مجلة حكمة
غوته و العمل السياسي

غوته والعمل السياسي: مصلح لا ثائر – يوخن غولتز / ترجمة: محمد المهذبي


سواء تعلّق الأمر بشقّ الطرق أو بالمناجم أو بالشؤون الماليّة للدولة أو بالمسرح أو بالجامعة، فإنّ أمير الشعراء كان يندفع بحماس بالغ في المهمّات السياسيّة العديدة التي أنيطت بعهدته في دوقيّة فايمار ( Weimar ).

عندما لبّى غوته دعوة الدوق كارل أوغست ( Carl August ) المتوّج حديثا، إلى فايمار في شهر نوفمبر 1775، كان بذلك قد اتّخذ قرارا ضدّ حياة آمنة تسير في طريق ممهّدة بمسقط رأسه في مدينة فرانكفورت على ضفاف نهر الماين. لقد خاطر دارس القانون وصاحب الحَسَبِ بخطوة نحو المجهول، إذ لم يكن من المتوقّع ابتداء أن تترتّب عن رحلته هذه إقامة دائمة. ولكنّ سلسلة من الظروف المناسبة حبّبت إلى غوته فكرة البقاء، حيث وجد في فايمار حاكما بادي الانفتاح وقادرا على التعلّم، إضافة إلى أوضاع اجتماعيّة تتطلّب الإصلاح، ومناخا فكريّا –سواء داخل البلاط أو لدى الأوساط الثقافيّة-بإمكانه التعويض عن متاعب الحياة اليوميّة.

       إثر ذلك، أعلن غوته بفخر، في رسالة إلى صديقه يوهان كاسبار لافاتر (Johann Caspar Lavater)، أنّه “الآن مبحر تماما على موجة العالم، وعاقد العزم على الاكتشاف والنجاح والصراع والفشل أو الانفجار بكلّ ما أحمله في الفضاء”. كما كتب إلى يوهان هاينريش مرك (Johann Heinrch Merck) معبّرا عن رغبته في أن يرى كيف سيقف العالم أمامه.

       كانت دوقيّة ساكسن-فايمار (Sachsen-Weimar ) بلدا زراعيّا، يسكنها حوالي مائة ألف شخص، وكان يعيش في عاصمة البلاد فايمار – التي اعتبرها هردر (Herder) لاحقا “شيئا بين المدينة والقرية”- ستّة آلاف شخص تقريبا. هناك، وجد غوته لنفسه مجالا كبيرا للنشاط، بفضل ثقة الدوق، ما لبث أن استغلّه، ووجد نفسه منخرطا في “شؤون البلاط والدولة” وفي مواجهة مهامّ استولت عليه بالكامل.

       عُيّن غوته في الحادي عشر من يونيو سنة 1776 “مستشارا سريّا” وصار له منذ ذلك الحين مقعد وصوت في “المجلس السرّي” وهو السلطة العليا بالدوقيّة حيث يتمّ التباحث في كلّ الأمور ذات الأهميّة وتقويمها من جانب كلّ الأطراف كافّة بصورة جماعيّة قبل عرضها على الدوق للبتّ فيها. وتوجد فضلا عن ذلك لجان لأغراض إداريّة محدّدة، كان غوته يتولّى رئاستها أحيانا، مثل لجنة المناجم العام 1777 ولجنة الحرب وإدارة بناء الطرقات العام 1779، والقيادة المؤقّتة لإدارة الخزينة وبالتالي مسؤوليّة الشؤون الماليّة للدولة العام 1782. وعندما كتب غوته إلى فريدريش هاينريش ياكوبي (Friedrich Heinrich Jacobi ) بأسلوب لا يخلو من الخيلاء، أنّه قد اكتسب النظام والدقّة خلال ممارسة الأعمال الإداريّة، فإنّ هاتين الصفتين كانتا من بين الأسباب التي جلبت له التقدير والاحترام لدى من سبقه من أعضاء المجلس بعد احتراز ظهر في البداية.

       ربما كانت الدوقيّة صغيرة وفقيرة نسبيّا ويمكن الإحاطة بمختلف أمورها دون صعوبة، ولكنّ أعباء العمل التي تحمّلها غوته كانت مع ذلك ضخمة. فالمشاركة في اجتماعات المجلس والذي يلتئم مرّة أو مرّتين في الأسبوع، كانت تستنفد الكثير من وقته وكان يتعيّن عليه فضلا عن ذلك دراسة كمّ هائل من الملفّات والردّ على قدر لا يستهان به من المراسلات. وكان من صلب صلاحيّات اللجان القيام بزيارات استطلاعيّة إلى الأرياف، إضافة إلى مهمّات غير مريحة مثل التجنيد أو الدخول في مداولات مضنية على عين المكان.

       ما كان غوته ليتحمّل مثل تلك الأعباء لو لم تكن مرتبطة لديه برغبة في العمل السياسي . وليس من باب المصادفة أن نجد من بين المقاطع الجوهريّة في “رسالة التعلّم” (Lehrbrief ) من كتاب “سنوات تعليم فلهلم مايستر (Wilhel Meisters Lehrjahren ) مقولته :” إنّ الروح التي ينبع منها عملنا هي الأسمى”. تَصَوُّر غوته للسياسة ليس له ما يجمعه بالمفهوم المكيافيلي التقليدي الذي يعتبر السياسة عملا تقوده حسابات القوّة لدى الحاكم وهو يصبّ عادة في مصبّ النزاع العسكري من أجل فرض مصالح السلالة الحاكمة. كان غوته دوما رافضا للحرب والعنف وكانت تصوّراته المعياريّة المتعلّقة بالسياسة ناجمة عن مثاليّة عقلانيّة وعن مبدأ الانسجام كما ظهر في عصر التنوير ومتلائمة مع الثقافة السياسيّة المتأثّرة بوضعيّة الدول الصغيرة في نظام الرايخ القديم. وبصورة إجماليّة، فإنّ هدف السياسة هو ضمان الحريّة والملكيّة الخاصّة والثقافة. و العمل السياسي ، بالنسبة لغوته، هو عمل يهتمّ بالشؤون الداخليّة وفقا لمقتضيات المكان، وينبغي له أن يكون لصالح كلّ الأفراد في نهاية المطاف. إنّ “تعلّم التجارب” المتواصل هو ما يميّز عمل غوته، وهو عمل أساسه مجموعة كبيرة من العمليّات الدؤوبة والمترابطة فيما بينها، يتمّ التخطيط لها مسبقا.

       نقطة الانطلاق عند غوته كانت دائما الوضع الرّاهن المتمثّل في دوقيّة، يحكمها حاكم مطلق، تسودها علاقات ملكيّة زراعيّة وتملك إدارة ذات هيكلة واضحة المعالم.

       مثل هذه الأوضاع المستقرّة يجدر إصلاحها عبر إعادة تنظيم الجهاز المالي للدولة وتبسيط العمليّات الإداريّة والقيام بالكثير من التحسينات في مجالات محدّدة.

       إنّ كلّ ما سعى غوته إلى إنجازه بالتفصيل، كان يهدف إلى تطوير ظروف عمل الحرفيّين والفلاّحين وإشراكهم تبعا لذلك بشكل أفضل في عائدات الإنتاج. الإصلاحات الاقتصاديّة هي بمثابة مساهمة في إضفاء مسحة إنسانيّة شاملة على الظروف المعيشيّة. ذلك ما يميّز تصوّر غوته وهو تصوّر لا ينبغي فرضه من فوق بين عشيّة وضحاها، بل يستند إلى المشاركة الواعية لكلّ الأطراف المعنيّة على المدى البعيد. وإذا ما قرأ المرء الخطاب الذي ألقاه غوته العام 1784 بمناسبة افتتاح منجم إلمناو (Ilmenau) فإنّه سيلمس بوضوح مثل ذلك التصوّر، غير أنّ فشل منجم إلمناو العام 1797، على وجه التحديد، شكّل الهزيمة السياسيّة الأكثر مرارة بالنسبة إليه وهي لم تكن الوحيدة: ففي العام 1782 أُسندت إلى غوته إدارة الماليّة ومعها مسئوليّة خزينة الدولة، واستطاع في البداية إصلاح وضع ديون الدولة كما وتمكّن من إجراء تقليص كبير للنفقات العسكريّة مجدّفا بذلك ضدّ التيّار. غير أنّه سيدرك إثر ذلك أنّ تلك المهمّة بتفاصيلها تتجاوز طاقته بشكل بيّن. وقبل سفره إلى إيطاليا أمكنه التحرّر من مهمّاته تلك بعد أن اكتشف أنّه كان تحت تأثير نوعين من الوهم.

       كان من الوهم أن يسعى المرء إلى ممارسة سلطة حقيقيّة تحت ظلّ حاكم مطلق، وكما كتب غوته بتاريخ 9 يوليو 1786 إلى السيّدة فون شتاين (Von Stein ): “كنت أقول دائما إنّ من يشتغل بالإدارة دون أن يكون سيّد نفسه لا يعدو أن يكون إمّا عاميّا أو داهية أو أحمق.”

       ولكن حتّى هذا “السيّد المسؤول” فقد تخلّى عن جهوده البيداغوجيّة إلى حدّ بعيد. إنّ غوته لم يقصّر في الواقع من جهة مساعيه الهادفة إلى مخاطبة ضمير الدوق ومقاومة نزواته غير القابلة للعلاج، كالنزوع إلى الحرب أو الصيد.

       فرسالتاه إلى كارل أوغست في أواخر يناير 1779 وفي 26 ديسمبر 1784، التي يبيّن في إحداها بعناية واعتدال كيف يمكن للمرء التصدّي للحملات البروسيّة في ساكسن-فايمار، في حين يدعو في الأخرى إلى إنهاء عناء الخنازير البريّة في إترسبرغ (Ettersberg )، تنتميان إلى صنف الروائع في النوع البيداغوجي النفسي.

       فالرسالتان تناشدان النواة الخيّرة في الدوق بحزم ودون الوقوع في نبرة تذلّل أو التلطيف من أخطاء جسيمة. كما أنّ قصيدة غوته الكبرى في تربية الأمير “إلمناو” تنتهي بهذا البيت:

“وحده الساعي إلى قيادة الآخرين بحكمة/ وجب أن يكون قادرا على الترفّع عن الكثير”، غير أنّ كارل أوغست لم يكن يستمع إلى مثل تلك النصائح إلاّ بقدر محدود. وعندما كتب غوته إلى شارلوت فون شتاين بتاريخ 10 مارس 1781، لم يكن يثير استغرابه آنذاك أبدا “أنّ السلالة الحاكمة هي في الغالب متهوّرة وغبيّة وصبيانيّة إلى حدّ كبير.” لم يكن كارل أوغست هو المقصود مباشرة بهذا الكلام، إلاّ أنّه أضاف، فيما يخصّه، بأنّه لا يصحّ الحديث عنه باعتباره طيّبا أو عادلا بل يجدر وصفه بكونه “أخرق”.

       أمّا فيما يتعلّق بالهبات الأميريّة فلم يكن ينقص غوته شيء منها. ففي العام 1779 تمّت ترقيته إلى رتبة “مستشار سرّي” وفي العام 1782 رُقّي إلى منزلة النبلاء، وفي العام 1804 عُيّن “مستشارا سرّيا فعليّا” وأسبغ عليه لقب “صاحب السعادة” (Excellenz ). وفي العام 1815 صار وزير دولة. هذا التتابع من التكريم المؤثّر لم يستطع بالتأكيد أن يخدع صاحبه في نهاية المطاف حول حدود عمله.

       ومن جهة أخرى فقد ثبت أيضا أنّه من الوهم أن يكون للنشاط الإداري العملي أثر ذو شأن في تحسين الأوضاع المعيشيّة عدا المساعدة في حالات الكوارث أو إصلاح سوء الأحوال الظاهرة. إنّنا نرى غوته يصف بنفسه جوهر الخلل عندما كتب لصديقه كارل لودفيغ فون كنيبل (Carl Ludwig von Knebel ) بتاريخ 17 أبريل 1782 قائلا: “تستهلك الأوساط العليا دائما في يوم واحد أكثر ممّا يمكن أن يُعطى لمن هم في أسفل السلّم.” غير أنّه تعيّن على غوته في آخر الأمر أن يتقبّل مثل تلك الأوضاع كواقع غير قابل للتغيير وليس بجهده وحده على أيّة حال. وقد أدّت كلّ هذه التجارب إلى أزمة حياتيّة استطاع غوته أن يتخلّص منها في أثناء إقامته بإيطاليا لمدّة سنتين.

       عاد الشاعر من إيطاليا شخصا آخر. لقد ضمن له الدوق حتّى فيما بعد ذلك راتبه الوزاري وهو ثاني أكبر راتب سنوي بالدوقيّة، 1200 تالر (Taler ) في البداية ثمّ 1900 تالر إثر ذلك دون أن تكون المكافأة مرتبطة بتأدية مهامّ بالمعنى الدقيق. قَبِلَ غوته الراتب بامتنان واعتبره رعاية له كأديب وهو يفسّر العلاقة المتّصلة بين غوته والدوق طيلة حياتهما رغم الخلافات.

       طبعا لم يكن ذلك يعني أنّ غوته قد اعتزل النشاط العامّ، بل إنّ ما تغيّر هو مضمون عمله الإصلاحي. فكما كانت جهود غوته قد شملت قبل ذلك السياسة الاقتصاديّة والماليّة، وبصورة محدودة أيضا السياسة الخارجيّة للدوقيّة، فقد حاول بعدها صياغة السياسة الثقافيّة والعلميّة. ولم يحدث أيّ تغيير من الهدف البعيد الذي يقود عمله السياسي وهو: التحرّر عبر التربية والمعرفة بدلا من المشاركة المباشرة للمواطنين في السلطة. ليس النشاط الثوري بل الإصلاح المتواصل هو الذي ميّز تصوّر غوته. لقد بدت له الثورة الفرنسيّة بمثابة نذير، فالسياسة تعني لديه تسيير الأوضاع “من فوق” من خلال تدخّل وقائي ذكيّ، بحيث لا يمكن أبدا للتمرّد والإرهاب أن يحدثا ولا أن تقود عقليّة الغوغاء الشعب المشوّش إلى الضلال والخراب.

       بغضّ النظر عن تجاربه المتقلّبة مع كارل أوغست، تشبّث غوته، نظرا لواقعيّته، بفكرة أنّ الإصلاحات لا تكون ناجحة إلاّ بإرادة الحاكم وموافقته، وأنّه لا ينبغي فرض تلك الإصلاحات على الشعب بل يجب أن يدرك بنفسه ضرورتها ونفعها ومن ثمّ إشراكه الفعلي في تنفيذها.

       إثر عودته من إيطاليا، انتقل مكان عمله تدريجيّا إلى مدينة “يينا (Jena ) بعد أن وجد في جامعتها ما افتقده في فايمار، بما في ذلك التواصل الفكري مع علماء الطبيعة، ولذا حازت “يينا” موقع الصدارة حتّى فيما يخصّ نشاطاته السياسيّة. وعندما صار كريستيان غوتلوب فوغت (Christian Gottlob Voigt ) وزيرا قويّا في الدوقيّة، اكتسب غوته بذلك مساعدا مخلصا له كلّ الإخلاص، استطاع من خلاله المساهمة مباشرة في استصدار قرارات سياسيّة. وبفضل تعيين أساتذة شبّان موهوبين، تطوّرت الجامعة التي عُرفت دائما باستقلاليّتها، إلى مركز للحياة الفكريّة. كانت فايمار لفترة طويلة تتمتّع بمنزلة العاصمة الفكريّة الثقافيّة غير المعلنة لألمانيا، إلاّ أنّ يينا انتفت منها تلك المكانة ابتداء من العام 1800 فيما يتعلّق بالعلوم الطبيعيّة والفلسفة.

       لقد سبّبت “حريّة التفكير” المُنَادَى بها هناك خلافات مع الدول التورنغيّة-الساكسونيّة الأربع المالكة للجامعة. وعندما احتدم النزاع في العام 1803 وأدّى إلى رحيل بعض الأساتذة، استعمل غوته كلّ نفوذه السياسي من أجل أن تستردّ الجامعة مكانتها. لم يتحقّق ذلك إلاّ جزئيّا ممّا أدّى إلى ابتعاد غوته بالتدريج عن السياسة العلميّة. ونظرا لعزوفه المتأصّل عن الجدال والصراع، لم يبد غوته تفهّما لروح المعارضة التي ظهرت في يينا بعد العام 1815 وانزوى في موقف المراقب المنعزل الراغب في التحرّر من كلّ الأحكام المسبقة.

       لم يقتصر تأثير غوته، في تطوير الجامعة، على التنسيق الدقيق لاختيار المسؤولين، بل شمل اهتمامه أيضا “المؤسّسات العلميّة والفنيّة بفايمار ويينا” أي كلّ المؤسّسات التي لا ترتبط ارتباطا عضويّا بالجامعة، مثل “المدرسة الحرّة للرّسم” بفايمار والمكتبات بيينا وفايمار والمتحف النباتي بيينا والمقتنيات الخاصّة بالعلوم الطبيعيّة والمرصد الفلكي الجامعي والمعهد الكيميائي ومدرسة الطبّ البيطري. كان نشاط غوته بارزا في الجوانب الإيحائيّة والتنظيميّة في كلّ تلك المؤسّسات إذ نلاحظ دائما أنّه يعالج كبائر الأمور وصغائرها بنفس درجة الإحساس بالمسؤوليّة. لقد توحّدت النظريّة والممارسة لدى غوته في هذا المجال بشكل مثمر.

       ولمّا حمل الأساتذة المغادرون ليينا أجهزتهم معهم العام 1803، أدّى ذلك إلى وضع التدريس الجامعي أمام خطر مباشر. عمل غوته إثرها على ألاّ يكون ما تبقّى من الأجهزة تحت تصرّف الأساتذة بل تحت إشراف الدولة.

       لقد وضع المتحف النباتي بيينا، منذ العام 1794، تحت تصرّف غوته لأجل أبحاثه في علم النبات، كما استفاد في دراساته الجيولوجيّة من آراء وتجارب المتخصّصين في علوم المعادن بمدينة يينا وفي مجال التشريح من تجارب الأطبّاء. وفي هذا الصدد فإنّ حنكة الشاعر مكّنته من اجتذاب اهتمام زوجة ابن كارل أوغست، ماريا بافلوفنا، إلى يينا، إذ أمكن بذلك، وبفضل الالتفاتة الأميريّة، تزويد مرصد الجامعة الفلكي بأجهزة جديدة وإثراء المتحف النباتي بشكل أكبر. إنّ ما فعله غوته خصوصا لمكتبة فايمار، فيما يتعلّق بتجديد بنائها وإعادة تنظيمها وفهرسة كتبها، كان مثيرا للإعجاب. وتدين مكتبة الدوقة آنّا أماليا (Anna Amalia )، القائمة إلى اليوم، بدرجة كبيرة إلى جهود غوته.

       وكان لغوته بفايمار، فضلا عن ذلك، نشاطات في مجالات أخرى، حيث انضمّ ابتداء من العام 1789 إلى لجنة بناء القصر الأميري. لقد بدا بناء القصر الجديد شديد الصعوبة لأسباب مختلفة، ليس آخرها قلّة الموارد الماليّة. ورغم ذلك، فقد أمكن العام 1804 تقديم مبنى جميل ذي طابع كلاسيكيّ لماريا بافلوفنا التي انتقلت إلى فايمار.

       استلم الشاعر منذ العام 1791 إدارة المسرح الأميري ولم يتركها إلاّ العام 1817، عندما جعلت مكائد كارولين ياغمان ( Caroline Jageman) العمل المسرحيّ مستحيلا. لم يكن ذلك هو النزاع الأوّل الذي حصل مع المغنيّة الموهوبة والطموحة، ولكنّ الكأس قد طفحت لدى غوته العام 1817، إذ لم ير أقبح من إعطاء دور البطولة لكلب مدرّب في مسرحيّة “كلب أوبري” (Der Hund des Aubry ) بالنسبة لمفاهيمه في التربية الجماليّة عبر المسرح.

       لقد جعل غوته منذ العام 1791 مسرح فايمار يرتقي إلى صفّ مسرح قومي، بفضل خطّة عروض ذكيّة، شملت أيضا مسرحيّة “مأكولات خفيفة”(Leichte Koste ) لإيفلاند وكوتزبو (Iffland &Kotzebue ) في عرض فنّي كلاسيكي بصحبة شيلر (Schiller ) إضافة إلى تشكيل فرقة ذات كفاءة عالية.

       ولكنّ موت شيلر مثّل انقطاعا مؤلما في ذلك المسار، إلى جانب احتلال الفرنسيّين لفايمار وظهور خلافات داخل المسرح ذاته، ممّا جعل اهتمام غوته يتضاءل شيئا فشيئا. مثّل ظهور الكلب المدرّب في المسرحيّة نقطة انتهاء مريرة، واتّجهت نوايا غوته، في مواصلة عمله بعد العام 1815، إلى برلين على الأرجح، حيث إنّ فايمار كانت قد تراجعت، على أيّ حال، منذ مدّة من الناحية الفنيّة.

       أُسنِدت إلى غوته في العام 1815 مسؤوليّة الإشراف على “المؤسّسات العلميّة والفنيّة بفايمار ويينا” وهو ما كان يقوم به عمليّا قبل ذلك بكثير. ورغم تولّيه هذه المهمّة إلى آخر أيّامه فقد بدا أنّ حماسه وطاقته تتراجعان انطلاقا من العام 1820 تقريبا. انعزل الشاعر الكهل أكثر من ذي قبل ببيته في “فراونبلان” (Frauenplan ) ليركّز أكثر فأكثر على أعماله الفنيّة والعلميّة. غير أنّ اهتمامه بالسياسة لم يفتر في أثناء ذلك، وحافظ على صلته بالعالم من خلال المراسلات والتحادث مع الزوّار.

       كان ينظر إلى التطوّرات السياسيّة في أوروبا الشعبيّة التي عاصرها بنفور وتحفّظ ظاهريْن. لقد كان يعتبر نفسه أحد أواخر ممثّلي ما قبل العصر الحديث، ويتمسّك في مواجهة النزعة البرلمانيّة الشعبيّة بالثقة في القرار السياسي الفردي لملك مستنير.

       لا يمكن فهم عمل غوته السياسي بدقّة وموضوعيّة ما لم يتمّ النظر إليه في إطار تصوّر عامّ يخضع إليه نشاطه الفنّي والعلمي بالدرجة نفسها. فنحن نرى أنّ أعمال غوته موجّهة في نهاية المطاف في إطار مثل أعلى للانسجام الاجتماعي، وضمن فكرة التقاء إرادي لأفراد مثقّفين منتجين. كان الشاعر يعرف جيّدا أنّ مثل ذلك التصوّر، باعتباره أقرب إلى المبدأ الكانطي التنظيمي، لا يمكن تحقيقه في الواقع، غير أنّه عرف بالدرجة نفسها أنّ البشر يتميّزون بالطموح والتوق إلى المبادئ السامية. وقد بقي تحليل الوضع الراهن دائما منطلق عمل غوته السياسي، فلا بدّ أوّلا من إدراك إمكانات العمل التي تتيحها الأوضاع القائمة، قبل تطوير تصوّر استراتيجي للعمل السياسي يكون في مستوى الهدف المرسوم. وهنا تكمن واقعيّة غوته وحداثته في الوقت ذاته.

       ولذا فإنّه ليس من المقبول ولا من المفهوم أن يُحَاكَم غوته اليوم، كما حصل مؤخّرا، من موقع ديموقراطيّة يساريّة على أساس الزعم بأنّه كان يتولّى مراقبة الأشخاص غير المرغوب فيهم، والادّعاء بعدم احترامه لحقوق الإنسان. فنحن نرى من بين المبادئ الأوليّة الثابتة أنّه حتّى عمل غوته السياسي لا يخرج عن كونه جزء من تصوّره الإنساني الشامل. وإذا ما نظر المرء إلى ممارسته السياسيّة بالتفصيل فإنّه سيخلص إلى أنّ عمله، حتّى من وجهة نظر معاصرة، ينبغي اعتباره مثمرا ومضربا للمثل.


المصدر: Goethe als politischer Gestalter/Reformer-nicht Revolutionär,

نشر في المجلّة الألمانيّة : Damals