عن المتخيل العالمي، المتمثل في عدم معرفتها بأنظمة السير، وضعف تصرفها بالمركبة في الأزمات، وكثرة تسببها في الحوادث. وقليل من السخرية تربط بين قيادة المرأة والسيارة المحجبة، وطالت السخرية هيئة الأمر بالمعروف وبعض الدعاة الذين هيمنوا على الفضاء العام لسنوات طويلة.

وهذه السخرية تعد منتجاً أدبياً سعودياً خالصاً. وما حصل من إطلاق كمية كبيرة من السخرية والنكات الهزلية يمثل تفريغا للطاقة، وليس احتجاجا أو تعبيرا عن خيبة أمل، كما يحدث من سخرية عند الأزمات الاقتصادية الكبرى. أما حالة رد الفعل المعارضة فهي تمثل احتجاجا صامتا، أمام التأييد العام، والاتجاه السياسي، مما يعني أن المجتمع سيكون أمام تحولات اجتماعية واقتصادية جديدة، إما أن يستوعبها أو سيكون المعارضون هم أول ضحايا على يد الجيل الذي سيلدونه.

3- نتائج القرار على التحول الاجتماعي والاقتصادي

تمثل قضية قيادة المرأة رمزاً في تاريخ الصراع الإيديولوجي في المملكة بين تياري المحافظين والليبراليين، ولكل تيار منتج معرفي طويل في تقديم مسوغات دعم موقفه، وتبادل الاتهامات، فالمحافظون يتهمون الليبراليين بأنهم يريدون نشر الانحلال والتفسخ الاجتماعي من خلال السماح للمرأة بقيادة السيارة، والليبراليون يتهمون المحافظين بالتعسف في الهيمنة على سلوك الناس، وبينهم متلونون يسجلون مواقفهم تبعاً لمصالحهم وكسب الشعبية، وهم ما يسمون بلقب “المستشرفين”، وسوف أرصد ملامح النتائج المتوقعة كما يلي:

إعادة ترتيب القيم

عاش المجتمع العربي عموماً مئات السنين قيماً ذكورية شبه محتكرة، ومنح المرأة قيم “العفة” مقابل موافقتها على الخروج من الفضاء العام، ثم منح نفسه قيم “الخصوصية” من أجل شرعنة نظامه الاجتماعي والثقافي، ولذلك يمكن تصنيف قرار قيادة المرأة للسيارة بأنه انتصار لوجود المرأة وليس لمشكلاتها فقط، فهي الآن أمام حالة إثبات أن المرأة سند للمجتمع وليست عبء أخلاقي، وسبق أن تساءلت الباحثة الفرنسية جوليا كريستيفا في مقال بعنوان “نحو تأنيث القيم؟” (نشر ضمن كتاب “القيم: إلى أين؟) عن إمكانية تأنيث القيم التي سبق أن بنينا حياتنا عليها بدون النساء؟ ولعل الإجابة في الحالة السعودية تُحمِّل المرأة مسؤولية الاستفادة من تجاربها الماضية، وتتجاوز مرحلة الاغتراب التي شعرت بها سنوات طويلة، وتتطلع لمستقبل الوطن.

ويبدو لي أن قرار القيادة لا ينفصل عن مشروع التحول الوطني الكبير المبني كثير منه على خصخصة الحكومة، وقد سبق أن قالت مارجرت تاتشر، عندما قررت التخفيف من الحكومة البريطانية وخصخصة قطاعات الدولة: “لا يوجد شيء اسمه مجتمع”. ومعنى ذلك، كما يحلله زيجمونت باومان، أن القيم سوف يعاد تقييمها مبنية على أسس اقتصادية، وإعطاء معاني جديدة لها في ظل نظام جديد سماه “الحياة السائلة”.  لذلك يتوجس المحافظين من أن يمر المجتمع بمرحلة انحطاط في القيم نتيجة التغيرات السريعة، وهو توجس له ما يسوغه، بل ينبغي أن يحمله كل مثقف ومفكر، فقرار قيادة المرأة رمزي ينطوي على ضرورة إعادة ترتيب مصفوفة القيم، فالقيادة تعني بالضرورة أن تشارك المرأة في الفضاء العام، وتتمتع بكامل الحقوق والواجبات، وعليها أن تبني خبراتها في الحياة بنفسها دون اللجوء لوسطاء، بما فيها مراجعة المؤسسات الحكومية والشركات، ومقابلة موظفين وموظفات، في فضاءات مفتوحة لا معزولة، ومن ثم فسوف تزول أوهام أن المرأة ضعيفة ومستهدفة، وينبغي عزلها لحمايتها، كما أتوقع أن ينشأ وفقاً لذلك أنماط جديدة من الجرائم، وخاصة نمط الجرائم النسائية، والثقافات الفرعية الجديدة. وإذا كان قرار تعليم المرأة (1380هـ/1960) قد قلص من الهيمنة الذكورية وساعد على استقلالية المرأة بشهادتها ووظيفتها، فإن قرار قيادة المرأة سيزيد من استقلالية المرأة، ويدفع الأسرة للفردانية.

ستكون أزمة القيم في المجتمع السعودي هي قضية المجتمع الأساسية في السنوات القادمة، وما يمكن أن تنتجه التغيرات القادمة من أزمات في إعادة فهمنا لقيم الأشياء ومعانيها. وسوف تصعد قيم احترام الوقت وقيم العمل الجاد، بوصفها أداة ضمان للاستقرار الوظيفي. كما أتوقع أن يمر المجتمع بأزمة إعادة تعريف هوية المجتمع. ويمثل الأمر الملكي بإصدار نظام للتحرش (محرم 1439هـ) بادرة مهمة لاستشراف قيم المستقبل، ولكنها في رأيي واحدة من نظام قيمي متكامل ينبغي أن يعاد النظر فيه، بحيث تضمن به الدولة الحفاظ على المعاني العميقة للقيم الاجتماعية، وعلى تحديد هوية المجتمع.

إعادة ترتيب الأطر المرجعية

تتمثل الأطر الاجتماعية في الفتوى الدينية، وهي الأعلى سابقاً، وكان القرار السياسي لا يكتسب القبول الشعبي إلا بعد تعزيزه بالفتوى، ثم انخفضت أهمية الفتوى وضعف تأثيرها على الناس، مقابل صعود القرار السياسي ونفاذ فاعليته وشعبيته بدون الحاجة إلى فتوى، فصارت الفتوى تأتي تبرعاً ومباركة من المفتي، وليس ضرورة وإكساب القرار شرعية كما كان الحال سابقاً، فصار القرار السياسي يمثل أعلى درجات الأطر المرجعية، بعد انفصاله عن المؤسسة الدينية. ويعد قرار قيادة المرأة قراراً سياسياً بالدرجة الأولى، فجاءت الفتوى مؤيدة له، على الرغم من موقفها المعارض سابقاً.

إن قرار السماح بالمرأة يعني سياسياً الانحياز لحقوقها، ودمجها في الفضاء العام بحرية تامة، ويتبقى أمام تفعيل هذا القرار مجموعة أطر تخص كل أسرة على حدة، وهي الأطر القبلية، والعادات والتقاليد، وثقافة الأسرة، وهذه تقاوم في أول الأمر، وغالباً ما ينساها الجيل التالي، ويندمج مع القرار، فتصبح قيادة المرأة من عادات وتقاليد المجتمع، ولها قوة النفاذ الاجتماعي.

الحراك الاقتصادي

يتنبأ كثير من الاقتصاديين بأن قيادة المرأة سيعود بالنفع المباشر على الاقتصاد، من خلال الاستغناء على مليون سائق خاص تقريباً، وتتنبأ صحيفة بلوبيرغ بأن القرار سيحدث وظائف بمعدلات سنوية، ويخفض الحاجة للعمالة، مما سيرفع الناتج المحلي للمملكة إلى تسعين مليار دولار بحلول 2030، وهناك مجالات اقتصادية كثيرة يمكن التنبؤ بها، مثل: إحداث وظائف، وتسريع إنجاز الأعمال، وفتح أسواق نسائية جديدة. وفي رأيي أن الحراك الاقتصادي المتوقع كله تخمين مالم يستشرف فيه تغير القيم الاجتماعية والاتجاهات الثقافية لدى المجتمع.

الطبقات الخطرة

يعود مصطلح الطبقات الخطرة لعالم الاجتماع الفرنسي روبرت كاستل، ولكن عند إعادة صياغته على الحالة السعودية في ظل التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، فيمكن تصنيفهم إلى قسمين، هما: الطبقات المهمشة بقوة الاقتصاد والنظام، ويمثلهم مئات الآلاف من الأسر العربية والأفريقية والآسيوية ممن يقيمون في البلد بطريقة غير نظامية، لأكثر من سبعين سنة، وقد ظهر منهم الآن الجيل الرابع، ولم يندمجوا في المجتمع، ولم يُحل وضعهم، مما حرمهم فرص التعليم والتوظيف. والطبقة الخطرة الثانية هم مواطنون يرفضون الإصلاح ويقاومون التغيير، ولا يمكن دمجهم في المجتمع الجديد، فهؤلاء يعرضون أنفسهم للإقصاء، ولكنهم قد يحملون معهم الكراهية ضد المجتمع وضد مؤسسات الدولة، والنظر إليهم بوصفهم بددوا منظومة قيمهم، وفككوا روابطهم الاجتماعية، وقد يعيشون في عزلتهم بلا نفع.

مخاوف أخرى متوقعة

من المؤكد أن انعكاس قرار قيادة المرأة سيطال جميع فئات المجتمع، بشكل مباشر وغير مباشر، ولكن لفترة انتقالية مؤقتة حتى تزول الصدمة، ومن المخاوف المتوقعة أن يدخل الفئات المعارضة للقيادة في حالة اغتراب اجتماعي، وحالة نوستالجيا “الحنين للماضي واستدعاء ذكريات زمن الطيبين”، سيكون من نتائجه اعتزال المجتمع، أو الحقد عليه، وهؤلاء ليس لهم ذنب، لأنهم وقعوا ضحية فتاوى غير دقيقة، وضخمت بحيث جعلوها من أصل الدين، وهي مسائل خلافية بسيطة في العادات. ومن المهم أن يزود هؤلاء بمعلومات تساعدهم التفكير الإيجابي والاعتزاز بقيمهم الدينية الثابتة، بهدف فك الإشكال، و”نكبة التناقض” الذي تعرضوا له.

أما المخاوف المتوقعة من الفئات المؤيدة، فهم صنفان، مؤيد معتدل رحب بالقرار والتزم الصمت، ومؤيد متطرف رحب بالقرار وأطلق روح الانتقام وتصفية الحسابات ممن حرمهم حقوقهم باسم الدين، وتبين لهم أن الدين لا يمانع. والواقع أن هؤلاء المؤيدين المتطرفين يحاولون دون وعي منهم تصنيف الدولة بأنها منحازة لهم، والحقيقة التي يدركها المعنيين أن الدولة لديها مصالح عليا تنحاز لها، ولديها رؤية محددة ولها إطار زمني 2030، وتشمل إصلاحاتها مجالات سياسية واقتصادية واجتماعية، وأي آلام قد تقع على فئة اجتماعية وتخدم مصالح فئة أخرى بسبب التغيير، فهي من قبيل المصادفة.

4- كيف نفسر التغيير الاجتماعي

إذا كانت المملكة تصنف أنها الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع النساء من قيادة المرأة للسيارة، فإنه يمكن إضافة أن المملكة هي الدولة الوحيدة تقريباً التي تعرضت لتغيرات اجتماعية واقتصادية فجائية، ولم تسر فيها مرحلة التحديث وفق خطط معلنة ومجدولة، وتضمن مراجعة شاملة لجميع الأنظمة مثلما يحدث الآن، فخلال السنوات الأربعين الماضية تعرض المجتمع لأربع موجات قيمية، كان أولها زمن الطفرة الاقتصادية التي جعلت الطبقة الوسطى تثري فجأة، ويعيد المجتمع تفسير قيمه وتقاليده بشكل فجائي وسريع وشامل، ثم جاء زمن الصحوة وأعاد تفسير القيم، بشكل فجائي وسريع وشامل أيضاً، ثم جاء كساد اقتصادي بسبب الانخفاض الشديد في سعر النفط، ثم حرب الخليج الثانية، ثم تعرض المجتمع لصدمة التقنية ووسائل الاتصال، وفي كل هذه الموجات نلحظ أن المجتمع يتكيف معها من خلال إعادة تفسير القيم وإعطاء معاني جديدة للحياة وللعالم، وأخيراً يتعرض المجتمع الآن لمرحلة تغيير شامل مخطط له. ومن ثم فلا تسعفنا النظريات الاجتماعية في تفسير ما يحدث في المملكة من تغيرات بسهولة، وعلينا كباحثين اجتماعيين سعوديين أن ننتج نظريتنا من أرض واقعنا، ونطور نماذج مستقبلية مبنية على فهم الواقع، وتحليل التاريخ، واستشراف المستقبل، مع الاستفادة الكبيرة من أدبيات علم الاجتماع وتراثه.

إذا حاولنا أن نجمع الأسباب “الاجتماعية المحلية” التي أسهمت في بزوغ فكرة التحول الوطني ورؤية 2030، والتي يقع قرار قيادة المرأة في سياقها، فيمكن أن أقدم فرضيتين مؤقتاً، هما التالي:

أ- صعود جيل جديد للسلطة يمثل جيل الثمانينيات وبداية التسعينيات الناقم على الواقع التقليدي، والمطالب بالتغيير، فقد عاش هذا الجيل فترة شح شديد في الميزانية، وارتفاع نسب البطالة، وصعوبة التعليم الجامعي، إضافة إلى حرب الخليج 1990. وقد سبق أن استدعى ولي العهد هموم هذه الحقبة في لقاء صحفي مع “واشنطن بوست”، وقال: أنا شاب، و70% من مواطنينا هم من الشباب، نحن لا نريد أن نضيع حياتنا في هذه الدوامة التي كنا فيها طوال الثلاثين سنة الماضية”.

ب- رد الفعل العنيف من خطاب الصحوة، حيث تحول بعض منها إلى حركات سياسية إيديولوجية، فرضت فكرها بالضغط على المجتمع، ولم تسمح لأي خلاف معها، وأكثر ما يؤخذ عليها هو انقلاب كثير من رموزها على مواقفهم السابقة بأساليب سياسية، وانكشاف أن كثير منهم يفرض على المجتمع الإسلام الحزبي السياسي.

5- العلم يملأ الفراغ: الدعم الاجتماعي

اتضح مما سبق أن المجتمع السعودي يمر الآن بمرحلة تغير سريعة وقوية وصادمة يمكن أن يمثل كثير منها قطيعة معرفية مع المرحلة السابقة، وما زال مشروع التحديث مستمراً، ومن المهم تنبه مراكز البحوث والمراصد الاجتماعية والباحثين والمؤرخين لرصدها، ورصد ردود الأفعال تجاهها، وتحليلها، لتقديم النصح لصانع القرار. ونظراً لعجز المراكز وبعدها عن الواقع فأقترح الاتجاه إلى ترجمة الكتب والمقالات في علم اجتماع التفاؤل والإيجابية.

ويحتاج المجتمع اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى علم الاجتماع الجديد القادر على تفسير التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، وتزويد الأفراد بمعلومات حديثة ومبسطة تساعدهم على معالجة مشكلاتهم بممارسة التفكير الإيجابي، من خلال نظريات علم اجتماع التفاؤل. فقد كانت الفتوى والموعظة الدينية تمثل خير عون لكثير من أفراد المجتمع لتخفيف حدة التناقض، وتزويدهم بمعلومات شرعية تجعل ضمائرهم مرتاحة. أما الآن فلم يعد لها تأثير أو أهمية لأسباب كثيرة، منها مثلاً عدم وجود القادة الدينيين الذين يحظون بشعبية وقبول رسمي وشعبي، وزيادة الوعي الاجتماعي واتجاهه للحصول على المعلومة العلمية، ورغبته في الحوار لا التلقين.

والنصيحة الأخيرة التي أراها هي أن من أهم ما ينبغي استيعابه للإنسان العادي أن الدولة تنفذ مشروع تحول وطني كبير، مما يعني بالضرورة انتقال المجتمع من المرحلة التقليدية إلى المرحلة الحديثة، ومن المجتمع البسيط إلى المجتمع المعقد، ومن ثم فلا بد من التعرض للآلام التغيير، ودور الإنسان هو محاولة الإسهام في دعمها، ونقدها، بدلاً من مقاومتها، وتدريب نفسه على رؤية التغيرات من زوايا إيجابية.

وأوصي المسؤولين عن رؤية 2030 بأهمية العمل على تطوير نموذج اجتماعي يضمن سلاسة انتقال المجتمع من مرحلة إلى أخرى مبني على تحديد هوية المجتمع الجديدة، وإيجاد مصفوفة قيم مشتركة، يتقبلها الجميع بضمانة الدولة، من خلال الاشتغال على المزاج العام وتهيئته لتقبل مصالح الدولة العليا، واستشراف مستقبليات الآثار المباشرة وغير المباشرة.