مجلة حكمة
زمن السحرة

زمن السحرة … العِقد الذي أعاد اختراع الفلسفة (قراءة في كتاب وولفرام آيلنبرجر) – صلاح عثمان

زمن السحرة
غلاف كتاب (زمن السحرة)

تمهيد:

    «تُعلمنا الفلسفة كيف نُفكر»، عبارةٌ تتردد كثيرًا على ألسنة أساتذة الفلسفة أمام طلابهم الجُدد، وربما في حواراتهم وحلقاتهم البحثية التي لا تعكس قطعًا نمط حياتهم اليومية. قد تصيبك العبارة بالدهشة، ليس فقط لأن مجرد حضورك لدرسٍ فلسفي يُعد دليلاً كافيًا على أنك تعرف كيف تفكر! بل ولأنك قد تتساءل ساخرًا: حتى إن لم أكن أعرف كيف أفكر، فماذا أفعل بالتفكير في مكانٍ وزمانٍ يُعد فيه التفكير جريمة تودي بمقترفها إلى الهلاك، وتُلقي به في غيابة الحُزن والفقر والمعاناة والنبذ المجتمعي؟! لكنك ستُدرك بعد حين مدى قوة وصواب العبارة؛ فالفلسفة تُعلمنا حقًا كيف نُفكر في العالم بطرقٍ جديدة، وكيف نرى أنفسنا وواقعنا بأعينٍ كُشفت عنها حُجب الإدراك، لاسيما في لحظاتنا الحياتية الفارقة، وكيف نخلع المعنى على وجودنا البائس، وكيف نصنع التاريخ ونُعيد توجيه مسيرته: علمًا وفنًا وثقافة!

    صحيح أنك قد تشعر بالملل حين تستمع لتمتمات الأساتذة الذين يسوقون إليك أفكارًا مُبهمة لفلاسفة مثل «أفلاطون» أو «توما الإكويني» أو «كانط»، ويُحدثونك عن مفاهيم غامضة مثل العقل والروح والفضيلة وغيرها، لكن عليك أن تضع كل ذلك جانبًا حين تقرًا كتاب «وولفرام آلينبرجر» «زمن السحرة»؛ لقد غفرت لك الفلسفة، وتريدك بالمثل أن تتجاوز ولو قليلاً عن سقطات من أساءوا إليها، وأن تلتقيا من جديد على مائدة فكرية مُفعمة بالإثارة. فمن هو المؤلف؟ وما أهمية كتابه الذي نعرض له الآن؟

أولاً: لمحة عن الكتاب ومؤلفه:

    «وولفرام آلينبرجر» Wolfram Eilenberger فيلسوف وكاتب ألماني ذائع الصيت، من مواليد سنة 1972. يُركز في كتاباته على النثر الفلسفي غير الخيالي، وتطبيق الأفكار الفلسفية على المجالات المختلفة للحياة اليومية، كالسياسة والفن والرياضة، وهو المُحرر المؤسس لمجلة الفلسفة Philosophie Magazin الألمانية الشهرية. له تسعة كتب، أبرزها الكتاب موضوع هذه المقالة، والذي نُشر بالألمانية في مارس من سنة 2018 تحت عنوان: «زمن السحرة: العقد العظيم للفلسفة 1919 – 1929» Zeit der Zauberer: Das große Jahrzehnt der Philosophie 1919-1929، وأصبح على الفور من أكثر الكتب مبيعًا في ألمانيا، وتمت – وتتم الآن – ترجمته إلى أكثر من عشرين لغة. اضطلع بترجمته إلى الإنجليزية المترجم الآيرلندي الشمالي «شون وايتسايد» Shaun Whiteside (من مواليد 1959)، وصدرت الترجمة – التي تقع في 418 صفحة من القطع المتوسط – في أغسطس من العام الحالي 2020 عن دار كُتب بنجوين البريطانية العريقة Penguin Books، تحت عنوان «زمن السحرة: العقد الذي أعاد اختراع الفلسفة». حصد الكتاب عدة جوائز محلية ودولية، منها جائزة الكتاب البافاري الألمانية المرموقة Bayerischer Buchpreis عن سنة 2018، والجائزة الفرنسية لأفضل كتاب أجنبي Prix du Meilleur Livre Étranger عن سنة 2019.

    كذلك صدر للمؤلف مؤخرًا كتاب «نار الحرية» Feuer der Freiheit (سبتمبر 2020)، والذي يصف الحياة الأسطورية لأربعة فلاسفة من النساء هم الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين خلال الحرب العالمية الثانية: «سيمون دي بوفوار» Simone de Beauvoir (1908 – 1986)، «حنا أرندت» Hannah Arendt (1906 – 1975)، «سيمون ويل» Simone Weil (1909 – 1943)، و«آين راند» Ayn Rand (1905 – 1982).

    أما عن نشاطه الأكاديمي فقد قام «آيلنبرجر» بالتدريس في جامعة تورنتو Toronto (كندا)، وجامعة إنديانا Indiana (بلومنجتون، الولايات المتحدة الأمريكية) وجامعة الآداب Arts في برلين، ومنذ سبتمبر 2019 وحتى الآن يقوم بالتدريس في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا بزيورخ ETH Zürich (سويسرا). هذا بالإضافة إلى نشاطه الثقافي والمجتمعي والرياضي المتمثل في كونه أحد مدراء مهرجان كولونيا الدولي للفلسفة Phil.Cologne (أكبر مهرجان فلسفي في ألمانيا)، ومديرًا لبرنامج اللحظة الفلسفية العظيمة Sternstunde Philosophie (الذي يقدمه التليفزيون السويسري)، وحصوله على رخصة مدرب لكرة القدم من اتحاد الكرة الألماني، وكتابته لعمود كرة القدم الشهري (حديث المقصورة) Eilenbergers Kabinenpredigt بمجلة تسايت أونلاين الألمانية ZEIT ONLINE. وهو متزوج من اللغوية ولاعبة كرة السلة الوطنية الفنلندية السابقة «بيا بايفيو» Pia Päiviö، ويعيش مع عائلته في برلين.

    الفترة الزمنية التي يُحددها «آيلنبرجر» لـ زمن السحرة في كتابه هي عقد العشرينات من القرن العشرين؛ تلك التي شهدت أبرز مواضع التقارب والتباعد بين أربعة من كبار فلاسفة الفكر المعاصر: «لودفيج فتجنشتين» Ludwig Wittgenstein (1898 – 1951)، «والتر بنيامين» Walter Benjamin (1892 – 1940)، «إرنست كاسيرر» Ernst Cassirer (1874 – 1945)، و«مارتن هيدجر» Martin Heidegger (1889 – 1976). أولئك هم فلاسفة اللحظة الجديدة الفارقة للفكر الغربي، وهم أيضًا سحرة عصر التحولات الكُبرى في الفلسفة؛ العصر الذي أصبحت فيه اللغة بمثابة الشغل الشاغل للفلاسفة.

    قرونٌ طويلة احتدمت فيها المناقشات الفلسفية حول الروح والفضيلة والعقل والجسد، لكنها اليوم تنهار تحت وطأة التحليل اللغوي؛ قرونٌ طويلة استغرقت فيها الواقعية والمثالية والعقلانية والتجريبية والفكر الديني والإلحاد عقول الفلاسفة، ولكن ها هي روح العصر الجديد تؤكد أن كافة المشكلات التي أرقتنا ردحًا طويلاً من الزمن كانت متجذرة في الطريقة التي نتحدث بها عن الأشياء، وليس في الأشياء نفسها. إن اللغة، التي قد تبدو بسيطة للغاية، غالبًا ما تكون ساحرة، مما يدفعنا إلى التفكير في مقولات تأخذنا بعيدًا عن الواقع!

    لا يُقدم «آيلنبرجر» كتابًا فلسفيًا بالمعنى المُعتاد، ولكن رواية عن كيفية تفاعل هؤلاء الفلاسفة الأربعة مع بعضهم البعض، وكيفية المُضي قُدمًا في مساراتهم الحياتية النوعية المختارة. ويمضي السرد من فصلٍ إلى فصل، ومن جزءٍ إلى جزءٍ، تحت عناوين مثيرة وجذابة كتلك التي نجدها في الروايات الفيكتورية؛ فالعنوان الفرعي للفصل الثاني مثلاً (د. بنيامين يفر من والده، والملازم فتجنشتين ينتحر ماليًا، والمحاضر هيدجر يفقد إيمانه، والمسيو كاسيرر يُمارس التنوير في حافلة رُكاب). أما الفصل الثالث وعنوانه (اللغات 1919 – 1920) Languages 1919-1920، فيبدأ بعبارة: (فتجنشتين يُثبت ذاته في العاصفة، وهيدجر يتعلم الحقيقة الكاملة، وكاسيرر يسعى إلى الشكل، وبنيامين يُترجم الله).

    يُضفي العرض الروائي لهذه الشخصيات المبكرة لفلسفة القرن العشرين طابعًا إنسانيًا على حياة المفكرين الذين يمكن أن تكون أعمالهم المكتوبة في بعض الأحيان قاسية وجليدية، بل وحتى غامضة. كان لديهم شغفهم المُغلف بالمعاناة، كما كانوا – باستثناء «كاسيرر» – مسكونين بالاكتئاب، ليس فقط على المستوى الشخصي، بل وعلى المستوى الوجودي برمته. لقد تميزت الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى بقلقهم من تدمير أوروبا القديمة ذات الثقافة المتناغمة؛ لقد مزق مشهد وحشية الإنسان تجاه الإنسان براءتهم، وأصاب إيمانهم بالتاريخ بصدمة عنيفة. كان «كاسيرر» من جيلٍ مختلفٍ إلى حدٍ ما، لكن الثلاثة الآخرين بلغوا مرحلة الشباب في وقت كانت فيه الحضارة الأوربية تنهار، وأصبحت مهمتهم الجماعية هي إعادة بناء الطريقة التي نفكر بها في الحالة الإنسانية من خلال إعادة اختراعها. لم يكونوا بلا دماء تسري في عروقهم (أدمغة منفصلة في وعاء Brains in a vat)، لكنهم كانوا أناسًا مُشبعين بالعواطف، والمخاوف، وأحيانًا بالغطرسة التي جاءت من تخيل أن منتجهم الفكري يمكن أن يُغير العالم بالفعل.

ثانيًا: سحر الفلسفة وسحرتها (المغزى والهدف):

   السحرُ لُغةً هو كل ما لطُف مأخذهُ وخفي سببهُ، والأصل فيه صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فيجري مجرى التمويه والخداع، قال تعالى: «سحروا أعين الناس» [الأعراف: 116] أي موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقد يُستعمل مقيدًا فيما يُمدح ويُحمد وهو السحر الحلال، كمقولة «إن من البيان لسحرًا»، حيث سُمى بعض البيان سحرًا لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولُطف عبارته، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن. وقيل أصل السحر الصّرف، يقال: ما سَحَرك عن كذا، أي ما صرفك عنه؛ وقيل: أصله الاستمالة، وكلّ مَن استمالك فقد سحرك. وغالبًا ما توصف قوة الإنسان اللغوية بعصاه السحرية القادرة على تغيير الحالة الوجودية وجذب العقول واستمالتها، حتى لقد وضعت الفنانة والكاتبة الأمريكية «فلورنس سكوفيل شين» Florence Scovel Shinn (1871 – 1940) كتابًا لها تحت عنوان «كلمتك هي عصاك» Your Word is Your Wand (1928)، في محاولة منها للكشف عن قوة الكلمات السحرية وقدرتها على التوجيه والتغيير.

    بهذا المعنى لم يكن الفلاسفة عبر عصور التاريخ المختلفة سوى سحرة، خلعوا على كلماتهم رمزيةً تُشبه التعويذات العابرة بغموضها لحدود الزمان والمكان، وتحمل من الدلالات والأسرار الوجودية ما قد يقود المرء إلى عالم مختلف يتشكل قسرًا داخل إطار اللغة. وكما طُوردت الساحرات في أوربا إبان الحقبة الأخيرة من العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث، كذلك طُورد الفلاسفة واتُهموا مرارًا بالهرطقة أو الزندقة، وحوكموا عقليًا، ليس فقط من قبل العامة والساسة والكهنة، بل ومن قبل بعضهم البعض أيضًا، لا لشيء سوى لقدرتهم على زعزعة الثوابت، وخلخلة الجمود، وكشف الزيف، ومحاولة استشراف الحاضر والآتي بحلوه ومُره، خيره وشره، جده وهزله، ومنطقيته وعبثه!

    بهذا المعنى أيضًا يمكن أن نفهم سحر الفلاسفة بدلالة نفي الصورة النمطية لهم في أذهان الناس، أعني كونهم بشرًا عاديين، مُخادعين أحيانًا، يتلاعبون بالكلمات ويستميلون العقول بقوة حُجتهم وسحر عباراتهم، تعكس طرائق حياتهم شيئًا مُختلفًا تمامًا عما يُنظّرون له ويدعون إليه. ولا غرو، فلئن كنت تنظر إلى الفلاسفة على أنهم أناسٌ مثاليون، هادئون، مترفعون عن مُتع الحياة ولا يشغلهم المال أو الجنس، متعالون عن الصغائر، تعتمل بدواخلهم فقط الرغبة في سبر أغوار الحقيقة، … إلخ، فإن هذا الكتاب يحملك إلى واقعية صارخة من شأنها أن تمحو قدرًا كبيرًا من هذه الصورة؛ ولا نُغالي إن قلنا إن المثالية هي الكلمة الأخيرة التي قد تستخدمها لوصف أيٍ من سحرة «آيلنبرجر» الأربعة. عندما لا يفكرون في الانتحار، فإنهم يمارسون التزلج على منحدرات جبال الألب لتجربة الخطر في أقصى درجاته، أو ينطلقون إلى روسيا لمعايشة تبعات الثورة البلشفية عن قرب، أو ينشغلون بالتدخين المفرط وتناول المنشطات، أو تستهويهم مطاردة معشوقاتهم وتغليب رغباتهم الجنسية. أما بالنسبة لهذا الفكر الحديث الذي يُحدثنا المؤلف عن اختراعهم له، فإنه غالبًا ما يبدو أقرب إلى الهذيان أو التصوف من التفكير الفعلي!

    غالبًا ما يُوصف «فتجنشتين» مثلاً بأنه عدوٌ للإنسانية، لكن شخصيته في الحقيقة كانت معقدة، يشوبها مزيجٌ من الذكاء والعداء واللطف؛ مزيجٌ شكَّله مزاجٌ غريب الأطوار يقبل ويرفض مثليته الجنسية (كان شذوذه الجنسي يُلوث بطريقةٍ ما مثال الزهد والاستقامة الأخلاقي الذي تم بناؤه حوله كفيلسوف). ورغم كونه سليلاً لإحدى أغنى العائلات اليهودية في فيينا، حيث كان الموسيقي الألماني الرومانتيكي «يوهانس برامس» Johannes Brahms (1833 – 1897) يعزف أروع سيمفونياته في منزل العائلة، إلا أنه تخلى طواعيةً عن ميراثه لكي تُصبح حياته أكثر نقاءً من تلك التي أتيح له فيها كل شيء! وطوال سنوات العقد التي يغطيها هذا الكتاب كان يكسب قوته من العمل كمهندس معماري عصامي، أو كبستاني في المزارع، أو كممرضٍ في المستشفيات المختلفة، أو كمدرسٍ في إحدى المدارس الابتدائية في قرى جبال الألب النائية، مستغلاً تلك الفترات التي لا يُحاضر فيها أمام طلابه بجامعة كمبردج! يقضي أوقات نوباته النفسية في كتابة الرسائل الرائعة والمثيرة للشفقة إلى بعض المعجبين مثل «برتراند راسل» Bertrand Russell (1872 – 1970)، ويشعر بالإحباط أكثر فأكثر، ويُقيد الأطفال بشدة في حصصه الدراسية لدرجة أن أحدهم قد أغمى عليه من فرط الخوف والألم، ويضطر في النهاية إلى الفرار تجنبًا للفضيحة والملاحقة القضائية! والأكثر من ذلك أنه كان قادرًا تمامًا على عض اليد التي أطعمته؛ حيث وصف ذات مرة ممتحنه في أطروحته للدكتوراه، الفيلسوف البريطاني «جورج إدوارد مور» George Edward Moore (1873 – 1958) بقوله: «إنه شخصٌ يُظهر لك إلى أي مدى يمكن لرجل ألا يكون لديه ذكاء على الإطلاق»!

    أما «هيدجر» فيوصف بأنه أكثر الأربعة غطرسةً وتعجرفًا وعنصرية. نشأ كاثوليكيًا في كنف إحدى الكنائس الريفية، وكان يغشاه منذ الصغر إحساسٌ بأنه الأكثر تميزًا بين أقرانه؛ إنها مشكلة الأنا العملاقة النموذجية التي استحوذت عليه وظلت ملازمةً له كمرضٍ طوال حياته! كان مهووسًا بمفهوم الوجود Being، وقدَّم في أهم أعماله «الوجود والزمن» Being and Time (1927) مفهوم «الدازاين» Basein الذي يُشير إلى الوجود الإنساني المُميز في العالم. كانت كتاباته بالنسبة لطلابه ميتافيزيقية وغامضة بالمعنى الأسوأ للغموض، حتى لقد قيل أن «هيدجر» غير قابل للترجمة ولو إلى لغته الأم التي كتب بها: الألمانية! ولكونه آريًا يتمتع بصحة جيدة، فقد قضى أوقات فراغه القليلة في تقطيع الأخشاب والتزلج على الجليد، لاسيما حينما كانت تستعصي عليه مشكلة الوجود وتؤرق مضجعه. كانت نصيحته الدائمة لطلابه هي «البحث عن الفراغ» Seek out the void، لكنه لم يتبعها أبدًا، فلقد سعى جاهدًا للحصول على أعلى وظيفة في جامعة فرايبورج، وبناء منزلٍ كبيرٍ يتسم بالفخامة على الطراز البورجوازي الراقي. تحمس لهتلر، وتقرب من الحزب النازي بما يكفي لكي يصبح رئيسًا لجامعة فرايبورج University of Freiburg. ووفقًا للقول المأثور: «ما من رجل يُمارس التمييز العنصري بعد غروب الشمس»، لم يكن «هيدجر» معاديًا للسامية بالقدر الذي يمنعه من الانخراط في علاقة عشق مع الفيلسوفة الألمانية اليهودية «حنا أردنت» Hannah Arendt (1906 – 1975).

    أما «والتر بنيامين»، وهو ابنٌ آخر لرجل أعمال يهودي ثري، فقد تحول إلى الصحافة والنقد الثقافي بعد أن فشل في الحصول على وظيفة أكاديمية ثابتة نظرًا لعدم استكمال بحوثه المؤهلة للأستاذية، لكنه عُرف كناقدٍ ثقافي ومُحللٍ حادٍ للمراحل الأولى من الرأسمالية الاستهلاكية، كما يُعرف اليوم جيدًا بعمله غير المُكتمل «مشروع الأروقة» The Arcades Project، وهو مجموعة هائلة من الكتابات عن الحياة والتصميم المعماري للأروقة المُغطاة بالحديد والزجاج في مدينة باريس قام بها فيما بين عامي 1927 – 1940، ونُشرت بعد وفاته بعدة لغات. كانت البصيرة والفهم – وليس مجرد الرؤية البصرية – هي شغف «بنيامين» المؤثر، لكنه كان من الناحية النفسية مضطربًا ومكتئبًا، مُخادعًا ومزدريًا بعنف لكافة منافسيه بما في ذلك «هيدجر»، يفتقد القدرة على اكتساب أبسط المهارات العادية، حتى لقد اعترف ذات مرة بأنه لا يستطيع صُنع كوب من الشاي، مُلقيًا باللوم على والدته بالدرجة الأولى! تعرض زواجه الأول من «دورا صوفي بولاك» Dora Sophie Pollak لأزمة عنيفة بعد أن وقع في حب المُخرجة المسرحية اللاتفية البلشفية في كابري Capri «أسجا لاشيس» Asja Lacis، وانتقل للعيش معها حتى طردته وأعادته إلى بيت والديه، حيث كانت زوجته «دورا» تنتظره مع ابنهما الصغير، وبعدها عانى من الانهيار النفسي وأصبح مضطربًا ومتناقضًا، تمامًا مثل بلده ألمانيا! وثمة رواية طريفة يسوقها «آيلنبرجر» حول لقائه الأول مع «لاشيس» وكيفية إيقاعه بها، حيث تظاهر بالعمل خارج المسرح محاولاً تجاذب أطراف الحديث معها بعرضه حمل مشترياتها، لينتهي به الأمر بإسقاطها وتناثرها على قارعة الطريق. ولعل أكثر الملاحظات حكمة في هذا الكتاب متعدد الخيوط هي تلك الكلمات التي كتبتها زوجته «دورا» إلى صديقهما المشترك «جيرهارد شولم» Gerhard Scholem بعد أن طالت معاناتها: «إن بنيامين الآن موجود فقط كرأس وأعضاء تناسلية، وكما تعلم، أو يمكنك أن تتخيل، في مثل هذا حالات يتم التغلب على الرأس بسرعة». وفي سنة 1940، حيث كان يناهز الثامنة والأربعين من عمره، انتحر «بنيامين» في بلدة بورتبو Portbuo على الحدود الفرنسية الإسبانية أثناء محاولته الهروب من الفيرماخت Wehrmacht (قوات الدفاع النازية الألمانية)، وعلى الرغم من أن الإشادة الشعبية قد استعصت عليه خلال حياته، إلا أن أعماله أكسبته بعد وفاته شهرةً كان يصبو إليها.

    يقف «إرنست كاسيرر»، وهو يهودي ألماني مثقف آخر، بعيدًا إلى حدٍ ما عن الثلاثة الآخرين، فقد كان يُمثل الشخصية الأكثر استقرارًا والأقل غرابة بين الأربعة، وربما الأقل شهرة اليوم. كان كانطيًا جديدًا، وتُعد فلسفته في الأشكال الرمزية من أبرز أعماله، حيث كان مهووسًا بالطرق المختلفة التي تستخدم بها البشرية أنظمةً رمزية لخلق المعنى (اللغة والفن والقانون والدين وما إلى ذلك)، لكنه في الواقع كان يُصارع المشكلات الحياتية ذاتها التي اصطبغت بها حياة الأربعة الآخرين: الاضطراب، والقلق، وقسوة الفترة التي أصبح فيها الإنسان يمثل إشكالية كاملة لنفسه؛ الفترة التي لم يعد يعرف فيها شيئًا عن حقيقة كينونته ومغزى وجوده، ويعرف في الوقت ذاته أنه لا يعرف! كان يستجيب للأزمة ذاتها التي حركت السحرة الثلاثة الآخرين: الشعور بأن الطرق القديمة للفلسفة قد فشلت في مواكبة واقع التجربة الحية. لقد وُلدت المقاربة الكانطية المُهيمنة إبان عصر الفيزياء النيوتونية، تلك التي حلت محلها سنة 1905 نظرية «آينشتين» Albert Einstein (1879 – 1955)، في الوقت الذي شكَّك فيه «فرويد» Sigmund Freud (1856 – 1939) في أية افتراضات حول شفافية الوعي البشري، وتم إهدار إيمان عصر التنوير في التقدم بسبب المذابح الآلية خلال الحرب العالمية الأولى!

    كان فهم «كاسيرر» للغة واسعًا، إذ لم يكن قادرًا فقط على المزج بين اللغتين الألمانية والإنجليزية، بل كانت لديه القدرة على وضع الأسطورة والدين والتكنولوجيا والفن في مصفاة لغوية تفسيرية فريدة، موقنًا بأن اللغات المُختلفة قد قدَّمت طُرقًا مختلفة لرؤية العالم، ويبدو أن نظرته التعددية قد وفرت له صمامًا للهروب من أية مواجهة حوارية، أو كما كتب لزوجته ذات مرة: «يُمكنني التعبير عن كل ما أحتاجه دون أدنى صعوبة». وباعتباره الشخصية الأكثر صلابة في ذلك الوقت، كانت حياته العاطفية هادئة ومتزنة، وهو ما فسَّره «آيلنبرجر» بقوله: «إن الزواج البرجوازي الحازم لكاسيرر قد أكسبه ميزة سياسية مميزة، كرفض المغامرات المُربكة، أو الثورات، أو الحروب الأهلية». لقد جعلته إرادة الاتزان، في معية إيمانه بتعددية الرؤى ورغبته العارمة في التحرر الأنيق، مدافعًا قويًا عن الديموقراطية، وأبقته صامدًا ومتفائلاً حتى فوات الأوان تقريبًا. كتب قبل وفاته مباشرةً قائلاً: «عندما سمعنا لأول مرة عن الأساطير السياسية وجدناها سخيفة للغاية وغير متناسقة، ورائعة ومضحكة، لدرجة أنه كان من الصعب علينا أن نأخذها على محمل الجد، أما الآن، فقد أصبح واضحًا لنا جميعًا أن هذا كان خطأً فادحًا»!

    بعد تجريده كيهودي من منصبه الجامعي، سافر إلى إنجلترا كلاجئ ودرّس في أكسفورد، ثم انتقل إلى السويد، وأخيرًا إلى نيويورك وكولومبيا، وتوفي في أبريل من سنة 1945 بنوبة فلبية أثناء عبوره الطريق، قبل أسابيع قليلة من سقوط ألمانيا النازية وموت «هتلر».

ثالثًا: سحر اللغة وتحولاتها الكُبرى:

    تُوضح السيرة الذاتية الجماعية التي سردها «آلينبرجر» ببراعة للفلاسفة الأربعة كيف أن كادرًا صغيرًا من المفكرين قد استجاب لمعطيات ونتائج فترة عاصفة في التاريخ الأوربي ليعيدوا اختراع الفلسفة، وهي مهمة فكرية نجحت في استحضار عالم جديد بالفعل. لم تولد الفلسفة من أجل الترفيه – كما أعلن «توماس هوبز» Thomas Hobbes ذات مرة – وإنما من أجل النضال حين يواجه المرء كارثة شخصية أو سياسية أو اقتصادية أو طبيعية. لقد كانت المهمة المشتركة للفلاسفة الأربعة سنة 1920 هي وضع خطة لحياة المرء وجيله تتجاوز البنية المحددة من قبل لكل من المصير والشخصية، بُغية الانفصال عن الأطر القديمة (الأسرة، الدين، الأمة، الرأسمالية)، وتدشين نموذج للوجود يمكن من خلاله معالجة النتائج القاسية للحرب، ونقلها إلى عالم الفكر والوجود اليومي.

    لقد اضطر المفكرون الأربعة إلى الإجابة من جديد عن سؤالين مترابطين: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وكيف يُمكنني أن أعيش؟ وقد تفاقمت عليهم صعوبة الإجابة، ليس فقط بسبب الحرب العالمية الأولى، ولكن أيضًا بسبب عقد من عدم الاستقرار الاقتصادي، وجائحة الإنفلونزا الإسبانية التي أصابت ثلث سكان العالم بين عامي 1918 و1920، لكن السؤالين تم تركيزهما في سؤال أساسي فارق: (ماذا تفعل بنا اللغة؟)، وهو ما يُمثل تبنيًا لرؤية «فتجنشتين» الذي اعتقد في مرحلة فكره المتأخرة أن المعنى يطفو في الهواء إلى الأبد بشكل غير مفهوم كمعجزة دائمة للخلق. لقد انطلقوا جميعًا بحثًا عن اللغة الوحيدة الكامنة وراء كل خطاب بشري؛ تلك اللغة الأولية المُوحدة التي تكمن وراء كل اللغات وكل المعاني!

    تدور أحداث «زمن السحرة» – كما سبقت الإشارة – قبل قرنٍ من الزمان بالضبط، وتتناول التفكير في أزمة عالمية تُشبه أزمتنا اليوم، مما يجعلها جديرة بالقراءة والاهتمام. أسماء السحرة في رواية «آيلنبرجر» هي أسماء مألوفة للمشتغلين بالبحث الفلسفي، لكنها غير معروفة نسبيًا للعامة في كثيرٍ من دول العالم. وقد قدَّم «آيلنبرجر» أسبابًا مقنعة لضرورة التعريف بهم، حتى عندما انحرف السحر الذي مارسوه نحو ما يُعرف بالسحر الأسود. كانوا جميعًا قادرين على ابتكار مفاهيم جديدة، لكن ابتكاراتهم اتخذت مسارات مختلفة، وانتهى بهم الأمر إلى صعوبة أن يجمعهم أي شيء مشترك، بصرف النظر عن حقيقة أن لغتهم الأم كانت الألمانية. ولئن كانوا جميعًا قد اتفقوا على احتساء الشاي وتناول الكيك في فترة ما بعد الظهيرة أيام الأحد (كتقليد ألماني)، وهو ما لم يفعلوه بالتأكيد، فمن المحتمل أن يكونوا قد اختلفوا حول كل شيء. لقد جمعتهم روح العصر Spirit of the age، وقادتهم إلى بناء نماذج جديدة للوجود تتناسب مع تجربة الحرب، وقد حالفهم الحظ، على ما يبدو، فأصبحوا سحرة العشرينيات من القرن الماضي: عقد الفلسفة العظيم. وبغض النظر عما مروا به في حياتهم، فإن سحرة العشرينات قد تباعدوا كثيرًا منذ ذلك الحين. يشتهر «فتجنشتين» و«هيدجر» الآن على مستوى العالم كراعيين لمدرستين فلسفيتين: مدرسة التحليل اللغوي الواعي؛ ومدرسة الوجودية التفكيكية الجامحة. أما «بنيامين» – الماركسي الصوفي – فلديه أتباع، لكنهم ذوو توجه ديني. وأما العجوز المسكين «كاسيرر»، فيبدو أنه ليس لديه أتباع على الإطلاق!

    افتتح «آيلنبرجر» كتابه بقصة عن نقاش سيء السُمعة دار بين «كاسيرر» و«هيدجر» في مؤتمر دافوس بسويسرا سنة 1929 (ما زال المؤتمر يُعقد سنويًا حتى الآن، لكن لم تعد له أية أبعاد فلسفية، بل تطغى عليه المصالح الاقتصادية). كان النقاش وديًا بكل المقاييس، لكنه أدى إلى صراع يتعلق بالعائلات بدأه «هيدجر» ولم يتخل عنه، حيث ينتمي «كاسيرر» إلى عائلة يهودية ميسورة الحال كانت مندمجة في المجتمع الألماني، ولم تكن تعنيها مسألة الديانة حتى استولى النازيون على السلطة، بينما كان «هيدجر» هتلريًا نازيًا مدفوع الأجر!

    كان الفيلسوفان قد اتجها إلى منتجع التزلج السويسري في دافوس للمشاركة في حلقة بحثية لمدة أسبوعين حول فلسفة «كانط»، وبينما قضى «كاسيرر» معظم أيام الأسبوعين في علاج نزلة برد أصابته، كان «هيدجر» يُمارس التزلج على المنحدرات الثلجية الوعرة بمهارةٍ فائقة، ليجمعهما في النهاية لقاءٌ عقلي مثير وقاسٍ يعكس اختلافًا حادًا في الرأي حول تطور ومستقبل البشرية. انتهز «كاسيرر» (اللطيف المُهذب) الفُرصة لكي يُثني على «كانط» بوصفه فيلسوفًا للتنوير الذي تسعى إليه البشرية دائمًا، ودعا إلى ما وصفه «آيلنبرجر» بمصطلح «الاستمرارية المعتدلة» Moderating continuity في حين نظر إليه «هيدجر» (صاحب الشخصية الجذابة والعدوانية) كشاهد على هاوية تكمن تحت عرش العقل المصقول، ودعا إلى (الانفصال التام عن الماضي) Total break with the past. وهكذا تبادل الاثنان طرح رهانات المستقبل الساخنة فوق قمم دافوس الثلجية: «ارفض قلقك المُبعثر، واعتنق التحرر الذي تُوفره الثقافة (كاسيرر)؛ أو «ارفض ثقافتك المُشتتة للعقل، واعتنق التحرر الذي يُوفره قلقك» (هيدجر)!

    كانت دافوس أيضًا هي المكان المُناسب لرؤية الأديب الألماني «توماس مان» Thomas Mann (1875 – 1955)، صاحب أهم رواية في الأدب الألماني الفلسفي الكلاسيكي في القرن العشرين: «الجبل السحري» The Magic Mountain (1924)، وهي الرواية التي ألهمت «آيلنبرجر» في وضع عنوان كتابه، ونسجه لكتاباتهم كتعويذات سحرية مؤثرة في أيامهم، وإن كان ينسحب خلف الستار ويتركنا – عن قصد أو عن غير قصد – لنتساءل عما إذا كانوا أشبه بساحرات الأوز المحتالين! … هيا نتابع القصة.

1 – لودفيج فتجنشتين:

    يُعد «فتجنشتين» – وفقًا لـ «آيلنبرجر» – أكثر السحرة خداعًا، وبالتالي أكثرهم إثارة للاهتمام؛ حيث أكمل كتابه «رسالة منطقية فلسفية» Tractatus logico-Philicus (1921) إبان مشاركته كجندي ألماني في الحرب العالمية الأولى، وهو بمثابة أطروحة كتبها في صورة قضايا مُرقمة (بلغ عددها 526 قضية) حول اللغة والمعنى وسعينا المُربك للربط بين الاثنين. لقد أرسى بهذه الأطروحة دعائم رؤى صارمة لا جدال فيها إزاء المعرفة؛ فالفلسفة لا تعدو أن تكون شيئًا يُشبه العلم الدقيق الذي يعكس العالم من خلال نسقٍ من القضايا البسيطة التي تُمثل حالات الواقع المُمكنة، ومن ثم فمهمة الفلسفة هي مجرد تحليل وتوضيح قضايانا اللغوية بهدف نبذ الأفكار المختلطة الغامضة، وصولاً إلى تلك اللغة المثالية الخالية من كافة عيوب ونقائص اللغة العادية، وهو الخطأ الذي وقع فيه كثرة ممن تأثروا به في هذه المرحلة، حتى لقد وُلدت مدرسة فلسفية بأكملها تُعرف باسم «الوضعية المنطقية» Logical positivism من هذا الخطأ. لكنه وإن ظل في مرحلة فكره المتأخرة متمسكًا برأيه في أن اللغة هي أصل كل مشكلاتنا الفلسفية، إلا أن ثمة تغييرات جذرية في صميم تفكيره دفعته إلى إعادة النظر في مهمة الفلسفة ووظيفة اللغة ونظرية المعنى. وبعبارة أخرى، لم تعد مهمة الفلسفة هي تحليل القضايا بُغية الوضوح والدقة، بل القضاء على القلق والحيرة والمآزق الميتافيزيقية الناجمة عن سوء فهم اللغة واستخدام كلماتها بمعانٍ لا تحتملها؛ ولم تعد وظيفة اللغة هي تقرير الوقائع فقط، فاللغة تنطوي على صورة حياة بأكملها، أو على حد تعبيره في كتابه «مباحث فلسفية» Philosophical Investigations المنشور بعد وفاته (1953): «تنشأ المشكلات الفلسفية عندما تذهب اللغة في عطلة»، وإذا كان الأمر كذلك، فإن العصر الحديث كان بمثابة إجازة طويلة لا منتهية للحس اللغوي العام. ولتوضيح ذلك يُمثل «فتجنشتين» الفلسفة بالسُلم الذي نضعه في قاعٍ مظلم كي يساعدنا في الصعود إلى حيث ضوء الشمس الساطع، فإذا ما انتهت مهمته أمكننا التخلص منه، وبهذا المعنى تكمن قيمة الفلسفة في كونها مجرد أداة أو وسيلة لتحقيق غاية. كذلك لم يعد معنى الكلمة مُقيدًا بأي موضوع قد يظن المرء أنها تشير إليه، بل في كيفية استعمالها، وعلينا أن نُدرك أن ألغازًا عميقة حول طبيعة «المعنى» و«الحرية» وواقع العالم المادي نشأت فقط لأن الفلاسفة قد نسوا أو تناسوا أن كلمات مثل «المعنى» و«الحرية» لا دلالة لها إلا عند استخدام الناس لها في حياتهم اليومية؛ فكل ما يعطي معنى للحياة والعالم الذي نعيش فيه يقع بالفعل ضمن حدود ما يمكن قوله مباشرة!

    يُعزى إلى «فتجنشتين» – أو يُلقى عليه اللوم بشأن – التحول اللغوي، ليس في العالم الأنجلو أمريكي فقط، بل وفي القارة الأوربية أيضًا، حيث وضع أسئلة اللغة والمعنى في مركز الفلسفة، الأمر الذي جعله نقطة الانطلاق المؤثرة لسحرة العشرينات وتابعيهم في العقود التالية، تلك التي يُلخصها المبدأ القائل: إن شكل الحياة البشرية لا يعدو أن يكون شكلاً كلاميًا، ولفهم الوجود البشري، علينا أن نفهم اللغة.

2 – مارتن هيدجر:

    في سنة 1919 – كما يروي «آيلينبرجر» – ألقى «مارتن هيدجر» محاضرته الأولى في جامعة فرايبورج أمام حشدٍ مبعثر من الرجال المهزومين في الغالب، والذين اضطروا إلى التظاهر بأنهم يرون أنفسهم على أنهم يمتلكون مستقبلاً. كان هذا الحشد من الجنود العائدين من الحرب مضطهدًا وضعيفًا، وهذا يعني أنه كان عُرضة للتأثر السريع. لم يكن لهؤلاء الرجال مستقبل – لا مال ولا وظيفة ولا كبرياء ولا أمل – لكنهم، وفقًا لـ «هيدجر»، حافظوا على الخيار الفلسفي الأساسي والأكثر حيوية، حيث ناشدهم قائلاً: لنتعلم التفكير من جديد، ومن ثم لنقفز إلى عالمٍ آخر. كانت الخطوة الأولى في نظر «هيدجر» هي التحرر من النظرة البرجوازية للعالم، أو بالأحرى من أية أيديولوجيا تخاطر بتشويه تجربة الواقع. ولتكن صرخة المعركة هي «العودة إلى الوقائع»! لقد كانت هذه الصرخة بمثابة دعوة جذابة للغاية للعديد من الطلاب، بمن فيهم الشابة «حنا أرندت»، التي أصبحت واحدة من قوات الصدمة الفكرية في عشرينيات القرن الماضي. عرض «هيدجر» على جمهوره الفرصة لاستعادة مسألة الوجود (الكينونة الألمانية) لأنفسهم، وطرح تساؤلاته حول ماهية الأشياء والواقع والوجود بطريقة جديدة تتوافق مع تجربتهم الحية.

    على نحوٍ أكثر وضوحًا، تبنى «هيدجر» ما يمكن أن نسميه كرة التدمير التصورية Conceptual wrecking ball، بمعنى أنه يتعين علينا التخلص من كل التصورات والمفاهيم الخاطئة أساسًا، والتي استغرقتنا ردحًا طويلاً من الزمن، واستقرت بنا في الطريق المسدود للفلسفة. وبينما اعتقد «فتجنشتين» أنه يكفي إعادة كلمات مثل الذات والموضوع والواقع والقيمة إلى براءة ما قبل الفلسفية، اعتقد «هيدجر» أننا بحاجة إلى مصطلحات جديدة تمامًا، فنحت مثلاً مصطلح «الدازاين» Dasani (الوجود في العالم)، ومصطلح «أناويتي» Jemeinigkeit (ملكيتي دائمًا)، ومصطلح «الانهمام» Sorge (أي أن يكون الموجود الإنساني مهمومًا بتحقيق إمكاناته في الوجود). وقد ذهب «فتجنشتين» من جانبه إلى أن مثل هذا المعجم سيؤدي بلا شك إلى المزيد من الهُراء والمشكلات الفلسفية الزائفة التي تولدها اللغة.

    يقول «آيلنبرجر» في شرحه لموقف «هيدجر»: «إن فكرتنا عما لا أساس له بالمرة … باتت ممكنة بمعرفة الفناء … لكن لا يمكننا أن نجد خلاصنا … كشيء موعود به أو مُعلن لنا، لا يمكننا الحصول عليه إلا من خلال الانفتاح، ومن ثم من خلال النظرة المخيفة إلى هاوية الدمار»! وبهذه الكلمات تتعزز صورة المثقف المعذب الذي يكافح من أجل الأصالة الوجودية من خلال الانهيارات العصبية (كتلك التي تعرض لها «هيدجر» و«فتجنشتين»)، حتى لقد أصبحت الحياة الجنسية لديهم مشكلة وجودية، لكن شخصياتهم – على حد رؤية «آلينبرجر» – تشكلت قبل فلسفاتهم، ومن المرجح أن يأسهم قد دفعهم إلى نظرياتهم وليس العكس.

    تحدث «هيدجر» (المُنهك وجوديًا) مباشرة إلى الأفراد الذين أنهكتهم الحرب، والذين كانوا جميعًا على دراية بمدى عبثية حياتهم، وكانوا يبحثون بيأس عن فلسفة للتفكير في الأمر. صحيح أنه لم يواجه خطرًا مميتًا مثلهم، لكن هذا لم يمنعه من تطوير فلسفة كاريزمية تتلاءم تمامًا مع أولئك الذين واجهوا هذا الخطر، ونصب نفسه كبطل وساحر لألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى، رغم دعمه الكامل للنظام النازي عند وصوله إلى السلطة. أما فلسفة الثقافة Philosophy of culture (التي تبناها «كاسيرر») فقد كانت غير عصرية تمامًا بالنسبة لـ «هيدجر» (ومعه «بنيامين»)، حيث كان كلاهما مهتمًا بإسقاط الثقافة التقليدية أكثر من اهتمامهما بالاعتراف باعتمادهما عليها، ولئن كنا مخلوقات ثقافية – كما اعتقد «كاسيرر» – فإن هذا يُمثل سببًا إضافيًا لكي نتخلص من هذا الثقافة المُحافظة لنصبح أفرادًا حقيقيين. وليس بإمكاننا تحقيق الأصالة Authenticity إلا من خلال النظر إلى الهاوية: الموت!

3 – والتر بنيامين:

    من جانبه، أمضى «والتر بنيامين» (الفيلسوف وكاتب المقالات والناقد الثقافي اليهودي الألماني) الجزء الأكبر من حياته المهنية في التخطيط لما وصفه لصديقه الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي الألماني «بيرتولت بريخت» Bertolt Brecht (1898 – 1956) بأنه (هدم «هيدجر» Demolition of Heidegger)! لكن كافة خُطط «بنيامين»، بما في ذلك هذه الخطة، لم تُؤت ثمارها. صحيح أنه كان – مثل «هيدجر» – شخصية مؤثرة جماهيريًا، لكنه كان يفتقر إلى الأتباع المنظمين، ربما لأن فلسفته على حد تعبير «آلينبرجر» كانت تتعلق بكل شيء، حيث استدعى الرومانسية والتصوف اليهودي والسريالية والماركسية في محاولة للكشف عن عالمٍ جديد!

    تبنى «بنيامين» نظرية لاهوتية غير مُعتادة في اللغة، مؤداها أن كل شيء أو حدث في الطبيعة الحية أو غير الحية يُشارك في اللغة بطريقةٍ ما، لأن من طبيعة كل شيء توصيل معنى عقلي من نوعٍ ما، ووسيلته في ذلك هي اللغة التي تُترجم عالم الأشياء إلى عالمٍ بشري بشكلٍ سحري. معنى هذا أن كل تعبير – أيًا كانت طبيعته – هو نوعٌ من اللغة، الأمر الذي يستلزم التمييز بين الكيانات العقلية واللغة؛ فالأولى تُصبح لُغوية حين يتم فقط التعبير عنها باللغة، وبالتالي فكل لغة (كاللغة الألمانية مثلاً) إنما تنقل فقط منطقة معينة من المعنى، أو شكلاً نوعيًا من أشكال الحياة، أو لا وعي اجتماعي معين. إن وجهة النظر الساذجة القائلة بأن الجوهر العقلي لشيءٍ ما يتألف بدقة من لغته هي الهاوية الكبرى التي تهدد كل نظرية لغوية بالسقوط فيها، كما أن اختزال اللغة إلى مجرد وسيلة للتواصل اللفظي أو تمثيل الوقائع هو أصل كل مشكلاتنا الفلسفية. هكذا يُعارض «بنيامين» النظرة الذرائعية للغة باعتبارها موروثًا برجوازيًا يجب التخلص منه، ويُحدثنا عن لغة الموسيقى، ولغة النحت، ولغة العدالة، ولغة التكنولوجيا، ولغة الوحي الإلهي المُفعمة بالإبداع اللامحدود، … إلخ، فهذه أنماط من اللغة لا تُستخدم فيها الكلمات، وقد لا تصلح الكلمات لنقل المعاني التي تموج بها بشكلٍ خفي!

    خُذ مثلاً العمل الأدبي الإبداعي؛ ما الذي يقوله؟ وما الذي يُوصله؟ إنه لا يُخبرنا سوى بنذرٍ يسير مما تحمله الكلمات من معانٍ، لأن الهدف منه ليس البيان أو نقل المعلومات، بل الانغماس في حالة وجودية تتجاوز حدود المنطوقات اللسانية، ومعايشة كيانٍ عقلي يستعصي على الجمل والعبارات. هذا ما يُسميه «بنيامين» الطابع السحري للغة؛ شيءٌ اشبه ما يكون بتأثيرات السحرة حين تتجاوز كافة المتسلسلات السببية المرئية! ولئن كان «بنيامين» قد كشف لنا عن سحر اللغة، فقد أصبح بدوره ساحرًا لأفئدة وعقول المُعذبين الذين راوغتهم لغة الحرب والدمار.

4 – إرنست كاسيرر:

   لعل هذا التصنيف لميراث السحرة لا يُنصف «كاسيرر» الذي كان مفكرًا جريئًا وأصيلاً. صحيح أنه انطلق في عمله من فكرة «إيمانويل كانط» القائلة بأن العالم – كما نختبره – يتألف بالضرورة من أشكال الفكر والإدراك البشريين، لكنه فتح أرضًا فلسفية جديدة تتجاوز حدود الكانطية المألوفة، ودعا الفلاسفة إلى الخروج قليلاً من أبراجهم العاجية واستكشاف العالم في جميع الاتجاهات، والاهتمام بالفن والصور والأساطير والحجج المجردة، في محاولة لتوحيد أنماط التفكير العلمية وغير العلمية (الأشكال الرمزية) بحيث تجمعها رؤية فلسفية واحدة، قوامها فهم اللغة كقوة أولية يتولد بها ومن خلالها الوجود بأسره، ويتداخل فيها الفكر الأسطوري والفعل اللفظي كواجهة للعقل الإنساني.

    في سنة 1919 استقر به المقام كأستاذ للفلسفة في جامعة هامبورغ التي تأسست حديثًا، وسرعان ما نال الاعتراف به كمدافع بارز عن الديمقراطية الألمانية. وفي أغسطس من سنة 1928 احتفلت جمهورية فايمار Weimarer Republik (1919 – 1933) بعيد تأسيسها التاسع، واحتفل كاسيرر بهذه المناسبة بمحاضرة عامة أمام جمهور متميز في مبنى بلدية هامبورغ Hamburg Rathaus. كان موضوع محاضرته ذا شقين: مؤدى الشق الأول أن دستور الجمهورية الألمانية الجديدة يمكن أن يحتل موضعه في النسب الليبرالي انطلاقًا من الوثيقة البريطانية العُظمى، أو الماجنا كارتا Magna Carta، والثورتين الأمريكية والفرنسية؛ ومؤدى الشق الثاني أن هذا الدستور يجب أن يحتفظ بالتقليد الفكري الألماني كما نجده في فلسفات «ليبنتز» Leibniz، و«كانط» Kant، و«جوته» Goethe. ألقى «كاسيرر» محاضرته بلطفٍ وثقة، واستُقبل بتصفيقٍ حاد من الجمهور.

    وفي فبراير التالي، استضافت جامعة ميونخ سباقًا للشباب الألماني برابطة الجمعيات المقاتلة القومية والحزب الاشتراكي القومي الألماني في بافاريا Nationalist Kampfbund، كانت الصُلبان المعقوفة منتشرة في كل مكان، وضجت القاعة بالتصفيق الحاد لحظة دخول «هتلر» وحاشيته، وبعدها ألقى الفيلسوف النمسوي «أوتمار شبان» Othmar Spann (1878 – 1950) محاضرة حول الأزمة الثقافية في الوقت الراهن، وأعلن خلالها أن الفلسفة الألمانية يُهيمن عليها مجموعة متماسكة من الأجانب، ومن بينهم «كاسيرر»! ولم يكتف «شبان» بذلك، بل أكد أن «كاسيرر» وفقًا لمظهره الخارجي قد يبدو بالطبع ألمانيًا، ليس فقط بالولادة، بل من حيث التعليم والثقافة والرسالة، لكن المظاهر قد تكون خادعة، وأن من واجبه الكشف عن أن «كاسيرر» ليس ألمانيًا، بل يهوديًا!

    لم يكن «كاسيرر» منزعجًا، ولم يستطع تصديق أن بلدًا متحضرًا كألمانيا يمكن أن ينخدع بأكاذيب المهرجين الشعبويين، لاسيما بعد أن أصبح أول يهودي يرأس جامعة هامبورج (1929 – 1930) لكن حدسه كان كاذبًا، إذ سرعان ما تمت الإطاحة به ليُغادر ألمانيا إلى الأبد!

تعقيب:

    لا شك أن سحرة «آيلنبرجر» الأربعة قد ساهموا في تقويض المبادئ الأساسية للفلسفة الحديثة الممتدة من القرن السابع عشر حتى أوائل القرن العشرين، تلك التي عجزت بمثاليتها ومعقوليتها المتعالية عن الصمود في وجه التحولات السياسية والعلمية التكنولوجية الكُبرى. ولعل هذا ما عناه «آيلنبرجر» حين عمد إلى تشخيص أمراض العصر الحديث قائلاً: إنه العصر الذي ركَّز على التجريد، وناهض الجسد؛ العصر المهووس بالوعي عند «رينيه ديكارت» René Descartes وورثته المنهجيين، حيث نسى الفلاسفة أنهم بشرٌ، وتصرفوا كما لو كانوا آلهة، وظنوا أنفسهم قادرين على فصل ذواتهم عن ثقافاتهم وحتى أجسادهم من أجل فهم العالم على حقيقته. لكنهم، بفعلهم ذلك، فقدوا الاتصال، ليس فقط مع الواقع فقط، ولكن مع وجودهم أيضًا.

    والحق أن رواية «آيلنبرجر» لا تتعلق بميلاد الفلسفة المبكرة للقرن العشرين بقدر ما تتعلق بشيء أشبه بآلام الولادة، تلك التي قد يُدهشنا ما بعدها، إذ سرعان ما أفل نجم «كاسيرر»، ولم يعد موضع اهتمام رغم خصوبة أفكاره، وما زال «بنيامين» محبوبًا ومحل إعجاب، لكنه كان شديد الخصوصية لدرجة أنه لم يحدد أي اتجاه للفلسفة القادمة، ويبدو إرث «هيدجر» أكثر ديمومة، لكن حتى المعجبين به يميلون إلى أن فهمه يمثل أيضًا إشكالية عميقة. أما «فتجنشتين» فهو عملاقٌ شاهق صمدت أعماله أمام اختبار الزمن، ولكن تلاميذه يمثلون أقلية متحمسة في كل من العالم الناطق بالإنجليزية وأوروبا القارية.

    في إحدى اللحظات الأكثر تواضعًا لـ «فتجنشتين» كتب يقول: يمكنني جمع أفكاري قليلاً، وعلى الرغم من أنها لا تستحق جمعها، إلا أنها أفضل من مجرد اللهو! لكن «آيلنبرجر» يذهب إلى أن أفكار السحرة ما زالت تستحق الجمع، حتى ولو أدركنا في لحظة ما أنها كانت مجرد حيل سحرية! لقد نشأ إحساس قوي بفكرهم كرد فعل على الفوضى التي كابدها الجميع وقتئذٍ، عندما كانت كل الحقائق القديمة تنهار؛ الفوضى التي دفعت «بنيامين» إلى الفرار من محاضرة ألقتها عشيقته عند وصول كتيبة العاصفة للحزب النازي Sturmabteilung؛ وفرضت على «هيدجر» ضرورة إرسال ستة مليارات مارك إلى زوجته لكي تتمكن من دفع فاتورة البقالة، حيث جعل التضخم المفرط المارك الألماني بلا قيمة.

    من جهة أخرى، يُعد كتاب «زمن السحرة» بمثابة قراءة مُركزة لفترة حاسمة في تاريخ الفكر الأوربي، مع بعض أوجه التشابه القوية مع عصرنا الحالي، لاسيما فيما يتعلق بمحاولات الفرار من أسر الماضي وعبثية الحاضر. لقد أراد السحرة – باستثناء «كاسيرر» – التحرر من الميراث الديكارتي الضخم القائم على ثنائية العقل والجسد؛ أراد «هيدجر» بشكل خاص التحرر من تلك الطريقة في التفكير التي تغلغلت على مر القرون بعمق في ثقافتنا وفهمنا لأنفسنا، لدرجة أنها باتت بمثابة الشكل الأسمى والوحيد الحقيقي للمعرفة بالعالم؛ إنه الكابوس الديكارتي الذي أرق حياتنا! هذا بالضبط هو عين النقد الذي تبناه مفكرو ما بعد الحداثة، بل وكثرة من مفكري الأعراق والقوميات الأخرى، أولئك الذين أرادوا الهروب من معتقل الفلسفات الغربية. ولكن ما النتيجة المحتملة لمثل هذا التحرر؟ قد تكون النتيجة شيئًا إنسانيًا ومراوغًا مثل فلسفة «فتجنشتين» اللغوية العادية، والتي يتلمسها «آيلنبرجر» في نهاية كتابه، لكنها قد تكون أيضًا مجرد هذيان مضاد للعقلانية، متجذر في المفاهيم الصوفية للعرق أو الأمة! وعلينا ألا ننسى موقف «هيدجر» حين وقف أمام طلابه سنة 1933، وهو في أبهى صوره كرئيس لجامعة فرايبورغ، مُخاطبًا إياهم بقوله: «لا تدعوا المبادئ النظرية والأفكار تُشكل قواعد كيانكم؛ الفوهرر وحده هو الواقع والقانون الألماني، اليوم وفي المستقبل»! هكذا يمكن أن تكون قراءة الفلسفة مثيرة وآسرة، لكنها أيضًا تحمل تحذيرًا مما قد تؤدي إليه الفلسفة (كسحر) في الواقع!

    لقد تحول التركيز الفلسفي على أيدي السحرة من الميتافيزيقا إلى اللغة، لكن النتائج ما زالت تبدو أشبه بالحقائق الإلهية منها إلى أي شيء بشري، حيث كان السحرة منخرطين بقوة في البحث عن لغة واحدة مشتركة تكمن بالضرورة خلف التماعات الكلام البشري. ورغم حديثهم المتكرر عن إلحاح الثورة الفلسفية، إلا أن ثمة شيئًا قديمًا يتجلى في رغبتهم المشتركة في العثور على الشكل المثالي والنقي للغة. ويُحسب لـ «فتجنشتين» أنه رفض في النهاية فكرة وجود لغة مثالية خالية من العيوب، وصارمة منطقيًا، بإمكانها تجاوز نقائص الكلام العادي، لكن «كاسيرر» كان الأكثر رصانة من بين الأربعة، حيث شكَّك في إمكانية وجود بنية واحدة عميقة مشتركة لجميع اللغات. كانت اللغة – بالنسبة له – متجذرة في الثقافة ومتشابكة معها، ولا يمكن دراستها كشيء منفصل وتجريدي، ولا يمكن للفلاسفة الزعم بأن بإمكانهم حل مشاكل اللغة بمفردهم. كان «كاسيرر» مدافعًا عن تعددية التخصصات وبينيتها Interdisciplinarity، قبل أن يُصبح المصطلح مجرد كلمة طنانة تستعصي على الواقع!

    الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن رؤى السحرة الباحثة عن الأصالة لم تكن ديمقراطية على الإطلاق. كان «كاسيرر» هو الديمقراطي الوحيد بينهم، حيث كانت نزعته المحافظة المملة تعني ضمنيًا الإيمان بالمساواة بين جميع الكائنات التي تستخدم الإشارات، بينما كانت دعوة «هيدجر» الأساسية تتمثل في الشجاعة النخبوية للأصالة. جميعهم – فيما عدا «كاسيرر» – استغرقهم شعورٌ بالتفوق، وأظهر كل من «بنيامين» و«هايدجر» ذات الغطرسة العدوانية، وذات القسوة المبالغ فيها، وذات الإرادة لإبادة الآخرين. وعلى الرغم من ميوله الشيوعية، أسس «بنيامين» مجلة أطلق عليها اسم «الملاك الجديد» Angelus Novus، مُشبعًا بطموحٍ وقح نجو تجنب القراء من دهماء الناس. لقد عكست غطرستهم نظرة عالمية يغشاها اشمئزازهم من بُسطاء الناس. ومرة أخرى، يعكس ذلك أصداءً للفلسفة القديمة التي زعموا رفضها، واستحضارًا لملوك أفلاطون الفلاسفة الذين يحكمون أولئك الذين لا يصلحون إلا لمهام أقل. ولا يُغفر لـ «فتجنشتين» مساواته لكراهية البشر عمومًا بكراهية الذات، ففي الفترة التي عمل فيها مُدرسًا بريف النمسا، كان يُصنف الناس من حوله مقتنعًا بأن ثلاثة أرباعهم من البشر والربع الباقي من الحيوانات!

    أخيرًا تكمن قيمة الكتاب في سعيه إلى مخاطبة القارئ العادي بالسرد الواضح والمثير والمُبهج أحيانًا، ومحاولة مصالحته مع الفلسفة التي ساهم أساتذتها بلا شكٍ في نفور العامة منها، وإن كان يُؤخذ على المؤلف نُدرة الإعلان عن آرائه فيما انطوى عليه السرد من توجهات وقائع ارتبطت بشكل حيوي بأمزجة السحرة وتجاربهم، ويُؤخذ عليه أيضًا عدم تطرقه إلى ما آلت إليه ثمرات ثورتهم الفلسفية، وكيف أنها لم تحل دون نشوب الحرب العالمية الثانية، ولم تحل بالمثل دون ما آل إليه العالم من صراعات وأزمات ما زالت تؤرقنا حتى يومنا الحالي!


المصادر: