مجلة حكمة
بيتهوفن السيمفونية

سيمفونية بيتهوفن الخامسة: سيمفونية للقدر ام نشيدٌ للنصر؟ – غابي روكر / ترجمة: فياض معالي


تعتبر سيمفونيات بيتهوفن التسعة فريدة من نوعها من حيث أنه لا يوجد نظير آخر في أعمال أي مؤلف موسيقي يتمتع بهذا الاحترام والشعبية العالميتين. غالبية سيمفونيات هايدن وموتسارت غير معروفة تقريبًا حتى من قبل الخبراء. في المقابل فكل سيمفونيات بيتهوفن معروفة ويتم أداؤها بشكل دوري ودراستها على نطاق واسع. من الصعب للغاية اختيار الأكثر شعبية من بينها، فغالبًا ما تكون السيمفونية المفضلة هي آخر سيمفونية استمعنا لها.

يفضل البعض الطبيعة الثورية التي مثلتها السيمفونية الثالثة، ويفضل البعض الآخر أفكار الأخوة العالمية التي يتم الاحتفال بها في السيمفونية التاسعة “الكورالية” ومع ذلك، قد تكون السيمفونية الخامسة هي الأكثر شعبية من بين تلك الاعمال.

من الواضح بالتالي أن بيتهوفن قد صنع شيئًا قويًا وعالميًا يتردد صداه مع أهمية دائمة عند كل مستمع لهذا العمل بغض النظر عن عمق ثقافته الموسيقية.

من الناحية الجماهيرية فهذه الشعبية الساحقة للعمل لا تنبع من معرفة فنية دقيقة في اساليبها التأليفية وبنائها الهيكلي والدرامي ولا من العبقرية الموسيقية المتمثلة باشتقاق عمل كامل بهذه العظمة والكمال من اربع نوطات في مطلع العمل، بل بسبب قوتها وطابعها الملحمي والطريقة الساحقة التي بُني بها الانتصار على الشدائد والمحن.

 

إن المكانة المرجعية التي تحظى بها سيمفونية بيتهوفن الخامسة بلحنها الافتتاحي الشهير (دا دا دا دااا) باعتبارها عملاً محورياً في الثقافة الكلاسيكية لطالما حثت باحثي الموسيقى على التساؤل – هل يطرق القدر الباب في بداية هذه القطعة ؟

 

إن حقيقة أن السيمفونية تحمل هذه النبرة تعود في المقام الأول الى تلميذ بيتهوفن وكاتب السيرة الذاتية، أنطون شندلر. عندما سأل بيتهوفن عن الفكرة الافتتاحية للسيمفونية الخامسة، قيل إن الملحن أجاب : “انه صوت القدر يطرق الباب”.

 

يشكك الخبراء بشهادة شندلر بشأن أي نقطة في حياة بيتهوفن، علاوة على ذلك، غالباً ما يقال بأن شيندلر افرط في عرضه رؤية رومانسية للغاية عن بيتهوفن.

بالنسبة الى باحثين أمثال Jens Dufner، مساعد باحث في Beethoven-Haus in Bonn، فإن مفهوم القدر هذا يمثل مشكلة حيث يرى أن “أنطون شندلر شخصية مُظللِة”، كما قال دوفنر ذلك على الرغم من أنه كان بالفعل معاصرًا وهو الامر الذي يجب أن يؤخذ على محمل الجد، إلا أن دوفنر يعتقد أن شندلر قدم علاقته مع بيتهوفن بطريقة مختلفة عما كانت عليه في الحقيقة. “على مر السنين، بذل محاولات أكبر من أي وقت مضى لتصوير قربه من بيتهوفن وتزيين أشياء أكثر وأكثر.” بالنظر لتنامي شهرة بيتهوفن والاهتمام به.

 

فقبل تسع سنوات من نشر الاقتباس الشهير، كتب شندلر مقالة عن خامسة بيتهوفن وتجربة الاستماع الخاصة به، والتي قال فيها انه شعر بأن هذه الموسيقى تدور حول صراع بطل مع مصيره. اما “اقتباس بيتهوفن المزعوم فهو يأتي لاحقًا” مع تنامي الاهتمام بموسيقى بيتهوفن. “هذا يجعل الامر مشبوها.”

يشتبه عالم الموسيقى مايكل ستوك-شلوين (Michael Stuck-Schloen)، في أن بيتهوفن – حتى لو كان الاقتباس جاء منه – فإنه أراد فقط أن يُلخص سيرة حياته المتأزمة بهذه الإجابة القصيرة.

فمن المعروف مثلا ان بيتهوفن كثيرا ما كان يقول اي شيء ليخلص نفسه من تساؤلات الفضوليين.

 

الأمر المؤكد هو أن السيمفونية كانت مكتوبة في وقت كان بيتهوفن يعاني من ضعف في السمع ومن طنين في الأذنين. بدأت حالته في عام 1798م، واستغرق الأمر 16 عامًا حتى كان اصماً بشكل كامل. أثناء العلاج في منتجع صحي في هايليغنشتات في عام 1802م، كتب في مذكراته : “ولكن كم هو مُخزٍ أن يقف شخص بجانبي و يسمع صوت فلوت من بعيد وأنا لا أسمع شيئاً، أو شخصاً آخر يسمع راعياً يُغني ومرة أخرى لا أسمع شيئاً. هذه الحوادث وضعتني على شفير اليأس، ولو تمكن اليأس مني أكثر من ذلك بقليل، لَكُنت وضعت حداً لحياتي. الفن وحده منعني عن ذلك”.

يصف جان كايزر (jan Caeyers)، مؤرخ الموسيقى وقائد الاوركسترا البلجيكي كيف ادى هذا الامر الى ان يضطر الملحن الى تغيير حياته بالكامل في ذلك الوقت.. حيث ان حياته المهنية كعازف بيانو قد انتهت تماما. وهذا ما دفعه الى الرغبة في دخول التاريخ باعتباره مؤلفا وكاتبا عظيما للموسيقى.

هذه هي النقطة التي تنتهي فيه مرحلة في حياته ويولد فيها بيتهوفن العظيم، ودون ان يلاحظ ذلك طور بيتهوفن لغة اوركسترالية جديدة تجاوز فيها النطاق الطبيعي للسيمفونية حيث وسع المؤلفات وعمق من مضامينها وطور اوركستراه اكثر. 

 ان كثيرا من الناس لو وجدوا مكانه لفكروا في الانتحار . وهذا ما فكر فيه بيتهوفن في وقت من الأوقات . لكن طبيعته العنيدة أعطته القوة والصلابة لمواجهة الصمم بطريقة ديناميكية بناءة . لقد كتب بيتهوفن في رسالة أخرى إلى صديقه فاغلر بعد خمسة أشهر من الرسالة الأولى التي كانت مفعمة باليأس حيث يظهر بيتهوفن عنيدا وقويا لا يستسلم ويحارب القدر. واعتبر أن حالة الصمم التي تعرض لها هي تحد يجب التغلب عليه :

 

“….حررني من نصف هذا المرض وأنا سأكون إنسانا كاملا وناضجا. أنا أشعر بالسعادة الغامرة على هذه الأرض. وأنا لا أتحمل الشعور بالتعاسة. سوف أمسك القدر من عنقه. لن يقدر على الانتصار علي. آه…كم أنت جميلة أيتها الحياة. وكم جميل أن تعيش فوق هذه الحياة ألف حياة”.

 

ولذلك فمن الضرورة بمكان العودة إلى ما كُتب هنا لأن بيتهوفن كان شديد الحذر في تفسيره الموسيقي. إذا أراد شيئا بشكل خاص شدد عليه، فخلافا للسيمفونية الخامسة منح بيتهوفن السادسة اسما، في عام 1809م اخبر بيتهوفن ناشره عن ضرورة ان يحمل العمل هذا العنوان (السيمفونية الرعوية – ذكريات وصوَر مِن حَياة الريف).

 يقول دوفنر هنا : إن رغبات الملحن موثقة جيدًا، بينما في الخامسة لا يوجد أي مؤشر على الإطلاق على أن السيمفونية التي كان يكتبها في الوقت نفسه لها علاقة باي مصير مزعوم ، فإذا أراد بيتهوفن التأكيد على مصيره بأي طريقة في هذا العمل ، لكان قد اشار الى ذلك في العنوان أو في ايٍ من رسائله. وعلى هذا الاساس وجوب التعامل معها بوصفها موسيقى مطلقة (**)، تستمد تفسيرها ومعناها من ذاتها.

 

تأثير الثورة الفرنسية :

إن تلك الصورة للشخص المبتئس الجالس وحده هي صورة غير صحيحة في حالة بيتهوفن – على الاقل ليس في سنيه المبكرة. في وقت كان اهتمامه بالاداب والفلسفة على اشده وقبل كل شيء السياسة .. كان متحمسا للثورة الفرنسية وتبنى مثلها العليا المتمثلة في الحرية والمساواة والاخوة. .. ومنها استلهم الكثير ليس فقط على صعيد الافكار بل في بعض الاحيان قام بدمج ايقاعات واشكال الموسيقى الثورية في اعماله .. بما في ذلك وعلى الارجح النوطات الاربع للافتتاح الشهير.

 

 يرى قائد الاوركسترا الفرنسي فرانسوا كزافييه روث (Francois-Xavier Roth)، ان السيمفونية عمل ثوري.. الجو العاصف والقوة الطاغية على العمل مستمدة من هذه الجوانب والقيم الفلسفية الجديدة للثورة الفرنسية وعصر التنوير والتي تنفجر في النهاية .. في فرنسا لم ينظر للسيمفونية الخامسة بختامها الانتصاري في سي ماجور بانها سيمفونية للقدر بل دائما نظر لها كنشيد للنصر.

 

جمال لا متناه :

الاصطلاح على تسمية السيمفونية الخامسة، بالقدرية. لا يزال قائما. ففي العصر الرومنسي على سبيل المثال، آمن الفنانون بقوة القدر وطغت على اعمالهم ثيمة معاناة  البطل وصراعه مع الاقدار. “وهي الثيمة التي جرّبها تشايكوفسكي مثلًا في سيمفونيته الرابعة، وبرامز في سيمفونيّته الأولى، وفرانز ليست في قصيدة السيمفوني رقم ٢ (المقدّمات) وغيرهم. حتى من لم يعالجوا هذا الموضوع صراحةً فقد أوضح التتابع الشعوري في أعمالهم التتابع الشعوري الرباعي ذاته في السيمفونيّة الخامسة لبيتهوفن: القدر يهجم، الإنسان يرثي نفسه، الإنسان يتحدى القدر ويعبث ويسكر، الإنسان ينتصر (السيمفونية الثانية لرحمانينوف مثلًا). لقد صارت هذه الثيمة موضة القرن التاسع عشر، ولم يفلت منها موسيقار واحد تقريبًا خاصة في مراحل الشباب” (***)

اما النازيون فلقد احبوا الطبيعة البطولية والسامية للعمل. وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية ابتعد الملحنون الشباب عن مثل هذه الدلالات وادارو ظهورهم للتقاليد.

ابتداءً من ستينيات القرن المنصرم. اعادت القفزة النوعية التي احدثتها تسجيلات فون كارايان الموسيقى الى الواجهة (معلومة منقولة من DW). حيث سجل فون كارايان سيمفونيات بيتهوفن الذي منحه جل اهتمامه في اربعِ دورات. (يحكي المايسترو بافو يارفي عن حديثه مع كارلوس شبيرر، الذي عزف والده تحت قيادة كارايان لسنوات. يقول : تدرب كارايان لسنوات كاملة على سيمفونيات بيتهوفن فقط، لكنه تدرب جيدا وبلا كلل او ملل لعشر سنوات، وبعد ذلك عندما كان يعزف سيمفونيات والحان بيتهوفن كان يعزفها مباشرة – مغمض العينين وفي انسجام)، يعتبر تسجيل العام 1963م اسطوريا.

 

ختاما.

الأذواق ذات طبيعة متغيرة لا تتسم بالثبات. ومن وجهة نظر عاطفية بحتة، ترتبط السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ارتباطًا وثيقًا بفكرة القدر، كرست وجهة النظر هذه عبر مجموعة من الاستخدامات خارج قاعات الحفل لاسيما في السينما..

بمقدور كل فنان وكل مستمع ان يربط تجاربه الشخصية بعمل بيتهوفن – وربما حتى مصيره. ومع ذلك فان الغاية لا تتمثل في الغاء فكرة القدر بقدر ما تهدف الى ازالة نسيج الاساطير الذي حيك حول هذا العمل، بحيث يكون المستمع على دراية بوجهة النظر ومدى مصداقية ما يقال بشكل اكثر دقة.

 

 

المصدر (ترجمة غير حرفية)


#هامش : هناك قصة أخرى تروى عن السيمفونية – النسخة الواردة هنا هي من وصف عازف البيانو البريطاني أنتوني هوبكنز للسيمفونية – : ادعى فيها كارل تشيرني (تلميذ بيتهوفن، الذي ظهر للمرة الأولى في حفل عزف كونشرتو الإمبراطور في فيينا) أن “نمط النوطات في الافتتاح جاء إلى [بيتهوفن] من أغنية طائر “درسة صفراء”، سمعه وهو يتمشى في حديقة براتر في فيينا” – وهذا ليس بالامر المستبعد فكثيرا ما الهمت الطبيعة واصواتها مخيلة بيتهوفن الجمالية. ويلاحظ هوبكنز أيضًا أنه “بالنظر إلى الاختيار بين الدرسة الصفراء وطرق القدر الابواب.. فضل الجمهور الأسطورة الأكثر إثارة، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يتم اختراع رواية تشيرني”.

(**) الموسيقى المطلقة، او الموسيقى التي لا تمثل أي شيء أو ليست عن أي شيء، أَي الموسيقى فقط من أجل الموسيقى. كان هناك نقاش مستمر حول فكرة الموسيقى المطلقة التي بدأت في أواخر القرن السابع عشر وما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. في زمن برامز، كان النقاش قويًا بشكل خاص، ذلك لأن فاغنر وليزت (قادة الحركة الموسيقية الجديدة) كانا من رواد الموسيقة البرامجية (اوبراليات فاغنر، قصائد ليزت السيمفونية) في الوقت الذي كان فيه برامز يمثل نموذج الموسيقى المطلقة.

في المقابل ليس من السهل تحديد ما اذا كان يمكن اعتبار قطعة مطلقة او برامجية، هل هناك نموذج على الموسيقى المطلقة البحتة ؟ دون وجود اي اشارة داخلها الى اي شيء او فكرة اكثر من الصوت ذاته ؟ فمثلا عندما اشار بيتهوفن الى معنى الموضوع الافتتاحي للسيمفونية الخامسة على انه (القدر يطرق الابواب “بغض النظر عن مدى صحة هذه القصة”)، فانه قد أعطى بذلك معنىٍ خارج التعبير الموسيقي المجرد بالتالي لم تعد قطعة من الموسيقى المطلقة بالمعنى الدقيق للكلمة. الحجة بين الموسيقى المطلقة مقابل البرامجية هي طريقة لمحاولة جعل نوع من الموسيقى متفوقًا على الآخر (على الاقل هكذا كان الامر في اواخر القرن التاسع عشر، لاسيما بين انصار الطرفين). في هذا الصدد ، فإن المناقشة الكاملة (والحجج التاريخية) حول الموسيقى المطلقة هي نقاط خلافية.


المراجع:

(***) لاهوت السيمفونية التاسعة : العنصر الديني في موسيقى بيتهوفن. د. كريم الصياد

(*) Beethoven’s Fifth Symphony: The truth about the ‘symphony of fate