مجلة حكمة

من أجل رؤية حوارية بين التقاليد الفلسفية وسياقاتها اللاتماثلية

الكاتبعليّ رّسول الرّبيعيّ

  هناك مشكلات جوهرية وأسئلة فلسفية كبرى ذات طابع وجودي طرحها الإنسان دائمًا عن حقيقة الأشياء في العالم وكيف تتحرك وتتغير، وكيف نفسر الأساس النهائي لكل ما هو حقيقي وللكون نفسه؟ وصولا إلى السؤال الأنطولوجي الكلاسيكي: “لماذا الوجود وليس العدم؟”؛ وكذلك ما هو سر الذات البشرية، وكيف نخلق العالم الاجتماعي، وعن طبيعة الحرية والأخلاق؟ لقد واجهت المجتمعات البشرية كافة هذه المشاكل والأسئلة الأساس في تقاليدها الثقافية. وأطلق مضمون وطريقة النظر فيها مسارات متنوعة من الأنظمة العقلانية، إذا فهمنا العقلانية بتقديم الأسباب لدعم الرؤى التي تهدف إلى تفسير لكل من هذه الأسئلة.

مسار الخطاب الفلسفي

 لقد أنشأت جميع الثقافات الكبيرة في العالم فلسفاتها، في أنماط وخصائص تطور مختلفة، وأنتجت جميعًا مقولات ومفاهيم لابد من الاعتراف بأنها فلسفية. إن استعمال مصطلح الفلسفة هنا- من منظور الشرق- بالمعنى الواسع، وفلسفة اليونان وفقًا لمعايير أضيق. هناك تصور يخلط بين أصول الفلسفة الأوروبية، التي قد تكمن جزئيًا في التقليد اليوناني، والفلسفة في العالم التي لها أصول متنوعة بقدر تعدد التقاليد الأساسية للفلسفة تقريبًا. وهناك افتراض لمسار خطيً للفلسفة يبدأ من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة اللاتينية في العصور الوسطى ومن هناك يصل إلى الفلسفة الأوروبية الحديثة؛ لكن مسار التاريخ الحقيقي أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. لقد طُورت الفلسفة اليونانية لاحقًا من قبل الحضارة البيزنطية، وكانت الفلسفة العربية بدورها وريثة للفلسفة البيزنطية، وعلى وجه الخصوص تراثها الأرسطي. ودلالة على هذا التطوير للفلسفة اليونانية والبيزنطية هو ما حصل من إنشاء للغة فلسفية عربية بالمعنى الدقيق للكلمة.

 فالفلسفة الأرسطية اللاتينية في باريس في القرن الثالث عشر، عن سبيل المثال، لها أصلها في النصوص اليونانية وتعليقاتها العربية، فقد استعمل الفلاسفة العرب النصوص اليونانية وعلقوا عليها. وكانت قرطبة استمرارًا للتقليد “الشرقي” بأصوله في بغداد أو سمرقند. لقد أنتج هذا فلسفة استلهمت إرثًا يونانيًا أعيد بناؤه بعمق من منظور سامي (منظور الحضارة العربية)، ثم انتقل إلى اللاتين والجرمانيين في أوروبا. وهنا يبرز اسم الفيلسوف ابن رشد إلى أصلًا ومرجعًا للنهضة الفلسفية الأوروبية في القرن الثالث عشر.

 الفلسفة بين الأسطوري والعقلاني

 أعطت الإنسانية طوال مراحل تطورها تعبيرًا لغويًا[1]عن الاستجابات العقلانية للمشاكل الأساسية مثل تلك المذكورة أعلاه. فلكل ثقافة، وفقًا لـ بول ريكور، “جوهر أخلاقي وأسطوري” أو “رؤية للعالم”[2] توفر إطارًا للتفسير الأنطولوجي والتوجيه الأخلاقي لأهم اللحظات في الوجود البشري. سوف تستمر نتيجة لهذه التداخلات والتأثيرات الثقافية بعض الأساطير في الخطابات الفلسفية الحديثة وحتى الوقت الحاضر. فلن تختفي الأساطير تمامًا طالما استمر بعضها في أن تكون منطقية، كما يرى إرنست بلوخ بشكل مقنع في عمله “مبدأ الأمل”.[3]

 لكن المشكلة، هنا، هي أن الفلسفة الأوربية قد خلطت بين السرد الأسطوري الخاص بأوربا وبين المحتوى العالمي المفترض للعقلانية الفلسفية المحضة. فهيجل، مثلا، يزعم أن “الروح الجرمانية هو روح العالم الجديد [Moderruty]، وتتمثل غايتها ونهايتها في تحقيق الحقيقة المطلقة.”[4] لكنه فشل في ملاحظة أن هذه “الروح” هي إقليمية (مسيحية أوروبية وليس عربية أو طاوية أو هندوسية أو بوذية)، كما أنها ليست عالميًة، ولا يعكس محتواها المشكلات الخاصة بالثقافات الأخرى. لهذا، لا يشكل ادعاءه خطابًا فلسفيًا عالميًا، ولكنه يعكس خصائص السرد الأسطوري الخاص بالثقافة الأوربية. فماذا يعني الحديث عن “روح المسيحية” من منظور عقلاني فلسفي شامل؟ لماذا لا نتحدث إذن عن “روح إسلامية أو طاوية” أو بوذية أو كونفوشيوسية؟ فهذه “الروح” عنصر من مكونات السرد الأسطوري الذي يحمل معنى لأولئك الذين يعيشون في آفاق ثقافة إقليمية، ولكن لا ينسبون إليها محتوىً فلسفيًا عقلانيًا يتمتع بصلاحية عالمية قائمة على التجربة، كما تدعي الفلسفة الأوروبية الحديثة لنفسها.

 لقد “لوثت” هذه العناصر الأسطورية حتى خطابات الفلاسفة العظماء. يجادل إيمانويل كانط، عن سبيل المثال، ” في “ديالكتيك العقل العملي الخالص” من” نقد العقل العملي” لصالح “خلود الروح كطريقة لحل مسألة “الخير الأسمى”. لكن مفاهيم “الروح” و “الخلود” ليس الأً استمرارًا للعناصر الأسطورية ذات الأصل الهندي في الفكر اليوناني والتي تغلغلت لاحقًا في كل الفكر الروماني والمسيحي في العصور الوسطى ومن ثم في الأوروبي الحديث. إن البراهين الفلسفية المفترضة المقدمة في هذه الحالات هي حشو وليست تفسيرية عقلانية على أساس الحقائق التجريبية. يوضح لنا هذا الحضور غير المعترف به للعناصر الأسطورية في أعمق الفلسفات الأوربية.

إن أحد أهم العوائق أمام حوار فلسفي عالمي هو الرأي السائد بين الفلاسفة والمرؤخين في انحاء أوربا وامريكا الشمالية على اختزال النشاط الفلسفي للبشرية في ذلك الذي ظهر لأول مرة في اليونان وليس في الشرق، ومثالا على ذلك رأيً هوسرل[5] الذي كرره هيدجر وآخرين: إن الفلسفة هي الحركة المستمرة لتفسير الذات، والتي بدأت كأول اختراق للفلسفة في تاريخ البشرية مع فجر الفلسفة اليونانية في مرحلتها الأولى في تفسيرها الأول من خلال المفهوم المعرفي الأول لما هو الكون. وحتى ياسبرز لم يدافع الأً عن وجود ثلاثة تقاليد فلسفية كبيرة: تلك الخاصة بالصين والهند واليونان. ان هذه الأراء ساذجة للغاية، وربما كان هيجل أحسن حالًا منهم نسبيًا في كتابته عن تاريخ الفلسفة رغم ما يعتري تاريخه عن فلسفة الشرق من أختزال وضعف الأطلاع. أنا مقتنع بأن التطور المستقبلي لفلسفة العالم سيتعرض للخطر إذا لم نوضح هذه القضايا من خلال حوار معاصر بين التقاليد الفلسفية في العالم وليس الغربية فقط.

 الهيمنة الأوربية الحديثة ومطالب بالعالمية

 انتصرت أوروبا في المحيط الأطلسي ابتداءً من عام 1492م الذي أصبح المركز الجيوسياسي الجديد للهيمنة في العالم، ليحل محل البحر الأبيض المتوسط. وأصبح هذا أساس الإمبراطوريات الاستعمارية الجديدة التي تركزت في القارة الأمريكية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر تقريبًا، حيث مكن هذا بدوره الحضارة الرأسمالية من التطور. وأصبحت، في هذا السياق، الفلسفة الجرمانية اللاتينية في العصور الوسطى جوهر الفلسفة الأوروبية الحديثة التي تداخلت بدورها بشكل لا ينفصم عن مطالب هذه الحضارة الرأسمالية السياسية والاقتصادية بالهيمنة. يتضح الأصل الفلسفي المحدد لنظرة الهيمنة الاستعمارية الجديدة من نقد بارتولومي دي لاس (Bartolome de Las Casas) عام 1514 م، قبل وقت طويل من كتاب ديكارت “خطاب في المنهج”، الذي كتبه في أمستردام عام 1637م. وهنا نشير الى أن الفلسفة الأوروبية كانت حتى ذلك الحين فردية وإقليمية ولم تدع بطابع عالمي بعد. لقد اصبحت الفلسفة الأوربية الحديثة مُهيمنة بعد أن فرضت نفوذها على ثقافة المجتمعات المستعمرة. وهذا ما فتح لها امكان التطور بطريقة فريدة، على عكس أي فلسفة أخرى في العالم خلال الفترة التاريخية نفسها. وأريد أن أؤكد هنا على أهمية استكشاف التفسيرات المحتملة لهذا التطور ومطالب العالمية.

 لقد فرض التوسع الاستعماري الحديث بعد فتح المحيط الأطلسي من قبل البرتغال والتمدد إلى غرب إفريقيا، ثم باتجاه المحيط الهندي (الذي قفز فوق “الجدار” المحيط بالإمبراطورية العثمانية)، وكذلك من قبل إسبانيا باتجاه البحر الكاريبي والقارة الأمريكية الحصار على العالم الإسلامي من نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، مما شل حضارته، وبالتالي تطوره الفلسفي. لم تكن الفلسفة العربية الكلاسيكية قادرة على النجاة من أزمة الخلافة في بغداد وتأثير ما أطلق عليه طرابيشي[6] بـ” تسنين العقيدة”، ومن ثم تدهورها بشكل نهائي بعد ذلك. وبالمثل دمرت الإمبراطورية المغولية إمكانية حدوث تطورات جديدة في الفلسفات البوذية وفيدانتا خلال القرن السادس عشر. وكذلك تنامى في الصين الشعور بثقل فشلها في استكمال الثورة الصناعية في نهاية القرن الثامن عشر، وتوقفت بالفعل عن إنتاج فلسفة جديدة. ودمر الغزو الاسباني لأمريكا اللاتينية جميع المصادر الفكرية والثقافية الأكثر بروزًا في الثقافات الأمريكية الهندية الكبيرة؛ ولم تكن المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في عصر الباروك قادرة على تجاوز إنجازات سكولاستيكس عصر النهضة في القرن السادس عشر.

 وضعت المركزية المهيمنة لشمال أوروبا كقوة عسكرية واقتصادية وسياسية وثقافية الأساس لتطوير فلسفتها من نهاية العصور الوسطى، أيً، من القرن الخامس عشر مع نيكولا دي كوسا (Nicolas de Cusa ) (1401-1464 م) والنهضة الإيطالية، التي تعود أحد أهم أصولها الى تأثير البيزنطيين الذين طردهم العثمانيون من القسطنطينية عام 1453م. وقد أتاح ذلك للفلسفة الأوربية أن تتطور في مواجهة أزمة الفلسفات الإقليمية الكبرى الأخرى، فرفعت خصوصيتها الفلسفية إلى مطالبة عالمية.

 لقد وضعت الفلسفة الأوروبية الحديثة نفسها بطريقة تبدو وكأنها فلسفة عالمية، سواء في مدعياتها أو في نظر ثقافة تلك المجتمعات المُستعمرة الراكعة والمصاب بالشلل الفلسفي. لقد كانت تقع أوربا في المركز، بالنسبة للتحولات الحديثة، جغرافيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وبذلك اصبحت قادرة على التلاعب بالمعرفة والمعلومات التي انتزاعتها من جميع الثقافات البلدان التي استعمرت. ارتبطت هذه الثقافات بذاك المركز على طول رابط يمتد بين الجنوب المُستعمر والشمال الأوروبي، لكنها منفصلة عن بعضها البعض. فلم تقم أي علاقات أو تحالفات ممكنة بين مجتمعات عالم الجنوب نفسه حتى الآن. تطور هذا الرابط خلال عصر الحداثة الأوروبية، مما أدى إلى ازدراء متزايد لهويات أهل الجنوب وإسهاماتهم الثقافية، وكذلك الى نسيان أهل الجنوب أنفسهم لكثير من تقاليدهم الفكرية والخلط بين مستويات التطور العالية التي أنتجتها الثورة الصناعية في أوروبا والحقائق العالمية المفترضة في خطابها على مستوى المضامين والمناهج. إن هذا الوضع التاريخي هو ما مكن هيجل أن يكتب في (محاضرات في فلسفة التاريخ):” ينتقل التاريخ العالمي من الشرق إلى الغرب. وأن أوروبا هي نهاية التاريخ العالمي”.[7] و”البحر الأبيض المتوسط هو محور التاريخ العالمي”.[8]

 إن المركزية الأوروبية، إذن، في جوهرها ادعاء الشمولية لفلسفة معينة. يمكننا أن نفترض أن جميع الثقافات لديها ميول مركزية-عرقية، لكن الثقافة الأوروبية الحديثة هي الأولى التي أصبحت نزعتها المركزية- العرقية في افقها الأقليمي معولمة نتيجة لامتدادها وتزامنها مع النظام العالمي الصاعد الذي تقوده وتهيمن عليه، كما يرى إيمانويل والرشتاين.[9] لكن يسقط هذا الادعاء الشامل عندما يصبح فلاسفة التقاليد الفلسفية والثقافية الأخرى واعين بتاريخهم الفلسفي وآثاره الأساسية.

عالمية الفلسفة وخصوصية الثقافة

يمكن للخطاب الفلسفي أن يأخذ في الاعتبار “المشاكل الجوهرية” ويحاول تطوير استجابات ذات صلاحية عالمية، كمساهمات يمكن مناقشتها من قبل الثقافات الأخرى، بما أنها تنطوي على مشاكل بشرية وبالتالي عالمية في طابعها. يجتهد كارل أوتو آبل[10] في تحديد الشروط العالمية للصلاحية اللازمة لخطاب فلسفي يعبرعن وجهات نظر متباينة مع المركزية الأوربية حيث يمكن أن تكون هناك احتمالات متماثلة لكل من المشاركين للانخراط في المناقشة الفلسفية؛ وخلاف ذلك، لن ​​تكون استنتاجات المناقشة ذات صلاحية عالمية لأن لم يكن المشاركين في ظل ظروف وأوضاع متساوية. هذا مبدأ منهجي ومعرفي وأخلاقي، وبدون أي مضمون يستند الى أي حكم قيم مادية معينة لأي ثقافة، يمكن تقييمه من قبل الثقافات الأخرى.

 لاتنفي العمومية المجردة للمبادئ وبعض الرؤى، التي تشكلت بأسلوب مختلف على المستوى المادي لكل ثقافة أن تكون “جسورًا” تفتح إمكانات الحوار بين التقاليد الفلسفية المختلفة. إن هذه الميتا- فلسفة هي نتاج البشرية جمعاء، فحتى لو ظهرت في البداية في سياق ثقافة خاصة، أو في تقليد محدد أو فترة تاريخية معينة، فانها قادرة على إحراز تقدم أكبر في القضايا العامة والعالمية، ويمكن ان تتعلم من داخل حدود افتراضاتها التاريخية الخاصة جميع التقاليد الأخرى.         

 ونأخذ مثال بارز على ذلك هو تقدم الرياضيات بشكل ملحوظ في بغداد حيث ساهمت في قفزة لتطوير الفلسفة العربية ( الأفلاطونية- الأرسطية) وأثبتت فائدتها للتقاليد الأخرى ايضًا في القرن العاشر الميلادي. إن فلسفة مجردة تمامًا من ايً علاقة بأي ثقافة محددة غير ممكنة، فجميع الفلسفات تأتي في سياق ثقافة معينة، مع ذلك قادرة على الانخراط في حوار مع الفلسفات الأخرى من خلال منظور المشاركة في المشاكل الجوهرية والخطابات ذات الطابع الفلسفي التي تكون عالمية بوصفها تهم كافة البشرية.

حوار التقاليد الفلسفية

 لقد حجب الإصرار على أن وظيفة العالمية تتحق من خلال الفلسفة الأوروبية الحديثة العديد من الاكتشافات المهمة التي حققتها التقاليد الفلسفية الأخرى. وهذا سبب اساس للتأكيد على أن المهمة الكبرى التي تنتظرنا في هذا القرن الحادي والعشرين هي بدء حوار بين التقاليد الفلسفية في العالم.

علينا أن نبدأ بحوار بحوار فكري- فلسفي عميق وشامل بين الشمال والجنوب. أننا نتذكر الاستعمار وموروثاته، واستمرار تدخلاته العسكرية ونتائجها التي تشمل الهياكل الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن البنى الثقافية والفلسفية. فماتزال فلسفة المجتمعات في عالم ما بعد الاستعمار (بمشاكلها واستجاباتها الخاصة) غير مقبولة بشكل عام أو غير معترف بها ومستبعدة من قبل نظرائها في المجتمعات المهيمنة.

 وهنا نقطة ذات أهمية ايضًا ألأً وهي الحاجة إلى إجراء حوار مستمر بين بلدان الجنوب نفسها وتطوير قواعد هذا الحوار من أجل تحديد جدول أعمال المشاكل الفلسفية الأكثر إلحاحًا ومناقشتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلخ.[11]

 علاوة على ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت التقاليد الفلسفية الأخرى (بخلاف تقاليد أوروبا وأمريكا الشمالية) قد واجهت الأسئلة التي تجاهلتها تقاليدنا، وأن تلك التقاليد استكشفتها بطرق مختلفة، مع أهتمامات أو قيم مختلفة. فقد توفر الاختلافات وجهات نظر جديدة عند اشراكها. ومطلوب، ايضًا، أن يكون هناك حوار بين الشرق (وهومفهوم غامض كان قد فككه إدوارد سعيد) والغرب (مفهومغامض أيضًا)، فقد نتساءل: من ماذا يتكون الغرب؟ هل هي أوروبا الغربية فقط، فأين نضع روسيا في هذه الحالة والتي كانت بالتأكيد جزءًا من ثقافة الإمبراطورية البيزنطية الشرقية القديمة؟ وهل يعود أصلها ومنشأها الى اليونان؟ وهذا يمثل مشكلة أيضًا لأنه بالنسبة لليونان كانت بقية أوروبا همجية مثل المناطق الأخرى في شمال مقدونيا. اذن، نحتاج إلى إعادة صياغة كاملة لتاريخ الفلسفة حتى نكون مستعدين لمثل هذا الحوار.

  يشير العمل الرائد لعالم الاجتماع راندال كولينز،[12] الى الجوانب الرئيسة التي يُتطلب أن تؤخذ بنظر الاعتبار بخصوص الفلسفة العالمية. يتخطى تحليله المقارن حدود الجغرافيا والتاريخ حيث يتناول عظماء الفلاسفة الصينيين، والهنود، والعرب، والأوروبيين، وأمريكا الشمالية، والأفارقة، ويصنفه في أجيال ومن حيث أهميتها النسبية. على الرغم من الإغفالات الصارخة نقاط الضعف في عمله؛ فقد فشل، مثلا، في تكريس سطر واحد لخمسمائة عام من فلسفة أمريكا اللاتينية، الا إنه يوفر معلومات غنية لمزيد من التفسير والتأويل. إنه عالم اجتماع يقدم قدرًا كبيرًا من المواد للتفكير الفلسفي.

 علينا إرساء الأسس التربوية من خلال تعليم الأجيال القادمة تقاليد فلسفية متعددة. أن تبدأ دراسة، عن سبيل المثال تاريخ الفلسفة على المستوى الجامعي مع “أول فلاسفة الإنسانية العظماء والمفكرين الذين طوروا الفئات الأصلية للتفكير الفلسفي في مصر (إفريقيا)، بلاد ما بين النهرين (بما في ذلك أنبياء إسرائيل)، اليونان، الهند، الصين، أمريكا الوسطى، الإنكا، وإلخ. ثم دراسة “الأنطولوجيا الكبرى”، بما في ذلك الطاوية والكونفوشيوسية والهندوسية والبوذية والإغريق (مثل أفلاطون وأرسطو وحتى أفلوطين) والرومان، إلخ. وأن تُستكشف المراحل اللاحقة التطور الفلسفي في الصين (بدءًا من تأسيس إمبراطورية هان)، والأمثلة اللاحقة للفلسفة البوذية والهندية، والفلسفة المسيحية البيزنطية، والفلسفة العربية حتى الفترة المعاصرة، وما إلى ذلك. هذه هي الطريقة التي يمكن أن يبدأ بها الجيل الجديد في التفكير فلسفيًا بعقلية عالمية. وأن ينعكس النهج نفسه في الدراسات المتخصصة في الأخلاق والسياسة والأنطولوجيا وغيرها.

حوار الفلسفات لتعدد عابر للحداثة

 بدأت فلسفات المناطق الأخرى من العالم إعادة النظر في منظوماتها الفلسفية واستعادة إحساسها بتاريخها المدفون تحت إعصارسياقات وتأثيرات “الحداثة” بعد أزمة طويلة نتجت عن تأثير الثقافة والفلسفة الأوروبية الحديثة. نأخذ عن سبيل المثال الفيلسوف العربي المعاصر، محمد عابد الجابري الذي قام بتقييم نقدي للثقافة العربية وتقاليدها الفلسفة في أعماله: نقد العقل العربي،[13] ونحن والتراث[14]. فنجده أ) يرفض التفسير التقليدي من قبل السلفيين أو الأصوليين، اذا يعتبره رد فعل ضد الحداثة يفتقر إلى إعادة بناء إبداعية للماضي الفلسفي. ب) يقدم أنتقادات قوية وصارمة الى “التفسيرات الماركسية” العربية التي تنسى تقاليد تلك الثقافة وتضفي عليها تصورات من خارجها.[15] ج) ويرفض بالقوة نفسها التقاليد الليبرالية ذات المركزية الأوروبية التي لا تقبل وجود “فلسفة عربية” معاصرة. فيجري بحثًا أصليًا في التقاليد الفلسفية للمفكرين العظام في المدارس “الشرقية” (في بغداد ونحو الشرق) والمدارس “الغربية” (قرطبة) التي تتمحور حول مساهمات ابن رشد. لقد أجرى الجابري في المرحلة الثانية من استكشافه، نقدًا للتقليد الفلسفي العربي من خلال توظيف موارد الفلسفة العربية نفسها، معتمدًا على بعض إنجازات مناهج القراءة التأويل الحديثة. مكنته هذه الرؤية التركيبة من اكتشاف عناصر تاريخية جديدة في التقليد الفلسفي العربي. لقد أنتجت الفلسفة العربية، التي استلهمت من التجريبية العلمية أنذاك والفكر الأرسطي الصارم فيلسوفا تنويرًا حقيقيًا، أنه الفيلسوف العربي العظيم ابن رشد الذي يحدد تمامًا ما يجب أن يكون عليه الحوار بين الفلسفات، وهذا على عكس ما فرضه الفلاسفة والمؤرخون الأوربيون من أن اصل الفلسفة الأوربية الحديثة يعود الى الى الفلسفة اللاتينية الجرمانية.

 لا شك علينا أن نستلهم النسغ الحيً من مساهمات كل من سبقونا (الإغريق والمسيحيون) كمصادر للمساعدة في دراستنا العقلانية نظرًا لأن الفلاسفة القدماء درسوا بالفعل قواعد التفكير ( المنطق، المنهج) بعناية كبيرة؛ وسيكون من المناسب تكريس جهودنا لدراسة أعمال هؤلاء الفلاسفة القدماء، فإذا وجدنا عندهم ماهو معقولاً فيمكننا قبوله؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، يمكن أن تكون تلك الأشياء غير المعقولة بمثابة تحذير وأساس للاحتياط.[16]

  في المرحلة الثالثة، مرحلة الخلق الجديد القائم على التقاليد االخاصة وتغذيها بالحوار مع الثقافات الأخرى، لا ينبغي أن تعمينا الروعة الواضحة للفلسفة الأوروبية الحديثة عن حقيقة أنها وضعت أساسًا لاستكشاف مشاكلها الخاصة وليس استكشاف المشاكل الخاصة بالمجتمعات في العالم. فكيف يمكن، مثلا، للفلسفة العربية أن تستوعب تجربة الليبرالية قبل أن يمر العالم العربي بتلك المرحلة، أو بدونها؟[17]

 نريد أن نتناول نقطة أخيرة وهي أن الحوار الذي يمكن أن يثري كل تقليد فلسفي يتطلب أن يقوم به فلاسفة نقديون ومبدعون في كل تقليد. أحد العناصر الأساسية لمثل هذا الموقف النقدي هو أن يتحمل الفلاسفة مسؤولية معالجة المشكلات الأخلاقية والسياسية ولكن كذلك القضايا المرتبطة بالفقر والسيطرة والاقصاء. أثرت الحداثة الأوروبية على الثقافات في جميع أنحاء العالم بطرق عديدة ومنها من خلال الاستعمارلا سيما في جنوب الكرة الأرضية (في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) حيث استغلت مواردهم، واستخرجت المعارف من ثقافتهم، وتجاهلت ما لم تستوعبه.

 عندما نطرح رؤية عن ماوراء الحداثة ( trans-modernity )، فأننا نشير إلى مشروع عالمي يسعى إلى تجاوز محددات وحدود الحداثة الأوروبية أو الأمريكية الشمالية؛ أيً الى ما وراء الحدود الفكرية والتاريخية للحداثة. إنه غير مشروع ما بعد الحداثة ( post-modernity) ويختلف عنه، لأن مازالت ما بعد الحداثة نقدًا غير مكتمل للحداثة من قبل أوروبا وأمريكا الشمالية. إن ما وراء الحداثة مهمة تتطلب مسارا آخرا وأن يُعبًر عنها فلسفيًا، ونقطة انطلاقها هي تلك الرؤى والأفكار والفلسفات التي تم تجاهلها، وخُفضت قيمتها، وُحكم عليها بأنها عديمة الجدوى أو أقل استخدامًا بين الثقافات العالمية في المناطق المستعمرة. يتضمن هذا المشروع تطوير إمكانات تلك الثقافات والفلسفات التي تم تجاهلها، على أساس مصادرها الفكرية الذاتية أو الخاصة، في حوار بناء مع الحداثة الأوروبية وأمريكا الشمالية. وبهذه الطريقة يمكن للفلسفة العربية، عن سبيل المثال، دمج أاستلهام النسغ الحيً من منظومات وتأويلات الفلسفة الأوروبية، وتطويرها وتطبيقها من أجل أنتاج وتطوير تفسيرات جديدة لتراثها، وهذا ما من شأنه أن يجعل من الممكن تجاوز اشكالية محدودية النص الفلسفي ويساهم في ظهور فلسفة سياسية وأخلاقية عربية جديدة تشتد الحاجة إليها اليوم. ستكون ثمرة التقليد الفلسفي العربي، الناتج عن الحوار بين الفلسفات (ليس فقط مع أوروبا، ولكن بالتساوي مع أمريكا اللاتينية والهند والصين، إلخ)، موجه نحو فلسفة عالمية متعددة المستقبل. هذا المشروع هو ماوراء الحداثة، وعابر للحداثة بالضرورة، وبالتالي عابر للرأسمالية أيضًا.

ستستمر كل من التقاليد الفلسفية المتنوعة في اتباع مساراتها الذاتية- الخاصة لفترة طويلة، ربما لقرون، ولكن مع ذلك، يظهر في الأفق إمكانية قيام مشروع عالمي لتعددية عابرة للحداثة ( وهي غير العالمية، وليس ما بعد الحداثة). “فلسفات أخرى” ممكنة، لـ”عالم آخر ممكن”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] حول اللغة والتجريد أنظر حسام الألوسي، بواكير الفلسفة قبل طاليس أو من الميثولوجيا الى الفلسفة عند اليونان،بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وكذلك الدار الدولية للأستثمارات الثقافية 2001

[2] Paul Ricoeur, “Universal Civilization and National Cultures,” in History and Truth (Paris: Seuil, 1964), pp. 274-288

[3] Ernst Bloch, The Principle of Hope MIT Press; 1995.

[4] Hegel, The Philosophy of History (New York: Colonial Press, 1900), p. 341.

[5] E. Husserl, Philosophy as Mankind’s Self-Reflection; the Self-Realization of Reason, in The Crisis of European Sciences (Evanston, IL: North-western University Press, 1970), pp. 338-339.

[6] طرابيشي، جورج، مصائر الفلسفة بين المسيحية والاسلام، دار الساقي، 1998

[7] Hegel, Lectures on the Philosophy of World History, Introduction: Reason in History (Cambridge: Cambridge University Press, 1975), p. 197

[8] Hegel, Reason, p. 171.

[9] I. Wallerstein, The Modern World-System (New York: Academic Press, 1980-1989), vols. 1-3.

[10] Karl-Otto Apel Towards a Transformation of Philosophy ‎ Routledge Kegan & Paul, 1979.

[11] للإطلاع على دراسة مفيدة عن جدالات مابعد الاستعمار في امريكا اللاتينية وافريقيا أنظر: كساب، مي، الفكر العربي المعاصر، دراسة في النقد الثقافي المقارن، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،2012، ص 402-458

[12] أنظر راندال كولينز، علم اجتماع الفلسفة، دار جسور للترجمة والنشر، 2019.

[13] أنظر: الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي

[14] أنظر: الجابري، نحن والتراث، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020

[15] أنظر: الجابري، محمد عابد، الخطاب العربي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1999

[16] الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي، ص 157–158 .

[17] الجابري، محمد عابد، نقد العقل العربي، ص 159 .