مجلة حكمة
سردية الوجود واللغة

في سردية الوجود واللغة! – عبدالله البريدي

سردية الوجود واللغة

الوجود: حضرتُ.

نعم، حضرَ الوجودُ!

هل فهمتم مرادي؟

هذا يعني أنه لا مقر لي.

أين أسكن إذا حضرتُ؟ أين؟

اللغة: أيُ وجود أنتَ؟

أأنتَ الوجود الُمدرَك؟

إن كنَتهُ، فلا مستقر ولا سكن لك، إلا عندي أيها الوجود المدرَك.

الوجود: نعم أنا هو. 

اللغة: حسناً.

عليكَ ابتداءً، أن تخبرني بالمدة التي ستمكثها داخلي أو عَبْري؟

الوجود: الدهرَ كلَه.

هذا هو قَدَري.

اللغة: على الرحب والسعة.

ولكن أخبرني:  ما حجمكَ؟ 

كم عدد أفرادكَ!

الوجود: لِمَ ؟

يبدو أنكِ فضولية أكثر مما ينبغي أيتها اللغة البهية!

اللغة: لا، لستُ فضولية البتة.

رويدك.

لا تكن عجولاً.

سؤالي كان فقط من أجل:

حساب كلفة السكن.

ومعرفة نوعه الذي يلائمك أيها الوجود، ويلائم أفرادكَ.

ألا تعلم أنني سأنفقُ على البناء الذي يحتويكم الكثيرَ من مدخراتي اللغوية.

سأصونكم بتراكيبي عن خطأ التحليل والتجريد والتركيب لأفرادكَ ما استطعتُ.

سأحميكم بأساليبي من زلل التوصيف والتفسير لواقعكَ، والتنبؤ بمستقبلكَ.

الوجود: عذراً، عذراً.

يبدو أنني استعجلتُ فعلاً.

كان ذلك بسبب الضغط، أو لعله الانضغاط؛ من جراء ثقل الحضور!

في الحقيقة، نحن كثيرون جداً.

وحتى لا أخيفكِ، لن أعطيَكِ رقماً بعينه.

اللغة: لا، لا.

هذا يُقلقني أكثر، ويخيفني!

كيف يسعني تقديم السكن لكم، وأنا لا أعرف حجمكَ، ولا عدد أفرادكَ؟

كيف أحسب كُلفة السكن؟

وماذا عن نوعية السكن المتوخاة وحجمه ومرافقه الدلالية؟

أتُراكم ترضون ببيتٍ لغوي ضيق لسكن أحد أفرادكم؟

أو بِنُزلٍ تعبيري متواضع؟

أو بِناية أسلوبية متضعضة؟

لستُ على بينةٍ من أمري تُجاه المكانة اللائقة بسكن أفرادكَ المتنوعين، نوعاً وحجماً.

وهذا ما يُصعّب الأمرَ عليّ.

ويجعلني في حرج من أمري.

الوجود: يا لرهافة حسكِ سيدتي اللغة.

هوّني عليك رجاء.

فالأمر أيسر من ذلك، وأهون.

إذ إنني حينما حضرتُ، وطّنتُ نفسي على أن أسكنكِ.

في كل أبنيتكِ.

بمختلف مستوياتها وأنواعها، سَعةً وتركيباً وجودةً وإحكاماً.

اللغة: هذا أمر جيد.

ولكن، عليك َ أن تقبل بشروطي كلِها!

الوجود: نعم.

أقبلها كلَها، حتى دون أن أعرفَها.

اللغة: تبدو عَجِلاً في كل تجلياتك.

هل أنت متأكد فعلاً من تقبلك لشروطي؟

الوجود: نعم سيدتي.

لا قرارَ، حيث لا اختيار!

اللغة: ليكن في علمك أنه من ضمن شروطي:

أنني أتدخل أحياناً في تحديد نوع المسكن اللائق ببعض أفرادكَ.

سأجعل الغامض منكم في بنايات لغوية مرتبكة مفتوحة.

نعم، مفتوحة.

فإذا تجلّى الغامضُ، نفحتُه حينئذ ببناية أفسح.

وربما أفخم.

سأحشرُ المراوغَ منكم في بنايات صغيرة مُقفلَة.

نعم، مقفلة.

كي لا يزداد مراوغة.

وقد أُحجمُ عن تقديم السكن لمنْ يبالغُ في غموضه أو مراوغته أو تمنعه على الحضور الواجب.

هذا لا يعني إطلاقاً أنكَ لا تطيق تغيير سكن بعض أفرادك.

تجلياتُكَ الجديدة قد تفرض عليّ إبدال سكن لغوي لكَ بآخر.

الوجود: هذا رائع بحق.

اللغة: انتظر!

هذهِ، ليستْ كل الحكاية. 

إذ قد ينتابني ضعفُ أو تشوشُ بل نزقُ أحياناً، فلا أُسكّنُ بعضَ أفرادك ما عساه يليق بهم.

ربما يتضايقون، لصغر الباحة الدلالية أو عشوائية الأبنية التعبيرية.

لا أدري لماذا؟

ولكنها تركيبتي التي لا مفرَ منها.  

الوجود: أنا موافق على كل ذلك.

لستُ منزعجاً البتة.

لا تقلقي.

سيكون ثمة توزيع لأفرادي على بناياتك بطريقة جيدة أو مقبولة.

اللغة: هذا يُجذلني يا صديقي.

ويخفّفُ كثيراً عنّي.

ولكن: منْ سيتولى توزيع أفرادك على نحو ما ذكرتَ؟

الوجود: إنه هو أو هي!

اللغة: منْ؟

الوجود: حسبتُكِ تعرفينه أو تعرفينها!

للأسف.

ها أنتِ قد عُدتِ إلى أسئلتكِ الفضولية العسيرة.

بصراحة: أنا لا أدري على وجه الدقة منْ يكون أو تكون!

ولكن، ما أعلمه هو أن ثمة منْ سيتولى مهمة التوزيع هذه.

بطريقة عادلة أو مقبولة.

أو لنقل مفهومة بعض الشيء على أقل تقدير.

ولكي أكون شفافاً معكِ، سأخبرك بما يُقال.

سمعتُ أنكِ أنتِ منْ سيقوم بهذه المهمة الصعبة على نحو ما.

نعم، هكذا يُقال هناك.

وأنا راضٍ بذلك تماماً.

فأنتِ على قَدْرٍ من الدقة والعدالة.

والكرم والشساعة أيضاً.

اللغة: هذه مرتبةُ سامقة.

لا أحسب أنني أدانيها.

لا، لستُ أنا.

الوجود: قد يكون ذلك مجرد تواضعٍ منكِ أيتها القديرة.

اللغة: أبداً، هذا .. ليس تواضعاً على الإطلاق.

لا، لا .. لستُ أنا.

الوجود: على كل حال، لا يهمني ذلك.

فقط، دعيني ألجُكِ أيتها اللغة السكن، فأنا كليل من الخطو.

خائر من مكابدة الحضور!

اللغة: نعم، أنتَ واهن جداً.

وطاعن أيضاً.

تبدو أسنّ مني!

تعال، تعال إذن لترتاحْ.

لقد زينتُ لك بيتاً يليق بكَ.

الوجود: شكراً سيدتي.

اللغة: لا شكرَ على واجب.

أنا مسكن الوجود.

الوجود: ما كان لكِ أن ترهقيني بمثل هذا الحوار المنهك.

عموماً، شكراً لك.

فلولاكِ لما سكنتُ.

ولما شعرَ أحدُ إذن بحضوري.

ولكن.

اللغة: ماذا؟

الوجود: لقد فطنتُ لشيء أكبر من مجرد السكن.

اللغة: ما هو؟

أرجو ألا يعيدنا ذلك إلى حوار تصفه أنت بالمرهق.

وأراك تتحاشاه.

الوجود: لقد تنبهت إلى أن اسمى ذاته هو لغة!

أليس و ج و د هو لغة؟

يبدو أنكِ أيتها اللغة المكينة المحيطة أكبر من مجرد مسكن!

اللغة: هذه النغمة تُخيفني.

هل أعدُّ ذلك مدحاً أم تغزلاً بي؟

هل أستحق ذلك كلَه؟

لا أخفيكَ سراً، أدرك بأنني ضخمة جداً.

ومؤثرة جداً أيضاً.

ولكنني لا أعرف على وجه الحقيقة من أنا!

اكتم سري هذا أيها الوجود.

لا تبحه لأحد.

فيشمتوا بي.

هناك، لاح ….!

وقال: إنه أنا.

نعم، أنا من يُسكِنُ الوجودَ اللغةَ.

قفز الوجود ونطّتْ اللغةُ: من أنت؟!

تبسّم أو تبسّمتْ بببرود.

وغادر أو غادرتْ!